مأدبة جامعة في قصر الشيخ محمد عبده بالجنة

حدَّث الأديب الثقة قال:

وتعلَّم — علِمت الخير — أن أهل الجنة يتزاورون ويدعو بعضهم بعضًا، كأهل العاجلة؛ توفيرًا لأنسهم، وتتميمًا لمسراتهم، قال جل وعز: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.

قال الأديب: فلما انتهينا إلى هذا الموضع من الحديث، وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر مما رغب الإخوان أن يستطلعوا طلعه، ويقفوا عليه شئون مصر والمصريين، طلع علينا في الخيمة سرب من الحور العين، بجانبه فوج من الولدان المخلدين، وأخذوا يدعوننا واحدًا واحدًا إلى مأدبة كبرى أمر بصنعها الشيخ محمد عبده، وأدب إليها كثيرًا من أعيان الإسلام، وأئمته الأعلام، من فقهاء ووعاظ وعلماء، وفلاسفة وأدباء، وكتاب وشعراء، ولغويين وأطباء، ومغنين وملوك ومَن إليهم، فملت إلى الشيخ حمزة فتح الله وقلت له: هل هذه الدعوة دعوة الجَفَلَى أو دعوة النَّقَرَى؟١ فقال: إن هذه الدعوة وإن كانت دعوة النقرى، إلا أنها من قبيل غير القبيل الذي يبرأ منه طرفة بن العبد وينزه نفسه وقومه عنه، إذ يقول:
نَحْنُ فِي المَشْتَاةِ نَدْعُو الجَفَلَى
لَا تَرَى الآدِبُ فِينَا يَنْتَقِرْ٢

إذ إن للشيخ محمد عبده غرضًا ساميًا نبيلًا يترامى إليه بهذه الدعوة ستعلم نبأه بعد حين.

