مينا الأثريبي

«الكبرياء المحطمة تستطيع أن تنتقم ممن حطمها.»

كان الضوء يؤلم عينَي السجين كلما فتح باب سجنه المظلم، لطول ما أقام في تلك الحجرة الصغيرة الرطبة، كانت الحجرة أشبه شيء بجحر أو جب لا فتحة له إلا ذلك الباب الضخم العتيق الخشبي الذي كلما فتحه السجان صرَّ صريرًا عاليًا. فإذا فتح تدفق منه نور يهوي إليه من كوة في أعلى البرج الذي فوقه، وكان ذلك النور يطعن عينَي مينا بن حنا، فيضع يده عليهما، فلا يرفعها إلا شيئًا بعد شيء.

كانت السنوات الخمس التي قضاها مينا في سجنه بحصن بابليون قد غيَّرته ومسخت هيئته. كان قبل أن يدخل ذلك السجن شابًّا تمتلئ الأعين من حسن منظره وروعة هيئته. فإذا ما جاء من قصره الريفي في أثريب إلى مدينة مصر الكبرى رج الأسواق بما يبيع فيها وما يشتري منها. فإذا ما ركب بغلته الشهباء الفارهة خارجًا من الأسواق قام له أصحاب المتاجر وأحنوا له الرءوس وتطلعوا في أثره إلى قامته الدقيقة الفارغة وهو رافع الرأس في ثيابه الكتانية الموشاة بالذهب. وكان لعينَيْه بريق خاطف كأنه وميض البرق في حاشية السحاب.

ولكن ذلك الجمال قد خبا وذبل كما يذبل العود الأخضر تحت لفح رياح الخماسين، وأصبح مينا يلوح كهلًا أصفر اللون أشعث الشعر طويل اللحية غائر العينين، وانحنت قامته المعتدلة وثقلت رجلاه، وضعف صوته المليء، حتى صار إذا نطق بكلمة تلفت حوله في فزع كأنه يسمع صوتًا غريبًا منكرًا.

ولم يعرف مينا الأثريبي سببًا لقذفه في ذلك السجن الفظيع؛ لأنه لم يكن معاديًا للسادة الروم حكام البلاد، ولم يكن ممن يحبون الفضول في أمر السياسة، لم يكن ممن تُؤخذ عليهم المآخذ في مشاحنات الحزبَيْن الأخضر والأزرق، ولا في مناقشات المذهبَيْن الدينيَّيْن اللذَين فرَّقا أهل البلاد وأوقعا بينهم العداوة. وقد عجب الناس أشد العجب عندما سمعوا بنكبته المفاجئة، ولكن لم يجرؤ أحد أن ينطق باسمه خوفًا من بطش الحاكم الصارم قيرس المقوقس الذي كان لا يعرف الهوادة في معاملة مَن تتجه إليهم شكوك جواسيسه.

وكان يومًا من أيام الشتاء الباردة عندما فُتِحَ باب الحجرة على مينا ودخل الضوء إليه. وكانت نفسه في ذلك اليوم خائرة، فلم ينهض من مكانه على الأرض الرطبة، بل أغمض عينَيْه وأدار وجهه عن الباب، وانتظر لحظات ريثما يتحمل بصره الضوء في بطء وحذر. ولكنه سمع السجان يناديه: قم معي يا مينا بن حنا. قم وأسرع فإن الأمير ينتظرك.

فتمتم الرجل في ضعف: أمَا من رحمة في قلوبكم؟ إنني لا أكاد أقوى على الوقوف أيها المسيحي.

فصاح السجان الرومي: قم سريعًا. أمَا تسمع؟

فتحرك مينا حركة قلقة في مكانه، ثم نهض واقفًا وهو يترنح، ومد يده إلى الجدار يتوكأ عليه حتى استقام، ثم التفت إلى السجان وقد فتح عينَيْه وتغير مظهره فجأةً، فاحمرَّ جبينه ومد عنقه كأنه يريد نضالًا، ثم نطق بصوت أجش فقال: لن أذهب إلى العذاب بقدمي مرة أخرى. اذهب إلى أميرك، فقل له إنني أمقته. فليحمل آلات العذاب إلى هنا على عاتقه إذا شاء.

