مقدمة

أولًا: من «العقيدة والثورة» إلى «النقل والإبداع»

(١) النقد الذاتي

«من النقل إلى الإبداع» المحاولة الثانية لإعادة بناء علوم أصول الدين في مشروع «التراث والتجديد» في جبهته الأولى «موقفنا من التراث القديم» من أجل إعادة بناء العلوم الإسلامية طبقًا لظروف العصر.١
ولما كان بناء الشيء لا يظهر إلا بعد اكتماله، وعيوبه لا تظهر إلا بعد خلقه، وكان النقد الذاتي والتعلُّم من التجارب السابقة طريق الإصلاح والتغيُّر والاتجاه نحو الكمال، بدا «من العقيدة إلى الثورة» محتويًا على عدة عيوب رئيسية لا تتعلق بالموضوع ولكن بطريقة العرض، ليس في المضمون ولكن في الشكل. واستدعاء الذكريات في لحظات الخلق السابقة جزء من عمليات الخلق القادمة؛ فالذاكرة رصيد الشعور ومادته الأولى، وهو العنصر الرئيسي المكوِّن للوعي التاريخي. والنقد الذاتي سُنَّة متَّبعة في مشروع «التراث والتجديد» من أجل تطويره وإكماله من الداخل في عملية خلق مستمرة أشبه بسيرةٍ ذاتية يتخلَّق فيها الموضوع من خلال الذات. ويمكن تلخيص هذه العيوب على النحو الآتي:٢
  • (أ)
    لم يحدث التوازن المطلوب بين التراث والتجديد؛ فقد خرج أقرب إلى التراث منه إلى التجديد، يغلب عليه تحليل القدماء أكثر من تحليل المعاصرين؛ فيتناول الموضوعات القديمة أكثر مما يبيِّن أثرها كمخزون نفسي في سلوك الأفراد والجماعات ووعيهم بالتاريخ، أقرب إلى القلة من المتخصصين منه إلى مجموعة المثقفين، وباختصار أقرب إلى العقيدة منه إلى الثورة. كان السبب في ذلك أنه بالإضافة إلى صعوبة إيجاد ميزان متعادل بين القديم والجديد، كان يتم الانتقال أحيانًا من القديم إلى الجديد قفزًا بعد أن يتم الاستغراق في القديم دون القدرة على الخروج منه خروجًا طبيعيًّا منتقلًا إلى الجديد؛ لذلك خرجت قفزات قديمة وأخرى جديدة متجاورات دون الانتقال بين الاثنين على نحوٍ طبيعي متصل كتوالد طبيعي.٣ كان فك القيد من القدماء هو الهم الغالب على تثوير المحدثين، فما أسهل التثوير إذا ما كُسرت القيود. والتحرر من الماضي هو شرط الثورة في الحاضر، والتخفيف من ثِقَل الحِمْل هو إسراع في التقدم. كان الغالب هو الفكر السالب؛ فالسلب أقوى من الإيجاب، والهدم يسبق البناء، والرفض متقدم على القبول خاصةً في عصرٍ يُخشى من الرفض والتمرد والنفي، ويغلب عليه القبول والتسليم، ويُلاحق فيه المفكرون والمبدعون. كان القصد هو التحرر من المنبع، وخلخلة الجذور حتى يتحقق التثوير خاصةً بعد فشل تجاربنا الحديثة في النهضة في القرن الماضي، والثورة في هذا القرن، عودًا إلى بدأ، ورجوعًا إلى المنبع والجذور الأولى في السكون والخوف والاستسلام. كانت خلخلة الحائط المنيع من الأساس، مرةً إلى الأمام ومرة إلى الخلف تكفي لأية هبَّة ريح لاقتلاعه بدلًا من خبط الرأس فيه فتسيل الدماء. كان يكفي وضع بعض الزيت على المزلاج الصدئ وتحريك المفتاح مرتين فتحًا وغلقًا حتى يكفي ذلك لأية ريح تفتحه بدلًا من ضربة رأس تُسيل الدماء ولا ينفتح الباب.
  • (ب)
    غلب على الكاتب منهج العرض أكثر من منهج التحليل، عرض أقوال القدماء، ثم الدخول معها في حوار من أجل مراجعتها ثم خلخلتها والشك فيها دون تحليل النص وبيان مكوناته، كيف نشأ وتطوَّر ثم انغلق حتى تحوَّل إلى سلطة. كانت الغاية من العرْض كشْف القدماء، وإعادة بسْط فكرهم حتى تسهُل رؤيته، والتعرُّف على بنيته ثم التصويب عليه بعد أن أصبح لوحة مكشوفة. غلب على الحوار مع القدماء أسلوب المواجهة من الأمام وليس أسلوب الالتفاف من الخلف؛ لذلك صعُبت معرفة أين ينتهي العرْض وأين يبدأ النقد؟ متى ينتهي كلام القدماء ومتى يبدأ كلام المحدثين؟ أين ينتهي النص القديم ومتى يبدأ النص الجديد؟ كان يمكن إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد عن طريق منهج القراءة وآليات التأويل، وهو ما كان يحدث أحيانًا، ولكن الخطورة كانت في ضياع النصين معًا، القديم والجديد، وبالتالي يتوارى التمايز والتقابل بين القدماء والمحدثين. وكان قد تم استعمال هذا المنهج من قبلُ في «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، ولم يكن مُرضيًا بسبب خروج نص يختفي فيه التمايز بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، مجرد قراءة لا أساس لها ولا منطق، عمل فلسفي خالص، ذهنان يتحاوران في لا زمان ولا مكان بهدف بيان إمكانية التجاوز والانتقال من مرحلة تاريخية قديمة بأسلوبها ومناهجها وموضوعاتها إلى مرحلة تاريخية جديدة مخالفة في تطلعاتها ووسائل تعبيرها وأهدافها، وسُمِّي ذلك منهج النقل؛ أي مجرد إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد، مستعملة لغة العصر، مثالية الشعور، ومنهج العصر، منهج تحليل التجارب الشعورية تحت تأثير الحركات الإسلامية المعاصرة.٤
  • (جـ)

    أتى مُسهبًا، مُطوَّلًا، وكأنه موسوعة جديدة في علم العقائد منذ «المُغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار. وبالتالي استحال عمليًّا الاطلاع عليه من الجمهور لإحداث التثوير المطلوب. يُوضع في المكتبات العامة وليس في المكتبات الخاصة، يُحمل على المناضد وليس بيانًا يُوزَّع على الناس في الشوارع. أوغل في التفصيلات الجزئية حتى ضاعت الرؤية الكلية، فلم يتحقق القصد من التثوير. كان الهدف هو العلم الدقيق قبل الأيديولوجيا، وحتى لا يتهم الكتاب بأنه ضحَّى بالأول في سبيل الثاني. كان الهدف أيضًا مبارزة القدماء ضربة بضربة وطعنة بطعنة حتى يتم الانتصار عليهم في جولات متعددة وليس بالضربة القاضية. كان المطلوب تقويض الأسس النظرية التي قامت عليها تحليلات القدماء، وكان لا بد من خلخلتها. واقتضى ذلك التعامل مع الجذور جزءًا جزءًا حتى لا تُقطع الجذوع والجذور باقية فتُنتِج جذوعًا أخرى. وعِلم الكلام ذاته عِلم حِجاج وجدال وصنعة أدلة وبراهين، بل إن إثبات الشيء مرهون بالدليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه بمنطق الأصوليين. كان العذر في ذلك ألا يترك تحليل المحدثين صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة، عرَضها القدماء حتى يتم تذويب الماضي كله في الحاضر، والقضاء على تكلُّسه وقدْرته على التأثير في التاريخ. ولكن العيب في العصر الذي يبغي الاطلاع السريع، والتعامل مع أجهزة الإعلام، وملء الفراغ الثقافي والتعامل مع الثقافة في الأمد القريب، وليس تحليلًا لجذورها التاريخية على الأمد البعيد. هو عصر ثورة المعلومات التي يهمها نقلها من أطراف الأرض إلى أطرافها بصرْف النظر عن مضمونها.

