الفصل التاسع عشر

عدت من دمنهور إلى دوامة العمل مرةً أخرى، ولا أذكر أني كنت في يوم من أيام حياتي أشد قلقًا وشعورًا بالوحشة مما كنتُ في تلك الأيام، كنتُ أحسُّ أن الحياة أصبحت فراغًا خاويًا ليس من فوقه سماء تظلني ولا من تحته وطاء يحملني، بل كنت ضيقًا بنفسي حانقًا عليها بغير أن يكون في حياتي المعتادة ما أشكو منه، كنتُ موفَّقًا في عملي وكان الأستاذ علي مختار يزداد تقديرًا لي يومًا بعد يوم، وكنت دائمًا أوسِّع دائرة علاقاتي بزملائي من الصحفيين وبغيرهم من رجال السياسة والحكم، وأغتبط بما أجده عندهم من التقدير والتكريم، وكنتُ في حياتي الخاصة أشبه بأن أكون سعيدًا خاليًا مما يُثير الهموم، ولكني مع هذا كنتُ أحس كأن قلبي في قبضة مارد جبار يعصره بغير رحمة، واستولى على قلبي خيال واحد لا يكاد يفارقني في ساعة من الليل أو النهار، فيتمثل لي إذا جلست لأكتب مقالاتي في دار الجريدة، وإذا سرتُ في طريقي أو جلست في حجرتي المنعزلة في المساء أو أغمضت عيني لأنام، بل إنه كان لا يفارقني إذا كنت غارقًا في زحمة الناس وضجة الحياة الصاخبة التي لا يعرفها إلا من عرَف مهنة الصحافة؛ كان ذلك خيال منى.

وفي الصباح عندما أذهب إلى بريد الأحرار كان أول سؤال أسأله: «هل جاء إليَّ خطاب؟» فإذا وجدتُ خطابًا نظرتُ إلى خط العنوان في لهفة، فإذا كان من عند أختي ذهبت إلى ناحية وتفرَّغت لقراءته لعلِّي أجد فيه كلمة تُشير إلى منى، ولكني كنت في أكثر الأحوال أطوي الخطاب خائبًا؛ لأن أختي كانت تكتب لي عن كل شيء تافه، ولا تكتب لي عن منى كلمة، ولا أذكر أني تأخَّرت مدة يومين اثنَين في الرد على أختي، كان قصدي من ذلك أن أجعلها تكثر من الكتابة إليَّ لعلها تقول لي الشيء الذي أنتظره، وإن كنتُ لم أُحدِّد بالذات هذا الشيء الذي أنتظره، كان في ذهني سؤال واحد كبير غير محدَّد، وهو أني تركت دمنهور بغير أن ألقاها أو أبعث إليها بكلمة، بعد أن مزقت الوثيقة الخطيرة التي كانت في يد حمادة الأصفر، فلا أعرف إن كانت الأمور قد تطورت أو استقرَّت على صورة من الصور، فهل كنتُ حقًّا كما وصفني صاحبي عبد الحميد أحمق مثل دون كيشوت؟ هل مهَّدتُ حقًّا لمحمود خلف أن يصير زوجا لمنى؟ وما الذي منعني من أن أذهب إليها قبل سفري لأقول لها: إني مزقتُ الوثيقة التي كانت تخشاها ثم أجهر لها بكل ما نفسي وأعترف لها ولمن يحيط بها وبي بأني أحبها ولا أعيش إلا من أجلها؟ ما الذي حملني على التسلُّل هكذا من دمنهور بغير أن أنصف نفسي، وتركت الأمور بعد ذلك تجري في مجراها؟ أكنت أخشى أن تسخر مني عندما أفضي إليها بالحب الذي أحمله لها؟ أم كنت أخشى أن يسخر الناس منِّي ويتهموا الدوافع التي تدفعني؟ وماذا عليَّ لو كنتُ جهرت لها وللناس وتركتُهم يسخرون بي كما يشاءون؟ على أن الدنيا التي كانت حولي لم تعبأ بضيقي ولا بقلقي، وكان كل شيء يسير في مجراه مثل الآلة الضخمة التي لا تقف إذا اعترضها بائس مسكين، فحطمتْه في سبيلها، كانت جريدة «بريد الأحرار» تظهر كل يوم في الصباح على عادتها، وكانت المجامع والمصالح والأحزاب تَضطرِب فيما حولي وتغمرُني في ضجَّتها بما أنطوي عليه من القلق والحيرة كما تغمر الدوامة الشديدة حشرة غريقة.

