قصة الفردوس

بسم الله الرحمن الرحيم، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتيسير.

أما بعد؛ فهذه نظرات وفِكَر، آمل أن تكون موفقة بعيدة الأثر، و«ثمرات أوراق» يانعات،١ أرجو أن تكون حبيبة إلى القلوب سائغات، وشطحاتٌ أشتاتٌ٢ بين حق وما يشبه الباطل، وجد وما يشاكل الهزل الهازل، ومُنَاقَلاتٌ أبكار،٣ وضعتها على ألسنة أعلام بررة أخيار، ومثاقفات عذراوات عزوتها إلى أديب أُولع بالأدب العربي القديم، وآثاره العبقريات الأوابد٤ من نثير ونظيم.

•••

حوال سنة ١٩٠٦م دعاني إليه، المأسوف عليه، إمام اللغة و«البيان» في عصره، الشيخ إبراهيم اليازجي، وكان قد «نظمني وإياه ودٌّ قديم، ولف هواي بهواه عهد كريم»، حتى إذا أجبته ناولني دفترًا مخطوطًا، وقال: هذه رسالة الغفران للمعري، كلفني الوراق الناشر المشهور «أمين هنديه» أن أصححها وأضبطها بالشكل الكامل كي يخرجها بالطبع على هذا الوضع، فنصحت له بأن تقوم أنت بهذه المهمة التي أراها٥ شاقة مضنية، ولكنك — إن شاء الله — بمثلها زعيم٦
فقرأت الرسالة، ثم توفرت على ضبطها بعد أن اقترحت على الناشر شرحها، فأبى إلا طبعها مجردة من الشرح، فكان، وكان أن سُحرت بهذه رسالةِ الغفران، وكان من أثر هذا السحر أن فكرت في عمل أنحو فيه هذا المنحى، من جهة المظهر والمبنى، لا من جهة المخبر والمعنى، وأحتذي فيه على هذا الحذو البديع، وإن لم يدرك الظالعُ شأوَ الضليع.٧ فاستخرت الله تعالى فخار لي، وصممت على ارتسام ما رسمت، وأخذت في هذا العمل على النحو الذي ترى … وأسميته «الفردوس أو سياحة في الآخرة»، وكتبت آنئذ طائفة من الكلام تنتهي بوصول الأديب إلى قصر شيخنا الأستاذ الإمام «محمد عبده» في الجنة، ثم صرفتني عنه تصاريف الأيام، وخَطَرَ الدهرُ مِن خطراته،٨ وتصرمت السنون، وتجرمت الدهور،٩ حتى إذا كانت سنة ١٩٢٧ زارني أحد أصدقائي من كتَّاب إحدى المجلات الأسبوعية، وسألني شيئًا ينشره لي، فعرضت عليه أشياء من بينها هذه القطعة من «الفردوس»، فأخذ في إذاعتها، فحفزني ذلك إلى إتمامها، فخطوت فيها خطوات رغيبات١٠
وأخيرًا، وفي هذه الأيام، اقترح علي أخ لي كريم أن أبادر بطبع هذا «الفردوس» منجمًا على أسفار، على الرغم من غلاء الأسعار، فامتثلت وأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، لا لشيء سوى أنني أخشى ألا يروق مثل هذا الأسلوب طائفة من مثقفي هذا الجيل، لما يغلب على بعض مواضعه من الغريب والصناعة البيانية، من تشبيه واستعارة وسجع وازدواج وتضمين واقتباس ووصف مسهب، وما إلى ذلك مما قد ينبو به ذوقُ فِئامٍ١١ من أدباء هذه الأيام … بيد أني أظن أن هناك على هذا جمهرة متوافرة من عشاق البيان، ولغة الضاد والفرقان، قد يقع منهم مثل هذا العمل موقعًا تراح له نفوسهم،١٢ وتصبو إليه أفئدتهم، لا من جهة عرضه هذا العرض المستطرف — وأستغفر الله — فحسب، ولكن لهذا، ولما تضمنه من فكر وآراء هي نتاج التجاريب، وثمار الاطلاع والبحث والتنقيب، يظاهر ذلك حق صراح، وصدق صادق محض براح١٣
على أن ما قد يلاحظ من ضروب الصناعة إنما يكثر في صدر «الفردوس» لا في سائره، وفي أوائل عرضه لا في أوساطه وأواخره، إذ وُشِّيَ هذا القسم أيام الشباب، وجنون الغرام بالأدب المزور اللباب،١٤ أما ما يفرط من القلم أحيانًا مما هو بالهزل والمجون أشبه، فإنما الهدف فيه، بعد الإحماض والتفكيه،١٥ هو الاستعانة على ما وراء ذلك، من دقيق الأغراض وخفي المسالك، ورحم الله مَن قال: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو والباطل؛ ليكون ذلك أعون لها على الحق … أو كما قال.

«وأما بعد» فإن هذا «الفردوس» إنما هو — كما ترى — وصلة إلى عرض أنماط مختلفة من الكلام، وألوان شتى من القول، في كل ما عسى أن يفكر فيه المفكرون، من ضروب العلم والعرفان، وأفانين الثقافة والبيان، وسيطول هذا «الفردوس» ويستوسع، حتى لقد يستوعب عدة أسفار، وحتى ليصح أن يعد هذا السفر غيضًا من فيض، بالإضافة إلى سائر الكتاب.

والله سبحانه هو الموفق إلى إتمام هذا العمل، وأن يجعل القبول حليفه، ورضا الناطقين بالضاد عنه أليفه، إنه سميع الدعاء، وهو حسبي ونعم الوكيل.

