الفصل الثلاثون

كما يولد الإنسان ميلادًا جديدًا، خرجت من بين جدران السجن، وبدت لي الدنيا في ألوان زاهية لم يسبق لي عهد بمثلها من قبل، صار الهواء يملأ صدري عاطرًا، والضوء يملأ عيني بهيجًا، ونضرة الأشجار تُرطِّب قلبي إذا أظلَّتني ظلالها، وما كان أسعدني أن أسير في الطريق في ساعات الصباح الباكر ورذاذ المطر يتطاير في وجهي، أو عندما كنت أجول في حدائق الجزيرة في ساعات العصر والأزهار تَتناجى بألوانها الباهرة. من قال إن في القاهرة شتاءً؟ إنه ربيع باسم ذلك الذي استقبلني بعد خروجي من السجن وجعلني أزداد غرامًا بهذه الأرض العزيزة، وبعد أن مرَّت فرحة الأيام بعد خروجي، حقق عبد الحميد ما عقد عليه النية من التقدم إلى منيرة، ولم أسمح لأحد أن يَسألني عن شيء في أمرها مُكرِّرًا في كل مرة قولي: «ليس هذا من شأني.»

المرأة هي التي تختار وقد خلقها الله لتختار وعليها وحدها يقع كل العبء في الاختيار، هي التي ينبغي لها أن تُوجه حياتها ما دام الله قد وهب لها عقلًا ووهب لها غريزة، النساء ينطقن بوحي الغريزة بأصدق مما تنطق العقول، وليس من الضروري أن تقول الفتاة: «نعم أرضى.» فإن ردمويا وحدها تستطيع أن تغني وترقص وتحرق البخور لنجم الشِّعرى، ثم تسأل قلبها ليهديها، فينطق لسانها في صراحة. لم تقل منيرة شيئًا عندما سألها عبد الحميد: «أترضين بي يا منيرة؟» وكانت عند ذلك في غرفة الجلوس بمنزل عمة عبد الحميد في اليوم الرابع لخروجي من السجن، وكانت أمي تُصلِّي في البهو المجاور، وكنت أنا غائبًا في أول زيارة للأستاذ علي مختار.

وقد أخبرني عبد الحميد أنها لم تقل له شيئًا، بل خجلت وخرجت من الغرفة صامتة، وكان مشفقًا أن يكون قد آذاها أو سبب لها حرجًا، ولكني كنت واثقًا من رضاها، كان ذلك يبدو واضحًا في كثير من الأحيان في الكلمة العابرة والنظرة السانحة، ولم يَخِب ظني عندما سألتها، عندما وجهت إليها سؤالي: «أترضين بعبد الحميد؟»

أجابت قائلة: «هذا من شأنك أنت يا سيد.» ثم انصرفت من أمامي.

وكانت سعادة عبد الحميد ظاهرة في نظرته الشاكرة عندما قلت له: «أهنئ نفسي.» وتمَّ الاحتفال بعقد الزواج بعد يومين، وكان بسيطًا وسعيدًا.

وكانت مقابلتي للأستاذ علي مختار صدمة شديدة لم أكن أتوقعها، كنت متوقعًا أن يهبَّ واقفًا ليفتح لي ذراعيه، وهممتُ أنا بأن أستقبله فاتحًا ذراعيَّ أيضًا كما يفعل الشركاء في الجهاد عقب المعركة، ولكني وجدته رجلًا آخر غير الشاب الواثق بنفسه الهادئ المسيطر، كانت نفسه تقطر مرارةً وهو يُجيبُني عن أسئلتي، وقال في حنق مكتوم: لن أقيم في هذا البلد بعد هذا.

فقلت مُلطِّفًا: هذا شعور مؤقت، وسيزول بعد قليل لنُعيدَ الجهاد مرة أخرى.

فنظر إليَّ نظرة حانقة، ثم قال: من أجل من؟

فقلت محتجًّا: من أجل من؟ من أجل أنفسنا، من أجلك ومن أجلي، ومن أجل كل من يعيش ويتألم، من أجل أبنائنا الذين ما يَزالون يتألمون؛ لا تدع هذا العارض …

فقال في دفعة: عارض؟ أتُسمِّيه عارضًا أيها الرجل وقد كاد يذهب بحياتنا؟ أما مرضت أنت كما مرضتُ أنا، وقاسيتَ أنت كما قاسيتُ أنا ما في قلوب هؤلاء من وحشية؟

فقلت في دفعة أخرى: فليكن يا سيدي، لم نكن هازلين عندما تعرضنا للمعركة، كنا نعلم أنها معركة عنيفة مع قوى طاغية، بل لقد عزمنا في بدء الأمر على أن نُثير المعركة من أجل هذه القوى الطاغية.

