مقدمة
هدف دراسات السينما
لا يظهر جوهر أيِّ شيء في البداية، ولكن في منتصف الطريق، أثناء تطوُّره، حينما تتأكد قوته.
ما هي السينما؟ دعوني أريكم!
هذه هي المَهمة السامية لهذا «البيان»، وهي مَهمة أودُّ إنجازها بالاستعانة بأمثلة كثيرة؛ ففي نهاية المطاف، تجسَّد سعي بازان في ٢٦٠٠ مقال «راجعَتْ»، بكل ما تعنيه الكلمة، عددًا ضخمًا من الأفلام من جميع الأنواع. لكن لهذا الكتاب مَهمة أخرى؛ فحتى لو كانت هناك مساحة كافية، فلن أذكر الكثير من الأفلام؛ لأنه ليس أيُّ عنوان ننتزعه من آلاف العناوين التي تتدفق كلَّ عام عبر أجهزة العرض يفي بالغرض؛ وليست كلُّ لفة من أشرطة السيليولويد المصوَّرة تنتمي إلى صنف «السينما» وَفق فهمي لتعريفها.
لا أقصد هنا تَنفير المخلصين لمقولات ما بعد الفيلم أو ما قبل السينما بالقول إننا نُدرك ما الذي كانت السينما تظنه عن نفسها حينما كانت تتقدَّم دون أن يتساءل أحد عن هُويتها وقدرتها، وحينما حقَّقت إدراكًا مُكتملًا لمكانتها وإمكانياتها، وزادته تفصيلًا. يستطيع المرء أن يشير إلى التنوع الكبير في الصِّيَغ التي تندرج تحت أسماء مثل «بدايات السينما» و«الوسائط الجديدة» ويتمتَّع بتميُّزها؛ ويُركز في الوقت نفسه مع ذلك على ما أصبحت عليه السينما في أيام مَجدها وما لم تزل عليه، كما سأوضح. لذا، دعونا نضع المعيار العامَّ نُصب أعيننا، ونركز على الهدف دون أن نُبديَ حنينًا إلى الماضي أو نكوصًا. فالأفلام التي طَوَّرت شكلًا متماسكًا بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرت فوق القمة سبعين عامًا، بوصفها الشكل الفني الأشهر والأكثر حيوية، تُبرز بقوة للمشاهدة والمراجعة. ما هو المرشَّح الآخر الذي يُمكن أن يُعرِّفه زيلينسكي بأنه «محطة في التاريخ»، باستثناء الفيلم الروائي الطويل القوي الذي يرى أنه سدَّ الباب لفترة أطول مما ينبغي، مانعًا دخول أي وسائط أخرى؟ ماذا أيضًا في أذهان النقاد حينما يقولون إن السينما في اضمحلال فيما عدا الأفلام الروائية الطويلة كما عرفناها ودرسناها؟
بالطبع، طالما كانت هناك أنواع أخرى من الأفلام التي تُمثل «أفكارًا عن السينما» مختلفة عن هذا النوع السائد. ماذا سنُسمي منتجات العَقد الأول من عمر وسيط السينما، حينما لم تكن كلمة «مُبتكِر» تَنطبق فقط على من يطلبون براءات الاختراع، ولكن أيضًا على الحرفيِّين الذين صنعوا الأفلام، ورواد الأعمال الذين موَّلوها، ووجدوا جماهير (أو كوَّنوها)؟ أيًّا ما كان الاسم الذي أُطلق على هذا الوسيط، فقد تطور مرتبطًا بالمُمارسات الصحفية والترفيهية والعلمية، وحتى الرُّوحية، التي أثَّر كلٌّ منها في صناعة الأفلام الوليدة وفي مشاهدتها، كلٌّ بطريقته. يُحدِّد اسم «سينما العروض الجذابة» فكرةً ما عن السينما، كانت منتشرة في تلك الفترة. ويتضمَّن وينظم استخدامات معيَّنة للتكنولوجيا، وممارسات معيَّنة لصناع الأفلام والعارضين، فضلًا عن عادات المتفرِّجين ورغباتهم التي تتجلى في شهاداتٍ كتبها صحفيون ومعلِّقون ثقافيون؛ بل إنه يتضمن بالفعل، وعلى نحوٍ خاص، البروتوكولات والقوانين التي أُرسيَت لتنظيم هذه الظاهرة الجديدة.
