دعاء شعبان

«الكوارث قد تخفي في طيها النعم.»

هو شاب ساذج ضحى بكل شيء في الحياة ولم يطلب من أحد جزاءً على تضحيته، وقليل هم الذين يعرفون قصته. كان حسين من رفاقي القدماء عندما كنا في مكتب القرية، وطالما اجتمعنا على اللعب في الليالي المقمرة في جرن القمح، لنلعب وننشد الأغاني القروية أو يقص أحدنا على الآخر ما سمعه من حكايات غريبة عن الجن أو مغامرات اللصوص. وطالما قضينا معًا صدور الليالي فيما بعد عندما كبرنا، نستمع إلى قراءة القرآن في شهر رمضان في بيت العمدة أو من الراديو في المركز الاجتماعي. وكان حسين يحرص في كل عام على أن يأخذني معه إلى المسجد في ليلة نصف شعبان لنتلو الدعاء المعروف معًا؛ لأنه كان يتيمن بقراءته، ويعتقد أنه يحمي من كل عثرات المقادير ويوسع الرزق. وكان شابًّا مرحًا حلو الفكاهة كما كان قوي الجسم وضيء الوجه ممتلئ القلب بالشهامة.

ومرت سنوات طويلة شغلتني عنه المشاغل بعد أن تخرجت في الجامعة وفتحت عيادتي في القاهرة، غير أنه كان يزورني بين حين وآخر في عيادتي، كما كنت أزوره في بيته كلما ذهبت إلى القرية في بعض أواخر الأسابيع. وكان قد اشتغل بتجارة الألبان، واستطاع أن يشتري عددًا كبيرًا من الأبقار ليطمئن إلى جودة الألبان التي يوزعها على زبائنه. ومع أنه جمع ثروة كبيرة، لم يتكبر على أهل القرية ولم يغير طريقته الأولى في الحياة. فكان يطوف بدراجته مرة في الصباح وأخرى في المساء ليوزع الألبان الطازجة أو ليحمل الجبن والزبد إلى زبائنه من البقالين في المدينة المجاورة. وكان أهل القرية يكلِّفونه قضاء بعض حاجاتهم من المدينة فيقوم بتلك الخدمات راضيًا ولا ينتظر من أحد شكرًا. وكان نساء القرية أكثر جرأةً عليه من الرجال، حتى إنهن إذا طلبن منه خدمة خاطبنه بلهجة الأمر أو وجهن إليه بعض الشتائم، وكُنَّ أحيانًا يدفعنه في ظهره بقبضات أيديهن فوق تلك الشتائم، ولكنه لم يظهر لإحداهن يومًا شيئًا من التأفف، كما أنه لم يوجه إلى إحداهن نظرة أو لفظة تخدش المروءة. وكانت له في القرية خطيبة أخلص في حبها كل الإخلاص، وهي ابنة خالته واسمها «مبروكة»، عقد عليها وكان يجهد نفسه في العمل ليستطيع أن يبني لها دارًا واسعةً فيها زريبة كافية لكل أبقاره حتى يجمعها تحت رعايتها بدلًا من تفريقها بين نساء القرية بالمشاركة.