فأشار بيده إشارة يأسٍ قائلًا: هي ألفاظ يا سيدي نحاول أن نخدع بها أنفسنا، أتعرف مقدار ما أصابني من الخسارة؟ أما عرفت أنني قضيت أسبوعين بين الموت والحياة.

فاندفعت قائلًا: وماذا لو لقينا الموت يا سيدي؟

فضحك ساخرًا لأول مرة وقال: هذا شيء آخر. هذا لم يدخل في حسابي يا سيدي، لستُ أريد أن أُضلِّلك، أو أن أقول كلامًا ضخمًا لأخدعك؛ لأنني أعرف أنك تفهمني عندما أقول لك رأيي صريحًا، عندما نقول: إننا نُريد الجهاد، فإننا نقصد أننا نُجاهد بآرائنا لا بأجسامنا، أظننا لم نقصد أن نموت الآن يا سيدي.

فقلت: إننا لم نَمُت بعد.

فقال مشيرًا بيده مرة أخرى إشارة اليأس: هذا رأيك يا صديقي، وأما أنا فقد عزمت عزمًا أكيدًا على أن أترك هذا البلد في أول فرصة، لا مقام لي هنا.

فقلت: إلى أين؟

فقال في ضيق: لم أفكر بعد. إلى أي ركنٍ من أركان الأرض لأعيش إنسانًا.

فأحسست أنني حيال رجل إما أن يكون محطمًا في ساعته تلك، وإما أن يكون طفلًا، وقلتُ في نغمة ساخرة: لم تُفكِّر بعد، ولكنك تعزم عزمًا أكيدًا؟

فقال في شيء من الغضب: ماذا نصنع هنا؟

فقلت: بل ماذا تصنع في غير هنا؟ هنا بلادنا ولا مفر لنا من أن تكون هي بلادنا، أي بلد يَقبلُك كأحد أبنائها؟

أتقبلُكَ إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا أو غيرها لتكون ابنًا من أبنائها؟ لن تكون هناك إلا نزيلًا غريبًا تقضي أيامك في فراغ، أم تريد أن تذهب إلى بلدٍ شرقي يمكن أن يكون أقرب إليك؟ أين؟ تعيش في تركيا؟ في سوريا؟ في العراق؟ في السودان؟ تعيش هناك على هامش الحياة وأهل تلك البلاد يُجاهدون كما نُجاهد نحن؟ هل ترضى أن تكون غريبًا بين قوم يجاهدون من أجل أنفسهم وأنت ساكن؟ أم تُريد أن تشارك هؤلاء في جهادهم وتتخلى عن الجهاد هنا؟

فسكت ناظرًا إليَّ نظرة حزينة، وعلمت أنه يُعاني صراعًا عنيفًا في أعماق نفسه، فأشفقتُ أن أزيده ضيقًا وسكتُّ آسفًا، وقلت في نفسي: إن الوقت كفيل بإزالة الذكريات الأليمة.

ولكنه لم يلبث أن صدمني صدمة أخرى أعنف من الأولى عندما قال لي: على كل حال يا أستاذ سيد، هذا موضوع آخر … أما عملُنا في هذه الجريدة فسيستمر طبعًا، وقد أطلب منك قريبًا أن تقوم على إدارة الجريدة بدلًا مني، سيستمرُّ مرتَّبك كما كان على أن تكتب للجريدة قصة كلما أردت.

وشعرتُ بالدم يصعد إلى رأسي، أكتب قصة؟ الأمر أخطر من أن أكتب قصة؟ وهل أستطيع أن أكتب كل يوم قصَّة في الموضوع الواحد الذي يستولي على كل عقلي وقلبي؟ ما هو المصير الذي نتَّجه إليه؟ وهل يفرغ ذهني إلى أن أعيش مع الصور في قصة وأنا أرى الحياة من حولي تفور وتنفجر، ولا يدري أحد ماذا يحدث فيها غدًا؟

وقلت مختصرًا: أرجو لك التوفيق يا سيدي.