  • (د)
    جاء التبويب أقرب إلى القدماء منه إلى المعاصرين، ليس فقط في البنية الثلاثية للعلم: المقدمات، والإلهيات (العقليات)، والنبوات (السمعيات)، بل أيضًا في ألفاظه ولغته، مثل الذات والصفات والأفعال، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل والإمامة، مما يسهُل على أهل التخصص المعاصرين تصنيفه ضمن العقيدة أكثر من تصنيفه ضمن الثورة. لم يكن هناك إشكال في المقدمات النظرية (المجلد الأول)؛ فقد وصلت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى أكبر قدْر ممكن من التعقيل والتنظير والتعميم، متجاوزةً العقيدة إلى المبادئ العامة؛ أي إلى الأوَّليات التي تقوم عليها أية عقيدة.٥ كما أن «التوحيد» (المجلد الثاني) و«العدل» (المجلد الثالث) أقرب إلى العموم منهما إلى الخصوص، وإلى العقل منهما إلى النقل؛ فلفظ «التوحيد» لفظٌ فلسفي وميتافزيقي ووجودي، وليس بالضرورة لفظًا عقائديًّا. إنما كان الإشكال في «السمعيات» التي غلبت عليها الألفاظ العقائدية: النبوة، والمعاد، والإيمان، والعمل، والإمامة؛ لذلك آثرنا وضْع اللفظ الجديد تحت اللفظ القديم؛ فالتوحيد هو الإنسان الكامل، والعدل هو الإنسان المتعين. والنبوة والمعاد يشيران، إلى التاريخ العام؛ والإيمان والعمل والإمامة يشيران إلى التاريخ المتعين. في الظاهر البنية القديمة لم تتغيَّر، الإلهيات والسمعيات. وفي الحقيقة تغيَّرت لأنه أمكن تحويل هذين القسمين للعقائد إلى بُعدين جديدين ينقصان في وجداننا المعاصر، الإنسان والتاريخ. آثرت الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون، الشكل القديم لجذب القراء القدماء والأزهريين وعلماء أصول الدين، والمضمون الجديد لجذب القراء المحدثين والجامعيين والثوريين. وبلغة التضاد العصري، الأول لجذب السلفيين، والثاني لجذب العلمانيين، تحقيقًا للمصالحة الوطنية بدلًا من الاقتتال وسفك الدماء في الجزائر ومصر. والأفضل الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون من تغيير الشكل والإبقاء على المضمون.٦
    كان يمكن في مرحلة أخرى أن يصبح للجديد الأولوية على القديم، ولكن تضخم العمل في خمسة مجلدات جعل أي إضافة له بمثابة انتحار عملي. كما أن زيادة الجديد على القديم قد تقلِّل من آليات التخفي والحذَر، وبيان إمكانية خروج الجديد من القديم كما تنص البعير بإخراج رأسها دون جسدها وترك إكمال الخروج لأجيال قادمة؛ فالتغيير على الأمد الطويل خير من الفرقعة على الأمد القصير. ومع ذلك فإن علوم الحكمة أكثر أمانًا من علم أصول الدين، وعلوم للخاصة وليست علومًا للعامة. فهل يؤدي ذلك إلى أن يكون للجديد الأولوية على القديم، وأن يتجه نحو الإبداع أكثر مما يتجه نحو النقل؟ إن الإسراع بمعرفة النتائج دون المقدمات، وبالحصاد قبل الزرع، وبالثمار قبل البذور، أمر بشري. ولكن التأسيس والتأصيل والبرهان ضرورة علمية؛ لذلك قد يغلب القديم على المجلدين: الأول «النقل»، والثاني «التحول». وقد يبدأ الجديد في المجلد الثالث «الإبداع» على حذَر؛ فالأفضل أن يتولَّد الجديد من القديم، وأن يخرج الإبداع من النقل على نحوٍ طبيعي، وربما على نحوٍ خفي يصعب استئصاله.٧
  • (هـ)
    زادت نسبة الهوامش والنصوص الحرة مما جعل الكتاب مثقلًا متضخمًا، قد لا ترن في آذان جميع القراء، وقد لا تثير عواطفهم ووجدانهم. بدت تكرارًا لا فائدة منه. كان من الأفضل أخذ عبارات دالة أو تحليلها حتى تتحول إلى نصوص مدروسة وليس مجرد نصوص خام. وقعت مغالاة في إيراد النصوص حتى إنها بلغت نصف كل صفحة؛ أي نصف الكتاب، مجلدان ونصف من خمسة مجلدات، وأين القارئ اليوم الذي يستطيع استيعاب ذلك كله؟ ألا يؤدي ذلك التضخم إلى عكس المطلوب، أن تصبح العقيدة من عمل الخاصة وليست تنويرًا للعامة؟ كان الهدف إشراك القارئ مع المؤلف في نفس التجارب، التعامل مع نصٍّ قديم مثير للأذهان، ومقلِق للأعصاب، إشراكهم في الغضب والثورة، خاصةً فيما يتعلَّق بنصوص السلطان، وإشراكهم في التأييد والدفاع، خاصةً عن نصوص المعارضة وإبرازها للمعاصرين. فالجرأة في العقائد لها ما يساندها أيضًا عند القدماء في تراث المعارضة الذي ضُربت حوله مؤامرة الصمت وأصبح في طي النسيان. وقد يكون العذر في ذلك استعمال بعض آليات التخفي؛ فعلم العقائد ليس من السهل التعرُّض لنصوصه بالفهم والتأويل بعد أن أصبح علمًا مقدَّسًا في الأذهان، وأصبح إنتاج القدماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالنص القديم المثير للغضب يشارك القارئ فيه وينفعل به غاضبًا نظرًا لتجدُّد حاجات العصر. والنص القديم المثير للتأييد والدفاع عن حاجات العصر يحمي المؤلف من الاتهام بالخروج على السلف وأقوال القدماء. لو كان في النص القديم شرٌّ فهو منهم ننقطع عنه، ولو كان فيه خير فهو مِنَّا نحرص عليه. لو أثار النص الجديد أنصار القديم فهو نص القدماء، ولو أعجب النص القديم أنصار الجديد فهو نص المحدثين. ولا فرق في آليات التخفي بين استعمال نصوص القدماء أو نصوص المحدثين.٨ ومع ذلك لم يسْلم الكتاب من الهجوم عليه من غير المتخصصين والمزايدين، والمتملقين للأذواق العامة، والراغبين في الشهرة، والحريصين على السيطرة على الرأي العام، شفطًا للدولة والمجتمع من أسفل، بدلًا من الانقلاب عليهما من أعلى، مجرد زوبعة لم تتحوَّل إلى إعصار.
  • (و)
    غابت التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تبيِّن نشأة الأفكار والعقائد القديمة وحاجات العصر الحديثة وتجاربه ومطالبه، وحتى لا تبدو الأفكار طائرة في الهواء، لا مستقر لها ولا مكان. غاب البحث في تكوين النصوص وتدوينها وصياغة العقائد وتكلسها حتى يمكن بيان نشأتها في التاريخ قبل أن تصبح مقدَّسًا خارج التاريخ مع أن البحث في النشأة والتكوين كان جزءًا من التراث والتجديد.٩ وكان الاستماع إلى هذا النقد المستمر من علماء الاجتماع والمؤرخين يهزُّ الأعماق ويجد له مهربًا في تحليل الشعور. كان يشفع في ذلك أن المنهج المختار يبرأ عن رد الظواهر إلى أسبابها الاجتماعية فحسب، ويؤثِر إبقاءها تصوراتٍ في الذهن وأبنيةً في الشعور في مجتمعات تراثية ترى حقائق مطلقة في وعيها، وأن وحيها خارج التاريخ. ومع ذلك فإن بيان نشأتها في ظروفٍ اجتماعية معينة، وفي أتون الصراعات السياسية، يساعد على استعمالها في عصرنا كسلاح فكري بدلًا من ممارسات المعارضة استنادًا على تراث السلطة. الأفكار والعقائد وظائف اجتماعية وفاعلية في الجدل الاجتماعي، ولكن خشية الوقوع في منطق النشأة والتكوين حدَثَ ردُّ الفعل في الوقوع في منطقة البنية والماهية المستقلة. والجمع بين التاريخ والبنية في منهج مزدوج يفي بالمطلبين، حق الواقع الحامل للفكر، وحق الفكر المستقل عن الواقع. ولا ضيرَ أن تتكامل المناهج، وأن تتكاتف الجهود، وأن تتعدَّد الرؤى، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له.١٠
  • (ز)
    غياب المقارنات مع الفكر الغربي بوجه عام ولاهوت التحرير بوجه خاص حتى يجد الكتاب مستقرًّا له وميدانًا وعلمًا قائمًا يربط نفسه به ويضع نفسه فيه. وإذا كانت الغاية من «التراث والتجديد» هو التحديث، فأين الحداثة؟ كان الخوف من المقارنات ناشئًا عن رفض التحديث من الخارج عن طريق الانتساب إلى رؤية أو مذهب أو منهج غربي، ثم قراءة التراث ابتداءً منه، إسقاطًا أو قراءةً أو تحليلات، وإيثار التحديث من الداخل بفعل الاجتهاد، وإعادة قراءة القديم بناءً على متطلبات الحديث وحاجات العصر.١١ كانت النية حاضرة، وما زالت، في كتابة دراسة خاصة عن لاهوت التحرير عرضًا ومناقشةً ونقدًا، إهداءً إلى الأخوة أقباط مصر، لبيان إمكانية تثوير الدين إذا كان ما زال يغلب عليهم الاتجاهات المحافظة ومساعدتهم على التحديث والعلم بما يدور حولهم من اجتهادات النصارى في الخارج.١٢ كان يمكن إكمال هذا النقص في الهوامش لمن شاء المقارنة، وإثارةً للأسئلة، وتفتيحًا للموضوعات، ووضعًا لبرامج في المستقبل لجيل جديد من الباحثين. ربما ما زال هناك فصل حادٌّ بين الجبهتين الأولى: موقفنا من التراث القديم، والثانية: موقفنا من التراث الغربي، كرد فعل على التعالم باستعمال الثقافة الغربية والزهو بمعرفتها، والدراية بأسماء أعلامها ومذاهبها، وحتى يحظى الباحث بحظوة تجعله أقرب إلى المحدثين منه إلى القدماء، وتخفيفًا للشعور بالنقص من القدماء أمام المحدثين.
  • (ﺣ)
    غلبة الإنشائية على المقدمة والخاتمة، وبعض أجزاء الخطاب في الداخل جعل العلماء ينأون عنه والسياسيين يبرءون منه. والإنشائية أيديولوجيا وليست علمًا، وعظًا وليست تحليلًا، خطابةً وليست برهانًا. وأخذ البعض ممن لا يقوى على الصبر هذه الأجزاء الإنشائية لنقد الكتاب كله وبالتمايز عنه، وهم علماء لا خطباء، عقلانيون لا دعاة. كان السبب الإجرائي هو أن «التراث والتجديد» كان مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، فلما صدر بمفرده قبل صدور الكتاب بثمانية أعوام، جاء الكتاب خاليًا منها ومن أية مقدمة أخرى. وطال الوقت بحثًا عن مقدمة بديلة، وأخيرًا استقر العزم على تقليد القدماء بعد معرفة مقدماتهم. وكانت في معظمها مدحًا لله وللسلطان. وجاءت مقدمة الكتاب قلبًا لمقدمة القدماء، كما أن الكتاب كله قلب لعلم الكلام القديم رأسًا على عقبة، انتقالًا من مدح السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب. وجاءت الخاتمة أقل إنشائية أيضًا، قلب للقدماء من الفَرْق بين الفِرَق إلى الجمع بين الفِرَق، ومن الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية. وكان السبب الفعلي هو أن الجمهور جزء من الخطاب حتى يحدث أثره فيه. ولما كان للجمهور لغته وأسلوبه، غلبت بعض الإنشائية في التحليل تحقيقًا لهدف الانتشار في الغالبية على التأثير في الأقلية، وإيثارًا للعلم النافع على العلم الخالص؛ فالعلم حركة وتغيُّر ونشاط وفاعلية وتاريخ. ليس الهدف من العلم النظر بل العمل. والنظر ما هو إلا مقدمة للعمل، وقد يكون البحث النظري الخالص أحيانًا ترفًا لا قِبَل للتاريخ به إذا كان المنزل يحترق ويحتاج لمن يطفئ النار. صحيح أن البحث النظري على الأمد الطويل هو الحل الجذري، ولكن في مجتمعات مستقرة استطاعت أن تفي بالحد الأدنى من الخدمات والحاجات الأساسية والاستقلال والكرامة والوطنية. وهناك الأسلوب الفلسفي الذي يجمع بين التحليل العلمي والأسلوب الأدبي، يعرفه الخاصة والعامة، ويفي بشروط البحث النظري والبيان للناس.١٣
  • (ط)
    لم يُحدث «من العقيدة إلى الثورة» الأثر المطلوب، ولم تَقُم الدنيا ولم تقعد. لم يحدث تحوُّل في عقائد الناس، ولم تقع هزة في أروقة المتخصصين، بل ربما زادت العقيدة تكلسًا وتشيؤًا، وانقلبت الثورة على نفسها في ثورة مضادة. يرن عن بُعد وليس له إلا رجع الصدى، ربما لتضخمه مما جعل البعض يطلب اختصاره في جزء واحد.١٤ ربما لهموم الناس اليومية وانشغالهم عن العلم التأسيسي على الأمد الطويل. ربما لأننا نعيش في عصر الاستقطاب بين العقيدة والثورة؛ أي بين السلفية والعلمانية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء، وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب في العالم وبداية العولمة عند غيرنا. ربما ليس له منبر شعبي يبسطه للناس وتُقام فيه معاركه بالرغم من محاولة ذلك في «اليسار الإسلامي». ربما ليس له جماعة تطوِّره كما هو الحال في الجماعات والمدارس التي تنشأ حول المذاهب وأصحابها. ربما ليس له حزب يتبناه؛ فقد كبا الإصلاح الذي أراد «من العقيدة إلى الثورة» إقالته من عثرته وتطويره من أجل لمِّ الشمل والوحدة الوطنية.١٥ ربما ليس له حزب ثوري يقوم بتحويل الأيديولوجيا الثورية إلى ممارسات ثورية بالرغم من التنبيه على ذلك سلفًا في «التراث والتجديد».١٦ ربما لأن الإعلام والثقافة والتعليم ما زال كل ذلك تحت سيطرة الدولة التي تستعمل العقيدة لإيقاف الحراك الاجتماعي والدفاع عن الوضع القائم بلسان فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، وتستعمل الثورة ضد العقيدة بفضل مثقفي الدولة وأجهزتها، تضرب هذا بذلك مرة، وذلك بهذا مرة أخرى حتى يضعف الجناحان ويقوى القلب. والكل يريد السلطة القائم فيها والمعارض لها، والثقافة لعبة السياسة، والوطن هو الخاسر.١٧

(٢) من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة

كان من الطبيعي أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة بعد «من العقيدة إلى الثورة» محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، وكما تم الإعلان عن ذلك في مشروع «التراث والتجديد» لعدة أسباب، أهمها:
  • (أ)
    علم أصول الدين وعلوم الحكمة كلاهما علمان نظريان يؤسِّسان عقائد ونظريات في مقابل العلمين المنهجيين اللذين يؤسِّسان مناهجَ وطرقًا، علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وعلى الرغم من وجود موضوع منهجي في علم أصول الدين، وهو «العقل والنقل»، وموضوع منهجي آخر في علوم الحكمة وهو «المنطق»، إلا أن الطابع العام للعلمَين هو الطابع النظري. وهذا لا ينفي وجود فكر عملي أخلاقي سياسي في كلا العلمين، الإيمان والعمل والإمامة في علم أصول الدين؛ وعلم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل في الحكمة العملية في علوم الحكمة، ولكنه فكري عملي نظري؛ أي دراسة نظرية خالصة لموضوعات الأخلاق والسياسة والاقتصاد.١٨
  • (ب)

    علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وإعادة تفكير في نظرية العلم التي تحوَّلت إلى منطق، ونظرية الوجود التي تحولت إلى طبيعات، والإلهيات التي ظلت إلهيات، والسمعيات أو النبوات إلى نفسانيات أو شرعيات، كما هو الحال عند إخوان الصفا بإضافتهم قسمًا رابعًا إلى علوم الحكمة. المنطق تطوير لنظرية العلم، والطبيعات تطوير لنظرية الوجود، والإلهيات؛ أي نظرية واجب الوجود وتطوير لنظرية الذات والصفات والأفعال. وقد كان الفلاسفة الأوائل متكلمين قبل التحوُّل إلى فلاسفة بفضل قراءة الوافد بالإضافة إلى الموروث مثل الكندي. ويقل الكلام تدريجيًّا حتى تبتلعه الفلسفة كما هو الحال في علم الكلام المتأخِّر ابتداءً من القرن السادس.

