الفصل الثامن عشر

كانت الساعة السادسة والنصف مساء عندما جاءت أمي لتدعوني إلى مقابلة طارق عند الباب، فقمتُ في ضيق ونزلت لأفتح له، وكانت دهشتي عظيمة عندما وجدت أنه حمادة الأصفر بوجهه النحيل وأسنانه الصفر وقامته الضئيلة، فوثَبَ قلبي وقلت له مبادرًا: هيه يا حمادة!

فقال في جمود: لا تحسب أني جئت لأرجوَك في شيء، أو أني خفت من تهديدك، ليس عندي عقود زواج ولا عقود طلاق، وكل أقوالك لا تُخيفني، اسمع يا سيد أفندي، إذا كنت تحسب أن النيابة تُخيفني فأنتَ مخطئ، وماذا تفعل النيابة بي؟ السجن؟ طيب يا عم، نذهب إلى السجن، أهذا كل ما تقصد؟ ألم أقل لك إني حشرة وكلب عقور ووغد؟ ولكن أموال السيد أحمد جلال حرام عليَّ أنا وحلال بلال لك ولمحمود بن محمد خلف ووالده سعادة الباشا، أهذا ما تُريد يا حضرة الأديب الكبير؟ طيب يا عم، خذ أنت نصيبك ونأخذ نحن نصيبنا. الفلوس لكم والنيابة لنا، أليست هذه هي القسمة العادلة التي تعوَّدناها من الحياة؟ بس يا سيدي، هذا ما جئت لأقوله، وحوَّل وجهه عني لينصرف، وثارت في نفسي مشاعر مختلفة فقد حزنت من أجله وأشفقت على بؤسه، ومع هذا هممتُ أن أركله بقدمي وأمرغه في تراب الحارة، وجمعتُ كل إرادتي وقلت له: لستُ في حاجة إلى أن أقول لك أكثر مما قلت أنت عن نفسك، فهل جئت لي حقًّا لتقول هاتين الكلمتين؟

فوقف وقال في مرارة: أتظنُّ أني لا أفهم السر في هذه الحماسة الشديدة؟ ألست أنت الذي كنتَ أكبر خصمٍ للسيد أحمد جلال؟ سبحان الله! سبحان الله يا أستاذ يا عظيم! هكذا تنقلب من حرب طاحنة إلى صداقة طاحنة لوجه الله تعالى؟ أتُريد أن تقول لي إنك متطوع لخدمة محمود خلف لوجه الله؟

ومن العجيب أني بعد أن كنتُ شديد الرغبة في أن أركل هذا الرجل بقدمي فأحطم عظامه، بدأتُ أجد اهتمامًا شديدًا بكلماته اللاذعة، ولأول مرة تبيَّنتُ أني مُتناقض مع نفسي كما تبينت أن موقفي مُعرَّض للتهمة التي جهر بها ذلك الوغد، وكان أكبر ما يؤلمني أن يذهب ظن أحد أني أُسخِّر نفسي لخدمة محمود خلف، ودعوته للدخول معي إلى البيت لأسمع منه كل ما عنده بعيدين عن الأنظار والأسماع، ولكنه مانع حتى جررتُه جرًّا من ذراعه، وصعدت به إلى غرفتي.

ولما صرنا وحدنا قلت له: اسمع يا حمادة. لستُ أبالي أن تكون أسفل مخلوق في العالم، ولكني أحب أن أقول لك كلمة، ماذا يهمك أنت إذا كنت أعمل لحساب محمود خلف أو غير محمود خلف؟ ماذا يُهمُّك أنت إذا كنت سأستولي على سمسرتي في هذه الصفقة وأُلقي بك في السجن؟ ماذا يغير هذا من موقفك أنت؟ هل عزمتَ حقيقة على أن تستمر في مؤامرتك؟ وهل حقًّا لا تبالي أن تذهب إلى السجن من أجل مَكيدة فاشلة؟ وأقسم لك برحمة أبي أني لن أتركك إذا لم تتنازل عن عنادك، فما رأيك الأخير؟

فتلوَّى في مقعده، وبقيَ مدةً صامتًا وهو ينظر إليَّ كأنه ثعبان يتحفز للهجوم، وكان على وجهه شبح ابتسامة مسمومة.

