المعركة المستمرة

«المعركة لا تنتهي ولكنها أسجال.»

عندما تقع مأساة لا يستطيع الضحايا أن يجعلوا أحكامهم عادلة إذا تحدثوا عنها؛ لأن كلًّا منهم يعكس آلامه الشخصية على أحكامه. هذه قاعدة عامة تصدق على كل ضحايا المآسي، سواء كانت من المآسي الخاصة أم العامة. ولا شك في أن موقعة التل الكبير وهزيمة المصريين فيها والاحتلال الأجنبي الذي أعقبها كانت من الكوارث القومية الكبرى التي خلفت وراءها ألوانًا كثيرةً من المآسي الخاصة والعامة. وقد كان رضوان أفندي أحد الذين أُصيبوا في تلك المأساة الكبرى؛ لأنه كان جنديًّا في معركة كفر الدوار ثم رُقِّيَ جاويشًا قبل أن تنتقل فرقته إلى التل الكبير لِما أبداه من الشجاعة والإخلاص في مواقف كثيرة. وكان المنتظر أن يكون بين المرشحين للترقي إلى رتبة ضابط ملازم بعد الانتصار في التل الكبير، ولكن الهزيمة الطاحنة التي أصابت الجيش هناك بددت آماله كما بددت آمال البلاد كلها. ولما عاد رضوان أفندي إلى قريته في الكوم الأحمر، كانت نفسه ممتلئة سخطًا ويأسًا وثورةً على كل شيء. كان إذا اجتمع مع أهل القرية يشتد في العنف على كل مَن اشترك في المعركة، وكل مَن لم يشتركوا فيها. وكان في الوقت نفسه ينتهز الفرصة كلما خلا إلى أحد ممن يثق في إخلاصهم له فيأخذ في الطعن المر على الخديو توفيق والذين ناصروه وتآمروا معه على الالتجاء للإنجليز. وكان أهل القرية يحترمونه ويحبونه؛ لأنه كان في معاملاته رجلًا عادلًا، يحب أن يأخذ حقه كاملًا، ويعطي الآخرين حقوقهم كاملةً.

كما أنه كان من صميم أبناء القرية ومن أسرة من أكرم أسراتها. واشتغل بالتجارة بعد أن هدأت الأمور واستقر الحكم للخديو توفيق بمساعدة جيوش الاحتلال، ولقي في تجارته نجاحًا عظيمًا حتى أصبح من أثرياء القرية. ولم يكن له أبناء من زوجته الأولى فتزوج بشابة فلاحة حتى تكون طوع أمره؛ لأنه كان رجلًا صارمًا منذ أيام شبابه، لا يحب أن تسيطر عليه زوجة شابة معتزة بكرامة أسرتها. وبعد عدة سنوات رزقه الله ولدًا أدخل على قلبه السرور وسماه إبراهيم باسم أبيه، فأنساه سروره بذلك الابن مرارة الحوادث الماضية. وكان يحاول نسيان ذلك الماضي المؤلم حتى إنه صار يغضب كلما أراد أحد أن يذكِّره به في أية مناسبة. وكان يواصل عمله بالليل والنهار ليجمع ثروة كافية لذلك الولد الوحيد حتى يكون غنيًّا عن الناس جميعًا، واستطاع في أقل من خمسة عشر عامًا من العمل المستمر أن يجمع من الأموال ما يكفل لولده حياةً رغدًا. واشترى فوق الأموال التي ادخرها في خزانة خفية عزبة لا تقل عن خمسين فدانًا من أجود الأطيان في القرية، وكانت صفقة عظيمة اشتراها من رجل أجنبي عن القرية زهد فيها لأنها كانت لا تدر عليه ربحًا. فلما اشتراها رضوان أفندي استطاع أن يؤجرها لأهل القرية بإيجار حسن وأن يحصل على ريعها كاملًا من الفلاحين الذين كانوا يرهبون جانبه لصرامته.

ولما كبر ابنه عُني بتعليمه، فأدخله المدرسة الأميرية الوحيدة في عاصمة المديرية، واشترى له بغلة هادئة سريعة وأعد له سرجًا فخمًا من نسيج الصوف الأحمر، فكانت تحمله كل صباح إلى المدرسة ثم تنتظر في وكالة البهائم حتى ساعة العصر فتحمله إلى القرية سالمًا في رعاية خادم خاص كان يقطع المسافة كل يوم بين القرية والعاصمة ذهابًا وإيابًا إلى جانب البغلة.