فإذا عدتُ إلى بيتي في المساء وجدتُ المصباح الضئيل يستقبلني في الدهليز المظلم، ثم أدخل إلى الفناء الرطب وألمح الغرفة التي يجتمع فيها الشيخ مصطفى ورفاقه بعد العودة من الدكان ليتموا السهرة وهم سعداء بالنسيان، ثم أصعد إلى غرفتي لأخلو مع كتبي وقلمي وهواجسي.

ومما زادني شعورًا بالضيق أنني أصبحت مُضطرًّا لخدمة نفسي بعد أن غضبت فطومة منِّي عقب تلك الليلة التي ذهبت فيها إلى حفلة استقبال الأمير الشرقي في قصر الوجيه حسام الدين، فإنها امتنعت من بعدها عن ترتيب غرفتي وإعداد إفطاري وغسل مناديلي وملابسي، وكنت لهذا مضطرًّا إلى أن أعمل بيدي كل ما أحتاج إليه أو أبحث عمن يقوم لي بعمله، وكان ذلك يحيرني ويزيد من ضيقي، وفكَّرتُ في الانتقال إلى مسكن جديد، ولكن الحالة النفسية التي استولت علي جعلتني لا أقدر على تركيز أفكاري في أمر من الأمور أو جمع إرادتي لتنفيذه، وهكذا مضَت الأشهر بي حتى اشتد فصل الصيف بحرِّه وبحوادثه الكثيرة التي بعثت إلى الجو السياسي حرارة أشد من حر الصيف، وزاد نصيبي من العمل فصار الأستاذ علي مختار يُكلفني بأعمال مختلفة كلما جدَّت فضيحة من الفضائح المتعددة التي كانت تتوالى أسبوعًا بعد أسبوع؛ فضيحة القطن وفضيحة تجارة المخدرات وفضيحة الراقصة التي رفعت رأس رئيس وزراء مصر عاليًا في مَحافل أوروبا عندما عرضت رقصاتها المبتذلة في مواخيرها، وجزيرة كابري التي صارت بقعة مقدَّسة منذ حل بها الملك الخليع ليُظهِر للعالم أنه آمون المعبود الجديد الذي يَركع له شعب من العبيد، فكنت في كل يوم أفرغ ضيقي وحنقي في مقال تحت عنوان: «أنا الشعب»، الذي أصبح يوميًّا بعد أن كان أسبوعيًّا، ومن أجل هذا كنت لا أكاد أفرغ من تحقيق في نيابة الصحافة حتى أبدأ في تحقيق آخر، حتى سمَّاني زملائي ألمع نجوم القضايا السياسية.

وعدتُ في ليلة مبكرًا إلى بيتي منقبض الصدر بعد صباح طويل قضيته في نيابة الصحافة، وعمل متصل في الجريدة بعد الظهر إلى غياب الشمس، وكانت ليلة شديدة الحر اجتمع لي فيها كثير مما يزيد ضيقي وهمي، من تعب الجسم وتوتر الأعصاب وخيبة الرجاء؛ لأني كنت أرسلت إلى أختي خطابًا منذ أسبوع سألتها فيه بغير إبهام أن تُخبرني عن أحوال منى، فجاءني الرد قبل خروجي من دار الجريدة ففتحتُه في لهفة وقرأت فيه كثيرًا من الأحاديث المفصلة عن كل شيء سوى منى، لم تكتب لي منيرة عنها إلا جملتين صغيرتين في آخر الخطاب تقول فيهما أن منى بخير، وتسأل عن صحتي!