ثم قال في مرارة: يعني انتهينا؟

فقلت في لهفة: كن عاقلًا يا حمادة.

فقال: يعني نذهب إلى السجن أو نخرج من المولد بلا حمص؟ يعني يا سي سيد ليس أمامي إلا أن أختار بين السجن والموت جوعًا؟ طبعًا ستطردني المرأة إذا لم أذهب إلى السجن، وطبعًا مصطفى عجوة يُخرج لي لسانه قائلًا: «رح في داهية يا حمار.» نعم أنا حمار وخمسين ألف حمار؛ لأني لم أرض بمائة جنيه، وقلت له: ولا خمسين ألف. لم أعرف في ذلك الوقت أن سيد أفندي زهير سيعود إلينا من القاهرة ليقول لي: يا وغد اذهب إلى السجن.

وقام واقفًا يريد الانصراف، ولأول مرة رأيت عليه أثر الاضطراب والانخذال.

فجذبتُه من ذراعه لأقعده، فارتمى على الكرسي كأنه يتهدم وقال في ضعف: دعني أذهب يا سيد أفندي لأُفكِّر في اختيار السجن أو الموت جوعًا.

ونظرت إليه لحظة في صمت وخُيِّل إليَّ أني أرى أمامي أنقاض إنسان محطَّم، وشعرت من أجله بحزن صادق، وقلت له في رقة: أنا مُستعدٌّ يا حمادة أن أمد يدي إليك، وإن كنت واثقًا أني أمدها إلى الثعبان الجريح الذي لا يتردَّد أن يفرغ فيها سمه إذا استطاع أن يصل بأنيابه إليها.

وكان ينظر نحوي نظرة خاوية تدلُّ على أنه كان غائبًا بفكره عني، وكان تعبير وجهه ينمُّ عن ألم داخلي من معركة عنيفة، وشعرت بأنني حيال جدار منيع يحول بيني وبين الوصول إلى قرارة نفس ذلك الرجل الهزيل الجالس أمامي، وإن كنت أقدر على أن أصرع جسمه النحيل بضربة واحدة من يدي، كان واضحًا أن ذلك الرجل ينطوي على فِطرة وحشية عنيفة عنيدة تستعصي على إرادتي وتتملص من كل محاولاتي في تأنيسها.

ولبثنا مدة غير قصيرة ونحن صامتان، وكل منا يتحدث مع نفسه، وتحرك هو آخر الأمر واقفًا، وقال: تريد أن تضحك عليَّ يا أستاذ؟

فزممت شفتي بحركة غير إرادية، وقمتُ صامتًا، وسرت أمامه مطرقًا حتى خرجنا إلى الحارة، وهممت أن أدخل وأغلق الباب ورائي، ولكنه وقف متردِّدًا ثم قال: يعني لا تريد أن أخرج بشيء؟

فقلت مُنفجِرًا: ابعد عني أيها الأحمق، ولا ترني وجهك هنا.

فقال في خشوع: أشكرك يا سيد أفندي. ليس هذا الكلام جديدًا عليَّ، كل الناس يقولون لي مثل هذا.

فقلت في جفاء: وماذا تُريد؟

فقال في وقاحة: قطعة من الغنيمة.

ولم أجد فائدة في مناقشته، وقلت له في اختصار: وفي نظير ذلك؟

فوضع يده في عبه وأخرج منه أوراقًا وهو يَتراجع إلى الوراء كأنه يخشى أن أخطفها، فخفق قلبي شديدًا، وقلت له في صوت أجش: وما أدراني ما هذه الأوراق؟ ما أدراني أنها تافِهة لا تساوي قرشًا واحدًا.

فقال مترددًا: لو كان لي شرفٌ لحلفت لك به أن هذه هي الورقة التي تريدها.

وهزَّ ورقة قذرة في يمينه.

فقلت مُتكلِّفًا الهدوء: إذن نعود إلى غرفتي لأرى الورقة وأعطيك ما تريد.

فقال في عنف وحشي ووقاحة: لع يا سيدي! سأنتظر هنا المائة جنيه أولًا.