figure

وكانت مبروكة حقًّا أجمل فتيات القرية وأبرعهن يدًا. كانت مشهورة بين لداتها بمهارتها في تطريز المناديل وعصابات الرأس وبتفننها في صنع أصناف الفطير والكعك وطواجن الأرز واللحم. وكان حب حسين لها أمرًا معروفًا يتحدث به نساء القرية وفتياتها فيما بينهن، ويتساءلن كلما مر قريبًا من دارها هل عرج عليها وماذا حمل لها من الهدايا، وكن يتغامزن بها كلما مرت بهن بعد الغروب لتحمل الطعام لأبيها وأخيها في الغيط ويتهامسن قائلات: «إنه هناك في هذه الساعة يعزف على «سلاميته» عند منحنى الترعة.» ولم يكن ذلك افتراءً منهن لأن حسينًا كان يذهب حقًّا كل يوم إلى منحنى الترعة بعد فراغه من أعماله ويجلس في جوار الساقية التي تروي غيط أسرة مبروكة ينشد بعض الألحان القروية على سلاميته. وكان النسيم يحمل ألحانه العذبة إلى القرية الصامتة معلنًا أنه هناك ينتظر مرور عروسه. وكانت مبروكة تعرف ما لها في قلب ابن خالتها وتعرف أن تلك الألحان العذبة موجهة إليها وحدها، ولكنها لم تشعر في وقت من الأوقات بشيء من التكلف. كانت إذا اقتربت منه ألقت عليه تحية المساء ووقفت حتى يجيء إليها ليذهبا معًا إلى الغيط ويقطعا معًا مسافة الطريق في حديث ساذج يفضي فيه كلٌّ منهما إلى الآخر بما عنده من أخبار اليوم. ومع أنها كانت تراه في كثيرٍ من الأحيان يتحدث مع نساء القرية وفتياتها ويقوم بأداء الخدمات التي يطلبنها منه، فإنها لم تقل له يومًا كلمة تنم عن لوم أو غيرة، بل لعلها كانت تزداد تعلقًا به وثقةً بنفسها كلما سمعت عن الهمسات الغيرى التي كانت الفتيات يتهامسن بها من وراء ظهرها.

ومرت سنتان تمكن حسين في خلالهما من جمع المال الذي يكفي لبناء الدار الواسعة، وعزم على أن يحقق أمنيته العزيزة بالزواج من مبروكة، واختار قطعة أرض في جوار الساقية التي تعوَّد أن يجلس عندها لينشد ألحانه، ولم يبخل بالثمن الغالي الذي طلبه منه زوج خالته صاحب تلك الأرض.

وفي يوم من أيام آخر الأسبوع ذهبتُ إلى القرية كعادتي، وأتى إليَّ كثيرٌ من أهل القرية بين أهل وأصدقاء وجلسنا نتسامر، وكان النسيم يرف بين أغصان الحديقة المزدهرة في فصل الربيع ويحمل إلى مجلسنا عطر زهر البرتقال ممتزجًا برائحة دخان الخشب الذي يوقد به الخدم لإعداد الشاي المستمر لطائفة بعد أخرى من الضيوف. وجاء حسين محجوب بعد مضي ساعة طويلة من الليل، وكان وجهه ينطق فصيحًا بأنه سعيد. وتحول حديث المجلس إليه سريعًا وأخذ كل مَن هناك يوجه إليه كلمة مفاكهة فيها شيء من الخبث وشيء من الدعابة الخشنة. وكان حسين يجيب على تلك الكلمات بمرحه الطبيعي وبفكاهات طريفة تثير الضحكات العالية. وكانت أكثر المفاكهات دائرة حول زواجه القريب وليلة عرسه المنتظرة.

ولما انقضت السهرة قلت له معتذرًا: أنا آسف لأني لن أستطيع أن أحضر ليلة زفافك لأني سأسافر بعيدًا.

فقال حسين مبتسمًا: ولماذا لا ننتظر؟ لست مستعجلًا لهذه الدرجة.

فقلت جادًّا: قد يطول غيابي شهرًا، وقد يمتد إلى أكثر من ذلك.

وسكتُّ لحظة ثم تبسمت قائلًا: وقد يكون إلى الأبد!

فانتفض حسين قائلًا: ماذا تقول؟

فقلت في صوت هادئ: سأذهب إلى فلسطين لمواساة المجاهدين. ومن يدري؟!

فانتفض حسين قائلًا في دفعة: والله يا دكتور لن تذهب وحدك.

فشعرت بارتباك شديد وقلت في شيءٍ من الضيق: وما معنى هذا؟

فقال حسين في ثبات: لن أحتفل بعرسي حتى نعود معًا. سأذهب معك إلى فلسطين.

فقلت في رنة أسف: لم أقل لك إني مسافر لتفاجئني بهذا العزم السريع. إذا شئت فأجِّل العرس حتى أعود ولا حاجة بك إلى اتخاذ قرار سريع كهذا.

فقال في شدة: ولماذا تمنعني؟ أنت مسافر لأداء عمل تراه واجبًا، ولماذا لا أذهب أنا كذلك لأؤدي واجبي؟ سأكون معك إذا شئت أن أرافقك، وإلا فإني أذهب وحدي.

فقلت باسمًا: ومبروكة!