عبد الرحمن البرقوقي
ربيع الآخر سنة ١٣٥٩ﻫ/مايو سنة ١٩٤٠م

•••

حدَّث أديبٌ ثبَتٌ١٦ ثقة قال:
إني لفي بيتي ذات ليلة من الليالي، وقد تزويت في زاوية من السرير،١٧ وبالقرب مني مصباحي الإضحيان المنير،١٨ ثم أخذت أُنزه النفس، وأجلو صدأ الحس، في روضة من رياض الكتب والأسفار، ونزهة من نزه الأدب والآثار، أجتلي أنوارها،١٩ وأجتني من كثب أثمارها،٢٠ وأتفيأ ظلها الوارف الظليل،٢١ وأنسم رَوحها الندي العليل،٢٢ ويرتع قلبي من جنباتها في مرتع خصيب، ويكتسي لبي من أوراقها بثوب من الحكمة قشيب،٢٣ وأنفي الهم برحيق كوثرها عن ساحة صدري،٢٤ وأكرع من جداولها العذاب النطاف وهي بين سحري ونحري،٢٥ وأستشفي بترياقها من علل هذا الناس وأدوائه،٢٦ ومن بلايا هذا العالم المنكوس وأرزائه.٢٧
عَالَمٌ أَشْبَهُوا القُرُودَ وَلَكِنْ
خَالَفُوهَا فِي خِفَّةِ الأَرْوَاحِ

•••

يَحْسُنُ مَرْأًى لِبَنِي آدَمٍ
وَكُلُّهُمْ فِي الذَّوْقِ لَا يَعْذُبُ
مَا فِيهُمُ بَرٌّ وَلَا نَاسِكٌ
إِلَّا إِلَى نَفْعٍ لَهُ يَجْذِبُ
أَفْضَلُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ صَخْرَةٌ
لَا تَظلِمُ النَّاسَ وَلَا تَكْذِبُ

•••

عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى
وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ
وما زلت في هذه الروضة الذهنية، وهاتيك النزهة الروحية العلوية، إلى أن شمر الدجى للرحيل الذيل، وكاد النهار يصيح بجانب الليل.٢٨
وَقَدْ فَكَّتِ الظَّلْمَاءُ بَعْضَ قُيُودِهَا
وَقَدْ قَامَ جَيْشُ اللَّيْلِ لِلفَجْرِ وَاصْطَفَا
وكان البيت لا يحتوي أحدًا غيري، فكان الصدرَ وكنتُ في طيه السرَّ المكتَّم، وكان الحامل العشراء وكنت الجنين غير التوأم،٢٩ وكان الجفن وكنت فيه السلاح،٣٠ وكان السحاب المركوم، وكان مصباحي البارق اللماح.٣١
وإني لكذلك؛ إذ طُرق باب غرفتي طرقًا خفيفًا، ثم قُرع بعد هنية طرقًا عنيفًا، فانتبهت مما أنا فيه، ومشى قلبي في صدري حتى شاع الذعر في جميع نواحيه، وقلت في نفسي: ترى مَن بالباب؟! ومَن الطارق المنتاب؟!٣٢ أملك كريم، أم شيطان رجيم؟ وانثالت الهواجس على قلبي انثيالًا،٣٣ وتقاطرت الوساوس على صدري أرسالًا،٣٤ وإني لمرتطم في هذه الغمرة،٣٥ وغاشية هاتيك السكرة،٣٦ إذ تحرك الباب في سكون، وفُتح في رفق ولين حتى لا تكاد تحس اختلاجه الظنون،٣٧ ثم اقتحم الغرفة شبح نوراني، مفرغ في قالب إنساني، يسطع النور حواليه، ويرفرف روح الجلال والروعة عليه:
فَتًى رُوحُهُ رُوحٌ بَسْيطٌ كَيَانُهُ
وَمَسْكَنُ ذَاكَ الرُّوحِ نُورٌ مُجَسَّدُ
صَفَى وَنَفَى عَنْهُ القَذَى فَكَأَنَّهُ
إِذَا مَا اسْتَشَفَّتْهُ العُيُونُ مُصَعَّدُ٣٨

•••

تَنْفُذُ العَيْنُ فِيهِ حَتَّى تُرَاهَا
أَخْطَأَتْهُ مِنْ رِقَّةِ المُسْتَشَفِّ
كَهَوَاءٍ بِلَا هَبَاءٍ مَشُوبٍ
بِضِيَاءٍ أَرْقِقْ بِذَاكَ وَأَصْفِ
فلا تسل بعد ذلك عما دهاني، فقد قبعت كالقنفذ في مكاني، وبراني الرعب حتى لتقتحمني العين ولا تكاد تراني، وتقلصت من الفم الشفتان، وكادت تنقطع نياط الجَنان٣٩ ونال مني الخوف حتى أحالني عرضًا،٤٠ بعد أن أوسعني حرضًا،٤١ وفغر الموت فاه،٤٢ وكادت تطير من جسمي الحياة، ولم يبق فيَّ إلا نفس خافت، وعين إنسانها باهت:٤٣
رُوحٌ تَرَدَّدَ فِي مِثْلِ الخِلَالِ إِذَا
أَطَارَتِ الرِّيحُ عَنْهُ الثَّوْبَ لَمْ يَبِنِ

وجملة القول أني استحلت إلى حال:

يَكَادُ وَجِيبُ قُلُوبِ الرِّجَالِ
مِنْ خَوْفِ مَكْرُوهِهَا يَسْمَعُ٤٤

•••

لَقَدْ خِفْتُ حَتَّى خِلْتُ أَنْ لَيْسَ نَاظِرٌ
إِلَى أَحَدٍ غَيْرِي فَكِدْتُ أَطِيرُ
وَلَيْسَ فَمٌ إِلَّا بِسِرِّي مُحَدِّثٌ
وَلَيْسَ يَدٌ إِلَّا إِلَيَّ تُشِيرُ
ثم لمحت الخيال وقد أخذ يتخطر في الغرفة بين جيئة وذهوب وغدو ورواح، وبعد خطوات معدودات وقف الخيال، وانتصب أمامي انتصاب التمثال، واستقبلني كما يستقبل المصلِّي الإمام، أو بيت الله الحرام، ثم حدقني مبرقًا بعينيه، وأتأر إليَّ — ساهم الوجه — ناظريه،٤٥ ولحظته وكأنه أشفق علي وخاف إن هو مضى في صمته هذا أن أفيظ،٤٦ وألفِظ النفس الأخير، فأخذ يُليح بيديه إلاحة يريد أن يُفرِخ روعي،٤٧ ويميت خيفتي، ثم رأيته يترمرم،٤٨ وأذنت من ناحيته صوتًا خفيتًا رَفيقًا كأنه خفق النسيم في السحر:٤٩ لا عليك يا أخي لا عليك، وليس إلا الخير صرفًا ساقه الله إليك، وليهنئك ما أنت قادم عليه٥٠ … فأنا يا أخي نبي الله الخضر … وقد أُمرت أن أستصحبك وأصعد بك اليوم إلى المحل الأرفع والملكوت الأعلى، إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر … فقم يا أخي، قم ولا تنِ وخلِّ الهوينا٥١ للضعيف، واتبعني حيثما سرت، ولست أطلب إليك إلا أن تلزم الصمت، ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا …

•••

وما كاد نبي الله الخضر يتم هذه الكلمات حتى قرت العين، وانكشف الرين، وذهب الأين، وكأنما أُنشطت من عقال،٥٢ فلا وربك: ما البُرء بعد السُّقم، والخِصب بعد الجدب، والغنى بعد الفقر، وما طاعة المحبوب، وفرج المكروب، والوصال الدائم، والشباب الناعم، بأحلى وأروح من هذه المنْهَاة، التي انتهت بها هذه المأساة:٥٣
مَا زِلْتُ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ مُطَّرَحًا
يَضِيقُ عَنِّي وَسِيعُ الرَّأْيِ مِنْ حِيَلِي
فَلَمْ تَزَلْ دَائِبًا تَسْعَى بِلُطْفِكَ لِي
حَتَّى اخْتَلَسْتَ حَيَاتِي مِنْ يَدَيْ أَجَلِي
وبعد ذلك أحسست أنا الآخر كأنني استحلت إلى جسم نوراني شفاف، وأن مادة جثماني آضت إلى معنى روحاني، وما هو إلا كَلَا ولَا، أو كحسو الطائر الماءَ وقد خاف الملا،٥٤ حتى زُويت لنا الأرض،٥٥ ورأيتني ونبي الله في صحراء دوية براح قذف خلاء،٥٦ مطوقة أطرافها بآفاق السماء، واسعة الجوانب، مجهولة المذاهب، تغتال الخطى،٥٧ ويحار فيها القطا:٥٨
تَجْرِي الرِّيَاحُ بِهَا حَسْرَى مُوَلَّهَةً
حَيْرَى تَلُوذُ بِأَطْرَافِ الجَلَامِيدِ
في فسحة الظنون، بيد أنه تكبو دون غاياتها الخواطر وتخسأ الأبصار،٥٩ في روعة الخلود، وهل للخلود روعة أروع من ذا أو انبهار!
فَضَاءٌ يَرُدُّ العَيْنَ حَسْرَى
يَقُصُّ جَنَاحَ الفِكْرِ وَهْوُ مُحَلِّقُ
ومفازة هائلة لا تسمع فيها لِواطئٍ همسًا، ولا لِنابح جرسًا،٦٠ وجوٌّ ساجٍ سجسج،٦١ وسحر طلقٌ رَوْحٌ أبلجُ.٦٢
نَسِيمُهُ كَالرَّاحِ لَوْ يُحْتَوى
وَالرُّوحِ لَوْ يُعْقَدُ مُنْحَلُّهُ

•••

مِنْ نَسِيمٍ كَأَنَّ مَسْرَاهُ فِي الأَرْ
وَاحِ مَسْرَى الأَرْوَاحِ فِي الأَجْسَادِ
وسماء زرقاء صافية، ونجوم كأنها في لُجة هذا البحر دراريٌّ طافية،٦٣ أو أزاهرُ طلَّها الندَى فهي تَرف رفيفًا،٦٤ أو قلوب لذعها الحب فهي لا تني خفوقًا ووجيفًا، أو هي مسامير أبواب الجنة تبص وتلتمع،٦٥ أو هي عيون الأبدية ترنو إلينا رنوات تهيب بنا أن نستحي ونرتدع،٦٦ أو هي ثقوب تخترق طِباق السماوات العلى، فتشع منها أنوار الإله جل وعلا، والبدر منتصب بين هاتيك الكواكب، كأنه ملك بين أجناده والمواكب، وكوكب الزهرة تأتلق في روعة لُمعتُه، فلولا التقى لقلت جلت قدرته، والجوزاء كفأرة تسبح، أو غادة ترقص في مسرح، والحوت يسبح في السماء كما يسبح بِحذْقٍ في الماء.
وَبَنَاتُ نَعْشٍ يَشْتَدِدْنَ كَأَنَّهَا
بَقَرَاتُ رَمْلٍ خَلْفَهُنَّ جَآذِرُ

•••

وَرَنَا إِلَيَّ الفَرْقَدَانِ كَمَا رَنَتْ
زَرْقَاءُ تَنْظُرُ مِنْ نِقَابٍ أَسْوَد

•••

وَلَاحَتْ لِسَارِيها الثُّرَيَّا كَأَنَّهَا
عَلَى الجَانِبِ الغَرْبِيِّ قُرْطٌ مُسَلْسَلُ

•••

وَسُهَيْلٌ كَوَجْنَةِ الحِبِّ فِي اللَّوْ
نِ وَقَلْبِ المُحِبِّ فِي الخَفَقَانِ
مُسْتَبِدًّا كَأَنَّهُ الفَارِسُ المَعْـ
ـلَمُ يَبْدُو مُعَارِضَ الفُرْسَانِ
يُسْرِعُ اللَّمْحَ فِي احْمِرَارٍ كَمَا
تُسْرِعُ فِي اللَّمْحِ مُقْلَةُ الغَضْبَانِ٦٧