أصبحت «سينما العروض الجذابة» منذ تطويرها في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، فكرة قوية ومميَّزة عن السينما. وبغضِّ النظر عن النتيجة، فإنَّ التنوع الرائع الذي ضمَّته هذه الفكرة المتميِّزة، حلَّ محله تدريجيًّا نمط قصصي منظَّم، أو حُوِّل إلى هذا النمط، ثم أصبح بعد ذلك ما سُمي «النظام الكلاسيكي»، أو «نظام الاستوديو». ولا تنطبق هذه الفكرة فقط على صناعة ترفيهٍ متكاملة، ولكن على تصوُّر لناتج هذه الصناعة البرَّاق، وهو الفيلم الروائي الطويل. وسواء أصَدَر هذا الفيلم من أحد استوديوهات هوليوود الثمانية، أم أُنتِج في أيِّ مكان في العالم، في صورة «الأفلام الاعتيادية»، فإنَّ السينما الكلاسيكية سيطرت على فترة ما بين الحربين العالميتَين؛ وبالفعل، مثَّلت النمطَ السائد بعد ذلك بفترة طويلة (ولم تزل تُعرَض، وتَستحوذ على نصيب كبير من الشاشات في مجمعاتنا السينمائية اليوم). لكن بحلول عام ١٩٦٥، أدرك أيُّ شخص له اهتمام عميق بالسينما قيود المفهوم الكلاسيكي. حتى في عَقدَي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، تنافَس كثير من الأفلام «غير الاعتيادية» مع الأنواع السائدة، وعادة ما كانت تدعمها الأفكار السياسية أو الجمالية للمُنتجين المستقلِّين أو مؤسسات الدولة. وبمزيد من الإلحاح، سألوا: كيف ينبغي أن تعمل الأفلام في المجتمع؟ وكيف ينبغي أن تُصنع وتُشاهَد؟ وكيف ينبغي أن يكون شكلها وصوتها؟ منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ظهور «الموجة الجديدة». كانت هذه الأسئلة يُجاب عنها ببدائل جريئة ومتحفِّظة في آنٍ واحد، حادت بعيدًا عن العرف السائد الذي كان هناك إحساس مع ذلك بأنه مُهيمِن، إن لم يكن حتميًّا.
وخلال العصر الذهبي لنظام الاستوديو، بقيت أقوى الأفكار البديلة عن السينما، باستثناء الرسوم المتحرِّكة، حيةً في أنماط غير روائية؛ مثل: الوثائقيات والأفلام التجريبية والأفلام القصيرة، وكذلك في الأفلام التعليمية والصناعية وأفلام الهواة. كل تلك الأنواع، وكذلك الأفكار المستفيضة المتعلقة باستخدامات السينما وقدراتها التي وُضِعت موضع التطبيق، تُجبرنا على النظر إلى الوسيط السينمائي نظرةً شاملة وواسعة؛ حيث تحتفظ بمساحة يُمكننا رسم مخطط لها على هيئة دوائر متَّحدة المركز، تقع على مسافات مختلفة من الهدف المركزي، وهو الفيلم الروائي الطويل. هنا، نتبع خُطى أندريه بازان الذي ربما أعجبته «عبقرية النظام»، وكتب بكثرة عن تشارلي تشابلن وبريستون ستورجس ووليام وايلر، فضلًا عن أفلام الغرب، لكنه شعر بأنه يجب عليه بالقدر نفسه الاحتفاء بالرسوم المتحركة (مثل أعمال نورمان ماكلارين) والمجموعات الأرشيفية (باريس ١٩٠٠)، وأفلام جون بانلوفي العلمية الغريبة القصيرة. مع ذلك، فإن التركة النقدية — التي مُنِحَت طابعًا مؤسسيًّا — المحيطة بالأفلام الروائية الطويلة، تسبَّبت في أكثر النقاشات حدة وقوة في نظرية الفيلم، وهذا بلا شك بسبب التبعات الاجتماعية لشيوع هذ الأفلام، وتداخلها السهل مع جماليات الرواية والمسرح، وكذلك ارتباطها بسوق الترفيه في العالم كله.