وأدركت ما يقصد من ذلك، ولم أَعجب من أن مثله يخشى أن يدخل معي خوفًا من أن أحبسه في غرفتي وأغتصب منه الورقة، وقلت له هادئًا: إذن فانتظر حتى أعود إليك.

ودخلت مسرعًا فوثبت على السلم غير مُصدِّق أنه ينتظرني حتى أعود، وكانت أمي مشغولة في حياكة ثوب لأختي، فاستعجلتُها لتعطيني مائة جنيه من المدَّخَر عندها، فقامت وهي تنظر إليَّ مستغربة ولكنها لم تسألني عن شيء، وذهبت إلى درج «الدولاب» الذي تحفظ فيه النقود، فأتت لي برزمة النقود كلها وقدمتها إليَّ وهي صامتة، فأخذتُ منها ورقتين من ذوات الخمسين جنيهًا، ورددت إليها الباقي، وأسرعت نازلًا في لهفة، وشعرت بارتياح عظيم عندما وجدت حمادة ما يزال واقفًا عند الباب، فمدَّ يده إليَّ وأخذ الورقتَين من يدي قبل أن يُسلم ورقته ثم انصرف بغير أن يلتفت إليَّ.

ونظرت إلى الورقة التي في يدي لأرى ما هي، وتنفَّستُ نفسًا عميقًا عندما وجدتها ممضاة بالإمضاء التي أعرفها للسيد أحمد جلال، كانت ورقة زواج عرفي، ولم أستطع أن أقرأ من الأسماء التي عليها سوى اسم السيد المرحوم واسم مصطفى عجوة؛ لأن اسم الشاهد الآخر كان غير واضح المعالم كأن صاحبه أراد أن يستخفي.

وداخَلني سرور لا أستطيع أن أصفه حتى لقد سألت نفسي: أأنا في حلم صوَّره لي التمني، أم أنا في يقظة حقيقية أقبض فيها بيدي على وثيقة يَبلُغ ثمنها مئات الألوف من الجنيهات، ومن فوقها سعادة منى وسمعة السيد أحمد جلال؟ وقفت ثابتًا في مكاني قريبًا من باب البيت لا أدري ماذا أفعل، وخلا ذهني من كل فكرة كأنه توقف عن الحركة، وأخرجت ساعتي فوجدت أنها صارت الثامنة من المساء، ولكن ذلك لم يَحمل إلى فكري معنًى، وأغلقت الباب ورائي، وصعدت إلى غرفتي، وأخذت أقرأ الورقة حرفًا حرفًا لأستوثق من أنها هي الورقة المطلوبة، وجاءت أمي عندما سمعت حسي، فقالت في هدوء: من كان معك يا سيد؟

فقلت: حمادة الأصفر.

فقالت في صيحة مكتومة: وهذه الجنيهات له؟

فقلت باسمًا: تفضَّلي يا أمي واجلسي هنا.

وأخذت أحكي لها كل ما مرَّ بي منذ الصباح، فكأن تعليقها على ذلك أن قالت: الله يبارك فيك يا ابني!

ثم قامت ووضعت يدها على رأسي، وجعلَت تقرأ والدمع يترقرق في عينيها.

ثم قالت: رحم الله الجميع يا ولدي؛ فقد كان السيد أحمد جلال رجلًا كريمًا، حماك الله من الفضائح يا ولدي!

ولما خرجت أمي من الغرفة بدأت أسأل نفسي: ماذا ينبغي لي أن أفعل؟ وكان أول خاطر سنح لي أن أسرع إلى منى؛ لأُخبرَها أن المشكلة قد زالت، ثم أسلم إليها الورقة وأتمتع بالسعادة عندما أراها تبتسم لي شاكرة، ولكني لم ألبث أن سخرت من هذه الفكرة، وبدا لي أنها لا تزيد على محاولة تمثيلية سخيفة، ثم ماذا يكون لو أن منى سألتني كيف حصلت على الورقة؟ أأحكي لها كل ما صنعتُ، وأني دفعت الجنيهات المائة ثمنًا لها؟ وهل يليق أن أذهب إلى هناك بعد الساعة الثامنة مساءً؟ وخطر لي أن أبادر بالسفر إلى القاهرة في قطار الصباح الباكر بغير أن أخبر منى بشيء مما حدث، وتأملت مقدار السعادة الكبرى التي أفوز بها إذا علمت منى من تلقاء نفسها فيما بعد بأنني أديت لها هذه الخدمة الجليلة في صمت بغير أن أنتظر منها جزاءً، ولكني سخرت من هذه الفكرة أيضًا، وبدا لي أنها أقرب إلى أن تكون إمعانًا في الرياء.

