آكل المرار وهند

«العاطفة الثائرة لا تعرف الاعتدال في حبها كما لا تعرفه في قسوتها.»

لم يكن حجر بن عمرو بالرجل الذي يعرف التردد. كان وجهه ينم عن أنه كان بين الرجال مثل نمر الغابة، قاسيًا صلبًا، يعرف الغرض الذي يرمي إليه ثم يسير نحوه في سرعة وخفة واحتراس، حتى إذا أتت اللحظة الحاسمة وثب على فريسته فصرعها ثم أخذ يقضم لحم أكتافها في شره. وكان الناظر إليه يحسب أنه يتحفز دائمًا للوثوب، فقد كانت شفتاه تنفرجان عن ثناياه مثل وحش يكشر عن أنيابه، وكانت عبسته الجاهمة لا تفارق جبينه، وتخط فيما بين حاجبيه أخدودًا عميقًا مظلمًا.

وكان الشتاء قد أوشك أن يمضي، وتنفست في الغدوات نسمات الربيع، واستقر عزم حجر على أن يسير إلى الغزو مع أتباعه من شيوخ القبائل الذين اجتمعوا له من نجد وأطراف اليمامة. كان كل شيخ يظل تحت علمه قبيلته وحلفاؤها، ثم يسيرون جميعًا وراء حجر بن عمرو حيث سار، واثقين من أنهم سيفوزون معه بالنصر دائمًا. ولم يكن هؤلاء الشيوخ سوى صور مكررة من حجر، وإن كانوا قد أذعنوا له واتخذوه زعيمًا. كانوا جميعًا من المغامرين الذين لا يعرفون التردد ولا يخشون الموت. وكانت عادة حجر إذا عزم على غزوةٍ بيَّت أمرها مع أصحابه، فأعدوا لها الرواحل والخيول في حذر وكتمان، حتى إذا تم لهم ما أرادوا لم يطيقوا صبرًا عن السير. فكان حجر يسارع إلى الرحيل بهم في أول الليل أو في وسطه، والظلام ضارب أطنابه في أطراف الفلاة، حتى يأخذوا عدوهم على غرة قبل أن تبلغه الأنباء عن الخطر الزاحف إليه.

ولكنَّ حجرًا عندما بيَّت مع أصحابه غزو البحرين كان على غير ما اعتاد من قَبْلُ في غزواته، فإنه بعد أن أعد عدته وأتم تدبير خطته، جعل يتردد ويطاول ويؤجل. وتهامس أصحابه فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض إنه قد تغير ودب إلى قلبه الخوف من الحروب. وأفضى بعض أصحاب حجر إليه بما يتهامس به الناس عنه، فغضب وثار وهدد، وهاله أن يُتهم بالخوف من الحرب وهو حجر بن عمرو، ودفعه الغضب إلى أن يعزم على السير إلى الغزوة من ساعته. وكان الليل قد تصرم وبدت في الشرق أضواء الفجر، ودبَّت الحياة في الفضاء الساكن الفسيح عندما بدأ السير.

figure

كانت أنفاس الربيع تهب على منازل كندة من مروج نجد تحمل معها عطور الخزامى والشيح والعرار، وخرج حجر من خيمته ونادى في أصحابه إنهم سائرون من ساعتهم إلى الشرق نحو البحرين. ولكنه كان مع ذلك موزع القلب ثائر الشجن ينازعه قلبه إلى البقاء. وخرج الفرسان سراعًا من خيامهم حتى ملئوا رحاب الأودية، ولكنه عاد إلى خيمته ليودع امرأته قبل أن يسير.

لم يعرف حجر الحب إلا منذ تزوج تلك الزوجة الحسناء، ومنذ عرف الحب عرف الحنين والرقة. ومن أجل ذلك الحب كان يطاول أصحابه ويؤجل يوم الغزوة الأخيرة يومًا بعد يوم.

وكانت هند الجميلة واقفة عند باب الخباء مثل الأقحوانة الرطبة التي تفتحت في الصباح، وخُيل إليه أن الهواء قد امتلأ منها عطرًا ونورًا.