وكانت لحيته الغبراء التي صبغها السجن شيبًا تهتز في عنف، وعلا صدره بالأنفاس وارتفع رأسه حتى كاد ظهره المقوس يعتدل. فوقف الرومي حينًا صامتًا ينظر إليه في دهشة ثم قال بصوت حانق: ماذا تقول أيها الأحمق؟ إن الأمير يدعوك.

فصرخ مينا: اذهب إليه فأبلغه أنني أمقته. لن أذهب إليه على رجلي. قل له إنني أود لو استطعت أن أمزق أعضاءه!

فقال السجان رافعًا صوته: ماذا حدث بك يا مينا بن حنا؟ هل ذهب عقلك؟ أتريد أن أقول للمقوقس إنك تمقته وإنك تريد أن تقطع أوصاله؟!

فصرف الرجل وجهه عن السجان، ثم سار خطوتَيْن يهتز في مشيته متجهًا نحو ركن الحجرة.

فاقترب السجان منه ووضع يده على كتفه برفق، وقد دبت في قلبه هزة من الشفقة، وقال له: هلم معي وكن هادئًا. فإن الأمير الأعظم قيرس يريد أن يراك.

فالتفت مينا إليه لفتة مترددة وقال له: يريد أن يراني؟

فهز السجان رأسه وقال له: نعم. لقد قلت ذلك مرارًا فلم تسمعني!

فأطرق مينا لحظة وهو صامت، ثم رفع رأسه وتنفس نفسًا عميقًا وهو يغمض عينَيْه، كأنه يريد أن يبعد عن نظره صورة كريهة. وسار وراء السجان وفي قلبه شجون مضطربة يدفع بعضها بعضًا.

•••

وكان المقوقس في حجرته الفسيحة في أعلى الحصن، يشرف على النهر وقد فاض ماؤه الأغبر على الحقول التي حوله إلى أطراف الأفق، فصارت الأرض كأنها بحيرة عظيمة لا تظهر فيها من المعالم إلا قرًى منثورة، كأنها نقط سوداء تجري بينها جسور سوداء، تبدو من بعيد مثل الخطوط المستقيمة رسمها مهندس فوق صفحة بيضاء.

وكان القلق باديًا على وجهه، ويتحرك بين حين وآخر حركة مضطربة متجهًا بنظره إلى الجزيرة الطويلة الممتدة إلى الشمال من وراء مجرى النهر، وقد ضُربت عليها خيام مختلفة الألوان بين سمراء وغبراء وبيضاء وحمراء، موزعة مثل الأكواخ بين حشائش الجزيرة وأشجارها. ودخل عليه جورج قائد الحصن مسرعًا فحيَّاه ووقف حياله حتى أذن له بالجلوس، ثم سأله: هل آن له أن يجيء؟

فقال جورج جاهمًا: نفذت أمر مولاي، فهو الآن يستعد للمثول بين يديك.

فتنفس قيرس وقال في نغمة حزينة: ألم تغير رأيك بعد يا جورج؟

فحرك القائد رأسه مترددًا وقال: لم أغير رأيي، ولا أظنه يستطيع أن يصفو لنا بعد ما ناله من أذًى على أيدينا. إنه من هؤلاء المصريين ذوي الرءوس الصلبة الذين أتمنى لو استطعت أن أشنقهم جميعًا.

فقال قيرس: لست أنكر ما في قولك من حق. إنه مصري عنيد مثل قومه. ولكن ماذا عساه يفعل إذا أنا خاطرت فأرسلته؟

فقال جورج: إذن يزيد أعداؤك واحدًا في خارج الحصن.