قال الأديب: أما أنا فما كاد نبأ المأدبة يصافح أذني حتى كدت أذوب فرحًا، وأطير مرحًا، وأخذت أهرول أنا وإمام العبد، وانطلقت كالمهر الأرن في ميعة حضره،٣ ولم لا يطير بنا الفرح، ولم لا يستخفنا الطرب، وهناك مأدبة فاخرة، وأفواه فاغرة، وجماعة من صفوة هذه الأمة الطاهرة؟ آه يا أخي آهة الرجل الحزين، إن نفسي تساقط حسرات على أثر ما قد فاتها من نعيم الفردوس، وعندي أنه لو لم يكن للآجلة على العاجلة من مزية سوى أن أهليها لا يضيرهم الطعام والشراب، فلا يصيبهم بَشم وتُخمة، وكظة وبردة، وغصص وشرق، ونزيف وصداع، وأذى وخمار،٤ مهما طعموا وشربوا، لرجحت الأولى بالثانية، وشالت في الميزان كفة الفانية:٥ ولكن تأبت الأقدار لحكمة بالغة إلا أن يشاب كل شيء في دار البلاء، بما يكدر صفوه، ويخبث عفوه،٦ حتى الطعام والشراب:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا
صَفْوًا مِنَ الأَقْذَاءِ وَالأَقْذَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا
مُتَطَلِّبٌ فِي المَاءِ جُذْوَةَ نَارِ
وإلا فهل هناك لذة تعدل لذة الشراب والطعام، ولا سيما لصحاح الأجسام، وإنها للذة على هذا متجددة تعاد في اليوم الواحد مرات، وتتكرر وجبات،٧ وهي على تكرارها لا تمل، وعلى تردادها تحلو ولا تمر:
كَرِيقَةِ المَرْءِ لَا تَنْفَكُّ فِي فَمِهِ
وَمَا يَمَلُّ لَهَا طَعْمًا لِإِبَّانِ٨
من عذيري أيها الناس٩ من لحوم الطير وسائر الحيوان البري منه والبحري، والإنسي والوحشي، ومَن لي بالفواكه على وفرة صنوفها، والخضر على تنوع أنواعها وضروبها، وما أُحيلى الحلواء والفطائر، وسائر ألوان هذه الأشباه والنظائر، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق …
وألم يُغرِ ربُّك آدم بالخلود في الجنة بأن قال له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى.١٠
فبدأ باشتراط الشبع. ولله عبد الله بن عباس إذ يقول: كُلْ ما شئت والبس ما شئت ما أخطأك إسراف ومخيلة،١١ وإذا كان هناك — عَمْرَك اللهَ١٢ ووقاك — مَن هو جدير بالرحمة والرثاء، فليس أحق بذلك من الممعود، والممنوِّ بأدواء البطون،١٣ وإنه ليعجبني الرجل قد أُوتي حُمة القرم وبالغ اللقم،١٤ فتراه يحط في الطعام١٥ ويعصف فيه عصف الريح، حتى لكأنه تمساح من التماسيح، ويضرب فيه كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم، ويتملأ منه حتى ينطفئ نهمه، وتنتأ رمانته،١٦ لا ذلك المتنوق المترف الأزوم١٧ الذي أخذه الإباء فتراه يخط في الطعام خطًّا١٨ … وإذا جاز لي أن أحسد أحدًا على ما أتاه الله من فضله فلست أحسد إلا ذلك النهم الحطمة المبطان١٩ الذي أُوتي معدة شيطانها رجيم، على شريطة أن تسعده الحال، ولا يؤذيه الأكال:٢٠
لَوْ أَكَلَتْ فِيلَيْنِ لَمْ تَخْشَ البَشَمْ
ومَن لي بذلك النبوغ الكرشي، وتلك العبقرية المعوية التي أوتيها معاوية والحجاج وسليمان بن عبد الملك،٢١ وعبيد الله بن زياد ومَن على شاكلتهم من نوابغ الآكلين، لقد أوتوا من دواعي اللذة الحظ العظيم! وهل هناك — أنار الله بصيرتك — أسخف من جماعة النباتيين، وإن لي مع شيخهم شيخ المعرة لحديثًا سيمر بك بعد حين، وكيف لا يعذر المعتر٢٢ المحروم إذا تهالك على لذيذ المطعوم، وما أظرف ذلك الأعرابي الذي لا عهد له إلا بالشيح والقيصوم،٢٣ ولسان حاله يقول:
الأَبْيَضَانِ أَبْرَدَا عِظَامِي
المَاءُ وَالفَتُّ بِلَا إِدَامِ
وقد حضر طعامَ أحد الأمراء وأكل معه، فلما أُحضر الفالوذج٢٤ قال له الأمير: إن أكلت هذا حززت رأسك، فأطرق مليًّا، ثم مد يده إليه وقال: أوصيك أيُّهذا الأمير بصبيتي خيرًا … ومثله الأعرابي الذي آكل يومًا معاوية، فأخذ شيئًا من بين يديه، فقال له معاوية: لقد انتجعت، فقال الأعرابي: مَن أجدب انتجع!٢٥ ثم أُحضر جدي حنيذ،٢٦ فأخذ الأعرابي يمزقه ويمعن في أكله، فقال معاوية: يا هذا، أتطالب هذا البائس بِذَحْلٍ٢٧ هل نطحتك أمه؟ قال: وأبيك إنك لشفيق عليه! هل أرضعتك أمه! وكان لزياد بن عبد الله الحارثي جدي لا يمسه أحد، فعشَّى في شهر رمضان قومًا منهم أشعب، فعرض أشعب يومًا للجدي من بين القوم، فقال زياد حين رُفعت المائدة: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم؟ قالوا: لا، قال: فليصل بهم أشعب، فقال أشعب: أوغير ذلك أيها الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: لا آكل لحم جدي أبدًا … وهل يعيب التطفيل وينتقص المتطفلين إلا كل أحمق مأفون … إن التطفيل ثورة معوية حارة تلظى على المترفين … ولكنها ثورة سلمية سائغة مقبولة متواضعة، كل سلاحها وجه وقاح وشيء من إراقة ماء الوجه … على أنه لا يدعو هذا السلاح «إراقة ماء وجه» إلا أنا وأنت، أما رجال الفن … أما مَن تدعوهم متطفلين، فلا يغدو ذلك في رأيهم أن يكون «تقاضي حق» من أناس قد أمعنوا في ترفهم، ولم يرضخوا للمحزومين بلماظة من حقوقهم:٢٨
يَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلَاءٌ بُطُونُهُمْ
وَجَارَاتُهُمْ سُغْبٌ يَبِتْنَ خَمَائِصَا٢٩
ولحا الله أبا عَمْرَة،٣٠ ولا أبعد غيره، إنه شر ما يُمنى به المرء في دنياه، وما أفظع الإنسان إذا نقنقت ضفادع بطنه، وعض الصفر على شراسيفه بنابه وسِنِّه.٣١

أطعموا الجائعين أيها الناس، واتقوا صولة الإنسان إذا نال منه سعار الجوع، وإلا ثار ثائره عاصفًا بكم بعد طول هجوع …