وضاق صدري من هذه المجادلات الداخلية الجوفاء، فأعدتُ قراءة الورقة ثم مزقتها قطعًا صغيرة في بطء وذهني سادِر، وألقيتُ بالقطع في سلة المهملات، وقمت لأنزل حتى لا أبقى في الحجرة المغلقة وحدي، واتجهت إلى بيت صاحبي عبد الحميد، وجلسنا في المنظرة المألوفة، وكانت نظرة صاحبي تحمل معنى الدهشة وابتسامته تدلُّ على التساؤل.

وقال في نغمة عتاب: أنت هنا منذ أيام؟

فقلت: منذ يومين اثنَين ولكنهما كانا ممتلئين.

وأخذت أقص عليه ما حدث منذ عدت إلى دمنهور.

فقال مبتسمًا: حسنٌ جدًّا يا دون كيشوت.

فقلت: أرجوك ألا تُرهبني بسخريتك، فهل كنت لأترك منى وحيدة لرحمة قطيع من الذئاب.

فتبتسم قائلًا: آه. هذا شيء آخر. أظنُّني بدأت أفهم، أنت تحبها؟

فقلت في جد: لا أكذبك، فأنت غير مُخطئ.

فقال وما يزال باسمًا: وما هي الخطوة التالية؟

فقلت: لا شيء، سأُسافر غدًا صباحًا.

فقال في دهشة: هكذا يفعل دون كيشوت!

فقلت: وما حيلتي؟ ماذا تَفعل لو كنت في موقفي.

فقال وهو يقف: لستُ أدري تمامًا، ولكني كنت لا أسافر غدًا إلى القاهرة، لم لا نذهب غدًا إليها لتسألها بغير مقدمات: هل تَرضى بك زوجًا؟ أنت أصلح لها بغير شك من ذلك الشاب الأبله، ماذا تنتظر؟

فلم أجبه بشيء؛ لأني لم أجد شيئًا أقوله، وأخذت أعيد السؤال نفسه، ولكني كنت مثل مذهول لا يعي ما يَسمع.

ثم قمتُ ساهمًا وليس في ذهني فكرة، وأخذ صاحبي بذراعي حتى نزل معي إلى الباب بغير أن يقول أحدنا للآخر كلمة، وكنتُ ما أزال أفكر في السؤال الذي وجَّهه إليَّ ولم أهتدِ إلى جواب له، وكان هو كذلك يفكر ولكني لم أعرف فيم كان يفكر، ولما صافحتُه آخر الأمر طلبت منه أن يُبلغ تحياتي للسيدة الكبيرة، وكانت دهشتي عظيمة عندما قال لي: إنها مريضة وإن الطبيب لا يسمح لأحد بزيارتها، وشعرتُ بخجل شديد وأنا أعتذر إليه من أني أخذت من وقته هذه الساعة لأحدثه عن نفسي وهو في مثل هذا الظرف القاسي، فلم يَزِد على أن أجابني قائلًا: «حديثك عن نفسك أحب إليَّ، وماذا كنت تفيدني لو حدثتك أنا عن نفسي؟» هذا الصديق العجيب يُسيطِر على قلبه مثل هذه السيطرة كأنه عقل مجرد لا تتطوَّح به العواطف والميول، ولا يعصف به ضعف الإنسانية، ولولا أن له قلبًا كبيرًا يعرف كيف يواسي وكيف يشارك في الاهتمام بغيره، لقلتُ: إنه خِلقة شاذة، ومهما يكن من أمري فقد انصرفتُ من عنده وأنا موزَّع القلب بين الإعجاب به والدهشة منه والحيرة بين التسليم بآرائه ورفضها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