فعبس قيرس وقال في حقد: لو استطعت أن أفني هؤلاء المصريين جميعًا لفعلت كما تريد يا جورج، ولكني لا أستطيع ذلك ويا للأسف. سأخاطر لأنني لا أتوقع ضيقًا أشد مما نحن فيه. سأخاطر فأخرجه معي هذه الليلة، ولا أظنه يجرؤ على مخالفتي ما دامت أمه وزوجه رهينتين هنا.

فطرفت عينا جورج طرفًا سريعًا ولم يجب. وأحس قيرس أن ذلك الجندي الخشن الذي أمامه ما يزال يخالفه في الرأي. ولكنه ملك نفسه وتبسم قائلًا في لهجة مرة: إنكم معاشر الجنود لا تعرفون إلا حسم الأمور بالعنف، ولكني قد وجدتكم لا تستطيعون أن تهزموا هذه الشراذم الضئيلة من العرب.

figure

قال هذا وأشار إلى الخيام المنثورة بين الحشائش والشجر في الجزيرة. فانتفض جورج واحمر وجهه، ولكنه لم يرد بكلمة.

واستمر قيرس قائلًا: سأذهب الليلة إلى لقاء وفد العرب في الجزيرة، سأحاول أن أصرفهم عن البلاد بالحيلة أو بالرشوة. ولكني أحب أن يكون الأمر سرًّا، فإياك أن يتسرب الخبر إلى خارج الحصن. أسرع بإحضار مينا، فليس أمامنا من سبيل آخر. سأرسل مينا إلى بنيامين لنواجه العرب صفًّا واحدًا.

فحيَّا جورج وخرج من الحجرة مسرعًا.

وبعد قليل جاء مينا وكان وجهه نحيلًا حائل اللون ناتئ الوجنتين غائر العينين، كأن وجهه المعروق عظام جمجمة. فاستقبله قيرس واقفًا مرحِّبًا، وأجلسه على مقعد وثير مغطى بالكتان المزركش على مقربة منه، وأخذ يلاطفه في الحديث معتذرًا إليه عمَّا أصابه من الأذى، وصرَّح له بعزمه على إيقاع العقوبة بالوشاة الذين سعوا به ورموه بالأكاذيب. وقال له: سيعوضك قيصر عن كل ما أصابك في مالك ونفسك، وأنت ما تزال شابًّا والأيام واسعة أمامك تنسيك كل الآلام.

فتنفس مينا نفسًا عميقًا ولمعت عيناه بومضة براقة، ولفت رأسه لفتة سريعة، ولكنه لم يجب، بل عاد وأطرق صامتًا وصدره يضطرب بأنفاسه.

فقال له المقوقس: لقد آن لهذه البلاد أن تتحد وتعرف في داخلها السلام. أنت تعرف يا مينا بن حنا أن هذا الانقسام الذي نعاني آثاره اليوم هو الذي يُجَرِّئ علينا هذه الوحوش التي جاءت تجوس خلال ديارنا.

فرفع مينا رأسه ببطء وقال: لست أفهم شيئًا …

لقد قضيت خمس سنوات في السجن المظلم، وكأني منطوٍ في قبرٍ لا صلة لي فيه بالأحياء. لست أفهم يا سيِّدي ما تقول.

فقال المقوقس معبسًا: هذه المنازعات التي بيننا قد أطمعت فينا أضعف الشعوب وأفقرها. ألا تعجب أن يأتي العرب إلينا يطلبون غزونا؟

فقال مينا في دفعة غضب: وماذا تريد من جثة هامدة؟ ماذا تريد من هيكل محطم؟ ماذا تريد بتوجيه هذا الحديث إليَّ؟

قال قيرس ملاينًا: نحن الآن أمام هؤلاء الأغراب الذين يهددوننا جميعًا.