•••

وَقَدْ لَاحَ فَجْرٌ يَغْمُرُ الجَوَّ نُورُهُ
كَمَا انْفَجَرَتْ بِالمَاءِ عَيْنٌ عَلَى الأَرْضِ
حتى إذا قُوضت خيام الظلام، وفرت أسراب النجوم من حدق الأنام، لمحتُ على قِيد خطوة٦٨ منا بُراقيْن، أبيضيْن يقَقَيْن،٦٩ خُيل إليَّ أنهما في انتظارنا، معدَّان لركوبنا، وكذلك كانا؛ فقد تدلَّف٧٠ إليهما نبي الله الخضر فامتطى أحدهما، ثم أشار إليَّ أن أمتطي الآخر، وما كدت أمتطي بُراقي حتى رأيت منه عِفريَةً نِفريَة مرِحًا أرِنًا صَلَتان، كأنه كما قيل شيطان في أشطان،٧١ يكاد مما يزدهيه صلفُه يطير،٧٢ فكأنما لسعته الزنابير،٧٣ أو كأن التُّرب الذي يلامسه حسكُ السَّعدان٧٤ أو كأنما خالطت هامته الخندريس فهو معربِدٌ سكران،٧٥ أما البراق فهو الطِّرف نعم الطِّرف٧٦ وهو لعبقريته يكاد يستغرق الوصف، وحسبه أنه رَكوبة الأنبياء، لا يعرج بهم غيره إلى السماء، وأنت فإذا نظرت مُنعِمًا٧٧ إليه، خلت الثريا طالعة بين عينيه، وتوهمت الجوزاء في رُسغيه،٧٨ وحسبت الضياء قد هُريق٧٩ عليه.
فَكَأَنَّمَا لَطَمَ الصَّبَاحُ جَبِينَهُ
فَاقْتَصَّ مِنْهُ فَخَاضَ فِي أَحْشَائِهِ
أما عيناه فسوداوان، ولكن سوادهما كله نور، يَريان الشيء البعيد في حلك الديجور.٨٠
يُرَى طَامِحَ العَيْنَيْنِ يَرْنُو كَأَنَّهُ
مُؤَانِسُ ذُعْرٍ فَهْوَ بِالأُذْنِ خَائِلُ٨١
وأما أذناه فَمُؤَلَّلتان مرهفتان، كأنهما يَراعَتان محرَّفتان،٨٢ فكأنه مصغٍ لسماع الإذن بالسُّرى، مِن سائس لهما لا يُرى، وأما متنه فلين الأعطاف، وطيء الأكناف، فإذا أنت امتطيته أصبت ليانًا في ليان، فكأن ثمة نسبًا بين عظامه والخيزران، وأما ذنبه فذيل العروس، وجناح الطاووس، وأما حافره فالفيروزج زُرقه، وهو على ذلك كله كالهواء رقه.
طِرْفٌ تَبَيَّنُ لِلبَصِيرِ وَغَيْرَهُ
فِيهِ النَّجَابَةُ جَارِيًا وَمَقُودًا

•••

هُذِّبَ فِي جِنْسِهِ وَنَالَ المَدَى
بِنَفْسِهِ فَهْوَ وَحْدَهُ جِنْسُ
وَهْوَ إِذَا مَا نَاجَاهُ فَارِسُهُ
يَفْهَمُ عَنْهُ مَا تَفْهَمُ الإِنْسُ

•••

مَلَكَ العُيُونَ فَإِنْ بَدَا أَعْطَيْتَهُ
نَظَرَ المُحِبِّ إِلَى الحَبِيبِ المُقْبِلِ
وبعد أن امتطينا البراقين، طارا بنا في الجو طيرانًا لست أدري ولا إخالني ماذا عسى أن يُقال في وصفه، وهو معنى من المعاني ليس في وُسع اللغة العبارةُ عن مثله، وإلا فهل يكفي أن تقول: بَاز هَوَى في إثر صيد مِن مَرقب،٨٣ أو رجمٌ انقض في إثر شيطان من كوكب،٨٤ أو كأن قد صار له من كل جارحة جناح، أو إذا جرى البرق خلفه كبا البرق وأخطأه النجاح،٨٥ أو دعوة المظلوم لا تكاد تخرج من فم الداعي حتى تصعد إلى الله ثم تَحيق بالظلوم.٨٦
تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِوَفْدِهَا
إِذَا قَرَعَ الأَبْوَابَ مِنْهُنَّ قَارِعُ
أو هو ما يغزوه ابن هانئ بقوله يصف الخيل، وكأنه رأى البراق بظهر الغيب:٨٧
وَأَجَلُّ عِلْمِ البَرْقِ فِيهَا أَنَّهَا
مَرَّتْ بِجَانِحَتَيْهِ وَهْيَ ظَنُونُ

كلَّا، وكيف وما هو إلا رجع الطرف حتى رأيتُني ونبي الله الخضرَ في عالم الأرواح، واقفينَ بباب الفردوس ودار الأفراح … الله أكبر، ماذا أرى وأنظر، وفي يقظة أنا أم في منام، وهاتيك حقائقُ أم هي رؤى وأحلام؟ الحمد لله على سبوغ نعمته، وضفو نيله وعطيته، الحمد لله لقد أجزل لي في العطاء، ومنحني ما لم يُمنَحه غيرُ الأنبياء، وسواء أكان ذلك في عالم الخيال أم في عالم الحقائق، وفي عالم اليقظة أم في عالم الرؤى الصوادق، فقد أُتيح لي دخول الجنة قبل الممات، ورأيت كل ما فيها حقًّا، وهيهات ذلك لسواي هيهات.

•••

حدَّث الأديب الثقة قال:

والآن، وقد آن لي أن أقص عليك سياحتي في جنات الفردوس، وأن أصفها لك وأصف كل ما رأيت فيها على حقه، فهل تترقب مني أكثر مما كان من ذلك الأعرابي الذي طرأ من البادية على حاضرة قد فهقت حضارة،٨٨ واستبحرت رفاهية وعمارة، وزخرت نعيمًا وترفًا، واكتظت بدائع وطرفًا، ثم حضر عرسًا فيها لأحد السَّرَوات، فرأى شيئًا لم تقع العين على مثله في الحواضر، بَلْهَ البواديَ البلاقع المقفرات،٨٩ ثم أُريد على أن يصف ما رأى، فوصف ولكنه أضحك وما عدا،٩٠ وأين أنا على ذلك من الأعرابي الذي أذاب الفصاحة وأذابته، وأين عرسه من الجنان وما حوته؟ كلَّا، لا أين، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا للكلام عن الجنة لنفد البحر قبل أن ينفد الكلام.
يَفْنَى الكَلَامُ وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهَا
أَيُحِيطُ مَا يَفْنَى بِمَا لَا يَنْفَدُ
وبِودي كان، أن يكون ذلك في الإمكان، وأن يؤاتيني كما أشتهي وصف الجنان، فأجلو على أهل الدنيا معنى لو هو برز لهم لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولاستحال جمالًا غير الجمال ما بين طولهما والعرض، ولانجابت حلكة هذه الخاسرة، وحل محلها نور إلهي أبدي من نور الآخرة، كما ينجاب الشر بالخير، والضلال بالهدى، والمرض بالعافية، والنقمة بالنعمة الباقية، نعم، ولو أُتيح لي أن أصف لك الجنة وأنا فيها، راتع بين أهليها، لأتيت لك بكلام علوي فردوسي ملائكي ككلام أهل الجنة إن لم يكن منطبقًا كل الانطباق، فعسى أن يكون مقاربًا، ولكني وا أسفاه! أحدثك بعد خروجي من الجنة، وتمرغي في أعطاف دنياكم هذه وهويي إلى هذا الحضيض الأوهد … على أنه إن لم يكن صَدَّاء فماء،٩١ وإن لم يكن خمر فخل، وإن لم يصبها وابل فطل،٩٢ ومن لم يجد ماء تيممًا …