  • (جـ)
    علوم الحكمة أيضًا تطوير طبيعي لعلم أصول الدين من حيث منهج الاستدلال؛ فبينما يعتمد علم أصول الدين على الدليل النقلي والدليل العقلي، فإن علوم الحكمة تعتمد في الغالب على الدليل العقلي وحده. صحيح أن الدليل النقلي وحده دون دليل عقلي دليل ظني طبقًا لنظرية العلم في علم أصول الدين، وأن العقل أساس النقل عند المعتزلة، وأن مَن قدح في العقل فقد قدح في النقل لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول عند ابن تيمية، ومع ذلك فإن استعمال الدليل النقلي يعادل استعمال الدليل العقلي في علم أصول الدين.١٩ أمَّا علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده؛ فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوُّع الشرائع وتعدُّد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلمًا قبل أن يصبح فيلسوفًا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة، فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب.
  • (د)
    علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وتحوُّل للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». لقد وضع علم أصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طوَّرتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالًا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل أنطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضًا من مباحث الأنطولوجيا، ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية؛ أي الجوهر والأعراض، منها إلى الأنطولوجيا العامة.٢٠ وصحيح أيضًا أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحوُّلها إلى تصورات؛ فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قِدَم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل إثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداءً من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبدُ على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة.
  • (هـ)

    علم أصول الدين عِلم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعدُ إلى علم الإلهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السميعات. في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمايزت فيها علوم المنطق والطبيعات والإلهيات طبقًا للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تُعتبر علوم الحكمة أكثر تطورًا من علم أصول الدين من حيث تحوُّل العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة إلى علم أصول الفقه؛ فقد تمايزت العلوم داخل التصوف لدرجة أن كل مقام أو حال أصبح علمًا في حين ظل علم أصول الفقه علمًا واحدًا، وكما تدل على ذلك تسمية كل علم بالجمع أو المفرد. ولا تدل وحدة علم أصول الفقه على تأخُّره، بل على وحدة النسق العلمي بالرغم من اعتماده على علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ المستمدين من علوم القرآن. ولا يدل تعدُّد علوم التصوف على تقدُّمها بل على تشعُّبها.

  • (و)
    علم أصول الدين يتعامل أساسًا مع الداخل، مع الموروث الديني، في حين تتعامل علوم الحكمة أساسًا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثًا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضًا مع الخارج، ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولى أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها.٢١ كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات، في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل.٢٢ كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر، خاصةً في البداية وعلى مستوى العقائد، في حين كان هدف علوم الحكمة تمثُّل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة، إلا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أمَّا علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبِّر عن تصوُّرات عامة وشاملة للكون اعتمادًا على الثقافة الوافدة، ومن خلال مفاهيمها وألفاظها وتصوراتها. فإذا كان علم أصول الدين رؤيا للأنا من خلال الأنا وواقعها، فإن علوم الحكمة رؤيا للأنا من خلال تفاعلها مع الآخر.
  • (ز)

    كانت العقائد للعامة، وكان المشتغلون بعلم العقائد أكثرية حريصة على عقائد العامة، في حين كانت علوم الحكمة للخاصة، وكان المشتغلون بها أقلية تصدم عقائد العامة. كانت علوم العقائد تُدرَّس في المساجد، في حين حمل لواء علوم الحكمة أفراد قلائل متَّهمون بالكفر من خطباء المساجد وأئمتها. صحيح أن الغزالي قد دعا إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، كما أن رسائل إخوان الصفا كانت تعبِّر عن الثقافة الشعبية، إلا أن الغزالي كان يود إبعاد العامة عن طرق النظر حتى تظل في اختيار التصوف لها كطريق. وإن إخوان الصفا في النهاية كانت من الصفوة المختارة والأقلية المثقفة. كان علماء الكلام من الحرفيين وتجار السوق، كان منهم النجار والعلَّاف والغزَّال، في حين كان الفلاسفة من العلماء والوزراء وعلية القوم وندماء البلاط. وإذا كان علم أصول الدين مستمرًّا كمخزون نفسي عند الجماهير، خاصةً فيما يتعلق بتراث السلطة، فإن علوم الحكمة قد انقطع الاتصال بها لأنها كانت أقرب إلى الدوائر الخاصة المغلقة منها إلى الثقافة العامة لم يبقَ منها شيء في وعي الجماهير إلا جانبها الإشراقي من خلال التصوف. ومن هنا ارتبطت ثقافة الجماهير بعلم أصول الدين أكثر من ارتباطها بعلوم الحكمة. بينما ارتبطت ثقافة الصفوة بعلوم الحكمة أكثر من ارتباطها بعلم أصول الدين. وبدلًا من علوم الحكمة القديمة انتشرت الثقافة الغربية المعاصرة كوافد حديث يملأ فراغ الموروث القديم. كما انتشرت أيضًا بين الخاصة دون العامة.

  • (ﺣ)
    كان هدف الفرقة الناجية من بين الفِرَق الهالكة تدعيم السلطة دفاعًا عن النظام القائم، بينما كان الغرض الأساسي من علوم الحكمة تقويض السلطة القائمة من الداخل؛ إذ انتشرت في الجماعات السرية مثل إخوان الصفا، وارتبطت بفِرَق المعارضة العلنية مثل المعتزلة، أو السرِّية مثل التشيُّع.٢٣ صحيح هناك فِرَق كلامية للمعارضة كما أن هناك من الفلاسفة مَن كان جليس السلطان مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولكن الغالب على العقائد السنية تدعيم الدولة السنية، بينما كان الغالب على نظريات الفلاسفة الاستقلال عن السلطة الدينية والسياسية. سجن ابن سينا ومحنة ابن رشد. لذلك لم يتعرض «من العقيدة إلى الثورة» لعقائد الشيعة؛ لأنها لم تكن مخزونًا نفسيًّا مباشرًا في مصر والوطن العربي والعالم السُّني، بالرغم من حب مصر لآل البيت، وتأسيس الأزهر لنشر الشيعة حتى صلاح الدين، ووجود الشيعة في الخليج والعراق. وهو على أية حالة نقص كبير يعيبه علماء إيران. ولكن علوم الحكمة ذات صلة وثيقة بالتراث الشيعي؛ لذلك أمكن إضافته بلا حرج، ليس فقط عند السجستاني والعامري، بل أيضًا عند الطوسي وناصر خسرو والشيرازي وغيرهم. وربما للشيعة باع طويل في علوم الحكمة أكثر مما للسُّنة.
  • (ط)

    قام علم الكلام في صورة فِرَق؛ أي تيارات جماعية أو أحزاب سياسية أو قوًى اجتماعية، مثل السُّنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والجهمية. وقد كُتب تاريخ علم الكلام بطريقة تاريخ الفِرَق وبطريقة نسق العقائد معًا. في حين حمل لواء الحكمة أفراد قلائل: الكندي والرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. صحيح أنه كان هناك رؤساء للفِرَق مثل الأشعري وواصل بن عطاء، وكان هناك فكر جماعي مثل إخوان الصفا، ولكن ظل التمايز بين العلمين هو التمايز بين عقائد الفِرَق ومذاهب الفلاسفة. المتكلمون كثرة والفلاسفة قلة. يُعَد المتكلمون بالمئات في حين يُعد مشاهير الفلاسفة على أصابع اليدين. صناعة الكلام مشاع في حين صناعة الفلسفة نادرة.

  • (ي)
    وكما ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، فكلاهما شقَّان لعلم واحد هو علم الأصول، الأول أصول النظر، والثاني أصول العمل، ارتبطت علوم الحكمة بعلوم التصوف من خلال حكمة الإشراق.٢٤ فمن الحكماء مَن ارتبط بالعقل والعلم، أي بالطبيعة، مثل الكندي والرازي وابن رشد. ومنهم مَن ارتبط بالذوق والإشراق مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل. ومن الصوفية مَن ارتبط بالتصوف العلمي والرياضيات والمجاهدات مثل الصوفية الأوائل وصوفية المرحلتين الأخلاقية في القرون الثلاثة الأولى وصوفية المرحلة النفسية في القرنين الرابع والخامس. ومنهم مَن ارتبط بالتصوف النظري مثل صوفية القرنين السادس والسابع، السهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين؛ ففي الجزء الرابع من «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، وفي «حكمة الإشراق» للسهروردي، لا فرقَ بين علوم الحكمة وعلوم التصوف، بل قد نشأت خصومات وعداوات بين المجموعة الأولى، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وبين المجموعة الثانية: علوم الحكمة وعلوم التصوف، بين علماء التنزيل وعلماء التأويل، بين استنباط الواقع من الوحي واستقراء الوحي من الواقع.٢٥ وهو النزاع الشهير بين الفقهاء من ناحية والصوفية والحكماء من ناحية أخرى، وعلى الرغم من النزاع بين الفقهاء والمتكلمين.
  • (ك)
    علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولًا نشأة داخلية صرفة، ابتداءً من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان، في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم، فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطوِّر الموروث ويُعقله كي يتمثل الوافد. ويؤوِّل الوافد ويوظِّفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة. بدأ علم الكلام مبكرًا منذ القرن الأول، واستمر إلى فترة متأخرة حتى القرن الثامن في علم الكلام الفلسفي عند الإيجي والتفتازاني والبيضاوي وأصحاب قواعد العقائد حتى «رسالة التوحيد» و«الحصون الحميدية». في حين بدأت علوم الحكمة متأخرة منذ القرن الثالث، وانتهت مبكرًا في العالم السني حتى القرن السادس، ببارقة ابن رشد. واستمرت في إيران حتى القرنين التاسع والعشر عند صدر الدين الشيرازي وناصر خسرو. ولم يستطع السلطان عبد الحميد إحياءها بإعادة التحكيم بين الغزالي وابن رشد بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت».٢٦
  • (ل)
    غلب عِلم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدًا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد.٢٧ وبالرغم من جمْع ابن حزم لأقوال المتكلمين في «الفصل» في إطار علم تاريخ الأديان المقارن، كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضُح في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية؛ فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدْر ظهور التصوف والإشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوروبي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.٢٨