فقال مينا بصوت ضعيف: يهددوننا؟ أيهددوننا بالسجن؟ أيعذبوننا بالسياط والنار والعقارب؟

فقال قيرس وهو يحاول الهدوء: هذه بلادك يا مينا بن حنا. وقد جاء هؤلاء الجياع ليأكلوا طعامكم ويسكنوا مساكنكم ويزيلوا عقيدتكم.

فاندفع مينا قائلًا: من أجل عقيدتنا نُسجن ونُعذَّب. وأما الطعام والمساكن فلم يبقَ لنا ما نحرص عليه يا قيرس. قل لي ماذا تريد بإحضاري إلى هنا؟

فصمت قيرس واحمر وجهه، ولكنه تماسك وقال في هدوء: هذه الأحقاد القديمة فرقت بيننا وجعلتنا أعداءً يا مينا بن حنا. نحن الآن أمام عدو مشترك يريد أن يقضي علينا جميعًا. أليس الروم أقرب إليكم من هؤلاء الذين لا يعرفون المسيح يا مينا؟

فأطرق مينا صامتًا وكان وجهه النحيل يشبه وجه جثة محنطة. ولما رفع رأسه بعد حين نظر إلى قيرس بعينَيْن تلمعان ببريق خاطف، وارتد شيء من اللون إلى وجهه وقال: أريد أن أعرف ماذا تريد مني يا سيِّدي؟

فقال المقوقس: لا أريد منك إلا خدمة قومك ووطنك. أعرف أنك من أشرف أهل هذه البلاد وأكرمهم وأشجعهم، ولولا أكاذيب الوشاة لما أقدمت على شيء يضرك يا مينا بن حنا. إنني آسف ومتألم لأنني اضطررت إلى أن أقبض عليك وأحتفظ بك هنا. السلام والأمن والاستقرار لا تسمح بالتساهل. ولكن الظروف تغيرت والمصلحة العامة تقضي علينا جميعًا أن ننسى الماضي وننسى كل شيء إلا الدفاع عن هذه الأرض من أجل المسيح.

فقال مينا في هدوء: وماذا أستطيع؟

فأسرع قيرس قائلًا: أشكرك على سؤالك هذا يا مينا بن حنا. هكذا كنت أعتقد فيك عندما دعوتك إلى هنا. أنت تستطيع أن تؤدي لوطنك خدمة جليلة؛ لأنك من أشراف القبط، ولأنك فوق هذا صديق لبنيامين.

فاندفع مينا قائلًا: ومن هو بنيامين؟ أتقصد الأب المبارك البطريق؟

فقال قيرس متماسكًا: نعم البطريق اليعقوبي بنيامين. بنيامين الذي كان السبب في كل ما حدث من الاضطراب والاصطدام، ولولا مخالفته وإصراره على العناد لما وصلنا إلى هذا الذي وصلنا إليه.

ولكن دعنا من الماضي. يجب أن يعود السلام إلى صفوفنا إذا أردنا مقاومة هذا العدو المخيف.

وكان مينا ينظر إلى يَدَيْه النحيلتَيْن وهو صامت ويقبض أصابعه وينشرها في شيءٍ من الاضطراب.

واستمر قيرس قائلًا: لست أشك أنك تقدر على الوصول إلى بنيامين، أنت من أقرب أصحابه إليه، ولن تجد صعوبة في معرفة مكان اختبائه. ولست أطلب منك إلا أن تحمل إليه نبأً سارًّا فيه خير له وللجميع. هذا كتاب قيصر إليه بالعفو عن كل ما سلف. فما رأيك في إيصال هذا الكتاب إليه؟

ومد يده إلى منضدة فأخذ قرطاسًا ملفوفًا بقطعةٍ من الحرير المذهب ورفعها نحو مينا.

ولكن نظرة مينا الجامدة لم تتغير وبقي ثابتًا في مكانه.