وألقت بنفسها بين ذراعَيه وهي باكية، وأخذت تمزج اللوم بالدعاء وتستعجل عودة اللقاء قبل أن يكون الفراق. وكان صوتها يقع في أعماق قلبه غناءً مشجيًا، ونظرات عينَيْها تنفذ إلى نفسه سحرًا يكاد يقعده عن الغزوة مرة أخرى. ونزع يدَيْها من حول عنقه في رفق، ووثب على فرسه مستجمعًا عزيمته، بعد أن ضمها ضمة أودعها حبه الغامر الشديد، وقال وهو يثب إلى ظهر جواده: أخلف عندك قلبي، فاحفظيه يا هند حتى أعود.

ثم اندفع يعدو نحو أصحابه في عنف، كأنه يريد أن يبعد عن نفسه التردد الذي كاد يلوي عنان فرسه نحو الخباء الحبيب.

ولما سار الجيش وراء حجر كانت الشمس ترسل أول أشعتها من وراء الأفق طالعة على الفضاء الرحب الذي يسيل بأعناق المطي. فالتفت حجر وراءه إلى أقصى الأفق، ليتزود بنظرة من معاهد الحب قبل أن يغيب عنها، واهتز واضطرب وعاودته شجونه، وثار به وجده، وود لو كانت هند تسير معه فيأمن عليها العوادي، وتكون في كنفه يدفع عنها بنفسه ويقيها بحياته.

ما زال حجر يحدث نفسه عن هند وفراقها حتى كادت تجثم على نفسه الوساوس، لولا أنه أزاحها واثقًا من أنه لن يقضي في غزوته إلا أيامًا ثم يعود إليها فيجدها تنتظره وتفتح له ذراعَيْها تهنئه بالانتصار.

وسار في طليعة الجيش، وأقبل على أصحابه يسمع منهم ويحدِّثهم، وينظر في الأمور يوردها ويصدرها بما تعود الجميع من حزمه وصرامته. وصارت صورة هند إذا عاودته بعد ذلك زادت عزيمته مضاءً وقوةً. وما زال حتى انتهى به السير الطويل إلى البحرين، وبات ليلته قبل الزحف الأخير يدبر الأمر مع أصحابه ليهبطوا على عدوهم من كل جوانبه، فلا تطلع الشمس حتى يكون شط البحر جميعًا موطئًا لخيلهم، وحتى تكون خزائن اللؤلؤ كلها غنائم طيبة … يختار منها ما شاء من الفرائد هدية لهند الحبيبة.

وفيما كان الأمراء يعبئون الجيش ويقسمون كتائبه ويشدون ألويتهم في أطراف الرماح، طلع عليهم راكب من الظلام وقد شق قميصه وهو يصيح: أدركوا منازلكم فقد أحاط بها العدو!

ثم أخذ يحدثهم عن العدو الذي تسلل إلى الديار في غيبتهم فسلب الأموال وسفك الدماء. ثم قصَّ عليهم أسر هند. لقد كان أول هم العدو أن يحيط بخباء هند فجعلها أثمن غنائمه، وأردفها وراءه على فرسه البيضاء، ونجا بها قبل أن يدركه أحد من آل حجر أو أتباعه المخلصين. ولم يصبر حجر ليسأل طويلًا عن حديث الغزوة، فقد كان أول همه أن يبادر إلى العدو ليستخلص منه زوجته وحبيبته الحسناء.

وطلعت الشمس على جيش حجر وهو يحث مطاياه عائدًا بجيشه نحو الغرب يطلب منازله في نجد، لعله يدرك عدوه قبل أن ينجو بما غنمه منها. وكان حجر صامتًا ينفث في أنفاسه سُمًّا، ويهوي على دابته بالسوط وهي تنهب الأرض، ولا يزال يستبطئها ويعنف في القسوة عليها. وبعد أيام بلغ هضاب نجد وطالعته رياحها العاطرة، ورأى رمالها صفراء ناعمة لا أثر عليها ينم عن الغارة التي شنها عليه عدوه الحانق. ولكن امرأته لم تكن هناك. وكان أول همه أن يرسل رجلَيْن في آثار العدو يتحسسان أخباره، ويريان كيف أصبحت هند معه وكيف صارت إليه حالها. وكان قلبه يذوب كلما تصور ذلك العدو القاسي يسومها الذل والعذاب في أسره.