رضوان

رضوان، وما أدراك مَن رضوان، ثم ما أدراك من هو؟

هو أحد الملائكة المقربين، وحسبه أنه سيد خزنة الجنة التي أعدت للمتقين، وهو نور في نور، يكاد سنا برقه يأخذ بالأبصار، ولو هو صاح في جانبي الديجور،٩٣ لانمحت آية الليل ولم يبق إلا النهار، وماذا عسى أن يكون القول في ملك هو ابتسام فم الآخرة … وإذا كان يوم الفصل فهو فيه قطب الرحى ومركز الدائرة، ولا غرو، فمن ذا الذي يدخل دار السلام إلا بإذنه ورضاه، ومن ذا الذي لا يجعل الازدلاف إليه لذلك وكده وهجيراه،٩٤ أما أنا فقد أراحني نبي الله الخضر وكفاني مؤنة بذل أي مجهود في سبيل دخول الجنة؛ إذ لم تكد عين رضوان تأخذ الخضر — عليه السلام — حتى فُتح لنا باب الفردوس، وفي هذه اللحظة فرطت مني بادرة كادت تطيح بي في مهواة اليأس من دخولي الجنة٩٥ إذ أدركتني حرفة الأدب — لها الله — وجال في صدري أن أنظم أبياتًا أمتدح بها رضوان وأزدلف بها إليه، شِنْشِنتي في الدنيا وشنشنة كل أديب،٩٦ فاتسق لي ذلك واستقام، وفتح الله عليَّ بقصيد بارع موفٍ على الغاية، أطريت فيه رضوان ولا إطراء النصارى المسيح ابن مريم،٩٧ ثم اقتربت من خازن الجنة لأنشده هذا القصيد، وكأن نبي الله الخضر أحس ذلك مني، فنظر إلي نظرة مروعة استُطير لها قلبي وماث من الخوف كما ينماث الملح في الماء … فأمسكت وسقط في يدي،٩٨ واعتذرت إلى الخضر عن هذه الهفوة ونشدته الله أن لا ترهقني من أمري عسرًا، فإن ربة الشعر هي التي أوحت إليَّ وأغرتني بهذا الأمر؛ إذ سحرني جمال رضوان وملك عليَّ مشاعري وأنساني ما تشارطنا عليه … ويا لله ما أشأم الأدب على من امتُحن به حتى في الآخرة! … وما لرضوان الذي خلقه الله من طينة الصدق، وفي مهده درج وفي آفاقه يطير، وما للشعر الذي أحسنه كما قيل أكذبه!