ومن شدة حبه لولده كان يرحب بأصدقائه من زملاء الدراسة إذا أتوا لزيارته في أيام الجُمَع، وكثيرًا ما كان يعد لهم الولائم الزاخرة بألوان الطعام الريفي الذي كانت الأم تتفنن فيه. ولما كبر ولده وانتقل إلى الإسكندرية ليكون بالمدرسة الثانوية أعد الأب له بيتًا خاصًّا به ليستطيع أن يستقبل فيه أصدقاءه إذا أتوا لزيارته في أيام الصيف ليقضوا عنده بضعة أيام بين حين وآخر. ولشدة محبة الأب لولده واغتباطه بأنه قد صار شابًّا كان يتخفف من أعماله الكثيرة حتى يقوم بواجب الترحيب بهؤلاء الأصدقاء. وكان من الطبيعي أن يعرف هؤلاء الشبان من أحاديثه معهم ومن أحاديث صديقهم إبراهيم ابنه أنه كان «ضابطًا» في جيش الثورة العرابية التي قرءوا حوادثها في دروس التاريخ، فجعلهم ذلك ينظرون إليه كأنه قطعة من الآثار التاريخية الجديرة بالاهتمام. فكانت أحاديثهم تتجه دائمًا إلى ذكر حوادث تلك الثورة رغبةً منهم في سماع بعض الطرف التي يحكيها الجنود القدماء دائمًا عن مغامراتهم في المعارك. ولكن رضوان أفندي كان يحس كراهة شديدة لتلك الأسئلة ويحاول بقدر طاقته أن يتجنب الإطالة في الإجابة عنها، حتى لا تعود إليه ذكرى الحوادث المؤلمة التي تثير في نفسه مشاعر مرة حانقة. ولكن الشباب في شغفه بالمجهول لا يهتم بأن يفكر في آلام غيره، فلم يفطن أصدقاء إبراهيم إلى مظاهر الألم والحزن التي كانت تظهر على وجه الرجل عندما كانوا يوجهون إليه تلك الأسئلة، وكانوا يلحون عليه في السؤال ويأخذون في سرد الحوادث التي تعلموها ويمزجون أحاديثهم بكثيرٍ من عبارات الوطنية الحماسية، فكان رضوان أفندي ينتحل لنفسه عذرًا آخر ليخرج من مجلسهم حتى لا يستمر في الاستماع إلى أحاديثهم.

وفي يوم من الأيام في إحدى تلك الزيارات ضاق صدر رضوان أفندي بتحمس ابنه لآراء أصدقائه عندما كانوا يتحدثون عن الحركة الوطنية التي أثارها الشاب مصطفى كامل في جريدة اللواء، وبلغ منه الحنق مبلغًا عظيمًا حتى إنه وجَّه إلى ولده العزيز عبارات شديدة من التأنيب على الحماقة التي ظهرت منه. ولم يتعود إبراهيم أن يسمع من أبيه منذ الطفولة سوى عبارات التكريم والإعزاز، فوقعت عليه تلك الكلمات الشديدة كأنها صفعات مهينة، وقام من مجلسه غاضبًا وترك أصدقاءه في أشد حالات الارتباك والخجل. ولاحظ الوالد بعد قليل أنه أساء إلى ضيوفه وضيوف ولده وأنه قد تجاوز الحدود التي تقتضيها واجبات صاحب البيت، فبدأ يعتذر عما فرط منه واستأذن الشبان ليخرج ويعود بولده الغاضب. وبعد دقائق قليلة عاد الأب مع ابنه، وكان منظر إبراهيم يدل على أنه غسل وجهه من آثار الدموع قبل عودته.

وبدأ الوالد يتكلم، وكان صوته متهدجًا من التأثر، فقال:

«أحب أيها الأبناء أن أقص عليكم قصة حياتي أمام ولدي هذا الذي ليس لي أمل في الحياة إلا أن يكون رجلًا سعيدًا؛ لأنه وحيدي الذي أحب له من السعادة أكثر مما أحب لنفسي. وقد عشت حياة طويلة ومرَّت عليَّ حوادث كثيرة ووقفت في مآزق شديدة علمتني كثيرًا من الحِكَم التي لا يعرفها هؤلاء الذين لم يعرفوا الشقاء. لقد بلغت اليوم من السن أكثر من الستين عامًا، قطعتها سنة بعد سنة في جهاد وعرق وآلام.