ثانيًا: النقل والإبداع بين القدماء والمحدثين

(١) نقل المحدثين

إذا كانت الغاية «من العقيدة إلى الثورة» هو التثوير ضد الاحتلال والقهر والتخلف، فإن الغاية «من النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التغريب في عصرنا ضربًا للمثل بنموذج القدماء، كيف تمثَّلوا الوافد ثم أعادوا إخراجه؟ كيف مارسوا النقل ثم قاموا بالإبداع؟ وإذا كان الهدف «من العقيدة إلى الثورة» هو القضاء على التحجُّر في الداخل، والتقوقع على الذات، وتحويل العقائد إلى أشياء ومقدسات، فإن الهدف من «النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التبعية للخارج، وتقليد الآخر، وتحويل الثقافة الأجنبية إلى ثقافة عالمية، تعطي حقائق أكثر مما تعطي وقائع، ومصدرًا للعلم بدلًا من أن تكون موضوعًا للعلم.٢٩
لذلك يأتي نقل المحدثين قبل إبداع القدماء نظرًا لأن الأول هو الباعث على الثاني. هناك إذن علاقة في مشروع «التراث والتجديد» بين الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي». الأولى ترى الأنا من خلال الآخر، حين ترى الثانية الآخر من خلال الأنا. الأولى تجدِّد رؤية الأنا لذاتها من خلال ثقافة العصر، وهي في الغالب ثقافة الآخر. والثانية ترى الآخر العصري من خلال الأنا المتجدد عبر التاريخ ومن أجل ردِّه إلى حدوده الطبيعية، وإفساح المجال لتعدد الثقافات، ورد الاعتبار لثقافات الأطراف بعد أن كانت ثقافات المركز، وتحويل ثقافة المركز الحالية على الأمد الطويل إلى ثقافة الأطراف كما كانت عبْر التاريخ. يمثِّل «من النقل إلى الإبداع» هذه العلاقة كنقطة التقاء بين الجبهتين؛ فهو دراسة لصلة الأنا بالآخر عند القدماء والعامل الموجه هو صلة الأنا بالآخر عند المحدثين؛ ومن ثمَّ كان أقرب أجزاء الجبهة الأولى إلى الجبهة الثانية. «من النقل إلى الإبداع» لا يدرُس كل علوم الحكمة في كل جوانبها المنطقية والطبيعية والإلهية والإنسانية، بل يدرس موضوعًا واحدًا فقط تُبنى عليه علوم الحكمة كلها، وهو موضوع النقل والإبداع، الخيط الذي يربط أجزاء علوم الحكمة بناءً على هم العصر وهاجس المحدثين. وهو همٌّ حقيقي يقوم على افتراض الإبداع كما يقوم هم المستشرقين على افتراض النقل.٣٠ وهذا لا يمنع من قيام دراسات أخرى أكثر دقة حول النص العربي القديم، النص اليوناني وترجماته السريانية والعربية ومراحل الشرح والتلخيص والجمع والتأليف أكثر دقة، ليس استشراقًا بل أبحاثًا وطنية خالصة تحمل هموم العلم وهموم الوطن، هم التراث وهم التجديد، هم القديم وهم الجديد، رصيد التاريخ وأزمة الإبداع. هناك دافع وطني في البحث العلمي حتى ولو كان مجرد يقظة الذات تجاه الموضوع، خاصةً الموضوعات التاريخية والحضارية، تضع الأنا في مواجهة الآخر؛ فالأنا غاية والآخر وسيلة، علوم الأنا هي علوم الغايات، وعلوم الآخر هي علوم الوسائل، خاصةً وقد أخذ الآخر موقف الهجوم من الأنا منكرًا دوره في التاريخ بعد أن تصدَّر المركز ودفع بجميع الحضارات البشرية إلى الأطراف. والوعي الحضاري هو أساس الوعي العلمي.

فبعد اتصالنا بالغرب منذ أكثر من مائتي عام، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بدأت علاقة التتلمذ والتعلم على يديه. وتم نقل المعلومات منه إلينا حتى أصبح العالِم هو المتعلم؛ أي حامل العلم وناقله وليس مبدعه وخالقه. وطالت مدة نقل المعارف دون أن ينشأ علم جديد. ولما كان معدل الغرب في الخلق والإبداع أسرع بكثير من معدلنا في النقل والترجمة، ازدادت المسافة بيننا. وكلما ظننا أننا قاربنا اللحاق اليوم بما أنتجه بالأمس اتسعت الهوة بيننا حتى نُصاب بالصدمة الحضارية، ونيأس من التقدم، ونكتفي بدور التابع، ويصبح الآخر في المقدمة ونحن في المؤخرة، حتى لا نكاد نراه فيتبع بعضنا بعضًا. ونتحول إلى تلميذ أبدي لا دور له إلا النقل. ويكون الغرب هو المعلم الأبدي، دوره الأساسي في الإبداع. وتتراكم المعلومات طبقة فوق طبقة، وعلمًا فوق علم، حتى نطمس معالم الواقع ويغيب التنظير المباشر له. فتكون الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ويصبح العلم حرفة وليس رسالة، وينشأ التكسُّب بالعلم، وتظهر طبقة من حَمَلة العلم ونَقَلة المعلومات، تحصل على الشهادات والأوسمة، وتنال الجوائز المحلية والعالمية، وتصبح نجومًا في أجهزة الإعلام تنافس نجوم الرقص والغناء. وتتكافأ النظريات، وتتعادل المذاهب دون قدرة على الاختيار أو النقد إمَّا بمراجعتها على العقل أو بالتحقق من صدْقها في الواقع، وتنفصل عن بيئتها الأولى التي خرجت منها، وتصبح «عالمية» خاصة بعد سيطرة أجهزة الإعلام الغربية على وسائل نقل المعلومات، فتنتشر حضارة الغرب وحدها، وتُطمَس معالم الثقافات المحلية، وتصبح الحضارة الإنسانية ذات بُعد واحد، أحادية الطرف، وحيدة القرن. بل إن ثقافات الغرب قد تمَّت السيطرة عليها بثقافة أعم هي الثقافة الأمريكية؛ أي اللاتاريخي اللاحضاري الآلي الذي حاول الجمع بين الثقافات الأوروبية المحلية، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والإسبانية، على أيدي المهاجرين الجدد والفارين من القانون والباحثين عن الذهب، العنصري الطائفي الذي لم تؤثِّر فيه فلسفة التنوير في الأعماق، في التصورات وفي السلوك. ولما كانت الثقافة الأساس النظري لكل انتشار آخر، فسرعان ما تعم السيطرة الاقتصادية والعسكرية، وتعم التبعية، وتضيع الهوية لدى كل الشعوب غير الأوروبية. ولا خلاص من ذلك إلا بثورة عارمة مضادة تنقل الأمة من الفعل إلى رد الفعل، من التغريب إلى مقاومة الغرب؛ فمقاومة الغرب إنما هي نتيجة التغريب ورد فعل عليه. يولد الشيء نقيضه، ويتضمنه ليرثه ويحل محله.

لقد طالت فترة الترجمة والنقل عن الغرب بالرغم من مرور أكثر من مائتي عام. ولم نصل إلى مرحلة الشرح والتلخيص الواعي كمرحلة نحو العرض والتأليف من أجل الوصول النهائي إلى مرحلة الخلق والإبداع. لم نصل إلى مرحلة صياغة الحكمة النظرية والحكمة العملية إلى صياغة منطق وطبيعيات وإلهيات كما وصل القدماء. ترجماتنا معظمها عشوائي لأسباب المهنة، والقليل منها قصدي من أجل المساهمة في النهضة العربية المعاصرة.٣١ غلب على مصطلحاتها التعريب؛ أي النقل الصوتي للفظ، وليس الترجمة أي النقل المعنوي، حتى امتلأت اللغة العربية المعاصرة بمعظم المصطلحات العلمية الحديثة المعرَّبة، وخلت من الشروح أو التلخيصات أو التعليقات القادرة على الغوص في المعنى وإعادة عرضها بأسلوب جديد، وتوجيه مقاصدها من الوافد نحو الموروث لخدمة الثقافة المحلية وليس ترويجًا للثقافة الأجنبية. وما زالت الترجمة مستمرة، ولم نصل بعدُ إلى مرحلة التأليف الفلسفي المستقل الذي يجتمع فيه الوافد والموروث، أو الذي يتم فيه توظيف الوافد من أجل إعادة صياغة الموروث طبقًا لثقافة العصر، وإعادة عرض القديم من خلال الجديد من أجل بداية إبداع ثقافي عربي جديد.٣٢ كانت الترجمات امتدادًا للموروث داخل الوفد وترويجًا لثقافة الخارج في الداخل كنوع من الوكالة الحضارية له؛ فالعقلاني يروِّج للعقلانية، والعلمي يترجم الاتجاهات العلمية، والإنساني الوجودي ينقل الوجودية، والماركسي يبشِّر بالماركسية، والبنيوي يدعو إلى البنيوية حتى أصبح الفكر العربي المعاصر مجرَّد تجاور بين ثقافتين، الموروث والوافد دون تفاعل بينهما إلا في أقل القليل بطريق المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في الآخر وقراءة الآخر في الأنا كما فعل الطهطاوي في «تخليص الإبريز».
كانت الثقافة الغربية نمطًا للتحديث في الفكر الغربي المعاصر بتياراته الرئيسية الثلاث: الإصلاح الديني، والفكر الليبرالي، والتيار العلمي العلماني. وكانت فلسفة التنوير مطلبًا للجميع، ونموذجًا يُحتذى به تلبية لمطالب الواقع من عقلانية وحرية ونزعة إنسانية وعلمية طبيعية وتقدُّم. كما ظهرت مذاهب سياسية تعبِّر عن اختيارات الصفوة مثل الليبرالية والقومية والماركسية في مقابل إسلامية الجماهير ونزعاتها المحافظة. وذاعت المذاهب والمناهج الفلسفية الغربية من مثالية ووضعية ووجودية وشخصانية وماركسية وظاهرية وبنيوية وأخيرًا تفكيكية وما بعد الحداثة. فلما ظهرت عزلتها وسط الثقافة العامة وحصارها من الموروث حاولت التكيُّف معه. فخرجت لنا «الجوانية» باعتبارها مثالية إسلامية، و«الماركسية التاريخانية» أو «الماركسية الليبرالية» باعتبارها ماركسية عربية، و«الشخصانية الإسلامية» و«الوجودية العربية» و«الاشتراكية العربية» تُستخدم فيها الثقافة المحلية لتبرير الثقافة الوافدة، وليس الثقافة الوافدة، كأدوات تعبير عن الثقافة المحلية.٣٣

صحيح أن إبداعاتنا عملية في إتمام حركة التحرر الوطني، وإنشاء دولنا الحديثة، والتصنيع، واستصلاح الأراضي، وفي الثورات الحديثة، ثورات الضباط الأحرار أو الثورة الإسلامية في إيران أو الثورات والهبَّات الشعبية في مصر والسودان والمغرب والجزائر وتونس والأردن وسوريا. ونظرًا لأن هذه الإبداعات العملية لم تواكبها إبداعات نظرية على نفس المستوى انهارت معظم المشاريع القومية الليبرالية والقومية الاشتراكية والإسلامية. بل وتفاقمت الأزمات، واشتد الكرب: احتلال مزيد من الأراضي في فلسطين، انتهاك حقوق المواطنين، تفاقم أزمة الحريات العامة، ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، سيطرة التجزئة على الأمة الواحدة، اندلاع الحروب الطائفية والقبَلية والعشائرية، زيادة التبعية للخارج، الاعتماد عليه في الغذاء والسلاح والتعليم والثقافة، ضياع الهوية لصالح التغريب، سكون الجماهير ولا مبالاتها لما يحدث في حياتها من انتهاك لاستقلالها ونيل من كرامتها الوطنية. كل ذلك يحدث في منطقتنا والعالم يجدِّد نفسه، الرأسمالية تجدِّد نفسها، والاشتراكية تحدِّث نفسها، بينما تنحسر أيديولوجيات العالم الثالث وتنهار مشاريعه في التحرير والاستقلال الوطني.

صحيح أن المشاريع العربية المعاصرة ظاهرة أمل في حياتنا الثقافية والسياسية في ظروف موقفنا الحضاري المثلث الجبهات: التراث القديم، والتراث الغربي، والواقع المباشر. وهي تعادل المذاهب الفلسفية الغربية في ظروف العصور الحديثة في الغرب وقطيعته المعرفية مع الماضي منذ عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر. يتم إبداعها في ظروف مغايرة لظروف القدماء؛ فقد نشأ معظمها مواكبًا لهزيمة ١٩٦٧م، وبالتالي خرجت من جرح الهزيمة. في حين خرج إبداع القدماء من نشوة الانتصار وزهو الغلبة. وكلاهما إبداع وإن اختلفت الظروف، وإن تعددت النماذج. انتشرت في مصر والمغرب والشام مراكز الإبداع في الوطن العربي والآن يلحق الخليج.٣٤ وقد تنشأ أجيال جديدة تتجاوزها وتطلق حدودها، وتبدع مناهجها الخاصة بدلًا من استعارة المناهج الغربية، بنيوية في المغرب أو ماركسية في الشام أو مثالية في مصر أو اجتماعية في الخليج. وتتخلَّى عن روح التحزب السياسي والفكري، وإلا ارتدت قطعية مذهبية، وتثبت فاعليتها وأثرها على الناس وتحريكها للتاريخ بخروجها عن نخبويتها وعقول أصحابها إلى الفضاء الخارجي.