هوامش

(١) أينع الثمر فهو يانع: أدرك ونضج.
(٢) الشطحات: من مصطلحات المتصوفة، وهي لديهم عبارة عن كلمات تصدر منهم في حالة الغيبوبة وغلبة شهود الحق تعالى عليهم، بحيث لا يشعرون حينئذ بغير الحق، وقد استعرناها منهم لمختلف وثبات الذهن، وشتى خطرات القلب وفيوضات الخاطر، وكل ما هو من الاستطراد بسبيل.
(٣) المناقلات: هي أن يتناقل القوم الكلام بينهم ويتنازعوه، تقول: ناقلت فلانًا الحديث إذا حدثته وحدثك، وهي من قبيل المناظرة، ومثلها المثاقفة، وهي من قولهم: ثاقفه مثاقفة فثقفه — كنصره — غالبه فغلبه في الحذق والفطانة وإدراك الشيء، وأصله مِن ثاقفه: لاعبه بالسيف ونحوه، وعذراوات: جمع عذراء، والمراد أنه لم يسبق إليها.
(٤) الأوابد: جمع آبدة، والمراد: الباقية على الأبد لروعتها، ويُقال للشوارد من القوافي: أوابد، من ذا قافية شرود: سائرة في البلاد تشرد كما يشرد البعير، قال الفرزدق:
لَنْ تُدْرِكُوا كَرَمِي بِلُؤْمِ أَبِيكُمُ
وَأَوَابِدِي بِتَنَحُّلِ الأَشْعَارِ
(٥) أراها: أظنها
(٦) زعيم: كفيل.
(٧) الظالع هنا: الضعيف، وأصله من الظلع، وهو العرج، والضليع: القوي.
(٨) هو كقولهم: ضرب الدهر من ضرباته: أي مر من مروره وذهب جانب منه.
(٩) تصرمت وتجرمت: انقضت.
(١٠) رغيبات: واسعات.
(١١) فئام: جماعات، ولا واحد له من لفظه.
(١٢) راح له يراح: سر به ووجد له خفة وأريحية.
(١٣) المحض: الخالص من كل شوب، والبراح: البين الذي لا خفاء به ولا جمجمة.
(١٤) المزور: المحسن المزخرف، واللباب: الخالص.
(١٥) الإحماض: التفكيه، يقال: أحمض القوم إحماضًا: إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث، كما يقال: فكه وتفكه، من أحمضت الأبل: إذا ملت من رعي الخلة — وهو الحلو من النبات — اشتهت الحمض فتحولت إليه.
(١٦) ثبَت بفتح الباء: حجة.
(١٧) تزوى: صار في زاوية، وزاوية البيت وأشباهه: ركنه، وفيه معنى الجمع والقبض، وفي الحديث: «إن الله تعالى زوى لي الأرض فأُريت مشارقها ومغاربها.» زوى لي الأرض: جمعها لي.
(١٨) الإضحيان: المضيء.
(١٩) أنوارها: جمع نَور — بفتح النون — وهو الزهر. واجتلاها: نظر إليها مجلوة كالعروس.
(٢٠) جنى الثمرة واجتناها: تناولها من شجرتها. ومن كثب: من قرب وتمكن.
(٢١) تفيأ: تظلل. وظل وارف: واسع ممتد. وظل ظليل: دائم الظل، وقد يكون على المبالغة كقولهم: شعر شاعر. وفي القرآن الكريم: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا.
(٢٢) الرَّوح — بفتح الراء — نسيم الريح. ونسم الريح وتنسمها: تتبع نسيمها وتشممه، قال الراجز:
دَعِ المَطَايَا تُنَسِّمُ الجَنُوبَا
إِنَّ لَهَا لَنَبَأً عَجِيبَا
حَنِينُهَا وَمَا اشْتَكَتْ لُغُوبَا
يَشْهَدُ أَنْ قَدْ فَارَقَتْ حَبِيبَا
مَا حَمَلَتْ إِلَّا فَتًى كَئِيبًا
يُسِرُّ مِمَّا أَعْلَنَتْ نَصِيبَا
لَوْ تَرَكَ الشَّوْقُ لَنَا قُلُوبَا
إِذًا لآثَرْنَا بِهِنَّ النِّيبَا
إِنَّ الغَرِيبَ يُسْعِدُ الغَرِيبَا
(٢٣) القشيب: الجديد.
(٢٤) الرحيق: صفوة الخمر. والكوثر: النهر، وهو أيضًا نهر في الجنة.
(٢٥) كرع هنا: شرب. والجداول، جمع جدول: النهر الصغير. والعذاب، جمع عذب: الماء الطيب. والنطاف، جمع نطفة، وهي هنا الماء الصافي. والسَّحْر بفتح السين وسكون الحاء: الرئة، وفي حديث عائشة: «مات رسول الله بين سحري ونحري»؛ أي مات وهو مستند إلى صدرها.
(٢٦) التِّرياق: بكسر التاء، دواء يدفع السموم.
(٢٧) النكس في الأشياء: معنى يرجع إلى قلب الشيء ورده وجعل أعلاه أسفله، ومقدمه مؤخره، وقد يكون فيه معنى الدعاء عليه بالخيبة، وفي الحديث: «تعس عبد الدينار وانتكس»؛ أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة؛ لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر. وأرزائه: مصائبه، جمع رزء.
(٢٨) يصيح هنا: يظهر، قال الفرزدق:
وَالشَّيْبُ يَنْهَضُ فِي السَّوَادِ كَأَنَّهُ
لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانِبَيْهِ نَهَارُ
(٢٩) ناقة عشراء: مضى لحملها عشرة أشهر. قال ابن الأثير: قد اتسع في هذا حتى قيل لكل حامل: عشراء، وأكثر ما يطلق على الخيل والإبل. والتوأم: المولود مع غيره في بطن واحد.
(٣٠) الجفن: غمد السيف.
(٣١) سحاب مركوم: تراكم بعضه فوق بعض.
(٣٢) انتاب الرجل القوم انتيابًا: إذا قصدهم ونزل بهم.
(٣٣) يقال: انثال عليه القول؛ أي تتابع وكثر، فلم يدر بأيه يبدأ، وانثال عليه الناس من كل وجه: اجتمعوا وانصبوا.
(٣٤) في الحديث: إن الناس دخلوا عليه بعد موته أرسالًا يصلون عليه؛ أي: أفواجًا وفرقًا متقطعة بعضهم يتلو بعضًا، الواحد رَسَل بفتح الراء والسين.
(٣٥) الغمرة: الشدة.
(٣٦) سكرة الموت والهم ونحوهما: غشيته.
(٣٧) اختلاجه: حركته.
(٣٨) لعل ابن الرومي يعني بالمصعَّد: المذاب، ومنه قيل: شراب مصعَّد إذا عولج بالنار حتى يحول عما هو عليه.
(٣٩) الجَنان، بفتح الجيم: القلب.
(٤٠) العرض: ما قابل الجوهر.
(٤١) حرضًا: دنفًا وسقمًا وفساد بدن.
(٤٢) فغر: فتح.
(٤٣) خافت: ضعيف. وإنسان العين: ناظرها. وباهت: حائر ينظر متعجبًا.
(٤٤) وجيب القلب: خفقانه واضطرابه.
(٤٥) حدقه: نظر إليه. وبرق بعينيه تبريقًا: إذا لألأ بهما من شدة النظر. وأتأر إليه النظر: أحده. وساهم الوجه: متغيره.
(٤٦) أفيظ: أموت.