فاستمر قيرس قائلًا في ابتسامة متكلفة: أنت ما زلت شابًّا يا مينا بن حنا. سنرد كل أملاكك إليك، وكل الأموال التي صُودرت تعود إليك. وأنت تعلم أن قيصر يعرف كيف يكافئ أصدقاءه. ولكن الأهم من كل هذا أننا في ساعة حاسمة تحتاج إلى أن نقف جميعًا صفًّا واحدًا. وإذا عاد بنيامين إلينا ووضع يده في أيدينا لم يجد هذا العدو ثغرة يطعننا منها ويقضي على استقلالنا. أظنك لن تتردد في الذهاب إلى بنيامين …

فانتفض مينا قائلًا: أهكذا تتحدث عن الأب المقدس؟ أهكذا تعيد عليَّ اسمه قائلًا «بنيامين»؟ ألا فاعلم أنه هو الأب المقدس بطريق القبط يا قيرس.

فاستمر قيرس قائلًا في جمود: هذا خلاف لفظي بسيط يا مينا بن حنا. هو إذا شئت الأب المقدس البطريق. وأحب أن أضيف إلى ما قلت لك إنك إذا نجحت في مسعاك وعدت إلينا مع البطريق فستجد السعادة في انتظارك. ستجد هنا زوجتك وأمك يفتحان لك أذرعتهما.

فصاح مينا في فزع: أمي وزوجتي؟!

فقال قيرس في صرامة: نعم، هما تقيمان هنا في انتظارك. ستبقيان هنا في حفظي وصوني حتى تعود إلينا.

فأطرق مينا واضعًا رأسه بين كفَّيْه واضطرب اضطرابًا ظاهرًا، ثم رفع رأسه قائلًا: أأستطيع أن أراهما؟

فقال قيرس مرتاحًا: تراهما الساعة حتى تطمئن على أنهما بخير.

وصفق بيديه يدعو حاجبه، ثم قال: قد أعددت لهما حجرة فسيحة فيها كل ما تحتاجان إليه من الراحة والخدمة، فلا تقلق من أجلهما.

فهب مينا واقفًا وقال: لقد غيرت رأيي، وخيرٌ لي أن أراهما بعد عودتي. خيرٌ لي أن أذهب بغير أن أراهما.

وكان صوته متهدجًا وعيناه الغائرتان تلمعان ببريق شديد.

فقال قيرس مبتهجًا: هذا خيرٌ لك ولهما، وهو أدعى أن تعود إلينا سريعًا.

فأجاب مينا في صوت عميق قوي: سأعود بأسرع ما أستطيع.

ودخل الليل وكان الظلام دامسًا، ونزل مينا بن حنا من الحصن في صحبة القائد جورج، ففتح لهما الحراس الأبواب المؤدية إلى المقابر فوق الخنادق المحيطة بالحصن، ثم أعادوا إغلاقها وراءهما، وما زالا سائرَيْن حتى صارا تجاه الجزيرة المستطيلة، فنادى القائد قائلًا: تيودور!

فخرج من ظل الشاطئ رجل يسعى حتى وقف تجاه القائد وحيَّاه، وأخذه جورج من ذراعه وانتحى به جانبًا وأخذ يهمس له حديثًا طويلًا، ثم أشار إلى مينا أن يتبعه إلى النهر. وبعد دقائق كان قارب سريع يشق الماء في الظلام الساكن متجهًا إلى الشمال نحو ميناء النهر في العاصمة الكبرى، يحمل مينا بن حنا.