فقال في حماسة: سأعود إليها، بل سأذهب من أجلها. سأحمل السلاح مع المجاهدين من أجلها. دعني أذهب معك لأسند لك الجرحى على كتفي أو لأخترق صفوف النار لأحملهم إليك. قلت لك إني ذاهب.

فمددت إليه يدي مصافحًا وأنا صامت في تأثر شديد من إخلاصه وشهامته الساذجة. وانصرف على موعد ليقوم معي إلى القاهرة في صباح اليوم التالي.

ومن القاهرة بدأنا الرحلة إلى أرض فلسطين بعد أسبوع، وكان حسين محجوب سائق السيارة التي أقلتني مع رفاقي؛ لأنه كان من أمهر سائقي السيارات.

ولا حاجة بي أن أفصل مشاهد الحرب التي خضناها معًا في فلسطين، فإنها تذكرني بآلام تدمي القلب وتثير الحقد والحنق، لا لِما كان فيها من أعباء ومشقات في الجهاد، بل لسبب آخر يعرفه الجميع. لم نشعر في حرب فلسطين بالأعباء ولا بالمشقات؛ لأننا كنا نجاهد في سبيل خدمة إنسانية يرتاح الإنسان فيها إلى بذل كل تضحية. ولكن الذي يدمي القلوب هو رؤية ضحايا أرض فلسطين الذين جاء إليهم قومٌ من وراء البحار لينزعوا منهم وطنهم ويطردوهم منه. كنا نرى النساء والأطفال يسيرون في الفضاء بلا مأوى ولا طعام، والخوف يذهلهم عن المأوى والطعام. لم نشعر بألم ولا بمشقة ونحن نجاهد لنرجع هؤلاء المساكين إلى ديارهم التي طُردوا منها حتى نزيل عن أهل هذا العصر معرة اعتداء شنيع لم يسبق للعالم أن شهد مثله. لم يسبق لجنكيزخان ولا لتيمورلنك ولا أثيلا أو أي همجي وحشي أن يغزو بجموعه أرضًا لكي يطرد منها أهلها حتى يموتوا في العراء. كان الموت نفسه هيِّنًا في أنظارنا لو استطعنا أن نضحي بحياتنا في سبيل إعادة الأطفال والنساء المساكين إلى ظل المنازل التي أُخرجوا منها وإلى حظائر أسراتهم التي شردت أبدادًا.

ولا أريد أن أطيل في وصف مشاهد البطولة التي كانت تتكرر كل يوم في ميادين الجهاد، فقد كانت حرب فلسطين جهاد أبطال بالرغم مما يقوله الثرثارون في سخافاتهم. وحسبي أن أقول إن تلك الحرب كانت نعمة علينا وإن كانت في صورة كارثة، فإن الأمم لا تُخلق على مهود السلام، والآلام وحدها هي التي تحفِّز الأمم لمواجهة الحياة. وقد أظهر حسين محجوب من آيات البطولة ما لا أستطيع وصفه إلا بقولي إن بطولته كانت جديرة بأرض الأنبياء.

ولكن بطولته كلفته ما هو أثمن من الحياة. وعُدت من فلسطين وحدي وخلفت صديقي حسين في أرض فلسطين حيث لا أدري، فقد خرج وحده ذات ليلة إلى صفوف القتال ليسعف بعض المجاهدين الذين سقطت بهم طائرة وراء خط النار، ولكنه لم يعد ولم نقدر أن نعثر له على أثر في المكان الذي وقعت فيه الطائرة المحطمة.

ولا أستطيع أن أصف الحزن الذي أصاب القرية ولا أثر تلك الكارثة على قلب مبروكة المسكينة. لقد خلا مكان حسين في القرية وأحس كل فرد من أهلها وحشته، وأما مبروكة فإنها انطوت صامتة على قلبها الدامي، لم تصرخ البائسة ولم تلطم وجهها، بل كانت تئن أنينًا متقطعًا في صمت، واعتزلت وحدها فكانت لا تكاد تخرج من بيتها إلا لتحمل الطعام إلى أبيها وأخيها بعد الغروب إذا سهرا على الماء لري الزراعة. وحال لون وجهها وذبلت عيناها وفارقتها ابتسامتها، فأصبح وجهها ساهمًا يزيده كآبة لون ثيابها السود التي استمرت تلبسها.