وقضى أيامًا في عذاب لا يذوق نومًا، وهل ينام مَن يعلم أن حبيبه يعاني مرارة الأسر ويتجرع غصص الفراق؟ وعاد إليه رسوله سدوس بعد أيام يحمل إليه الأنباء، وأخذ يحدثه في ضوء القمر بين الكثبان العفراء، وسمع حجر سدوسًا يتكلم وكان شاخصًا ببصره في الفضاء يكاد بريق الغضب في عينَيْه يلمع في ضوء القمر الوضاء، وأخذ سدوس يصف له كيف تسلل إلى جيش العدو في الليل، وكيف زحف على الرمال حتى صار وراء خيمة هند وسمع حديثها مع العدو الذي اختطفها. وكان كلما أفاض في وصفه تلوَّى حجر كأن النار تتقد في حشاه، يقبض يده تارةً ويبسطها، وينزع حبوته مرة ثم يشدها، حتى قال له سدوس: ثم دنا زياد من هند!

فصاح حجر مقاطعًا: مهيم! ويحك، أتقول إنه دنا منها؟

واستمر سدوس في حديثه فقال: نعم، دنا منها فاستقبلته مرحبة!

فصاح حجر قائلًا: ويلك، أتقول إنها رحبت به؟

فقال سدوس: ثم أهوى إليها بقبلة.

فهب حجر من مجلسه كأنه قد لسعته أفعى، وقبض في يمناه قبضة من غصن مرار كان في جواره، فقطعه بأسنانه وجعل يلوكه، وقال وهو يهدر غضبًا: ويل أمه وويل لك! ماذا تقول يا سدوس؟

فقال الرجل وقد خشع خوفًا: إذا شئت أن أمسك عن الكلام أمسكت.

فقضم حجر قطعة من المرار وجعل يحطمها بأسنانه ويلوكها، ثم قال بصوت مختنق: بل امضِ في حديثك لا أُمَّ لك …

فقال سدوس في شيءٍ من التردد: وقال لها زياد: «ما ظنك الآن بحجر؟ أتودين لو جاء مسرعًا في أثري؟ أتودين العودة إليه؟»

ثم توقف سدوس عن الحديث ونظر نحو الزوج الثائر.

فصاح حجر وهو يلوك المرار ويلفظه: ما لك تقف؟ امضِ في حديثك لا أُمَّ لك. امضِ لا أَبَ لك! وقل بما أجابت المرأة.

فقال سدوس مطرقًا: فارتمت هند بين ذراعَيه …

فلفظ حجر عند ذلك قطعة من المرار كان قد حشا بها فمه، ثم دفع سدوسًا في صدره دفعةً ترنَّح لها، وصرخ قائلًا: أمسك لسانك فما لي قوة على سماعك.

ثم ولى وهو يزمجر بصوت أجش مخيف: الفاجرة! الخائنة! القطع! الإحراق!

وسار يخبط الأرض برمحه في عنف حتى بلغ خيمته وجعل يعبث في متاعها ويقلب ما في أركانها ليجمع منها سلاحه ودروعه. ثم هدأ فجأةً وتمالك جأشه، وخرج حتى كان عند باب الخيمة فوقف شاخصًا إلى الفضاء متكئًا على رمحه ونادى سدوسًا وفي صوته رقة وقال له: أقبل يا سدوس، فقد عنفت عليك.

فأقبل الرجل حتى وقف تجاهه، ونظر نحوه وهو صامت، فقال حجر يحدثه في صوت متهدج: لست تعلم يا سدوس أي طعنة أصبت بها فؤادي بحديثك. إن ضرب السيوف ووخز الرماح لم يزعزعا يومًا جناني كما زعزعته كلماتك، وإن كنت لا آلوك شكرًا على نصحك.

ثم تخاذل فارتمى على صخرة ووضع رأسه على قبضة يمينه، وأطرق قائلًا: قل يا سدوس ما عندك. امضِ في حديثك يا سدوس.

فقال سدوس: لم يبقَ إلا ما قالته هند وهي بين ذراعَيه …

فقال حجر: قل ولا تخف يا سدوس. قل فإن الكي يريح القرحة الداوية.

فاستمر سدوس في صوت خافت: فقالت هند: «لم أبغض شيئًا في الحياة مثل بغضي له.»

فصاح حجر في صوت حانق: تبغضني هند كما لم تبغض شيئًا في الحياة؟ أقالت هذا وسمعته بأذنَيْك يا سدوس؟

فقال سدوس في تردد ورقة: لقد علمت أن الرائد لا يكذب صاحبه.