مثل هذه النقاشات، سواء أكانت بسبب أفكار آتية من داخل عالَم الفيلم الروائي التخيُّلي، أم بفعل تحدي النماذج التي تُحيط به من الخارج، جعلت دراسات السينما أحدَ أكثر المجالات المُفعَمة بالنشاط في العلوم الإنسانية على مدار العقود الخمسة الماضية. واحتمال اضمحلال هذه النقاشات هو أدعى للقلق من التحول المحتمَل لموضوعها؛ ذلك لأن فهمنا المتزايد النضج للطريقة التي عملت بها الأفلام، وكيف أصبحت تعمل بهذه الطريقة، يُمكن أن يرشد دراسة أيِّ «سَمْع مَرْئيات» تجذب انتباهنا، سواء تلك التي كانت موجودة قبل ظهور الأفلام أو تلك التي ظهرت في هذا القرن الجديد. ومثل عامة الجمهور، انجذب الدارسون والمُفكِّرون نحو السينما الروائية بسبب حجمها الكَمي المجرد، وبسبب آثارها النفسية الاجتماعية، وبسبب الجهود الإبداعية الذي بذلها أولئك الذين سعَوْا لتغيير مسيرتها من داخل الوسيط أو من خارجه. انحرف كثيرٌ من أفضل العقول في العلوم الإنسانية عن مساعيهم الأدبية أو الفلسفية أو الثقافية الاجتماعية أو التاريخية لتفسير طبيعة أكثر وسائط القرن العشرين مهابة. لقد أنتجوا في الكثير من الأحيان مقولات ومواقف معقدة وإبداعية وحماسية، كما أنتجوا طريقة في التفكير، ونَمَّوْا غريزة للنظر والاستماع. وحتى إذا كان معظم ما كُتب يُمكن تجاهله بلا خسارة حقيقية، فإن هذا الخطاب — هذا الدفع لفهم كيفية عمل الفيلم الروائي — قيِّم. وسيكون معنى إدراج هذا داخل فكرة أشمل عن تاريخ السَّمْع مَرْئيات، أو تبديده في مجال الدراسات الثقافية المُثير للارتباك، أو أن يُصبح — على سبيل المثال — مساحة اختبار أخرى لدراسات الاتصال، هو فقدان شيء كانت قيمته مُستمَدة دائمًا من الكثافة والتركيز اللذَين تَستدعيهما الأفلام وتستلزمهما أحيانًا.
شجع ظهور التكنولوجيا الرقمية زيلينسكي وآخرين على رفع أبصارهم عن السينما التقليدية بوصفها الهدف الرئيسي لما أخذ اسم دراسات السينما. وبالفعل، يبدو العمل الأكاديمي مشتَّتًا، على الأقل لحظيًّا؛ حيث حَيَّدت مسائل الوسائط الجديدة والعمليات الرقمية الموضوعات النظرية الأخرى في المنشورات والمؤتمرات أو احتلَّت موقعها. ظهرت مجموعة أخرى من التصوُّرات في كل مستوًى، من الإنتاج إلى المشاهَدة. وبدلًا من تأييد التصريحات التي ظهرت في الألفية الجديدة بشأن التحول الكامل لنطاق الوسائط الإعلامية أو شجبها، دعونا نستغل فرصة الانعطاف الرقمي للسينما الذي لا يُمكن إنكاره، لإعادة التفكير في ماضي الفن السينمائي وقدرته الكامنة.