ومضى شهر بعد شهر وأخذ ماء النيل في الهبوط، حتى كاد الخندق المحيط بالحصن يجف. وكان قيرس يزداد في كل يوم يأسًا ويزداد صدره في كل ليلة ضيقًا؛ لأنه خاب في كل ما دبره واحتال فيه، خاب في محاولته مفاوضة العرب على مالٍ يأخذونه منه ويعودون أدراجهم إلى الصحراء، وأرسل إليه قائدهم عمرو إجابة جافة طعنت كبرياءه في الصميم. ولم يفلح في إثارة أهل مصر معه إلى الحرب. ولم يفز بمساعدة قيصر عندما طلب إليه إرسال الأمداد. وكانت مخاوفه تشتد كل يوم، إذ كانت الأنباء تتوارد إليه بأن أتباع بنيامين لا يزالون يعادونه ويقاطعونه. ولم يصل إليه نبأ من مينا بن حنا.

وكانت آخر الأنباء أن العرب أرسلوا كتيبة منهم إلى الريف، ففتحت منوف وأثريب وأوشكت أن تهزم «تيودور» في سمنود.

وكان قيرس جالسًا في شرفة من شرفات سور الحصن في ليلة من ليالي القمر الباهرة في الخريف، وكان خياله يسبح في الأماني حينًا، وفي المخاوف حينًا، ناظرًا إلى السماء الصافية، وإلى الأفق البعيد، ولا تزال بقية من مياه النيل تغمره من أقصاه وأدناه. وتذكر مينا بن حنا الذي تركه منذ ثلاثة أشهر، ولم يبعث إليه كلمة، فثقل قلبه على صدره من الشعور بالخيبة ومن الحنق، وأحس إحساسًا عميقًا بالخطأ الذي وقع فيه عندما آمن لهذا العدو القبطي وأخرجه من السجن راجيًا أن يساعده على إعادة الوئام بين المصريين والروم في تلك الساعة العصيبة.

وفيما كان قيرس يسبح في همومه، ارتفعت صيحة من جانب النيل، ثم تلاها صوت اصطدام، وارتفع من أسفل الحصن صليل السلاح، ولمعت أنوار وهَّاجة سمع لها عجيج وزفير. فقام ينظر في جوانب النهر، ولكن التواء المجرى كان يحجب عنه ما وراء الثنية، فلم يَرَ إلا وميض النار كأنه برق سحابة عند الأفق. فبعث إلى جورج قائد الحصن يستدعيه ليعرف منه مبعث تلك الصيحة، وجعل يذرع أسوار الحصن مضطربًا لا يدري مَن ذا الذي يلقي النار الإغريقية على سفن الحراسة وأبواب الحصن، فإن تلك النار سرٌّ لم يتعلمه بعد أهل الصحاري.

ومضت ساعة طويلة قبل أن يجيء إليه جورج، يهمرج في مشيته، والسلاح يقعقع فوق جسمه الضخم. فبادره المقوقس سائلًا في لهفة: مَن هؤلاء الذين يقذفون علينا اللهيب؟ هل عرف العرب سر القذائف الإغريقية؟

فأجاب القائد لاعنًا: ليسوا سوى هؤلاء القبط الذين يُظهرون في هذه الأيام ما في قلوبهم من الغل، هي سفنهم التي اعتادت في الليالي الأخيرة أن تهوي إلى الحصن في مثل هذه الساعة لتعترض السفن الآتية إلينا بالمئونة.

فقال قيرس في غيظ: وأين جنودي؟ أمَا تستطيع يا جورج أن تطحن هؤلاء؟ حتى هؤلاء القبط لا تقدر عليهم؟

فقال جورج في غيظ: لقد كدت أقبض عليه بيدي، ولكنه فر قبل أن أدركه. الشيطان والنار والجحيم! لقد فر قبل أن أدركه.

فقال قيرس في لهفة: مَن هو؟

فقال القائد في حقد: مينا بن حنا! اللعين مينا!

فصاح قيرس: مينا!

ثم غصَّ بريقه فلم يستطع أن يواصل صيحته.

واستمر جورج في لعنه وصخبه …

وصاح قيرس من بين أسنانه هو الآخر: اللعنة! اللعنة! هاتوا أمه وأخته! العذاب لهما!

ثم مضى وهو يلهث مما في صدره من الضيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