فتنفس حجر كأنما صدره ينفجر، ثم قال: أهند من بين النساء، أم هن كذلك يا سدوس؟ أتبغضني هند وتفضي إلى عدوي بذلك وهي بين ذراعَيه؟ أي شيء في الحياة يحرص عليه الرجل بعد هذا؟ أهذا مبلغ الوفاء عند هند؟

وسكت لحظة كأنه يستعيد صورًا ماضيةً لكي يقرنها بالصورة التي حملها إليه صاحبه. أهذه هند التي أمتعته بأشهى ما يمتع النساء الرجال؟ أهذه امرأته التي كان يجد السلام في قربها بعد أن تجهده الحروب؟ أهذه هي الحبيبة التي ودعها عند باب الخيمة وهي تبكي؟ أهي التي استودعها قلبه ريثما يعود؟ أي الصورتَيْن تتمثل فيها الحقيقة، وأيهما يتدسس إليها الكذب المسموم؟ أكانت تخادعه وهي تضمه إلى صدرها، أم هي تخدع زيادًا وهي بين ذراعَيْه؟

واتجه عند ذلك إلى سدوس في شيءٍ من الريبة، وقال يمتحن صدقه: تقول إنك سمعت قولها يا سدوس؟ أسمعتها بأذنَيْك؟

فقال سدوس خاشعًا: نعم سمعتها، ولم أشأ أن أعود إليك إلا بالخبر اليقين.

فقال حجر وقلبه يغوص في صدره: إذن فامض في قصتك وقل لي سائر الحديث، ولا تحجب عني شيئًا من قولها. قل ما سمعت وإن كان كل حرف منه يطعن قلبي.

ومضى سدوس يتحدث كأنما يهمس لنفسه، وكلما بلغ موضعًا يظن فيه مثارًا للألم المبرح في قلب صاحبه تريث وتردد، ونظر إليه خاشعًا كأنه يخشى منه سطوة الغضب والانتقام، ولكنَّ حجرًا كان سادرًا يلوك المرار ويلفظه، ولا ينطق إلا بزفرات مكتومة كأنها حشرجة المطعون. ثم قال سدوس: وجعلت تصفك قائلةً: «إنه شديد الكلب، تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارًا!»

فلفظ حجر قطعة من المرار كان يلوكها، وقال كأنه ينفث سُمًّا: نعم، ما أنا إلا بعير أكل المرار. امضِ يا سدوس، امض في قصتك وأتم لي حديثها.

فاستأنف سدوس ولا يزال في خشوعه: ثم قالت له: «لقد عرفته أحزم رجل نائمًا ومستيقظًا. إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه مستيقظ. ولقد رأيته ذات ليلة نائمًا وأنا أنظر إليه، فإذا أفعى تقبل عليه، فلما بلغت رأسه نحاه عنها، فمالت إلى يده فقبضها، فمالت إلى رجله فحركها، فذهبت الأفعى إلى عس لبن كان إلى جانبه فشربت منه، فقلت يستيقظ فيشربه فيموت …»

فصاح حجر كأن الأفعى قد عضته وقال: أمسك أمسك يا سدوس، هذه آية لا يدخل إليها الريب في صدقك. نعم، إنِّي لأذكر ذلك وأعرفه. لقد صحوت من نومي فرفعت العس لأشرب منه فوجدت فيه ريح الأفعى، وسألتها عنها فأنكرت أن ثمة أفعى. لقد رأتها الشقية تنفث سمها في اللبن وودَّت لو أني شربته.

ثم اندفع خارجًا من الخيمة كأن خبلًا أصابه، وصاح في أتباعه يستنفرهم للقتال …

•••

وانتهى القتال إلى غايته، وهزم حجر جيوش زياد، وعاد بعدوه وامرأته الخائنة أسيرَيْن، وكان أول همه أن يرى هندًا في الخباء.

•••

ودخل عليها فقامت إليه تستقبله، وكأنها لم ترَ بريق عينَيْه ولا تقلص شفَتَيْه، وكأنها لم تسمع فحيح أنفاسه الملتهبة ولا دقات قلبه الحانق. ومدت نحوه يدَيْها كأنها تريد أن ترتمي بين ذراعَيْه، فاقترب منها جاهمًا فوجمت إذ نظرت إلى وجهه، وشخصت ببصرها إليه، وثارت في نفسها كل صور الماضي البعيد والقريب، ولم تستطع أن تنطق حرفًا، وترددت ثم أطرقت وردت طرفها عن وجهه هاربة من نظراته الثائرة.