(٢) إبداع القدماء

وفي مقابل نقل المحدثين هناك إبداع القدماء. والدافع الحقيقي لكتابة «من النقل إلى الإبداع» هو إعطاء درس للناقلين المحدثين من المبدعين القدماء. ليست الغاية دراسة صلة الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني أو كما يُقال «أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية» أو «التراث اليوناني في التراث الإسلامي» دراسة تاريخية صرفة بمنهج تاريخي مقارن، بمنهج الأثر والتأثُّر. فقد كثُر اللغط في ذلك إمَّا من المستشرقين لتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها والقضاء على الإبداع الذاتي أو من الدارسين العرب التابعين للمستشرقين نقلًا وترويجًا أو ادعاء للتحديث وللانتماء إلى اليونان على حساب الثقافة المحلية، وللوافد على الموروث أو استسهالًا لنقل ما هو شائع من أحكام طلبًا للرزق واستيفاء ادعاء العلم بثقافتين. الهدف هو قراءة القدماء بهمِّ المحدثين، ونعي المحدثين في علاقتهم بالغرب أمام القدماء في علاقتهم باليونان. الهدف هو تلمُّس مواطن الإبداع في علوم الحكمة بعد أن تم النقل والشرح والتلخيص والتعليق والعرض والتأليف، ثم الإبداع الخالص لمقارنة اللحظة الأولى باللحظة الثانية، عصر المأمون وعصر محمد علي، ديوان الحكمة ومدرسة الألسن، حنين بن إسحاق ورفاعة رافع الطهطاوي. الهدف هو تعلُّم نموذج الإبداع من القدماء أو لإعطاء نموذج إبداع جديد بعد أن طال نقل المحدثين، ولم يظهر إبداعهم بعدُ إلا على نحوٍ جزئي وفردي دون أن يصبح بعدُ تيَّارًا عامًّا، وعملًا جماعيًّا، وسمة لمرحلة تاريخية. المهم قراءة همِّ الحاضر في نشوة الماضي وقراءة عظمة الماضي في مأساة الحاضر، قياس مرحلة الهزيمة بمرحلة الانتصار والعودة إلى مرحلة الانتصار للبحث عن جذور الهزيمة. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنموذج قديم لحل إشكال معاصر عن طريق تحليل الوعي التاريخي للأمة واكتشاف أنماطها السابقة فيه، في لا وعيها الثقافي الذي تراكمت عليه ثقافات السلطة والتقليد. وقد يصبح في الإمكان عن طريق الوعي التاريخي وإحياء النموذج الماضي درء مخاطر العصر والقضاء على الاغتراب فيه. والوعي بإبداع القدماء قد يكون أحد الوسائل لتجاوز نقل المحدثين. «من النقل إلى الإبداع» إذن محاولة لإعطاء نموذج من القدماء على الاحتراس من التغريب وعدم الوقوع فيه؛ فقد تعرَّف الحكماء القدماء على الغرب في عصرهم أي اليونان. ونقلوا عنهم المعارف في جيل واحد أو جيلين. وبمجرد بداية القرن الثالث، والنقل ما زال مستمرًّا بدأ الإبداع.٣٥ واستمر التأليف موازيًا للنقل في القرن الرابع حتى انتهى مجموع النقل وعمَّ التأليف كطابع عام لمرحلة تاريخية هي التي أصبحت عنوانًا للحضارة الإسلامية وذروة لها.٣٦ كما استمر الشرح والتلخيص والتعليق في القرنين الخامس والسادس في خطٍّ موازٍ مع التأليف المستقل.٣٧ تمثَّل الحكماء حضارة الآخر بعد ترجمتها ونقلها ثم احتوائها بالشرح والتلخيص ثم نقدها وقبول ما يتفق منها مع العقل والطبيعة والتجربة الإنسانية وعذر الأخطاء فيها، وردها إلى طبيعية البيئة الثقافية الخارجية كاللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشعوب الأجنبية.
وفي الوقت الذي كان يتناهى فيه الإبداع عندنا كان النقل يتم في الغرب مِنَّا إليه؛ فقد كان ابن رشد آخر الفلاسفة المسلمين في المغرب (٥٩٥ﻫ) معاصرًا لأكبر المترجمين اللاتين فيه، جيرار الكريموني (٥٨٣ﻫ/١١٨٧م). وفي الوقت الذي سقطت فيه طليطلة (٤٧٨ﻫ) وقت إمام الحرمين في المشرق أستاذ الغزالي واللذين لم يؤثِّر فيهما هذا السقوط في بناء العقائد ولا في اختيار الأشعرية والتصوف، انتهى دورها كمركز للإبداع عند المسلمين، وبدأ دورها كمركز للنقل والترجمة عند النصارى. وكان اليهود حلقة الاتصال بين الاثنين، إبداع المسلمين ونقل النصارى. وإن من مهام «من النقل إلى الإبداع» أيضًا هو إعادة كتابة تاريخ الوعي الأوروبي بالتاريخ الهجري ردًّا على تاريخ الحضارة الإسلامية بالتاريخ الميلادي ووضعها في مراحل تاريخ الوعي الأوروبي، مرحلة العصر الوسيط. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنشأة الحضارة الإسلامية وتطورها في علاقتها مع الآخر في مرحلة الازدهار والاكتمال وفي الوقت الذي كانت فيه الحضارة الغربية في العصر الوسيط في مرحلة التعلم والتتلمذ علينا حتى يتم الوعي بالمسار المتبادل بين الأنا والآخر من أجل القضاء على ظاهرة التغريب في عصرنا، والوعي بنهاية عصر ريادة الغرب وتبعية سواه.٣٨ وإنَّ تذبذبَ وعينا التاريخي المعاصر بين التاريخين الهجري والميلادي، وميلنا إلى التاريخ الميلادي منذ عصر النهضة ليدل على تداخل المسارَين، مسارَي الأنا والآخر، واغتراب المسار التاريخي للأنا في المسار التاريخي للآخر باستثناء إيران بعد الثورة الإسلامية، واليمن بعد الثورة الوطنية، ودول شبه الجزيرة العربية تأكيدًا على المحافظة الدينية كدعامة أولى للنظم السياسية، ودرءًا للثورة التي ارتبطت بالمذاهب السياسية الغربية، القومية والليبرالية والماركسية. وقد أكدت كل الشعوب الناهضة على التاريخ الوطني للأنا استقلالًا عن الغرب وتأكيدًا للهوية مثل اليابان. وإن الصهيونية تؤرخ لليهودية منذ خلق العالم وإلا أرخوا مرة مع اليونان، ومرة ثانية مع المسلمين، ومرة ثالثة مع الغرب الحديث. وما ينطبق على التاريخ ينطبق على الجغرافيا؛ فنحن الشرق الأوسط والصيني الشرق الأقصى بالنسبة إلى الغرب، مع أننا العالم العربي الإسلامي بالنسبة إلى أنفسنا، أوروبا غربنا وآسيا شرقنا. الغرب بالنسبة لنا هو الغرب الأدنى، وأمريكا بالنسبة لنا هو الغرب الأقصى. والحرب العالمية الأولى بالنسبة للغرب هي نهاية عصر الخلافة وبداية الحروب الصليبية الثانية بالنسبة لنا. والعصر الوسيط بالنسبة للغرب هو عصرنا الذهبي قبل ابن خلدون، والعصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصر الشروح والملخصات بالنسبة لنا قبل نهضتنا الحديثة منذ القرن الماضي وبالرغم من كبوتها هذا القرن.
وكان انفتاح القدماء على الآخر متعدِّدًا متنوعًا دون أن تستأثر بهم حضارة على حساب أخرى. نقلوا حضارات الأمم السابقة بلا تحيُّز لإحداها أو سيطرة لها على ذهن الأمة. نقلوا ثقافات اليونان والروم من الغرب؛ وفارس والهند من شرق. فقد انتشر الإسلام شرقًا قدْر انتشاره غربًا، بل كان انتشاره شرقًا أسرع وأكثر امتدادًا في البَر نظرًا لسهول آسيا الوسطى الممتدة حتى بحر الصين. كان النقل عن اليونان أكثر وأوسع انتشارًا وأكثر حضورًا وإثارة نظرًا لانتشار الثقافة اليونانية على رقعة البلاد المفتوحة أكثر من أية ثقافة أخرى. وكانت قد انتشرت من قبلُ في الديانات السابقة مثل النصرانية واليهودية والديانات الشرقية كالمانونية وغيرها، هذا بالإضافة إلى ما تتميز به الثقافة اليونانية من خصائص تجعلها قريبة من الحضارة الناشئة الجديدة مثل العقلانية والقدرة على التأمل والاستدلال، والاتجاه نحو الطبيعة والفطرة، والنظرة الإنسانية للعالم. ولقد حاول القدماء ذلك صراحة كما فعل صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» حرصًا على التعددية، وإعطاء كل شعب حقه والاعتراف بدوره في الحضارة البشرية العامة دون ما استثناء أو أثرة.٣٩ وقد تكون علاقة القدماء بالآخر وأولوية الغرب: اليونان والرومان، على الشرق: فارس والهند، مثل علاقتنا الآن بالغرب الحديث: أوروبا المعاصرة، وأوليتها على الشرق: الصين والهند، نظرًا لارتباط تاريخنا الحديث، حقبة الاستعمار، بالغرب، بالرغم من تأييد الشرق لنا أثناء حركة التحرر الوطني، ونظرًا لأن الغرب ما زال يمثِّل بالنسبة لنا مصدر التحدي الأول، مصدرًا للعلم بدلًا أن يكون موضوعًا للعلم. وقد يكون ما رآه القدماء من خصائص مثالية عند اليونان، مثل العقل والطبيعة والإنسان، ما نراه حاليًّا منذ رواد النهضة العربية الحديثة في الغرب من مُثُل التنوير وهي نفسها المُثُل القديمة، العقل والطبيعة والإنسان والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم. لقد تحدَّث القدماء عن فارس والهند والصين أكثر مما نتحدث عنهم الآن. لم يعرف القدماء اليابان، ويكاد يعرفها المحدثون بالرغم من أن نهضة الشرق الحديث أكثر جذبًا لنا من نهضة الشرق القديم وجذبها للقدماء.٤٠ لقد حدث حوار بين القدماء، بين أنصار فارس، زهرة الشرق، وأنصار اليونان درة الغرب، بين الحكمة الفارسية والحكمة اليونانية دون خصومة أو شقاق.٤١ تعادل جناحا العالم الإسلامي، الشرقي والغربي، فطار العالم الإسلامي دون أن ينحرف غربًا أو ينحرف شرقًا: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. في حين طرنا نحن بجناح غربي قوي وجناح شرقي ضعيف، فاغتربنا، وانحزنا للغرب، ونشأت بيننا ظاهرة التغريب، وعمَّت وانتشرت حتى أصبح وعينا القومي مغتربًا عن مسار الأنا في مسار الآخر.٤٢ وإذا وعينا الشرق فإننا نعي الهند أكثر مما نعي الصين أو اليابان، بل إن فارس التي شاركتنا الدين والحضارة والتاريخ حصرناها في أقسام اللغات الشرقية، وعاديناها في الجوار.
وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» قد أصبح هو العنوان المفضَّل للجزء الأول من الجبهة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدين بعد أن كان العنوان في وصف المشروع الأول منذ عقدين من الزمان «علم الإنسان» Anthropology في مقابل «علم الله» Theology، فكذلك كان عنوان «من النقل إلى الإبداع» هو «فلسفة الحضارة» لأنه يتعلق بصلة حضارة الأنا بالحضارات الأخرى، اليونانية والرومانية والفارسية والهندية.٤٣ ويدل تركيب «من … إلى» على هذا التمايز بين القدماء والمحدثين، والانتقال من القديم إلى الجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. كان من ضمن العناوين المقترحة، ولو في الخاتمة «من تمثُّل اليونان إلى رفض الغرب» إبرازًا للتقابل بين إبداع القدماء في تمثُّل اليونان، واحتواء ثقافتهم، والتعبير عن الأنا من خلال الآخر، ونقل المعاصرين وتغريبهم واحتوائهم في ثقافة الغير وتبعيتهم لها. ولا ضير في نمطية التركيب «من … إلى»، فما زال مؤثِّرًا في النفس، «من العقيدة إلى الثورة» انتقالًا من عقائد القدماء إلى ثورة المعاصرين، «من النقل إلى الإبداع» انتقالًا من نقل المعاصرين إلى إبداع القدماء؛ فالمعاصرة لا تعني الزمان التاريخي بالضرورة بل الموقف الحضاري. وبهذا المعنى قد يكون القديم أكثر معاصرة من الحديث، وقد يكون الحديث أكثر قِدَمًا من القدماء. وتستمر هذه النمطية في التركيب في باقي أجزاء الجبهة الأولى «من الفناء إلى البقاء» لإعادة بناء علوم التصوف، «من النص إلى الواقع» لإعادة بناء علم أصول الفقه، «من النقل إلى العقل» لإعادة بناء العلوم النقلية.٤٤
ولفظ «النقل» هو اللفظ القديم لما نعنيه حاليًّا بلفظ الترجمة وما يعنيه الشوام بلفظ «التعريب»؛ أي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى. وأحيانًا يفيد النقل النقل الحرفي للمعني من لغة إلى لغة. في حين أن لفظ الترجمة قد يفيد الذهاب إلى ما هو أبعد من النقل إلى تأويل المعنى؛ أي إلى النقل المعنوي. النقل يتم على مستوى الألفاظ، والترجمة تتم على مستوى المعاني.٤٥ النقل مجرد تحريك اللفظ من لغة إلى لغة في حين أن الترجمة تعبير عن معنى اللفظ في لفظ بلفظ مرادف في لغة أخرى، وقد فضلنا اللفظ القديم «النقل» على الحديث «الترجمة» حرصًا على التواصل مع القدماء. أمَّا لفظ «الإبداع»، فإنه لفظ قديم، أحد أسماء الله الحسنى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو لفظ حديث كثُر استعماله من أجل الدلالة على أزمة الإبداع في عصرنا، الإبداع الشامل في الفكر والأدب والفن والعلم والسياسة، إحساسًا بأن فترة النقل قد طالت، إمَّا النقل عن القدماء أو النقل عن المحدثين.٤٦ وكثرت الندوات، وأُنشئت المجلات، وقامت مراكز الأبحاث لتناول مشكلة الإبداع. وبالتالي يحتوي العنوان: «من النقل إلى الإبداع» على لفظ قديم ولفظ جديد، ويدل على الانتقال من القدماء إلى المحدثين، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن التراث إلى التجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، وعلى نفس إيقاع «من العقيدة إلى الثورة».
أمَّا العنوان الفرعي «محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة» فهو أيضًا العنوان النمطي الفرعي لكل أجزاء الجبهة الأولى لإعادة بناء العلوم القديمة: علم أصول الدين، علوم الحكمة، علوم التصوف، علم أصول الفقه، العلوم النقلية بعد أن دخلت العلوم العقلية والطبيعية في علوم الحكمة النظرية، والعلوم الإنسانية، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ في الحكمة العملية، وهو التعبير الوحيد المُضاف إلى تعبيرات القدماء في تسمية علومهم لما كان عصرهم هو عصر العلوم الدينية والشرعية، في حين أن عصرنا هو عصر العلوم الإنسانية. وعلوم الحكمة هو التعبير المختار عند القدماء ابن سينا خاصةً كعنوان فرعي في موسوعاته الكبرى «الشفاء»، وملخصها «النجاة»، وشرحهما، والإضافة عليهما وقراءتهما في «الإشارات والتنبيهات»، وليس الفلسفة والذي استعمله القدماء في وصف الفلسفة اليونانية وليس في تحديد معنى العلم.٤٧ فالتمايز بين الأنا والآخر واضح في العنوان الفرعي «علوم الحكمة» عند الأنا في مقابل «الفلسفة» عند الآخر. التعبير الأول عربي أصيل مستمَد من الأصل الأول، القرآن الكريم: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، في حين أن اللفظ الثاني معرَّب من اللفظين اليونانيين: فيلا سوفيا. وقد نُقلا معرَّبَين: «الفلسفة»، ومترجَمَين: مَحبَّة الحكمة.٤٨