وكانت الليلة مقمرة فأردتُ أن أفرج عن نفسي بجلسة هادئة تحت السماء الصافية، وأخرجت الكرسي الطويل إلى السطح، واسترخيت في جلستي عليه مستندًا برأسي إلى ظهره، وسبحت في سنة من القيظة الحالمة، هي بخير وتسأل عن صحتي! هكذا يقول الناس إذا تلاقوا في الطريق عفوًا: «كيف صحتك؟» ثم يَنصرف كلٌّ منهم في طريقه، هكذا أنا أسأل عنها وهي تسأل عن صحتي ويمضي كل منا في طريقه، أنا هنا في هذا البيت أناجي همومي وأحاول أن أفرج عن نفسي بالجلوس تحت السماء فوق سطح منزل الحاج مصطفى، ومن ورائي هذه الغرفة المسكينة، وأما هي فتسأل عن صحتي وتمضي في سبيلها، لتستعدَّ ليوم الزفاف وتُجهِّز الثياب والأثاث لاستقبال محمود خلف، ودارت في داخلي مناقشة عنيفة كأني كنتُ أنطوي على شخصَين منفصلَين يتنازعان في حدة وحرارة، وكلٌّ منهما يثير من ناحيته الآلام في قلبي، كأن أحدهما يُخجلني من نفسي؛ لأني أتطلع إلى أمور لا ينبغي لمثلي أن يتطلَّع إليها ويتَّهمني في صراحة أنني أُشبه المملوك في الأزمان القديمة عندما كان يتطلَّع إلى ابنة سيده، وكان الثاني يَغضب ويَرفُض ويتهمني بالتقصير في حق نفسي وحق منى؛ لأني لم أتقدم نحو أمنيتي جريئًا صريحًا، ولم أُواجِه موقفي كما ينبغي للرجل الحر الذي يحترم نفسه أن يفعل، وكانت نتيجة هذه المحاورة الخانقة أنني لم أشعر بأنس إلى ضوء القمر، وخُيِّل إليَّ أن الفضاء أشد ظلمة من جدران الجحر الأسود الذي عرفته في مركز دمنهور، وكما يُفيق الحالم من نومه رأيت فطومة تصعد من السلَّم وتتسلل في ضوء القمر إلى الناحية الأخرى من السطح، ثم تقف هناك مطلة على الحارة الضيقة، ووجدتُ نفسي أنكمش في مكاني كأني أريد أن أختفي، وخطر لي أن أقوم من مجلسي فأدخل إلى الغرفة وأغلق بابها ورائي، ولكنِّي بقيت ثابتًا في مكاني كأني هامد لا أقوى على الحركة، وبقيت فطومة في مكانها دقيقة أو دقيقتين ثم ارتدَّت متجهة نحوي، وكانت تسير متباطئة وتتلفت حولها كأنها لا تراني، ولما اقتربت مني زاد انكماشي، ولكنِّي لم أجد بدًّا من أن أعترف بوجودها، فتكلفتُ الثبات وقلت لها هادئًا: مساء الخير يا فطومة.

فأجابتْني في نغمة عابسة متحفزة: مساء الخير يا عيني.

ووقفَت أمامي وكان وجهُها مُصفرًّا تحت ضوء القمر، ولكنها كانت صفرة تشبه لمعة الثوب الحريري الأنيق، أهذه فاطمة؟ كانت عيناها تَأتِلقان بنور خاطف من بين رموشها الطويلة المكحلة، وكانت ملامح وجهها تَنطق بعاطفة ثائرة، كانت تلك أول مرة رأيتها فيها في مثل تلك الصورة.

كانت في زينة ثقيلة من الحلي في يديها وفي أصابعها، وكان قرصان واسعان يتدليان من أذنيها إلى قرب كتفيها …

لستُ أدري هل كانت هذه الحلي ذهبية أم مذهَّبة، ولكنها كانت على كل حال توحي بأن أمامي امرأة ثائرة تتحدَّى، وخُيِّل إليَّ أنها كانت أطول قامة وأرشق قوامًا من أثر كعبها العالي وثوبها الأنيق.

ووقفَت أمامي واضعة يديها على جانبَي خصرها الدقيق، فظهرت تقاسيم جسمها بديعة التناسق، وأما وجهها فكان يُشبه زهرة ماردة في غابة استوائية، ولما ردَّت على تحيتي كان على وجهها شيء يشبه ابتسامة ضئيلة، ولكنها كانت أقرب إلى أن تكون دعوة لبدء معركة، فكأنَّ مظهرها في جملته يُشبه غجرية حسناء تُمسك في يدها خنجرًا، وتقف لتحاسب غريمها الذي أثار غضبها.

وقلت لها في صوت خافت: ألا تَجلسين قليلًا؟ أأجيء لك بكرسي؟

وهممت بأن أقوم لأُحضرَ لها كرسيًّا ولكن ردها كان حاسمًا، فإنها هزت رأسها في سخرية وقالت: لأ مرسي.

وفتحت عيني من الدهشة؛ لأني لم أسمعها تنطق بمثل تلك النغمة من قبل، وبدأتُ أزيد انكماشًا وارتباكًا، وخطر لي أن أقف حتى لا أحادثها وأنا جالس ولكنِّي ترددت ولم أفعل.