figure

تركني والدي وأنا صبي، وكان لي شقيقان أصغر مني، وأنتم لا تعرفون معنى مسئولية صبي صغير عن أخوين أصغر منه. كان عليَّ أن أبحث عن عمل يمكِّنني من القيام بأحمال أسرتي، وأنا لا أعرف بعد ما هي الأعمال التي يمكنني أن أبحث عنها. ولكن إذا كان أبي قد تركني للحياة وحيدًا فإنه خلف لي اسمه المحبوب بين أصدقائه الكثيرين؛ لأن إبراهيم أفندي كان عند الجميع رجلًا كريمًا محترمًا، ولهذا بادر أهل القرية جميعًا ليمدوا إليَّ يد المساعدة، وذهب بي العمدة عليه رحمة الله إلى مأمور الناحية ليساعدني على أن أجد وظيفة في الحكومة؛ لأني كنت أجيد القراءة والكتابة. وكان المأمور رجلًا كريمًا، فرقَّ قلبه لي عندما عرف أني أعول شقيقيَّ الصغيرين، فتوسط لي لأكون كاتبًا في الدائرة السنية، وذلك — كما هو معلوم — في مدة الخديو إسماعيل. وفرحت فرحًا شديدًا بهذا الحظ السعيد الذي هيأ لي مرتبًا لا يقل عن ثلاثة جنيهات في الشهر. أراكم تبتسمون أيها الأبناء لأني أقول عن هذا المرتب أنه حظ سعيد، ولكن الجنيه في تلك الأيام كان يساوي خمسة جنيهات على الأقل من قيمة نقودنا اليوم.

وماتت أمي بعد بضع سنوات، وكبر إخوتي واستقلَّا عني واشتغل أحدهما بالتجارة وذهب الآخر ليكون جنديًّا في السودان مع حملة الحبشة. وتنقلت في وظائف الدائرة السنية وزاد مرتبي حتى استطعت أن أتزوج، واتخذت لنفسي منزلًا صغيرًا على النيل في إحدى القرى التابعة للدائرة السنية. كنت إلى ذلك الوقت لا أعرف من الحياة إلا أعمال وظيفتي وبيتي، ولم تكن عندنا صحف تحمل إلينا الأخبار كما هو الحال الآن؛ ولهذا لم أكن أعرف شيئًا من أمور السياسة سوى أن مولانا الخديو هو ولي النعم.

وقمت في الصباح الباكر في يوم من الأيام ذاهبًا إلى مزرعة الدائرة كعادتي، فإذا سفينة كبيرة راسية على الشاطئ. فاقتربت محترسًا نحو النهر وتداريت في ظل ساقية قريبة لأنظر ما هناك، فإذا جماعة من البحارة تهبط من السفينة وهي تحمل شيئًا يشبه جثة ملفوفة في ملاءة بيضاء، وساروا بعيدًا عن شاطئ النهر يحملون حملهم وهم يتعثرون، حتى صاروا على نحو مائة متر من النهر، فوضعوا الحمل وبدءوا يحفرون في الأرض. وكان قلبي قد امتلأ رعبًا من المنظر، فبقيت ساكنًا في مكاني أنتظر في لهفة أن يفرغ البحارة من عملهم وينصرفوا. ومرَّت الدقائق عليَّ بطيئة كأنها ساعات طويلة، حتى فرغت الجماعة من إعداد الحفرة ووضعوا فيها ما معهم، ثم أعادوا فوقها الكوم الكبير الذي استخرجوه وداسوا التراب بأرجلهم حتى سووه بما حوله، ثم انصرفوا إلى السفينة. وبعد بضع دقائق أخرى تحركوا نحو الصعيد. وكان العلم الأحمر يرفرف فوق السارية مع النسيم الذي ملأ قلوع السفينة ودفعها نحو الجنوب. وكتمت السر الذي عثرت عليه في ذلك الصباح طَيَّ أعماق صدري فلم أُطلع عليه أحدًا، مع أن الفلاحين في القرى المجاورة كانوا يتحدثون في ذلك اليوم عن السفينة الذاهبة إلى الصعيد تحمل إسماعيل باشا المفتش لتغيير الهواء في أسوان. لم أقل لأحد أني رأيت السفينة راسية على بعد كيلومتر واحد من القرية، ولا أني رأيت بحارتها ينزلون منها يحملون جثة دفنوها على مقربة من الشاطئ؛ لأني لو قلت كلمة من ذلك لذهب الجميع إلى الحفرة وأخرجوا الجثة وأحدثوا فضيحة كبيرة. وماذا كان يحدث لي لو حدثت تلك الفضيحة؟ فكرت في ذلك طويلًا وعزمت على أن ألتزم الصمت فلا أنطق بكلمة واحدة عما رأيت.