(٤٧) يليح: يشير. وأفرخ روعه: سكن جأشه ويخرج عنه فزعه كما يخرج الفرخ عن البيضة.
(٤٨) ترمرم: حرك فاه للكلام.
(٤٩) أذن أذنًا: استمع، قال قعنب بن أم صاحب:
إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا
مِنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ
وَإِنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
(٥٠) العرب تقول ليهنئك الفارس — بسكون الهمزة — وليهنيك الفارس — بياء ساكنة — ولا يجوز ليهنك، والمراد الدعاء له بأن يكون ما هو قادم عليه خيرًا مستساغًا لا تعب فيه ولا مشقة.
(٥١) المراد بالهوينا هنا: الدعة والركون إلى الأهون من الأمور.
(٥٢) قرت عينه: طابت نفسه وظفر بما يسره، فلا يطمح إلى أكثر منه. والرين كالصدإ يغشي القلب. والأين: النصب والتعب، ويُقال للآخذ بسرعة في أي عمل كان، وللمريض إذا مرض وللمغشي عليه إذا أفاق كأنما أنشط من عقال أي حل. نشط الحبل: ربطه. وأنشطه حله.
(٥٣) المنهاة: النهاية.
(٥٤) حسا الطائر الماء وتحسى واحتسى: تناوله بمنقاره. والملا: جماعة القوم.
(٥٥) زُويت: طُويت.
(٥٦) دوية: بعيدة الأطراف مستوية واسعة، قال العجاج:
دَوِيَّةٌ لِهَوْلِهَا دَوِيٌّ
لِلرِّيحِ فِي أَقْرَابِهَا هَوِيُّ
وبراح: واسعة ظاهرة لا نبات فيها ولا عمران. وقذف: بعيدة تقاذف بمن يسلكها.
(٥٧) تغتال الخطى: يريد لا يستبين فيها المشي من بعدها وسعتها.
(٥٨) القطا: طائر معروف، ويُقال في المثل: إنه لأدل من قطاة؛ لأنها ترد الماء ليلًا في الفلاة البعيدة، وإذا كانت القطا على ذلك تحار في هذه الفلاة فحسبك بها فلاة!
(٥٩) تخسأ: تكل تعيا.
(٦٠) الجرس: الصوت.
(٦١) ساج: ساكن. وسجسج: ليس به حر مؤذٍ ولا برد شديد.
(٦٢) طلق: مشرق لا حر فيه ولا برد. ورَوح: طيب. وأبلج: مشرق مضيء.
(٦٣) الدراري: جمع الدرة، اللؤلؤة العظيمة، والكواكب تُسمى الدراري. وهذا البحر: يريد السماء.
(٦٤) رفَّ الزهر والنبات: إذا اهتز وتلألأ وأشرق ماؤه.
(٦٥) بص الشيء: برق وتلألأ ولمع.
(٦٦) الرنو: إدامة النظر مع سكون الطرف. وأهاب به دعاه، وأصله في الإبل، يقال: أهاب الراعي بالإبل: صاح بها لتقف أو لترجع.
(٦٧) سهيل يضرب إلى الحمرة وهو دائم الخفقان، فهو يقول وبدا سهيل وقد اجتمع فيه صفة الحبيب، وهي حمرة الوجه وبريقه وصفة المحب وهي خفقان القلب، وقوله مستبدًّا … إلخ، مستبدًّا أي منفردًا في أفق من السماء كأنه فارس قد أعلم نفسه في الحرب بعلامة يُعرف بها، وقد خرج عن معارضة فرسان يحاربهم؛ يعني سائر نجوم السماء، كأن سهيلًا يعارضها في أفق طلوعه. وقوله: يسرع … إلخ، يصف شدة خفقانه وتلألؤه. يقول: إن سهيلًا يرجع اللحظ سريعًا متواترًا مع حمرة فيه كأنه في سرعة رجع البصر محمرًا مقلة إنسان غضبان.
(٦٨) يُقال: هو مني قِيد رمح وقِيد خطوة — بكسر القاف — أي قدر رمح وقدر خطوة.
(٦٩) يقق: شديد البياض.
(٧٠) تدلف: تمشى ودنا.
(٧١) عفرية نفرية: شيطان خبيث، ونفرية على الإتباع. وأرنًا: جاد النشاط، وصلتان: شديد نشيط أو حديد الفؤاد. وأشطان: جمع شطن: الحبل.
(٧٢) الصلف: المراد الإعجاب بالنفس وشدة الاعتداد بها، وازدهاه استخفه كزهاه، قال عمر بن أبي ربيعة:
وَلَمَّا تَنَازَعْنَا الحَدِيثَ وَأَشْرَقَتْ
وُجُوهٌ زَهَاهَا الحُسْنُ أَنْ تَتَقَنَّعَا
وقال الأخطل:
يَا قَاتَلَ اللهُ وَصْلَ الغَانِيَاتِ إِذَا
أَيْقَنَّ أَنَّكَ مِمَّنْ قَدْرُهَا الكِبْرُ
(٧٣) جمع زُنبور: الطائر المعروف الذي يلسع ويهجم على النحل.
(٧٤) الحسك: الشوك. والسعدان: نبت ذو شوك ينبت في سهول الأرض، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطبًا.
(٧٥) الخندريس: الخمر القديمة.
(٧٦) الطرف: الكريم الطرفين، الأب والأم، من الخيل ونحوها.
(٧٧) منعمًا: مبالغًا في النظر.
(٧٨) الرُّسغ: الموضع بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل.
(٧٩) هريق: أُريق وصُب.
(٨٠) الحلك: شدة السواد. والديجور: الظلام.
(٨١) خائل: مختال.
(٨٢) ألَّل الشيء: حدد طرفه. واليراعة واحدة اليراع: القصبة التي ينفخ فيها الراعي والقلم وهو المراد هنا.
(٨٣) الباز: ضرب من الصقور. والمرقب: الموضع المرتفع يعلوه الرقيب.
(٨٤) الرجم: واحد الرجوم، والمراد هنا ما يظهر في السماء كأنه نجوم تتساقط، وهو معلوم أن الشياطين كانت تُرجم بالرجوم في صدر الإسلام لئلا تسترق السمع، وسيمر بك القول في هذا الموضوع بتفصيل في هذا الكتاب.
(٨٥) كبا لوجهه: انكب على وجهه.
(٨٦) تحيق: تنزل. والظلوم: الظالم.
(٨٧) يغزوه: يقصده ويعينه. وابن هانئ: هو الشاعر الأندلسي الضخم قريع المتنبي.
(٨٨) فهق الإناء: امتلأ حتى صار يتصبب.
(٨٩) بله: اسم فعل بمعنى دع واترك.