واستأذنت منصرفًا حتى لا أزيده ضيقًا إذا نطقت بالكلمات التي وثبت إلى طرف لساني.

وخرجتُ من عنده والأسف يختلط في قلبي بالحنق والحيرة والعجب، وخطر لي خاطر قوي أن أنقطع عن بريد الأحرار مهما كلفني ذلك من المتاعب، بل لقد همَّ بنفسي وأنا غاضب أن أعيد إليه مرتب الشهور الستة التي بعثَت بها الجريدة إلى أمي في مدة السجن؛ ليكون جوابي شافيًا لغضبة قلبي، ولكني لم ألبث أن سريت عن نفسي أثر هذه المقابلة، وأقبلت على الفضاء الطلق أعب منه حتى أروى بعد طول تعطشي إليه، وكان عبد الحميد في إجازة نصف السنة، ولكنه كان مشغولًا عني برحلاته مع منيرة، فكنتُ أخرج وحدي كل صباح قاصدًا أحد الأطراف البعيدة؛ لأقضي فيه يومًا بعيدًا عن ضجة المدينة؛ لأفكر فيما أستقبل به حياتي الجديدة. نعم كانت حياة جديدة بعد ميلاد جديد، وذهبت يومًا إلى الأهرام مبكرًا؛ لأتمتع بجولة إلى جانب الأثر الأشيب الذي يَجتذب طلاب الروعة من أركان الأرض، وكان الناس هناك ينتشرون في الهضبة بعضهم يسير في جماعات مرحة، والبعض الآخر يسير مثنى، ولم يكن مَن يسير وحده غيري، فسرت في صحبة أفكاري حتى وصلت إلى قريب من الاستراحة الملكية، فتنبَّهت إلى صوت الحارس الذي يزجرني لأبعد، وقلت في سري: فرعون القزم هنا؟

ووثبتْ إلى صدري كل مشاعر الحنق الذي كنت أكبتها؛ حتى لا تُعذبني في أيام سجني، هذا الرجل الذي تعذَّبتُ من أجله يُقيم هناك ليتنزه، ولستُ أدري مع من يقيم في تلك الاستراحة، بنى فرعون خوفو هذا الأثر الخالد؛ لأنه كان يَطلُب مثوى لروحه، وهذا فرعون القزم يطلب استراحة لجسده، وتأملت من بعيدٍ هندسة بناء الاستراحة ونقوش مداخلها، فبدت لي كأنها تسخر من نفسها، وقلت في نفسي: هكذا يُزيف طالب المتعة فن القدامى، كان ذلك الفن في عصره رمزًا للجلال الذي يملأ القلوب عندما كان الناس يؤمنون بشيء جليل في قلوبهم، ولكنه اليوم لا يزيد على حلية مزيفة، وبدت الاستراحة في عيني مثل مرقص خليع في هيكل عبادة، أما كان أولى بفرعون القزم لو بعد قليلًا عن الأثر الجليل حتى لا تبدو السخرية واضحة؟ وأية سخرية؟ وماذا يصنع كل هؤلاء المنتشرون في الهضبة سوى أن يسخروا عند أقدام الهرم ولا يشعرون له إجلالًا، ما دام فرعون القزم يضرب لهم المثل في السخرية؟ ومن هذه الفتاة؟ هل أُصدِّق عيني؟ أهذه فطومة؟

كانت فطومة تسير على مسافة منِّي وهي تميل على ذراع محمود خلف عند زاوية الهرم الشمالية، وكنتُ عند ذلك مُرتدًّا من ناحية الاستراحة، ووقفت مُتردِّدًا بين أن أذهب إليها لأصفعها، وبين أن ألتمس لنفسي مكانًا أتوارى فيه، وغلب عليَّ الرأي الأخير، فاتجهت مسرعًا إلى حرف الهضبة الهابط إلى الغور المُنخفِض الذي تلوح فيه بركة ماء من بعيد، فانحدرت متعثرًا فوق السفح، ثم بدا لي سخفي، فعدت أدراجي، واتجهت إلى المنحدَر الذي يؤدي إلى محطة الترام، وكان رأسي مشغولًا بصورة فطومة الغادة في ملابسها الأنيقة وحليِّها الكثير، وقوامها الرشيق وهي تميل على ذراع محمود، وتلفتُّ قبل أن أهبط في المنحدَر، فرأيتُهما من بعيد بين الجموع الواقفة تتطلَّع في فضول نحو الاستراحة لتخطف نظرة من فرعون القزم، ثم خفضتُ رأسي كأني أتحفَّز لصراع، وأسرعت في حنق متَّجهًا إلى محطة الترام.