ولكني منذ ذلك اليوم أخذت أتتبع أخبار تلك السفينة، فكنت أذهب كلَّ يوم إلى بيت المأمور لأقرأ «الجرنال» الرسمي الذي كان يُرْسَل إليه، وصرت إليه أتتبع السفينة في سيرها نحو الجنوب بلهفة شديدة كأني أقرأ قصة مثيرة. وقرأت آخر الأمر أن السفينة وصلت إلى أسوان وأن المفتش أُصيب بمرض، وأنه كان يكثر من شرب الخمر فساءت حالته وزادت عليه العلة. ثم قرأت أن طبيبَيْن أجنبيَّيْن زاراه في أسوان وصرَّحا بأن حالته خطيرة، ثم أُعلنت وفاته ونَشَرَ تقرير الطبيبَيْن أنه مات من تأثير الخمر الذي أضعف صحته. أأقول لكم ماذا شعرت به عند ذلك؟ شعرت بأني أعيش في مسرح تُمثَّل فيه مهزلة. رأيت بعيني جثة الرجل تُحمل من السفينة وتُدفن، ثم رأيت الحكومة السنية تمثل رواية هزلية أمام الشعب. وترددت الإشاعات بعد ذلك تقول إن الخديو قتل إسماعيل المفتش شريكه في الحكم ونديمه في مجالس اللهو وساعده الأيمن في اقتراض الأموال من المرابين؛ لأنه تخلى عنه وخانه مع مندوبي المرابين الفرنج. ولكني التزمت الصمت ولم أقل شيئًا. كان كل شخص يتحدث بالإشاعات التي سمعها من غيره؛ لأنه لم يرَ شيئًا بعينه، وأما أنا فلو قلت شيئًا فإني أقول إني رأيت بعيني، وهنا تقع الكارثة.

ومن ذلك الوقت دب في أعماق صدري شعور عميق بالكراهة والحقد والمقت للخديو إسماعيل، لا لأنه قتل شريكه، بل لأنه سخر منا، سخر من الناس جميعًا. كان في إمكانه لو أنه شجاع شريف أن يحاكم المفتش ويوقع عليه العقوبة التي يستحقها. ولكن ارتكاب الجريمة في الظلام، وتمثيل المهزلة أمام الأنظار، كان كافيًا لملء قلبي حنقًا، سواء كان المفتش مجرمًا أم بريئًا.

من ذلك الوقت امتلأ قلبي ثورة على الحكم الفاسد، ولكني كظمت الثورة في صدري فتعمقت وأصبحت بعد قليل تشبه الوسواس أو الجنون.

ثم صُودرت أموال إسماعيل لتسديد ديون المرابين، وصُفِّيَت الدائرة السنية، ووجدت نفسي في الطريق بغير وظيفة. أتفهمون شعوري عند ذلك وتدركون السبب الذي حملني على الخطوة التالية؟ أقول لكم إنني بدأت أبحث عن الأفراد الآخرين الذين يحملون في صدورهم ثورة مثل ثورتي. وهكذا قضيت سنتَيْن من التشرد والجوع والثورة. وعُزل الخديو إسماعيل واتقدت النيران في قلوب كثيرة، فاتصلت بالشيخ عبد الله نديم وبدأت أكتب في الجرائد التي يصدرها وأصبحت من أتباع الثورة العرابية.»

وأخرج رضوان أفندي منديلًا وأخذ يمسح قطرات العرق عن جبينه، كما أخذ يمسح قطرات من الدموع في عينَيْه. ثم استأنف الحديث وكان الشبان ينظرون إليه في تلهف، فقال:

«بالاختصار لا أطيل عليكم، فإني لم أقنع بالكتابة في الجرائد، بل تطوعت في الحرب عندما ارتمى الخديو توفيق بن إسماعيل في أحضان الإنجليز، وكنت كلما جاء ذكره أبصق على الأرض وأطلق لنفسي العنان في سبه وسب أبيه وأصفهما بأوصاف لا أحب أن أعيدها على أسماعكم لأنها شنيعة. كنت أسب كما تعود الجنود المحاربون أن يفعلوا.