ثالثًا: ظاهرة «التشكُّل الكاذب»

(١) خطأ الحُكم بالنقل والتأثُّر والخلط والتوفيق

ذاعت عدة أحكام خاطئة على علوم الحكمة منذ تسميتها الفلسفة الإسلامية بأنها امتداد لعلوم اليونان، وأن الحكماء؛ أي الفلاسفة، ما هم إلا أتباع المعلِّم الأول، وأن أقصى ما أبدعوه هو المعلم الثاني أو الشارح الأعظم. علوم الحكمة ما هي إلا شروح على متون الشرح لفظًا بلفظ، وعبارة بعبارة، وفقرة بفقرة، وفصلًا بفصل، وبابًا بباب، وكأن المسلمين قد استبدلوا بنص الوحي نص أرسطو؛ فالأنا يدور في فلك الآخر. الآخر هو الأصل، والأنا الفرع. كان أقصى إبداع للحضارة الإسلامية هو شروحها على أرسطو ونُقل ذلك إلى الغرب، استفاد منه أولًا لتأييد الدين ثم لفظه ثانيًا عندما اكتشف عورته وهو بصدد نشأة العلم الحديث إبَّان الفصل بين الفلسفة والدين، والعلم والإيمان. وقد أصدر هذا الحكم بعض المستشرقين. وتابعهم فيه بعض العرب المقلدين من محرري الكتب المقررة ومدعي التجديد إيحاء برفض المحلية وتبنيًا لمحلية الثقافة وهي اليونانية، مستنكفًا من حضارة الأنا ومدعيًا ثقافة الآخر، إحساسًا بالدونية. وبالإضافة إلى عيوب الاستشراق العامة المنهجية والموضوعية التي وراء كثير من أحكامه يخطئ هذا الحكم ليس فقط بالنسبة للحضارة الإسلامية في التقائها مع الحضارات المجاورة، بل بالنسبة لالتقاء الحضارات بعضها بالبعض الآخر. فلا توجد حضارة ناقلة لأخرى.٤٩ الحضارات كائنات حية، لكلٍّ منها استقلالها الذاتي، وحياتها الخاصة، وشخصيتها المتميزة، لكلٍّ منها جوهرها وبؤرتها ومحاورها وتصورها للعالم وقيمها. لكلٍّ منها عمرها ودورتها ودورها في تاريخ الحضارات البشرية. علاقاتها بالحضارات المجاورة تحكمه قوانين التقاء الحضارات ومنطقه والذي حاول الغرب صياغته في علم «أنثروبولوجيا الثقافة». إن لم يعرفه التابع العربي نظرًا لعدم اطِّلاعه على الثقافة الغربية والعلوم الإنسانية، فإن المستشرق لا عذر له لأن الثقافة الغربية ثقافته، والعلوم الإنسانية علومه. وعادةً ما يكون المستشرق لغويًّا مؤرخًا لا شأن له بتطورات الثقافة الغربية ولا علومها، عالمًا داخل حضارته من الدرجة الثانية. وقد يكون على علم بها ولكنه بها ضنين؛ فهي إبداعات الحضارات المتميزة الحديثة لا تُطبَّق إلا في الموضوعات المتميزة الحديثة. والحضارة الإسلامية ليست كذلك؛ فهي تنتمي إلى الحضارات اللاأوروبية، حضارات الأطراف التي وظيفتها النقل عن المركز. تنتمي إلى الحضارة السامية بما فيها من تناقض وسحر وتسلُّط في مقابل الحضارة الآرية التي تقوم على العقل والعلم والحرية. وهي نظرة عنصرية قديمة سادت الاستشراق الأوروبي في القرن الماضي. والواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها من الحضارات المجاورة، تأخذ منها طبقًا لاختيارها الخاص، وتتمثل منها ما تريد، وتعيد توظيفه من منظورها وطبقًا لاحتياجاتها. لا يوجد نقل حرفي أو تقليد فردي من حضارة لأخرى؛ فهذا افتراض نظري لا وجود له، يدل على عقلية الرائي وأهدافه أكثر مما يكشف الموضوع المرئي وتكوينه. هي عقلية تقوم على التفرقة بين المركز والمحيط، الأصل والفرع، المبدع والناقل، العبقري والمجدب، الأبيض والأسود، السيد والعبد، اليوناني والبربري. تلك كانت علاقة اليونان بغيرهم من الشعوب المجاورة، نموذج علاقة الغرب الحديث بالشعوب اللاأوروبية في أفريقيا وآسيا بعد القضاء على الشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية.
وقد يخف الحكم من النقل الآلي، والنسخ المطابق، والتقليد الأعمى إلى الأثر والتأثُّر، أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية، وتأثُّر الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية. هنا على الأقل يوجد تمايز بين حضارتين، تمايز وجود، وأن كان هناك فيض من المركز إلى المحيط في الثقافة والعلوم. هناك أثر ميتافيزيقا أرسطو على إلهيات ابن سينا في العلة الأولى والمحرك الأول، وأثر فيض أفلوطين على تصور الفارابي للصلة بين العقل الأول والعقول العشرة، وأثر أفلاطون على أنصار الحكمة الإشراقية مثل إخوان الصفا، وأثر أرسطو على ابن رشد في كل شيء في المنطق والطبيعات والإلهيات. أقسام النفس وقواها عند ابن سينا من أرسطو، والمدينة الفاضلة عند الفارابي من جمهورية أفلاطون. ويرجع خطأ الحكم بالأثر والتأثُّر إلى السرعة والحكم بظاهر اللغة بالإضافة إلى عموم استعمال لفظي الأثر والتأثُّر؛ فاللغة ثوب الفكر بتعبير القدماء، شكل دون مضمون، لفظ دون معنًى، بدن دون نفْس، صوت بلا دلالة. واستعمال علوم الحكمة ألفاظ الفلسفة اليونانية ومصطلحاتها لا تعني تبني معانيها وتصوراتها أو وصف نفس الأشياء التي تحيل إليها هذه الألفاظ وتفيد نفس المعاني. اللفظ مجرد أداة ووسيلة وليس غاية أو قصد الحكم بالأثر والتأثُّر إذن حكم متسرع لا يذهب أبعد من مستوى الألفاظ بدعوى أنه حكمٌ على المضمون. ينطلق من اللغة، ويمتد إلى الفكر، من العرَض إلى الجوهر، ومن الظاهر إلى الحقيقة. وكان المستشرق قد تربَّى على أن أصول الحضارة عند اليونان كما تدل على ذلك الحضارة الغربية في عصورها الحديثة. كما أن المستشرق عنصري الحضارة، مركزي الثقافة، أبيض اللون، ومتفوق العصر كما يبدو في الأعمال السينمائية. وبالتالي يحيل موضوعه في الأطراف إلى أصوله في المركز، فيحكم بالأثر والتأثر. الغير عنده يُرد إلى الأنا لديه؛ فيرد كل شيء إليه، وتصب الخيرات والثروات والسكان والعلوم والثقافات في المركز من المنابع التي خرجت منها: ذهب جنوب أفريقيا، عبيد أفريقيا، قطن مصر، توابل الهند، مطاط الملايو، ثقافة العالم القديم وعلومه. حضارة اليونان خلق عبقري على غير منوال. أثرت في حضارات الشعوب المجاورة، مصر وفارس وفينيقيا وكنعان وبابل وآشور، ولم تأخذ منها شيئًا بالرغم من حداثة اليونان وقِدَم شعوب الشرق القديم.٥٠ والحقيقة أن لفظ أثر لفظٌ متشابه. الأثر متعدِّد المستويات: المستوى الأول اللغة، وهو ما حدث في علوم الحكمة، هو المستوى الظاهري الشكلي الخارجي. وهو ليس أثرًا بالمعنى الدقيق بعد عصر الترجمة، بعد أن أصبحت اللغة مشاعًا عند الجميع، لا فَرق بين وافد وموروث. إنما الخلاف بين اللفظين المتشابهين هو خلاف فقط في علم الأصوات، في طريقة النطق مثل عقل NOUS   الله THEOU   طبيعة PHUSIS، نفس PSYCHE أو في الأصل الاشتقاقي الحسي الذي غالبًا ما يشابه أيضًا سواء في الصوت مثل عقل LOGOS، صراط STRATA أو في المعنى مثل روح PNEUMA وكلاهما من معنى الريح أو الهواء.٥١ والمستوى الثاني المعنى، والمعنى لا يُستورد ولا يَفِد لأنه يفيد الشيء. والشيء واحد، يفيد معنًى واحدًا. فالعالم COSMOS، والإنسان ANTHROPOS. المعنى واحد وإن اختلفت التصورات والمفاهيم، وهو المعنى الخاص للعالم وللإنسان في كل حضارة ولدى كل شعب. والمستوى الثالث الشيء المفيد للمعنى والمعبَّر عنه باللفظ. وهذا أيضًا لا استيراد فيه ولا إيفاد؛ فالأشياء لا تُنقل. والمستوى الرابع هو الذي قد يحدث فيه تفاعل والتقاء بين حضارتين، مستوى التصورات والمفاهيم الخاصة بكل حضارة والتي قد تتزاحم وتتداخل وتتبادل لصالح الحضارة الناشئة التي في طور التكوين؛ فالعلة الأولى في علوم الحكمة خالق، والمحرك الأول يعتني بالعالم. وهي تصورات جديدة على التصورات اليونانية التي جعلت العالم يشارك العلة القديمة في بعض مظاهر قِدَمها سواء في الفكر أو في المادة، والتي جعلت العالم يتحرك نحو المحرك الأول عشقًا دون تدبير أو عناية. ويتم التأثير باستمرار لصالح الألفاظ في الحضارة الوافدة؛ إذ تدخل إليها تصورات جديدة لم تكن فيها من قبل، وليس لصالح الحضارة الناشئة التي لا تستعمل الألفاظ المشاعة بعد عصر الترجمة حرصًا على وحدة الثقافة، وثقة بالمعاني والتصورات والأشياء. ولا مشاحة في الألفاظ.