أقصد هنا تقديم فكرة جد مختلفة عن السينما، وهي فكرة لا تتوافَق مع أيٍّ من عنوان كيوبيت أو نصوص مانوفيتش: فالسينما ليست — أو لم تكن دائمًا — وسيطًا يتعلَّق بالمؤثرات الخاصة في المقام الأول. الأفلام، التي يهتم بها بعضنا أكبر اهتمام، ويعتبرونها محورية لمشروع السينما كله، لها مَهمة أخرى مختلفة تمامًا عن الكذب أو الإثارة؛ تهدف للاكتشاف والالتقاء والمواجهة والإفشاء. إذا كان هناك شيء يتعرض للخطر بسبب الثقافة السمع-مرئية الرقمية الجديدة، فإنه الشهية لهذه اللقاءات التي يُمكن أن تنتجها هذه الرحلات الاستكشافية. من الواضح أن كثيرًا من الناس يَشعرون أن العالم، والبشر الذين يَسكنونه، تمَّ استكشافهم بما يكفي، ولم يَعُد هناك ما يُنتظر إعلانه، على الأقل في وسيط يهيمن عليه الترفيه والإعلان.
من قبيل المفارقة أن عددًا من رحلات الاستكشاف السينمائي العظيمة الأولى انطلَقت في خدمة الدعاية والإعلان. فقد موَّلت إحدى شركات تجارة الفِراء فيلم «نانوك ابن الشمال» («نانوك أوف ذا نورث»؛ روبرت فلارتي، ١٩٢٢)؛ وموَّلت شركة ستروين فيلم «الرحلة السوداء» («بلاك جورني»، «لا كروازيير نوار»؛ ليون بوارييه، عام ١٩٢٤). وكما هو الحال مع صناع الأفلام، تحكَّم فلارتي وبوارييه فيما لديهما من موادَّ، وتلاعَبا بها ببراعة من أجل التأثير، لكنهما قاما بهذا بقدر من الصعوبة الواضحة؛ حيث تضمَّنت الصور والأصوات المسجلة نوعًا من المقاوَمة، مُحدثة اضطرابًا معبِّرًا ومهمًّا، أعتزم إبرازه في هذا الكتاب. أصر إدجار موران على ما يأتي تحديدًا: أنه بينما تعكس كل الفنون أحلامَنا ورغباتِنا، تفعل السينما هذا بشكل فريد من خلال العالم المادي نفسه، أو — بمزيد من الدقة — من خلال مضاعَفة هذا العالم. لذا فإن كل الأفلام هي عمليات استحضار خارقة تنتمي لنا جزئيًّا، وجزئيًّا فقط. هذا الشد والجذب بين ما هو بشري وبين ما هو غريب، بين ما هو شخصي وبين ما هو دخيل، الذي استُغِل في كل الفترات، وفي نماذج وأنواع لا حصر لها، تزايَدت أهميته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، حتى ظهور «الموجات الجديدة» العديدة في ستينيات القرن العشرين، التي يتجلى فيها بقوة.
تَنطبق فكرة السينما التي عبَّر عنها بازان بأفضل طريقة على كل الأفلام والأصناف والأنواع، في كل الفترات. إلا أن أبرز الأمثلة التي تُظهِر هذه الفكرة على نحوٍ واعٍ تَخطر على البال؛ مثل «نانوك ابن الشمال»، و«الأربعمائة ضربة» («ذا فور هندرد بلوز»، «ليه كاتر سون كوب»، ١٩٥٩) المُهدى إلى بازان. وإذ يخطو خارجَ نظام الاستوديو، بل يخطو حقًّا خارجَ الاستوديو؛ فإن فيلم «الأربعمِائة ضربة» وكذلك بطله الصغير، يبحثان عن الاكتشاف في حد ذاته. في أحد المشاهد الرمزية، يتجول أنطوان دوانيل، أثناءَ تغيُّبه عن المدرسة مع «زميله في الفصل»، في حديقة مَلاهٍ؛ حيث يدخل آلة طردٍ مركزي بشرية. يجسد المُمثل الصبي جون بيير لو شخصية دوانيل بطبيعته على أرض الواقع، ويجلس في وضعٍ مستوٍ على جانب الجهاز الدوَّار من الداخل. يبدو هذا الصبي — الذي لم يكن ممثلًا بعد — المُمدد في وضع النسر كمشهد أمام أعيننا، مُتسمِّرًا وعاجزًا، لكنه يُظهر شعورًا نقيًّا على مركبة تدور كالمِنظار المحيائي، وهي تحركه. تعرض لقطة عكسية العالم كما يراه دوانيل، انقلبت الكاميرا المعانقة للحائط رأسًا على عَقِب، ودارت بمعدَّل رهيب. يترنَّح لو الدائخ خارجًا من باب الجهاز الأسطواني، يتبعه فرانسوا تروفو، الذي نلمحه في الخلفية زميل الصبي أو أخاه الأكبر، أكثر من كونه المُخرج. في النهاية، سيخرج لو — هذا الصبي المجهول الذي اختير من بين مجموعة من الصبية في صيف عام ١٩٥٨ — في وضع دوراني إلى نهاية الأرض، حيث يلتفت ليُحدِّق في تروفو والمُشاهِد في لقطة ثابتة نهائية. ينتهي الفيلم بالخفوت التدريجي على لقطة مقربة لصبي تلقَّى تعليمه في الشوارع بمواجهة العالم ومواجهتنا. لن يتعرض لتلاعب «المُخرج» بشكل كامل، ولن نعرفه نحن تمامًا.