وكانت النيران المتقدة في قلبي تدفعني إلى أعمال جنونية، فاشتركت في حريق الإسكندرية، وتهورت في معارك المدينة كما تهورت في معركة كفر الدوار، حتى إني رُقِّيت إلى صف ضابط. وصدرت الأوامر إلينا بالانتقال إلى الشرقية، وهناك عسكرنا في التل الكبير. ولا تسألوا أيها الأبناء عن الحقائق الأليمة التي بدأت تنكشف لي عند ذلك. كان الجميع يعرفون مقدار تهوري، ولهذا كان لي في كل يوم مفاجأة جديدة؛ إذ كان الكثيرون يطلبون مني أن أقوم بأعمال أشم فيها رائحة الخيانة. جاءوا يعرضون عليَّ هدايا ثمينة لإغرائي، فكنت أزداد يقينًا بأنهم يريدون مني الخيانة، فكنت أبصق على الأرض وأسبهم سبًّا شنيعًا. ولكني لم أتكلم وكتمت في نفسي الغيظ حتى لا أثير فضيحة. وماذا يحدث لو ثارت فضيحة؟ لا شيء أكثر من تلويث سمعتي وانشغالي عن الجهاد في أمور تافهة. وكانت أكبر مفاجأة لي عندما جاء إليَّ أحد مشايخ الصوفية الذين يسيرون مع الجيش لإقامة الأذكار والابتهال إلى الله بالنصر، وطلب مني الشيخ أن أترك الدرك الذي كنت مرابطًا فيه لأشترك في ذكر هام محقق الفائدة لانتصار الجيوش الوطنية. ولم أفهم معنى قوله بل إني تعجبت منه وشممت رائحة الخيانة. ولما رفضت أخذ الرجل يلح عليَّ إلحاحًا شديدًا وانتهى أمره بأن عرض عليَّ كيسًا مملوءًا بالذهب قائلًا: هذه هبة من سلطان باشا لشدة إخلاصه وحرصه على قيامنا بالدعاء في هذه الليلة.

وكنت قد سمعت بعض إشاعات عن انشقاق سلطان باشا واتصاله بحزب الخديو والإنجليز، فصرخت في الشيخ صرخة حانقة وبصقت على الأرض وسببته سبًّا مقذعًا كما سببت الخديو وسلطان باشا والشيطان. ومضى الرجل عني غاضبًا يدعو عليَّ، وفضَّلت أن أبقى في مكاني لأحافظ على الدرك الذي كنت فيه. ولكن لم أتكلم بكلمة، وعزمت على الذهاب بنفسي إلى عرابي باشا لأطلعه على الشكوك التي ساورتني. ولكن المفاجأة حدثت أسرع مما كنت أتوقع. فإن الموقعة بدأت بعد قليل وبادرت إلى مكاني لأقاتل. وكان معي في الموقع الذي كنت فيه سرية من عشرين رجلًا؛ لأني كنت قائمًا بأعمال ضابط ملازم وكنت على وعد بالترقية بعد المعركة. أتدرون ماذا حدث؟ لم يكن هناك رجلٌ واحدٌ؛ لأن الجميع ذهبوا ليقيموا الأذكار، واضْطُرِرْتُ إلى أن أقاتل وحدي.

وبعد عشرين دقيقة من بدء المعركة رأيت عرابي باشا راكبًا متجهًا إلى محطة السكة الحديد، وصدرت الأوامر بالرحيل إلى القاهرة.

عند ذلك بصقت على الأرض مرارًا وأنا أسب وألعن الجميع، ولم يخلُ من حنقي أحد سواء كان عسكريًّا أم ملكيًّا، وسواء كان شيخًا أم شابًّا. وسرت مع السيل المضطرب نحو القاهرة لا أدري أين أذهب. انفرط العقد ولم يبقَ في البلاد حكومة.

ثم رأيت الإنجليز يدخلون إلى القاهرة، وكدت أجن من الغيظ والحنق عندما وجدت الجميع يقفون لينظروا إليهم وهم يسيرون في سلاحهم في الشوارع. ولعنت نفسي أيضًا لأني وقفت معهم. وسرت كالمجنون أبحث عن أحد أسأله عما حدث.