(٩٠) أورد صاحب الأغاني وابن قتيبة في عيون الأخبار قصة هذا الأعرابي، ولطرافتها نوردها هنا، قال محمد بن خالد بن يزيد بن معاوية: وكان قد نزل بحلب على الهيثم بن يزيد التنوخي، قال: فبعث، أي الهيثم، إلى ضيف له من عذرة — هو ناهض بن ثومة بن نصيح وكان شاعرًا بدويًّا فصيحًا، وكان بدويًّا جافيًا كأنه من الوحش، طيب الحديث، يقدم البصرة فتؤخذ عنه اللغة، قال محمد بن خالد: فقال الهيثم لهذا الأعرابي، حدِّث أبا عبد الله، ما رأيت في حاضرة المسلمين من أعاجيب الأعراس: قال: نعم، رأيت أمورًا معجبة: منها أني رأيت قرية عاصم ابن أبي بكر الهلالي، فإذا أنا بدور متباينة، وإذا أخصاص منظم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون وعليهم ثياب حكوا بها ألوان الزهر، فقلت لنفسي: هذا أحد العيدين الأضحى أو الفطر، ثم رجع إلي ما عزب عني من عقلي، فقلت: خرجت من أهلي في عقب صفر، وقد مضى العيدان قبل ذلك، فبينما أنا واقف ومتعجب أتاني رجل، فأخذ بيدي فأدخلني دارًا قوراء — واسعة — وأدخلني بيتًا قد نجد، في وجهه فرش قد مهدت، وعليها شاب تنال فروع شعره كتفيه، والناس حوله سماطان — صفان — فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي يُحكى لنا جلوسه وجلوس الناس حوله، فقلت وأنا مائل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، فجذب رجل بيدي، وقال: اجلس، فإن هذا ليس بالأمير. فقلت: ومن هو؟ قال: عروس. قلت: وا ثكل أماه! رب عروس رأيت بالبادية أهون على أصحابه من هن أمه، فلم ألبث إذ دخلت الرجال عليها هنات مدورات من خشب وقضبان، أما ما خف فيحمل حملًا، وأما ما ثقل فيدحرج، فوضعت أمامنا، وتحلق القوم حلقًا حلقًا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابًا وهممت عندها أن أسأل القوم خرقًا أقطع منها قميصًا، وذلك أني رأيت نسجًا متلاحكًا — متداخلًا بعضه في بعض تداخلًا شديدًا — لا أتبين له سدى ولا لحمة، فلما بسط القوم أيديهم إذا هو يتمزق سريعًا، وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه، ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض وحار وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعرف ما في عقبه من التخم والبشم، ثم أتينا بشراب أحمر في عساس — جمع عس وهو القدح الكبير — فلما نظرت إليه قلت: لا حاجة لي فيه، أخاف أن يقتلني، وكان في جانبي رجل ناصح لي — أحسن الله جزاءه — كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابي، إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء انتفخ بطنك، فلما ذكر البطن تذكرت شيئًا كان أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي: قالوا: لا تزال حيًّا ما دام شديدًا — يعني البطن — فإذا اختلف فأوصِ، فلم أزل أتداوى به ولا أمل من شربه، فتداخلني — نالك الخير — صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته، ولو شأوت الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدثني نفسي بهتم أسنانه وهشم أنفه، وأهم أحيانًا بأن أقول له: يا ابن الزانية، فبينما نحن كذلك، إذ هجم علينا شياطين أربعة: أحدهم قد علق في عنقه جعبة فارسية مشنجة الطرفين — التشنج: التقبض — دقيقة الوسط قد شُبحت بالخيوط شبحًا منكرًا — شُبحت: شُدت — وقد أُلبست قطعة فرو كأنهم يخافون عليها القر، ثم بدر الثاني فأخرج من كمه هنة سوداء كفيشلة الحمار، فوضع طرفها في فيه فضرط فيها فاستتم بها أمرهم، ثم حسب على جحرة فيها (يريد حرَّك أصابعه على ثقوب هذه الهنة — وهي المزمار — كما يصنع الحاسب حين يعد بأصابعه)، فاستخرج منها صوتًا ملائمًا مشاكلًا بعضه بعضًا كأنه علم الله ينطق، ثم بدر الثالث عليه قميص وسخ، وقد غرق شعره بالدهن معه مرآتان، فجعل يمري إحداهما على الأخرى مريًا، ثم بدر الرابع عليه قميص قصير وسراويل قصير وخفان أجذمان لا ساقين لهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط بالأرض، فقلت: معتوه ورب الكعبة: «هذا هو الراقص»، ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي، ورأيت الناس يحذفونه بالدراهم حذفًا منكرًا، ثم أرسلت إلينا النساء أن أمتعونا من لهوكم، فبعثوا بهم إليهن، وبقيت الأصوات تدور في آذاننا، وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات له بالدعاء، فخرج فجاء بخشبة عينها في صدرها، فيها خويطات أربعة، فاستخرج من جنبها عودًا فوضعه على أذنه، ثم زم الخيوط الظاهرة، فلما أحكمها وعرك آذانها حركها بمجسة في يده، فنطقت ورب الكعبة! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فاستخفني في مجلسي حتى قمت فجلست بين يديه، فقلت: بأبي أنت وأمي! ما هذه الدابة؟ فلست أعرفها للأعراب وما خُلقت إلا حديثًا! فقال: يا أعرابي، هذا البربط الذي سمعت به، فقلت: بأبي أنت وأمي! فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: زير، قلت: فما الذي يليه؟ قال: مثنى، قلت: فالثالث؟ قال: المثلث، قلت: فالرابع، قال: اليم، قلت: آمنت بالله أولًا وباليم ثانيًا.
(٩١) صداء ركية «بئر» ليس عند العرب ماء أعذب من مائها، وفي المثل: ماء ولا الصداء، يُضرب في الرجلين يكونان ذوي فضل غير أن لأحدهما فضلًا على الآخر.
(٩٢) الطل: المطر الضعيف. والوابل: المطر الشديد.
(٩٣) صاح: ظهر. والديجور: الظلام.
(٩٤) الازدلاف: التقرب. ووكده: قصده. وهجيراه: دأبه.
(٩٥) فرط منه قول: قاله من غير روية، والمراد بالبادرة السقطة والزلة، وهي في الأصل ما يبدر عند حدة الغضب. وطاح به: ذهب به وسقط. والمهواة: الحفرة والبئر، وفي حديث عائشة، ووصفت أباها، وقالت: «وامتاح في المهواة.» أرادت البئر العميقة، أي إنه تحمل ما لم يتحمل غيره.
(٩٦) أزدلف: أتقرب. والشنشنة: العادة.
(٩٧) الإطراء: مجاوزة الحد في المدح.
(٩٨) يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه: قد سقط في يده وأُسقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