وقلت لها في تكلف سخيف: ليلة جميلة والحر بدأ يهدأ.

فقال وهي تهز رأسها مرةً أخرى: ويحلو فيها الجلوس في القمر على انفراد، فلأذهب لأتركك وحدك.

فقلت في بساطة: بالعكس يا فطومة، يسرُّني أن أراك بعد هذه الغيبة الطويلة.

وكنت في الحق مُخلصًا في كلمتي.

وأحسست كأن إناءً من الماء البارد صُبَّ على رأسي عندما ضحكت ضحكة طويلة، وأمالت رأسها إلى الوراء قائلة: آه، مرسي!

وبقيتُ في مكاني ناظرًا إليها مأخوذًا مُسمَّرًا، وامتلأت عيني من حسنها الوحشي المخيف، نعم كان حسنُها بارعًا مخيفًا أو هكذا شعرت؛ لأنه زادني رهبة منها، وهممت أن أجمع إرادتي وأحل انكماشي وأقول لها كلمة مداعبة أو أُطري على محاسنها بعبارة منطلقة تُعيد مكان كل منا إلى سابق موضعِه من الآخر، ولكني ذهلت عن كل لفظ يحمل معنى المداعبة أو الإطراء والمجاملة فلم أنطق إلا بقولي: ما هذا يا فطومة؟ أكاد لا أصدق عيني.

ولم أفطن إلى أني كنت غير موفَّق في كلمتي إلا عندما سمعتها، تجيب قائلة: يعني؟

فقلت مرتبكًا: الحقيقة أني كنت لا أنتظر … أقصد أني مسرور من هذه المفاجأة.

فضحكت مرة أخرى حتى كادت تترنَّح، وقالت في سخرية: كذاب!

فوقعت كلمتها مثل صدمة عنيفة على رأس مذهول، فلم أكد أتنبه إلى دلالتها، أهكذا تخاطبني فطومة؟ وما يَحملها على كل هذا؟

وحاولت أن أهرب من المعركة، فقلدتُها تقليدًا أبله، وقلت: يعني؟

فضيقت عينَيها وهزت رأسها وهي تقول: يعني أنك كنت تُريد أن تقول شيئًا آخر، ولكنك خفت.

فقلت محاولًا أن أجعل صوتي مُداعبًا: أهي معركة مقصودة؟

فكانت كلمتي مثل عود الكبريت إذا أشعل لغمًا وانفجرت فطومة قائلة: معركة؟ إيه معركة؟ مقصودة؟ تحسبُ أني جئت إلى هنا بالقصد؟ العفو يا سيدي! لو عرفت أنك هنا ما وضعت قدمي على السطح، أنا أرمي نفسي؟ أنا أبحث عنك وأجيء إليك بالقصد. لست بلهاء ولا رخيصة ولا تحت فضلة، تحسب أني جئت أرجوك التنازل؟ ومَن قال لك أني أهتم بسؤالك؟ لم يخطر ببالك أن تقف عند الباب لتسأل عن المريضة المسكينة. يا عيني! ألم تَسمع أني مريضة؟ حتى الآن عندما تمرُّ بباب الشقة لا تلتفت ولا تعتني كأني لا أستحق أن تقول لي كيف حالك يا فطومة يا بنت آدم، تظن أن الدنيا كلها خلت ولا أجد فيها من يسأل عني؟

وأخيرًا جئت إلى هنا ووقفت أمامك وكسرت على نفسي بصلة، فلا أسمع منك إلا هذه الكلمة؟ تقول لي معركة مقصودة؟ حتى الكلمة عندما تكون على طرف لسانك وأعرف أنها في ضميرك، نعم أعرف أنها في ضميرك، ومع ذلك لا ترضى أن تنطق بها وتحسبني بلهاء، كذاب وألف مرة كذاب، وأنت تعرف أنك كذاب ومُتكبِّر ومغرور، وتُقابلني كأني خادمة، يا جامد يا بارد يا ثقيل!

وكنت أستمع إلى دويِّ العاصفة وأنا خاشع لا أتحرك ولا أنطق، ومن العجيب أني لم أشعر بالإهانة، بل لعلِّي كنت أقرب إلى الاغتباط، وأردت إلى أن أهدئها فقمت عن الكرسي باسمًا وقلت في بساطة: أشكرك يا فطومة، أإلى هذا الحد تكرهينني؟ إلى هذا الحد بلغ غضبُك عليَّ؟ الحق عليَّ يا فطومة وأنا آسِف وأقر لك بأني مخطئ.