فصاح بها حجر وفي صوته الأجش المخيف تهدج وتقطع: هلمي إلى ذراعي يا هند. ما لي أراك لا تقبلين على زوجك الحبيب؟

فرفعت عينَيْها إلى وجهه المربد تريد أن تقرأ ما عليه، فلم تجد إلا دمًا وسُمًّا ولهيبًا، فعادت إلى إطراقها واضطربت وقالت في ضراعة: هل للأسيرة إلا أن تذكر عارها؟

فاندفع حجر وقد ملكه الغضب، فمد يده إلى كتفها فهزها هزة عنيفة وقال في صيحة مكتومة: هل للأسيرة أن تفتح ذراعَيْها لمن يأسرها؟ هل للأسيرة أن تقبِّل من سباها؟ تكلمي يا ابنة ظالم. تكلمي يا دنس الحرائر …

فرفعت إليه رأسها مبهوتةً وقالت صارخةً: كذبت أو صدَّقت الكاذب.

فترك حجر كتفها وارتد إلى الوراء قليلًا، وقهقه ضحكةً مخيفةً وقال: انظري يا هند إلى شفتَي، أليستا كشفتَي البعير إذا أكل المرار؟ نعم انظري إليهما، فقد بالغت في أكل المرار، وهاتان شفتاي مقلصتان أيتها الخائنة!

فأجابت هند وهي تستجمع قوة جنانها: ما حديثك هذا الذي تتحدث به؟ أهكذا تستقبلني بعد نصرك؟ لقد كان بودي لو قُتلت قبل أن أقع في يدَي هذا اللئيم.

فأعاد حجر ضحكته المخيفة وقال: وما الأفعى التي كنتِ لم تريها؟ لقد شممت ريحها في العس، ولكنك أنكرت رؤيتها. هل علم بهذا الحديث سواك؟ أكاذب مَن يروي هذه القصة عنك؟ ألم تخبري بها زيادًا وأنت بين ذراعَيْه؟ لقد كان سدوس وراء الخيمة يسمعك إذ تحدثينه ويراك وأنت تداعبينه.

وكان غضبه قد ملكه عند ذلك، فدفعها في صدرها دفعة ترنَّحت لها وخرَّت باكية عند قدميه، وقالت بين دموعها: ذل الأسر أذهلني!

فانتفض حجر عند ذلك وخرج مسرعًا من الخباء لا يرى شيئًا أمام عينَيْه. ثم نادى عبدَيْن وأمرهما أن يعدَّا له فرسَيْن من أشد خيله عدوًا.

ولما أحكم رباط هند في ذيل الفرسين أهوى عليهما بسوطه حانقًا، فوثبا وثبةً تطايرت لها الحصباء، وانطلقا يعدوان على الوادي الوعر ومن ورائهما جثة تتخبط فوق الصخور حتى غابا عن عينَيْه، ووقف عند ذلك شاخصًا ببصره إلى الفضاء وقد أمسك بأعلى عمود خيمته ومال برأسه على ذراعه الممدودة، وقال لسدوس يحدثه في صوت متهدج حزين: كانت يا سدوس إذا نظرت إليَّ كأن الفجر يتنفس في الظلماء، وإذا أقبلت كأن نفحات الصبا تهب في أعقاب القطر، وإذا تنسمت ريحها كأن الربيع يفتح أكمام الخزامى والعرار، وإذا تحدثت إليَّ كأن الطير يغني عند الأصيل، وإذا ضممتها إلى صدري … أف يا سدوس، ابعد عني، فإني أكاد أحترق!

ولوى عند ذلك وجهه، ومسح بيديه دمعة فرت من عينَيْه، ثم تهالك على جذع نخلة إلى جانبه، وقال يحدث نفسه:

إن مَن غره النساء بشيءٍ
بعد هند لجاهل مغرور
حلوة العين والحديث ومرٌّ
كل شيء أجن منها الضمير

ثم تمالك نفسه بعد لحظة، وقام وقد عاودته ثورته، وقال مقهقهًا وهو يندفع خارجًا إلى الفضاء:

كل أنثى وإن بدا لك منها
آية الحب حبها خيتور

ثم أسرع ووثب على جواد وألهبه سوطًا، واتجه نحو الخيمة التي بها أسيره زياد، ليتم انتقامه لقلبه المفجوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