وفي اليوم التالي سمعت الخونة يتكلمون بأصوات عالية، الذين كانوا بالأمس يستمعون إلى خطابات عبد الله نديم وقصائد البارودي ويصفقون حتى تدمى أيديهم بدءوا يلعنون الثوار ويسمون عرابي خائنًا. وبدأت أنا وأمثالي نتوارى. فماذا تنتظرون مني أيها الأبناء بعد كل هذا؟ ماذا تنتظر مني يا إبراهيم يا ولدي؟ أنت إبراهيم على اسم أبي لأني أحبك وأضع فيك أملى الذي فقدته بموت أبي. ماذا تريد مني؟ أتقولون بعد هذا إن هناك شيئًا اسمه الوطن؟»

فصاح إبراهيم: بحق أبيك يا أبي لا تقل هذا!

وصاح الشبان: بحق ولدك يا عم لا تقل هذا!

ونظر إليهم رضوان أفندي في دهشة وقال: وماذا تقولون أنتم؟

فقال إبراهيم بصوت مختنق: ماذا كنت تفعل لو استمرت المعركة؟

فقال رضوان أفندي في ضجر: ولكن أين هي المعركة؟

فقال إبراهيم: ماذا كنت تفعل لو ناداك عرابي للنضال بعد عودته إلى القاهرة؟

فقال رضوان أفندي في حماسة: ليته فعل يا ولدي.

فقال إبراهيم في عناد: وماذا تفعل لو ناداك غير عرابي ووجدت إلى جانبك رجالًا؟

فقال رضوان أفندي: كنت أقاتل معهم إلى آخر رمق، إلى آخر رصاصة. وإذا لم أجد رصاصًا فإلى آخر عظمة في رأسي وجسمي وآخر ضرس في فمي.

وكان يقذف بألفاظ سريعة واحمر وجهه من التأثر، ثم بصق في غيظ على الأرض قائلًا: «إخص» لعنة الله …

وتمالك نفسه فلم يستمر في أقواله الحانقة وأوقف اللعنات التي كاد يقذف بها.

فقهقه الشبان بضحكة عالية وقال إبراهيم: ألا تحب أن تبدأ معركة جديدة يا أبي؟

فنظر رضوان أفندي إلى ولده مبهوتًا، ثم نقل بصره إلى الشبان يفحص وجوههم واحدًا واحدًا ثم قال في بطء: لماذا تضحكون هكذا؟

فقال أحدهم: لأنك ما زلت تحمل قلب جندي.

فانفرجت أساريره وأطرق حينًا ثم قال: نعم ما زلت أحمله، وما يزال يغلي من الغضب. الغضب الذي أحاول أن أخمده بلعناتي.

فقال الشاب: ولماذا لا تصوبه إلى العدو؟ لماذا لا تستأنف المعركة؟

فقال رضوان أفندي بصوت امتزجت فيه الدهشة بالشك: أتقول أستأنف المعركة؟

فقال الشاب في حماسة: هي معركة قد تطول. قد تطول لعدة سنوات، وقد يشترك فيها جيل بعد جيل. قد يشترك فيها جنود لم يُخلقوا بعد. ولكنها معركة مستمرة. لماذا لا تشترك فيها أنت ونحن، ثم يشترك فيها أبناؤنا وأبناء أبنائنا حتى النهاية؟ هي معركة أمة، تتجدد مع الأجيال حتى يتم النصر.

وكان رضوان أفندي قد وقف على قدَمَيْه من شدة التأثر وهو يستمع إلى الشاب الذي وقف هو الآخر وأخذ يلوح بقبضته في الهواء كأنه يقاتل.

فلما فرغ الشاب من قوله اندفع رضوان أفندي إليه وأخذه بين ذِراعَيْه قائلًا: أعاهدك على أن أستأنف المعركة!

وتحمس الشبان لهذا التغير المفاجئ فقاموا يهتفون بحياة الوطن والحزب الوطني الجديد، وتعهد رضوان أفندي أن ينشئ في الكوم الأحمر شعبة من ذلك الحزب لينشر الدعوة لاستئناف المعركة.

والذين يعرفون أخبار الحوادث التي وقعت في مصر في ثورة سنة ١٩١٩ يعرفون أن الأستاذ إبراهيم رضوان كان اليد المحركة والقلب الدافع للحركة القوية التي عمَّت مديرية البحيرة كلها في إبان تلك الثورة. ولكن الذين يعرفون الأسرار الخفية التي كانت تنطوي وراء تلك الحوادث، يعلمون حق العلم أن القوة الحقيقية التي كانت تحركها إنما تنبعث من شيخ جاوز السبعين من عمره ولا يغادر بيته في قرية الكوم الأحمر، وهو الجندي القديم رضوان أفندي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