ولكن هذا الاعتذار لم يُهدئ غضبها، بل زادت قسوة في تعبير وجهها، واستمرت تَقذفني بهجمات أشد وأعنف حتى ختمَت قولها بدفعة هستيرية من البكاء، وكانت تقول في بكائها: الذنب ذنبي أنا، فطومة التي تأتي إليك كل يوم بصينية الإفطار وتُغنِّي لك ونجلس على الأرض عند رجليك، فطومة التي تقطع أصابعها في مسح غرفتك وغسل ملابسك وترقيع جواربك، فطومة التي تتمنَّى رضاك وتعرض عليك الذهاب للسنما، لا تستحق أن تلتفت إليها، والآن فقط تعتذر بأنك مخطئ وتقول: «الحق عليَّ يا فطومة!» وانتهى الأمر كأني طفلة، كلمة لا تكلفك أي تعب تمن بها عليَّ كأني سائلة أطلب منك الإحسان، لا يا سي سيد، وفر الإحسان لغيري ووفر الاهتمام لفتاة أخرى تليق بمقامك.

وانصرفت مسرعة قبل أن أتمكَّن من التمسك بها والاعتذار إليها حتى ترضى، وتركتني واقفًا مثل شخص تعرَّضَت له جنية وتركته مخبولًا، وتسلقت على أشعة القمر.

وعدت إلى مجلسي كاسف البال حائرًا، وجثم على صدري ضيق أشد أضعافًا مما كان فيه، وغمرني شعور بالخزي كأني ارتكبت جرمًا، وكانت ألفاظ فطومة ترن في سمعي كأنها ضربات سوط وتأبى إلا أن تعود إلى كلما حاولت أن أبعدها، وكان رنين ضحكتها الساخرة يجعل قلبي يغوص في صدري، وقولتها: «كذاب!» التي خرجت من حلقها كانت كالقذيفة، لستُ أدري كيف تمكنت هذه الفتاة أن تعرف ما كان يدور في نفسي عندما هممت أن أقول لها: «إنك ساحِرة في هذه الزينة وهذا الحلق الكبير!» مع أني لم أستطع أن أجد الألفاظ التي أنطق بها، هل كانت تفتش في أعماق صدري حتى عرفت أني تعمدت الكذب والهروب من حُسنِها الرائع المخيف؟

وأخذت ألوم نفسي على الرهبة التي شلَّت حركتي عندما وقع نظري عليها، فهل كان ينبغي لي أن أنكمش هكذا عندما رأيتها؟ ماذا جعلني أنظر إليها مأخوذًا كما ينظر الصوفي المتعبِّد إلى كأس من الشراب المثلَّج وهو صائم في يوم صائف؟ الصوفي يتحمَّل العطش والحر ويرفض الكأس الحلوة المثلَّجة من أجل الجنة التي يعيش من أجلها، وأما أنا فلم تكن لي جنة أعيش من أجلها!

لم أكن أكثر من بائس يَستعبد نفسه من أجل العبودية، ويُشقي نفسه من أجل الشقاء ولا يرجو من وراء ذلك كله جزاءً.

وسنح لي من خلال حيرتي وحنقي خاطر كأنه صوت يَهمِس في أذني متردِّدًا خيفة أن يسمعه أحد غيري، خطر لي أن أنزل من ساعتي إلى شقَّة فطومة فأقف عند بابها أرجوها وأستسمحها حتى ترضى عني، ونظرت إلى الساعة فوجدتُها العاشرة إلا ربعًا وكانت أنوار القاهرة تتصاعد من بعيد صاخبة حارة.