وقد يتعدى الحكم الخاطئ النقل والأثر إلى سوء الفهم والخلط والتوفيق الهجين بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والإيمان، بين الفيلسوف والنبي، بين أرسطو ومحمد. إن أقصى إبداع لعلوم الحكمة هي الشروح والملخصات على أرسطو خاصة، صائبة أحيانًا وخاطئة في معظم الأحيان، تخلط بين أفلاطون وأرسطو، بين أفلوطين وأرسطو، من عقليةٍ لا تعرف النقد التاريخي أو الموضوعية العلمية. وهو أيضًا حكم عام ومبتسر يحكم على ظاهر الأشياء. ويرجع الخطأ في الحكم إلى سببين: ذاتي يتعلق بعقلية المستشرق، وموضوعي خاص بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث في حالة التقاء الوافد والموروث في حضارة واحدة؛ فعقلية المستشرق عقلية مفرقة، تقوم على التمييز والفصل ورصد الاختلاف أكثر من رؤية التشابه إثر تجربة العصور الحديثة التي كشفت مخاطر الخلط بين الكنيسة وأرسطو، بين الإيمان والعقل، بين الدين والفلسفة، بين الكتاب المقدس المغلق وكتاب الطبيعة المفتوح. ولما كان المستشرق ابن حضارته فقد حكم على كل نتاج حضارة يقوم على الجمع بين الثقافات والتزاوج بينها، ورؤية العالم من منظور الوحدة أكثر من منظور الاختلاف بأن ذلك خلط وتلفيق وتوفيق، ويقوم على سوء فهم لأحد الطرفين، هو الغالب الوافد لتقريب المسافة بينه وبين الموروث. فأرسطو هو الفيلسوف النبي، حكيم اليونان، المعلم الأول، وسقراط أحد صوفية المسلمين، وهرمس هو النبي إدريس، وأفلوطين هو الشيخ اليوناني، فتقريب الوافد إلى الموروث أكثر من تقريب الموروث إلى الوافد؛ لأن الوافد يمكن تأويله بسهولة، في حين أن الموروث له قواعده وأصوله. وقد أمكن تقريب الوافد إلى الموروث عن طريق نسبة أعمال إلى أرسطو، تاسوعات أفلوطين، حتى يبدو كاملًا، وبالتالي يصبح نموذج الفيلسوف الكامل، خاتم الأنبياء. كما أمكن تقريب الموروث إلى الوافد عن طريق التأويل العقلي للنصوص خاصةً وأن علوم الحكمة قد وحَّدت بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، بين الوحي والعقل، استئنافًا للاعتزال في جعل العقل أساس النقل، وتأكيدًا لموقف الفقهاء، أن مَن قدح في العقل فقد قدح في النقل، وأن الاتفاق مع بداهة العقل وشهادة الحس والوجدان أحد شروط التواتر.

وهناك حكم آخر شائع يجعل الفلاسفة المسلمين مجرد دوائر منعزلة عن قلب الحضارة الإسلامية، تابعين لليونان، امتدادًا للمشائية.٥٢ وهو مثل حكم المستشرقين مع اختلاف الدوافع. دافع المستشرق هو إثبات جدب الحضارة الإسلامية وخلوها من الإبداع. ودافع الممثل الجديد للأشعرية التقليدية في مصر والوطن العربي هو الدفاع عن علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، موطن الإبداع في الحضارة الإسلامية. وهو أيضًا موقف بعض الفقهاء من المدرسة السلفية القديمة والحديثة من ابن حنبل حتى ابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا. والحقيقة أن ذلك حكم ديني مسبق يقوم على الرد على المستشرقين وأخطائهم كما فعل مصطفى عبد الرازق من أجل الوقوع في خطأ مضاد، إثبات الأصالة على حساب التبعية بنفس سلاح المستشرقين، وهو إخراج الفلاسفة المسلمين من الدائرة. وهو إغفال لوظيفة الفلسفة بعد عصر الترجمة في التوحيد بين الموروث والوافد؛ فمن حيث طبيعة الحضارة الناشئة فإنها بعد أن انتشرت فوق رقعة الأراضي المفتوحة، نقلت ثقافات شعوبها إلى العربية، فأصبحت مزدوجة الثقافة، بين الموروث القديم والوافد الجديد، بين الأصل والفرع، بين الأنا والآخر. وكان من الطبيعي أن يخرج من بين المتكلمين المعتزلة مَن يتجرأ على الوافد باسم الموروث، ويحاول الجمع بينهما في ثقافة واحدة، درءًا للتعارض بين النقل والعقل، وتأكيدًا على وحدة الثقافة بين الداخل والخارج، بين التراث والتجديد بلغتنا، بين السلفية والعلمانية بلغة العصر، بين الأزهر والجامعة بلغة مناهج التعليم. علوم الحكمة إذن ليست دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، لا تمثل قلبها، منفصلة عن الموروث، تابعة للوافد، لم تبدع كما أبدع علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. بل هي علوم تؤدي وظيفة حضارية محددة، وحدة الثقافة ضد ازدواجيتها. علوم الحكمة أشبه بالثغور للدفاع عن الحدود، في حين أن علم أصول الدين أشبه بالزوايا لتقوية الإيمان. الحكماء وزراء خارجية يتعاملون مع الخارج لصالح الداخل في ميدان العلاقات الدولية، مهمتهم الحفاظ على الأمن الخارجي وسلامة أرض الوطن. والمتكلمون وزراء داخلية مهمتهم الحفاظ على النظام والأمن الداخلي. ولا تعارض بين المهمتين، كلاهما ضروري لسلامة الدولة في الخارج والداخل. إن علوم الحكمة جزء من كل، وظيفتها التمثُّل والإخراج، والنقل والإبداع، واستيعاب الوافد في الموروث، ليس فقط من جانب الحكماء باسم الوافد، بل أيضًا من جانب بعض الفقهاء باسم الموروث؛ فقد كتب ابن حزم، وهو الفقيه الظاهري المتشدد في علم الكلام «التقريب إلى حد المنطق والمدخل إليه» من أجل إرجاع أقيسة اليونان إلى أقيسة القرآن وأقيسة الرسول. وقد استعمل بعض الحكماء الوافد من أجل نقد الموروث كما فعل ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة» في استعمال النص الأرسطي من أجل نقد علم الأشعرية. أمَّا وظيفة النقد والرفض والإبداع الموازي فإنها وظيفة علوم أخرى، قام بها الفقهاء الذين قاموا بنقد المنطق اليوناني الذي هو أساس الطبيعيات والإلهيات اليونانية. فكتبوا «الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» و«ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان». هناك إذن نوعان من الإبداع، الأول داخل علوم الحكمة ذاتها؛ فالنقل إبداع للمصطلحات وقراءة للنص المنقول وإعادة كتابة له. والشرح إبداع عن طريق تفتيت النص ومعرفة مكوناته العقلية. والتلخيص إبداع عن طريق إعادة تركيب النص، والقدرة على رؤية بؤرته، والغوص في قلبه، وإعادة التعبير عن قصده الرئيسي وحدسه الأولي. والتعليق إبداع لأنه نقل للوافد داخل الموروث، ومضغ الوافد لقمة لقمة حتى يسهُل ابتلاعها قبل هضمها وتمثلها. والعرض إبداع لأنه تأليف في الوافد دون نصوصه وعرض لموضوعاته مباشرةً دون توسُّط النص. والتأليف إبداع لأنه يتجاوز النقل، ويتوجَّه إلى الأشياء ذاتها، يُنظِّرها تنظيرًا مباشرًا بالاعتماد على المصدرين الرئيسيين للعلم، الموروث والوافد؛ ومن ثمَّ كان الحكم بالنقل والتأثير والخلط والتوفيق من جانب الاستشراق أو بالتبعية لليونان وامتدادًا للمشائية عند المسلمين من جانب الأصوليين المعاصرين حكمًا يكشف عن عقلية الحاكم وثقافته ودوافعه وأهدافه. ولا يقوم على تحليل موضوعي لظاهرة الالتقاء بين الثقافات، وتفاعل الحضارات، ومحاولة إخضاعها لمنطق علمي دقيق.

«من النقل إلى الإبداع» إذن موجَّه ضد فريقين: الأول المستشرقون وأتباعهم من العرب الذين يرون علوم الحكمة مجرد نقل لفلسفة اليونان وامتداد للتراث اليوناني داخل التراث الإسلامي، حكمًا على ظاهرة اللغة، وتأثُّرًا بالحضارة الغربية التي ترى أن اليونان هم الأصل، وبدافع النظرة الدونية للمركز إلى الأطراف؛ فالإبداع لا يكون إلا في المركز والأطراف ليس لها إلا التعليق والشرح. وإن كان لذلك فضل فهو في حفظ تراث الأصل اليوناني ونقله في العصر الوسيط إلى الغرب الحديث قبل أن ينقله الغرب بنفسه مباشرةً بعد أن اكتشف نقص النقل الأول، زيادةً ونقصانًا، أو سوء فهم وخلط. والثاني الفقهاء القدماء والمحدثون؛ فهم الذين يعتبرون فلاسفة الإسلام مجرد دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، يكفرونهم ولا يرون لهم أي دور إلا في تبعية اليونان، بل والتآمر على العقيدة من الفلاسفة الباطنيين والانحراف بها عن فهمها الصحيح عند متكلمي أهل السُّنة.

يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض عمل مغاير، أن الحكماء لم يكونوا تابعين للنقل ولا نَقَلَة عنهم، بل كانوا مبدعين، نقلوا أولًا من أجل التمثل، ثم أبدعوا ثانيًا تأكيدًا على وحدة الثقافة. وهم ليسوا دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، بل مفكرون على التخوم مزدوجو الثقافة، يد في الموروث ويد في الوافد، يد تبني ويد تحمل السلاح. يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض أن الحكماء كانوا ضد التغريب؛ فاليونان القديم أصل الغرب الحديث. وقف الحكماء أمام الوافد بطريقة المحاور، الند للند، من أجل استيعابه وتمثُّله، والأوسع نظرًا يستوعب الأضيق أفقًا، والأكمل تصوُّرًا يحتوي الأنقص رؤيةً. جمعوا بين الموروث والوافد على عكس المتكلمين الذين يتعاملون مع الموروث فحسب باستثناء المعتزلة وأصحاب الطبائع خاصة، وطوَّروا علم الكلام من علم داخلي إلى علم داخلي وخارجي، مدافعين ليس فقط عن الأمن في الداخل، بل أيضًا عن الأمن في الخارج، فالمتكلمون نصف فلاسفة، والفلاسفة متكلمون كاملون. «من النقل إلى الإبداع» قراءة داخلية لتفاعل الوافد مع الموروث، ورد الوافد إلى وظائفه الداخلية بصرْف النظر عن مصدره الخارجي وشده إلى الموروث بدلًا من شد الموروث إليه؛ فالمياه في المصب لا تعود إلى المنبع.