وقضيت مدة سيري إلى القاهرة مُضطرب الفكر بين أحاديث مختلفة تتدافع ليحل بعضها محل بعض في عنف، ذلك الحكيم الذي صمَّم بناء الهرم الجليل كان شاعرًا عظيمًا أو فيلسوفًا كبيرًا فوق أنه كان فنَّانًا؛ أي إيمان ذلك الذي كان يُحرِّك قلبه ويجعله يجرؤ على هذا العمل الهائل؟ وفرعون الصغير يعود في موكبه ولا يَسمح للترام أن يسير حتى يمرَّ الموكب، وفطومة ومحمود يبقيان هناك إلى جانب الهرم، وا خجلاه! الساخرُون الذين لا يرهبون من شيء مقدس، والأغبياء الذين يقصر ذكاؤهم عن إدراك المعاني الجليلة يَمرحُون في تفاهتهم، ولا يُحسُّون أننا جميعًا في الطريق إلى الهاوية، وبدَّلت الترام عند الجيزة بغير أن أفكِّر، وسرتُ في ترامٍ آخر بغير أن أفكر، كان ذهني يدور في أفكاره المضطربة عودًا على بدء بغير توقف، وتنبَّهت آخر الأمر عندما قربت من ميدان قصر النيل، وكان هناك صف طويل من عربات الترام يسد الطريق، فنزلت لأرى منظرًا لم يخطر ببالي، وكان الناس يتسارَعون في كل اتجاه في هلع، ويقولون: «القاهرة تحترق.» فأسرعتُ إلى شارع سليمان باشا، وكانت النيران تَندلع من شارع البستان، والجموع الهائجة تسيل بالطرق في كل اتجاه.

وجريت إلى ميدان سليمان وكان شعلة من اللهب. ماذا حدث؟ وجريت إلى شارع قصر النيل فعماد الذين فشارع فؤاد، وكنتُ ألهث من التعب، ولا أقدر أن أقف، كنت أريد أن أعرف إلى أين ينتهي الحريق. هل القاهرة كلُّها تَحترق؟ هل هي ثورة؟ كان شارع فؤاد أيضًا يشبه حاجزًا من اللهب في معركة دموية، والجموع المتدافِعة تنساب كمياه السيل في كل شِعب من الطريق. جموع تقتحم المتاجر وأخرى تتدفَّق صائحة هائجة. أهكذا تندلع الثورة فجأة؟ ومررت أمام متجر مانويل الفخم، وكانت ألسنة اللهيب تُطلُّ من نوافذ الطبقات المتتالية كأنها تشير إلى الطريق تطلب الغوث، وأين الإسعاف؟ ولم يكن هناك أيضًا رجال مطافئ كأن المدينة قد خلَت من الحكومة، وانساب نهر من الجموع إلى ميدان الأوبرا ونهر آخر إلى شارع إبراهيم، وفي مقدمة كل فرع بعض أفراد يسيرون كأنهم طليعة، أهي ثورة مدبَّرة؟ لمَ لا وفرعون القزم يَلهو في الصباح في مخبئه؟ وكان قلبي يثب كأنه يتداعى مع الأبنية المنهارة. أهذه هي الثورة؟ هي جانب لا ينفصل عن الحكم الضعيف المزيَّف، الذي لا بد أن ينتهي إلى الثورة، ومع كل ما كان في نفسي من الهم والغم شعرت بأن شيئًا جديدًا قد حدث.

وتذكَّرتُ أن أختي وعبد الحميد كانا يعتزمان أن يخرجا إلى المدينة في الصباح، فجريت نحو المنزل، لم تكن هناك سيارة لتَحملني، وكنتُ مُتعَبًا ولكني اندفعت بقوة مضاعفة.

وبلغت المنزل آخر الأمر، وهدأت قليلًا عندما رأيت أمي وأختي تنتظران في لهفة بالطبقة السُّفلى من الدار، وأخذتْني أمي بين ذراعيها، ثم ارتميت على كرسي خائر القوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