نعم فما يزال الوقت مُناسبًا والناس لا ينامون في الصيف في مثل هذه الساعة، ولكني لم أتحرَّك من مكاني كأن ذلك الخاطر لم يكن سوى فكرة مجردة لا يُقصَد من ورائها عمل، وأخذت أسأل نفسي لماذا لم أنفِّذ عزمي على الانتقال من هذا المسكن مع أني وكَّدتُ ذلك العزم في ضميري مرة بعد مرة، ولماذا تحمَّلتُ الحياة في غرفتي هذه المسكينة مع كل ما عانيته من المشقة في خدمة نفسي بعد انقطاع فطومة عني؟ ولست أحب أن أُخفي أنني أخذت أتبين في تلك الساعة حقيقة لم أستطع أن أكابر فيها؛ لأنها ظهرت لي واضحة بعد أن كانت خافية عني في المسارب العميقة من نفسي، وهكذا نحن جميعًا لا نعرف من أنفسنا إلا ما نُريد أن نعرف، حتى تتبيَّن لنا فجأة بعض الحقائق التي كنا نَجهلها إذا أثارتها هزة قوية من أعماقنا، والقليل منا من يستطيع أن يتخلى عن المكابرة ويقرُّ بالحقيقة التي كان يجهلها، ولكني لم يكن لي بد من أن أعترف بأني كنت متعلقًا بهذه الفتاة الجاهلة الحمقاء الوحشية السخيفة، كنت أتعلق بها بجانب واحد من طبعي، ولكن الجانب الآخر كان يَعرف أنها لم تُخلَق لي ولم أخلق لها.

كنت أتداري وراء فكرة العطف عليها أو الرثاء لها أو الإحسان إليها، وكانت كل هذه المظاهر تُخفي عنِّي ما تحتها، وهو أني كنت مُتعلقًا بها تعلق الطبيعة التي لا تبالي العقل في تصرفها.

عند ذلك فقط عرفت كيف أُفرِّق بين الحب والميل الغريزي، بين الطبع الذي يختار والطبع الذي يَنجذِب، بين أفق الحياة العليا التي تجمع الكل إلى الكل أبد الدهر وبين أفق الحياة الدنيا التي تدفع البعض إلى البعض ما بقيَت الدفعة، بين السلام الذي يسري بين روحين عند التقاء نصفين شقيقين وبين الاضطراب والقلق الذي يُفضي إليه تدوال التجاذب والتنافر بين طرفين غير متوافقَين، عند ذلك فقط عرفتُ كيف أُفرِّق بين فطومة ومنى، كنت أنجذب إلى فطومة ومع ذلك كنت أخشاها وأنفر منها، كنتُ مُتعلقًا بها ولكني كنت في الوقت عينه أنكمش عنها وأرهب صلتي بها، كانت فطومة أنثى ولكنها لم تكن حبيبة، وما أشد خطأ من يَخلطون بين التعلق وبين المحبة الكاملة!

وقمتُ من مجلسي فدخلت إلى غرفتي وبدأت أخلع ملابسي لأستعد للنوم الذي طاوع جفنيَّ بعد أن كان نافرًا عنهما، وكان من عادتي أن أُخرِج ما في جيوبي من الأوراق لأضعها في طربوشي قبل أن أنام، فلما أخرجتُها رأيت بينها الصحيفة الزرقاء التي جاءتني في الصباح من أختي، فجلست أقرؤها مرة أخرى وأنا أهدأَ مما كنت في المساء، وكان عجبي شديدًا عندما وصلت إلى آخر الخطاب، وقرأت الحاشية التي كتبتها منيرة؛ فقد ظهر لي أن للحاشية بقية على ظهر الصفحة، والعبارة الكاملة هي: «وأما منى فإنها بخير وتُسلِّم عليك وتسأل عن صحتك وبهذه المناسبة أقول لك إن أمي كلفتني أن أكتب إليك هذا الخطاب مستعجلًا لأرجوك أن تحضر إلى دمنهور ولو يومًا واحدًا لتقول لك شيئًا هامًّا!»

وكنت قد رميت بالظرف في سلة الأوراق المهملة بمكتبي، ولم ألاحظ أنه كان مستعجلًا لما كنت فيه من التعب، فما كدت أقرأ هذه الكلمة حتى هاجت مَخاوفي وتحفزت كل مشاعري وقلت في نفسي: شيئًا هامًّا! لا شك أنه يتصل بمنى، وماذا يكون يا ترى؟ وبغير أن أقف للتفكير لحظة نظرت في الساعة وكانت قد بلغت الحادية عشرة إلا ربعًا.

فالقطار الصعيدي ما يزال ينتظر على الرصيف، وأستطيع أن أدركه إذا بادرت بالسير من لحظتي، وفي دقيقة واحدة كنتُ خارج الباب وجريت إلى الشارع لأبحث عن سيارة أجرة، فكنت في المحطة قبل سفر القطار بخمس دقائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