وجهُ لو ذو الأربعة عشر عامًا، بمنزلة أيقونة لغموض السينما، وسجلٌّ للقائنا المبهم مع صبي حقيقي يؤدِّي دورًا في قصة مسقطة على مدينة باريس منذ ٥٠ عامًا. اللقطة الثابتة، والتَّقطُّع الميكانيكي للأسطوانة، وظهور المُخرج الخاطف؛ كل هذا يرفع فيلم «الأربعمائة ضربة» لمستوًى تجريدي يُخالف واقعية صوره (الصبي والمدينة) والقصة التي يعرضها. هذا فيلم عن تطلُّعات السينما بقدر ما هو عن تطلُّعات جون بيير لو الذي لن تعود حياته كما كانت أبدًا. إنه تسجيل لمصاعب صناعة الأفلام ومتعها، وكذلك مصاعب المراهَقة ومتعها، واللحظة التي ينفصل فيها الصبي اليافع عن والديه. في صدفة رمزية ومؤثِّرة، تُوفي بازان في ١١ نوفمبر ١٩٥٨، وهو اليوم الذي بدأ فيه تصوير «الأربعمائة ضربة». سارع تروفو ليكون بجانب معلمه ومربِّيه في لحظاته الأخيرة. الفيلم الذي طالَما قرئ على أنه سيرة ذاتية هو أيضًا فيلم عن فكرة السينما التي دعمها بازان ونقلها للابن.
في لحظة وعي ذاتي أخرى، يذهب لو وصديقه ليختبئا في السينما ثم يعودان لاحقًا إلى دار العرض، ويَنزعان صورة للمُمثلة الفاتنة هارييت أندرسون التي تؤدي دور مونيكا في فيلم «صَيْف مع مونيكا» («سمر ويذ مونيكا»، «سومارن مِد مونيكا»، ١٩٥٣). من وجهة نظر تروفو وكل النقاد المتجمِّعين من حول «كاييه دو سينما» في سنواتها الأولى، كانت مونيكا أيقونة للنزعة الجنسية المتحرِّرة، وكان برجمان رمزًا لصناعة الأفلام المتحرِّرة. بانجذابه للفيلم نفسه، قال جودار إن بازان علَّمه كيف يَنتبه ويفهم العلاقة المُبهرة بين الممثلة والمُشاهِد غير المتاحة في السينما الكلاسيكية. تومئ هارييت أندرسون لنا برأسها بخُبث، مثلما تفعل جولييتا مازينا في نهاية فيلم «ليالي كابيريا» («ذا نايتس أوف كابيريا»، «لي نوتِّي دي كابيريا»؛ فيليني، ١٩٥٧)، ودعوني أُضِف: مثل جون بول بلموندو في بداياته في فيلم «منقطع الأنفاس» («بريثلس»، «آ بو دو سوفل»؛ جودار، ١٩٦٠).