وفي ليلة نصف شعبان ذهبتُ إلى القرية لأصلي وأقرأ الدعاء المعتاد في مسجد القرية ترحُّمًا على صديقي المسكين وحفظًا لذكراه، وسمعت في تلك الليلة قصة عجيبة:

كان القمر يشرق على الفضاء من بين رءوس النخيل الذي يحف بالطريق الذاهب من القرية إلى منحنى الترعة حيث الساقية التي اعتاد حسين أن يجلس إلى جوارها لينشد ألحانه. وكان النسيم يهز أوراق أعواد الذرة التي في الحقول على جانبي الطريق فيسمع لها حفيف كأنها أرواح يوشوش بعضها بعضًا. وخرجت مبروكة من القرية تحمل على رأسها طبقًا من الخوص تبدو منه أطراف الأرغفة الواسعة التي أعدتها قبل المساء. وسارت تتلفت على الجانبين وحفيف الأوراق يخيل إليها أنها أصوات خافتة تناديها باسمها، وخُيل إليها أن تلك الأصوات تشبه صوتًا تعرفه عندما كان حسين يناديها وهي تمر من هناك. فأخذت تقرأ آية الكرسي لتثبت قلبها، ولكن الدموع طفرت من عينَيْها وغاص قلبها في أعماق صدرها. ولما مرت بقرب الساقية خُيل إليها أنها تسمع صوت سلاميته تعزف لحنًا حزينًا كأنه ينبعث من العالم السماوي. وأسرعت مبروكة في خطاها لتصل إلى الحقل، وخُيل إليها أنها تسمع صوتًا يناديها باسمها مرة أخرى. وأسرعت أنفاسها من الخوف وصاحت تنادي أخاها من بعيد لتشعر بالأنس إذا سمعت صوته يرد عليها. ولكنها سمعت الصوت الذي يناديها يعود مرة أخرى، فالتفتت مذعورة نحو الساقية وخُيل إليها أنها ترى شبحًا يقترب نحوها في ضوء القمر وهو يتكئ على عكازة. كان بغير شك يشبه صوت حسين ابن خالتها، ولولا أن الشبح كان يتكئ على عكازة تحت إبطه ويقبل نحوها يعرج في مشيته لقالت إنه هو. وسمعت أو خُيل إليها أنها تسمع صوته يقول: «أنا حسين يا مبروكة!» فخانها التجلد وانطلقت منها صرخة عالية شقَّت الليل الساكن كما يشقُّ الشهاب الناري جوف السماء، وألقت الطبق عن رأسها وولت تجري نحو الحقل وهي تكرر صرخاتها وترتعد كورقة في مهب الرياح.

وأسرع الأب والأخ إليها، فأسنداها وهي تترنح حتى أقعداها على جانب المسقاة، واغترف لها أبوها حفنات من الماء لتشرب حتى يزول عنها أثر الذعر. وأخذ يمسح على رأسها ويقرأ اسم الله وسورة الفلق وبعض تعاويذ يحفظها. ولما استطاعت أن تنطق وقصت عليهما ما رأت وما سمعت أخذ الرجلان هراوتيهما وأسرعا بها نحو القرية وهما يقرآن اسم الله في أذنيها. ولما مرا بالساقية لم يكن هناك سوى البقرة تدور مغمضة العينين خاشعة تحت النير الغليظ، وقال الأب لابنته: «ليس هناك شيء يا مبروكة.» فلم تجب، بل سارت مطرقة حتى وصلت إلى القرية فرقدت على فراشها فوق الفرن، والتف حولها النساء يتحدثن عن قصص الأرواح التي تظهر أحيانًا بعد الموت للأعزاء. وهل عَجَب أن يعود روح حسين محجوب من العالم الآخر ليزور معاهد حياته الأولى وينادي الذين تعلق بهم في هذه الدنيا؟ واعتقد الجميع أن تلك آية جديدة على صدق محبة حسين المسكين لابنة خالته مبروكة، وقالوا إنها زيارة قصيرة ثم عاد إلى عالمه السماوي.