هوامش

(١) يقال دعاهم النقرى: إذا دعا بعضًا دون بعض، ينقر باسم الواحد بعد الواحد، وإذا دعا جماعتهم فهي دعوة الجفلى.
(٢) في المشتاة: يعني وقت الجدب. والآدب: الداعي.
(٣) الأرن: النشيط المرح. وميعة الحضر: أوله وأنشطه. والحضر: الجري.
(٤) البشم والتخمة: ما يصيب الإنسان من الطعام من ثقل. والكظة: البطنة، كظة الطعام والشراب: إذا ملأه وغمه حتى لا يطيق التنفس. والبردة: التخمة وثقل الطعام على المعدة، وفي الحديث: «أصل كل داء البردة.» والغصص: من غص بالطعام، اعترض في حلقه شيء منه فمنعه التنفس. والشرق بالماء ونحوه: كالغصص بالطعام. والنزيف: ذهاب العقل من السكر. والخمار: بقية السكر.
(٥) شال الميزان: ارتفعت إحدى كفتيه، والكلام على المثل: والمراد لفضلت الآخرة على الدنيا.
(٦) عفو كل شيء: ما صفا منه.
(٧) الوجبات: جمع وجبة: الأكلة الواحدة في اليوم.
(٨) إبان: وقت.
(٩) أي مَن يعذرني إذا أنا أُولعت بهذه الأشياء.
(١٠) ولا تضحى: لا تصيبك شمس مؤذية، قال عمر بن أبي ربيعة:
رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ
فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالعَشِيِّ فَيَخْصُرُ
فيخصر: فيبرد ويؤذيه البرد.
(١١) المخيلة: الاختيال والزهو والكبر.
(١٢) عمرك الله: أي سألت الله أن يطيل عمرك، قال الكسائي: عمرك الله: نُصب على معنى عمرتك الله: أي سألت الله أن يعمرك، كأنه قال: عمرت الله إياك.
(١٣) ممعود: ذربت معدته فلم تستمرئ ما يأكله. وممنو: مصاب. وأدواء: جمع داء.
(١٤) القرم: شدة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه. وحمته: شدته. واللقم: جمع لقمة.
(١٥) يحط في الطعام: يكثر منه.
(١٦) النهم: الشره وإفراط الشهوة في الطعام، ويقال: أكل حتى نتأت رمانته: وهي السرة وما حولها.
(١٧) المتنوق: المتأنق المترفق. والمترف: من الترف وهو التنعم. والأزوم: القليل الرزء من الطعام.
(١٨) يأكل شيئًا يسيرًا.
(١٩) رجل حطمة: أكول.
(٢٠) الأكال: الطعام.
(٢١) حدَّث الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص قال: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، وقد عُرفت شراهته، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانًا لعمرو، قال فجال في البستان ساعة ثم قال: ناهيك بمالكم هذا مالًا، لولا جرار فيه؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إنها ليست بجرار ولكنها جرب الزبيب، فجاء حتى ألقى صدره على غصن ثم قال: ويلك يا شمردل! أما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، إن عندي لجديًا تغدو عليه بقرة وتروح أخرى، قال: أعجل به، فأتيته به كأنه عكة — وعاء السمن — وتشمر فأكل ولم يدع ابنه ولا عمر حتى أبقى فخذًا، فقال: يا أبا حفص هلم، قال: إني صائم، ثم قال: ويلك يا شمردل، أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله دجاجات ست كأنهن رئلاث النعام — أولاد النعام، واحدها رأل — فأتيته بهن فكان يأخذ رجل الدجاجة حتى يعري عظمها ثم يلقيها بفيه، حتى أتى عليهن ثم قال: ويلك أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله إن عندي لحريرة — الحريرة ضرب من الطعام يُتخذ من الدقيق يطبخ بلبن أو دسم — كقراضة الذهب، فقال: أعجل بها، فأتيته بعس — العس: القدح الكبير — يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقمها بيده ويشرب، فلما فرغ تجشأ كأنه صاح في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: نيف وثمانون قدرًا، قال: فأتني بها قدرًا قدرًا، فأتاه بها وبقناع عليه رقاق — القناع إناء من عسب النخل يوضع فيه الطعام — فأكثر ما أكل من قدر ثلاث لقم وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس ووضعت الخوانات فجعل يأكل مع الناس.
(٢٢) المعتر: الفقير أو المتعرض للمعروف من غير أن يسأل.
(٢٣) الشيح: نبات مر طيب الرائحة معروف. والقيصوم: نبات مر طيب الرائحة معروف لأهل البادية.
(٢٤) الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل.
(٢٥) الانتجاع والنجعة في الأصل: طلب الكلأ ومساقط الغيث، وفي المثل: مَن أجدب انتجع.
(٢٦) الحنيذ: المشوي.
(٢٧) الذحل: الثأر.
(٢٨) رضخ له من ماله رضخًا: أعطاه قليلًا من كثير. واللماظة: تُستعار لبقية الشيء القليل، قال:
وَمَا زَالَتِ الدُّنْيَا يَخُونُ نَعِيمُهَا
وَتُصْبِحُ بِالأَمْرِ العَظِيمِ تَمَخَّضُ
لَمَاظَةُ أَيَّامٍ كَأَحْلَامِ نَائِمٍ
يُذَعْذِعُ مِنْ لَذَّاتِهَا المُتَبَرِّضُ
المتبرض: المتبلغ.
(٢٩) المشتى: وقت القحط والمجاعة. وسغب: جياع. وخمائص: ضامرات البطون جوعًا.
(٣٠) أبو عمرة: كناية عن الجوع.
(٣١) نقنق الضفدع: صوَّت صوتًا يفصل بينه مد وترجيع، ونقنقت ضفادع بطنه: كناية عن الجوع. والصفر — فيما تزعم العرب — حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع، واللذع الذي يجده عند الجوع من عضه. والشرسوف: طرف الضلع المشرف على البطن، ويقال: عض الصفر على شرسوفه: إذا جاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