من الواضح أن بازان أقرَّ الخيال المراهق لمُمثلة تخرج من الدور، وتكاد تُغادر الشاشة، لتتفاعَل مباشرة مع المُشاهِد المُتيَّم. لكن دعونا لا نتسرع في ذم المراهَقة، وهي فترة التساؤل والوعي بالذات. أدرك بازان وجودار أن المُمثل شخص وشخصية في الوقت نفسه، ليس حيًّا فقط داخل العالم التخيُّلي، ولكنه، بوصفه إنسانًا، حاضرٌ لدى المُشاهد أيضًا. لا ينتقص الوعي بالذات من الخيال (بالضرورة على الأقل) لكنه يَسمح لنا برؤية الشرارة التي تقفز من العالم إلى داخل العمل. «لإعادة اختراع السينما» أو «لصنع فيلم وكأنه للمرة الأولى»؛ مثل هذه المقولات يُمكن أن يعيد اقتباسها فقط من عرفوا تاريخ السينما عن ظهر قلب، ومُخرجي «الموجة الجديدة» الذين درسوا في المعهد السينمائي الفرنسي، الذين اعتبروا أنفسهم بفخر أول جيل يَمتلك مثل هذه المعرفة. كان الوعي الذاتي يُفهَم بشكل مُتناقِض بوصفه شرطًا لإعادة السحر للسينما.


•••
•••
لكي نَكتشِف هذه الفكرة القوية عن السينما ثم نواجهها، أقترح أن نقوم برحلة قصيرة في مجالٍ خضع بالفعل لسيطرة نظرية الفيلم التقليدية، ولرعايتها على وجه الخصوص. وبينما يُمكن تقسيم النقد الأدبي إلى أفكار متعلقة بالنصوص وأفكار متعلقة بالقراءة، مالت نظرية الفيلم للانقسام إلى ثلاثة ميادين من البحث، تتطابق مع مراحل أو لحظات التشكُّل الثلاث التي يمرُّ بها أيُّ فيلم وهي: التسجيل، والتركيب، والعرض. ويُمكن ربط كل مرحلة بجهازها الأساسي المخصَّص لها: الكاميرا، والموفيولا (آلة التحرير)، وجهاز العرض. يُمكن الإلقاء باللوم في محنة نظرية الفيلم، إن لم تكن محنة السينما نفسها، على التعديل والتحديث أو التوقف عن الاستخدام لكل واحدة من تلك الآلات بعد أن حلَّت تقنية القرن الواحد والعشرين الرقمية محلَّ آلاتٍ ترجع بالفعل إلى القرن التاسع عشر. يُعتقد أن التقنية الرقمية تُتقن أي عمليات كان سَلَفاها التناظُري أو اليدوي مُعدَّين لأدائها. تحسِّن التقنية الرقمية تلك العمليات وتُوسِّعها وتُبدِّلها، مؤدية إلى تحقُّق السيطرة الكاملة. وتدفعنا مثل هذه الثورة التقنية للعودة إلى العمليات الأساسية للسينما، مرحلةً تلو أخرى، لرؤية ما تبقى من ظاهرة السينما بعد التغييرات الكاسحة التي حدثت على مدار العَقدين الماضيين.
هذه العمليات هي واجهات تفاعلية بين البشر وعالمهم الخارجي. كل واحدة من تلك الواجهات التفاعلية المُسماة بِناءً على الجهاز السينمائي المناسب لها، تستحق فصلًا كاملًا من النقاش، في ظل وجود ضغط ناجم عن ظهور التقنية الرقمية على الأفكار التي نضجت في منتصف القرن العشرين. ويفرض فصل إضافي نفسه، وهو مخصَّص لأولوية «الموضوع» والمكان الخاص الذي يشغله في نظرية الفيلم وفي النقد؛ لأنه إذا كان بازان على صواب، فإن السينما حققت ذاتَها — وتستمر في التطور كما هي — من خلال عمليات مواجهتها وتكيُّفها مع العالم الذي صُنعت من أجله. تشكل الموضوعات الرئيسية للفصل الأخير، أي افتقار السينما المتأصِّل للنقاء ومَيلها للتكيُّف، الاتجاه العام لمَهمة هذا الكتاب المتناقضة: تحديد السمات الدائمة لظاهرةٍ لا توجد إلا مرتبطة بشيء مُتجاوز لها.