ولكن الفتاة المنكوبة كانت أرهف بصرًا وحسًّا من كل مَن هناك وقالت بصوت خافت: رأيته مرة أخرى على الطريق، كان يسرع وهو يعرج على عكازة.

فصاح أبوها: اسكتي يا مبروكة.

وأخذ يقرأ الآيات في حزن ويده فوق رأسها.

وجاء أهل القرية إلى بيتي مسرعين ليحملوا إليَّ قصة مبروكة المسكينة وهم يتعجبون من المعجزة. غير أني كنت أعرف أن الأرواح تؤثر البقاء في عالمها السماوي ولا تعود متجسدة إلى القرى ومعها عكازاتها. وخطرت لي خاطرة سريعة، فقمت مبادرًا إلى سيارتي وسألت عن الاتجاه الذي قالت مبروكة إنها رأت الشبح يسير فيه، وما هي إلا دقيقة حتى انطلقت إلى الطريق المؤدي إلى القرية المجاورة. وصدق حدسي آخر الأمر، لأني رأيت الشبح ما يزال يعرج على الطريق أمامي مقتربًا من القرية، وكان حقيقةً يتكئ على عكازة تحت إبطه. وأدركته بعد لحظة قصيرة، فنزلت من العربة لأفتح ذراعي لصديقي حسين محجوب، ومال كلٌّ منا على عنق صاحبه يبكي. وانتحينا جانبًا من الطريق فجلسنا تحت أشعة القمر نتحدث، وقص عليَّ قصته: نجا من الموت بعد أن انفجر فيه لغمٌ وهو ذاهب لإسعاف الطائرة المنكوبة، وعثرت به «دورية» فحملته معها إلى غزة، وهناك أُجريت له عملية مدت له الحياة بساق واحدة. ولما رجع إلى الوطن بادر إلى القرية وكانت ليلة نصف شعبان، فذهب ليصلي المغرب إلى جوار الساقية قبل أن يرى أحدًا من أهل القرية، وقرأ الدعاء لعل الله يمحو عنه شقاوته وحرمانه وطرده! ولكنها عندما مرَّت به لم تعرفه. وناداها باسمها قائلًا: «أنا حسين يا مبروكة.» ولكنها صرخت وولَّت هاربة مذعورة.

فقلت له وقلبي يسيل عطفًا: لا تحزن يا صديقي، فسوف يمحو الله شقاوتك وحرمانك وطردك.

فهز رأسه في شكٍّ وقال: هيهات يا دكتور. ليتني مت في الموقعة.

ولم أشأ أن أطيل معه المناقشة ونحن هناك على الطريق، كما أني لم أشأ أن أعود به إلى القرية في تلك الليلة بالذات؛ لأن شعورًا غامضًا كان يوحي إليَّ بأن أذهب به من ساعتي إلى القاهرة.

وتحدثنا طويلًا في الطريق، كما تحدثنا طويلًا في الأيام التي أقامها في عيادتي تحت العلاج، وحمدت الله كثيرًا على أن إصابته لم تكن يائسة كما كنت أحسب. واستطاع بعد شهر ونصف أن يسير على قدميه سويًّا بغير عكازة بفضل ساق مصنوعة اخترناها له من أجود الأصناف التي لا تكاد مشيتها تختلف عن المشية الطبيعية.

وعُدنا إلى القرية في يوم من أيام عيد الفطر، وكانت حقًّا ليلة عيد عند أهل القرية جميعًا. وجاءت مبروكة إلى بيتي لأول مرة منذ مدة طويلة لكي تقبِّل يدي على أني أعدت حسينًا إليها. ولست أنسى أن أذكر هنا أنني لم أملك نفسي من البكاء وأنا أرى العروسين واقفين جنبًا إلى جنب ومبروكة تضع يدها تحت ذراع زوجها وتبتسم سعيدة، لألتقط لهما صورة شمسية تذكارًا للعودة.

ولما أقمنا العرس بعد ستة أشهر وجاء حسين ليسلم عليَّ قبل الذهاب بزوجته إلى داره الجديدة بجوار الساقية سألته قائلًا: أرأيت كيف محا الله شقاوتك وحرمانك؟

فضمَّني إلى صدره قائلًا: سنتلو الدعاء معًا كل عام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