(٢) جدل اللفظ والمعنى والشيء

وظاهرة التشكُّل الكاذب تخضع لمنطق جديد يقوم على جدل ثلاثي بين اللفظ والمعنى والشيء، يحكم الالتقاء بين الحضارات؛ فالحضارة ثقافة، والثقافة فكر، والفكر خطاب، والخطاب لغة، شفاهية أو مدوَّنة. ولما كانت الثقافات القديمة التي وُجدت على الأراضي المفتوحة نصوصًا مدوَّنة وليست فقط محادثة شفاهية تم نقلها من السريانية، لغة نصارى الشام، إلى العربية، لغة الفاتحين الجدد، أولًا ثم من اليونانية إلى العربية ثانيًا، إحكامًا للنقل، ومنعًا للتوسُّط من لغة ثالثة، وحتى يكون الخطأ في النقل احتمالًا واحدًا، من اليونانية إلى العربية، وليس احتمالين، من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية. وتدل حركة النقل على عدة أمور:
  • (١)

    الثقة بالنفس وعدم الخوف على الدِّين الجديد من الديانات القديمة، بل والإقبال على الثقافات السابقة في وقتٍ لم تملك فيه الحضارة الناشئة ثقافة إلا الشعر والديانات العربية القديمة، والعادات والأعراف القبلية. كما تدل على الانفتاح على الآخرين، وأن فتوح البلدان لا تعني القضاء على ثقافاتها كما حدث في الاستعمار الغربي الحديث، بل الحفاظ عليها، والتعرُّف على مضمونها، ونقلها إلى لغة الفاتحين، وتقديرها واحترامها، واستخدامها كأدوات للتعبير، بل والدفاع عنها ضد سوء تأويلها والطعن فيها والنيل منها، وإكمال أوجه نقصها، والجمع بين شتاتها، وضمها كلها في منظومة واحدة، ورؤية شاملة تعبِّر عن تصورها للعالم، وإعطائها نسقًا متكاملًا، ومثالًا خالدًا على إبداع الثقافات. فتأكيد الهوية لا يمنع من الاختلاف، وإثبات الأنا لا ينفي الآخر، وتأصيل الذات لا يكون على حساب الغير، وليس كما يحدث هذه الأيام من انغلاقٍ للأنا على ذاتها باسم الدفاع عن الهوية والأصالة، والخصومة مع الغير والعداء للآخر باسم تأكيد الأنا وإثبات الذات؛ فانغلق الأنا وانعزل الآخر، وحدث الشِّقاق في الأمَّة، وازدوجت الثقافة، ونشأ الصراع بين الأخوة الأعداء؛ بين السلفية والعلمانية، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين العقيدة والثورة. ظاهرة «الشكل الكاذب» مجرد افتراض عقلي قادر على تفسير جدل اللفظ والمعنى والشيء في حالة الالتقاء الحضاري بين ثقافتين، مجرد ظاهرة لغوية لا تمس الإحساس أو الوجدان أو الفكر والنظر أو الممارسات العملية، مثل تحويلِ لفظِ ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى إلى إلهيات، أو تحويل الله إلى عقل فعَّال.

  • (٢)

    القدرة على الحوار مع الآخر، والتعامل معه من موقف الندِّية مع الاحتكام للعقل والطبيعة والتجربة الإنسانية. لم تأخذ الحضارة الناشئة دَور العقيدة الجديدة المتعالية على ثقافات الغير، وهي عقيدة الفاتحين المنتصرين بناءً على مركَّب عَظَمة. ونظرت لحضارات الشعوب المفتوحة نظرة دونية بناءً على مركَّب نَقْص. بدأت الحضارة الناشئة بتقدير العلم واحترام العلماء؛ فهي وريث الديانات القديمة وحاملة لواء الفتح الجديد. ولا فرق بين الوحي والعقل، بين النبي والفيلسوف؛ لذلك وزن الخلفاء ثقل المخطوطات اليونانية القديمة ذهبًا لإحضارها من بلاد الروم إلى عاصمة الخلافة. وانتسب النصارى إليها، وقاموا بخدمتها وترجمة التراث اليوناني من لغتهم السريانية إلى اللغة العربية. كانوا نصارى دينًا، وعربًا لغةً، ومسلمين ثقافةً. ولأول مرة في تاريخ التقاء الحضارات تحدُث هذه الندِّية المتبادلة بين ثقافة الفاتحين وثقافة المفتوحين، بل وأحيانًا لحساب ثقافات المفتوحين لغةً ومُثلًا وتصورات، اعترافًا بفضل الآخر على الحضارة الإنسانية، تأخذ البدن منه وتعطيه الروح.

  • (٣)

    الوعي المستنير بالصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، بين اللغة والفكر والعالم؛ فاللفظ مجرد أداة للتعبير، ولكنه ليس جوهر المعنى، فالمعنى مستقل عنه. اللغة مجرد شكل خارجي لمضمون الفكر، ويمكن التعبير عن نفس المعنى بألفاظ عديدة؛ فالله هو الجوهر والماهية، وواجب الوجود، والعلة الأولى، والمحرِّك الأول، والغاية القصوى، والخير المحض، والصورة الخالصة بألفاظ اليونان. وهو الكمال، والمثال، والمطلَق، والصيرورة، والدافع الحيوي، والتطور الخالق، والحرية، والوجود، والمستقبل بلغة المعاصرين. اللفظ متغيِّر والمعنى ثابت. والألفاظ تأتي من لغات متعددة، وتنطق بأصوات متغايرة. أمَّا المعنى فلا يتغير من لفظ إلى لفظ أو من لغة إلى لغة. وقد تتغير التصورات والمفاهيم والرؤى التي هي تأويل للمعاني طبقًا لنوعية الثقافات وخصوصية الحضارات، التحولات الدلالية للمعنى طبقًا لطبائع الشعوب وأمزجتها. أمَّا الشيء فهو الموضوع القصدي؛ فالعالم أصل الأشياء، لا خلاف عليه بين لفظ ولفظ، وتصور وتصور. العالم أصل اللغة، والأشياء منشؤها.

  • (٤)

    الاعتراف بحدود اللفظ القديم الذي استعمله علماء الكلام، وأنه أصبح غير قادر على مواجهة الخارج، وإن كان قادرًا على مواجهة الداخل، وأن مواجهة الخارج تتطلب ألفاظًا من نوعه، وأسئلة مستمدة منه، وليس ألفاظًا محلية تقليدية قديمة لا تقوى على الحداثة، وتعجز عن المعاصرة. هي ألفاظ دينية ارتبطت بدينٍ معيَّن، وبتراث خاص لا تقوى على رحابة العقل، وإطلاق الفكر في الوافد اليوناني. هي ألفاظ اصطلاحية مغلقة على ذاتها، يصعب الخروج منها أو الدخول إليها، ألفاظ شرعية يصعب معها الحوار والأخذ والعطاء، والتفاعل مع ألفاظٍ أخرى. المعنى الشرعي الاصطلاحي هو ركيزة المعنى الاشتقاقي والعرفي، هو المعنى الثابت، والعرفي هو المتحول، والاشتقاقي هو جذره الحسي في عالم الأشياء. هي ألفاظ نشأت من ثنايا الوحي، لها قدسيتها وإطلاقها، ولا يمكن تعقيلها أو تنظيرها أو حتى تأويلها. ليست ألفاظًا عقليةً عامةً يمكن الحوار معها واستبدال بعضها بالبعض الآخر. هي ألفاظ خاصة لوحي خاص، الوحي الإسلامي، وليست ألفاظًا عامة تنطبق على الوحي وعلى غيره من مراحل الوحي السابقة أو من الاجتهادات البشرية المستقلة. لا تتمتع بقدْرٍ كافٍ من العموم لمخاطبة الناس جميعًا؛ فكل حضارة تنشأ إنما تبدأ من خصوصية المصطلحات.

  • (٥)

    التسليم بعجز المصطلحات القديمة عن التعامل مع الثقافات الوافدة. لقد انتشرت هذه المصطلحات في علم الأصول وهو في مواجهة الداخل، ونجحت في كسب معاركها، ولكنها عاجزة عن مواجهة الخارج الذي يعتمد على العقل وحده، ويقدِّم مصطلحات عقلية صرفة. لقد تمَّت التضحية بالألفاظ القديمة وقصرها على علم الكلام وتبني الألفاظ الجديدة، وإنشاء علم بأكمله هي علوم الحكمة؛ فقد تجدَّدت الحياة الثقافية، وانتشرت الثقافة الأجنبية، وأصبحت تمثِّل الآخر المطلق السراح تحديًا للذات. لم تَعُد الألفاظ الاصطلاحية الخاصة قادرة على التصدي للغزو الثقافي الجديد فنشأت مصطلحات جديدة أكثر اتساعًا وعقلانيةً، وأقدر على الحوار مع الثقافات الوافدة.

  • (٦)

    الاعتراف بفضل المصطلحات الجديدة لما تتسم من عقلانية وطبيعية وواقعية وإنسانية. وهي من السمات الرئيسية للوحي وأسسه في العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، والجرأة على استخدامها، وترك الألفاظ القديمة بالرغم من هجوم الفقهاء واتهام الحكماء بالتبعية والتقليد، والخروج على الموروث، والمروق عن الدين. كانت المصطلحات والألفاظ اليونانية بالمصادفة التاريخية عقلانية طبيعية إنسانية متفقة مع مضمون الألفاظ القديمة، فسهل انتشارها، والتعبير عن المعاني العقلية الطبيعية الإنسانية بألفاظ جديدة مطابقة لها، والبعض منها ألفاظ مشتركة بين القديم والجديد مثل العقل والنفس، والروح، والإنسان. فلماذا يُحكم على هذه الألفاظ المشتركة بأنها وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل؟ الأقرب أن تكون هي الألفاظ القديمة بمعاني جديدة لا ترفضها المعاني الاصطلاحية؛ فالتجديد اللغوي إنما يحدث في حالة عجز الألفاظ القديمة عن التعبير عن المعاني الجديدة فقط. أمَّا في حالة القدرة فتبقى الألفاظ التي يتطابق فيها القديم مع الجديد.

  • (٧)

    كان من الطبيعي بعد عصر الترجمة وانتشار ثقافات جديدة بألفاظها أن تنشأ عملية تجديد عن طريق تغيير الألفاظ، إسقاط الألفاظ القديمة لعجزها عن التعبير عن المعاني الجديدة، واستعمال الألفاظ الجديدة كأدوات للتعبير والأكثر قدرة على الحوار والتفاعل بين الموروث والوافد. والألفاظ هي ثوب الفكر، والفكر بطبيعته متعدد الأثواب. وإذا ما كبر الثعبان غيَّر من جلده وإلا ضاق عليه ومات. ودون هذه العملية تقع الأمة في ازدواجية الثقافة. تُعجَب الخاصة بالجديد فتتصل به وتنقطع عن القديم. فالفكر أولى بالحرص عليه من اللغة، والمضمون له الأولوية على الشكل. فتتمسك العامة بالقديم كرد فعل على الخاصة، وتتصل به وتنقطع عن الجديد، وبالتالي تقع الأمَّة في صراع بين العلمانية الجديدة والمحافظة القديمة، بين اختيار الصفوة وثقافة الجماهير.

ظاهرة «التشكُّل الكاذب» وهو الافتراض الذي يقوم عليه «من النقل إلى الإبداع» من أجل إعادة بناء علوم الحكمة تقوم على تحليل لغة الخطاب، الخطاب الموروث والخطاب الوافد من أجل معرفة كيف نشأ الخطاب الفلسفي الثالث وكيف تكوَّن عن طريق عملية الاستبدال اللفظي مع الإبقاء على المعاني ثم التنسيق بينها في التعبير عن تصوُّرٍ للعالم يجمع بين أصالة الموروث وحداثة الوافد.٥٣ أمَّا الأشياء ذاتها فإن التعبير عنها يمثِّل مرحلة الانتقال من النقل إلى الإبداع؛ فجدل اللفظ والمعنى أقرب إلى منطق النقل، في حين أن جدل المعنى والشيء أقرب إلى منطق الإبداع. وفي التأليف الخالص الذي يتجاوز النقل والتعليق والشرح والتلخيص والعرض يظهر الإبداع بالتعامل مع الأشياء مباشرةً والتنظير لها، والتعبير عنها دون تمييز بين موروث ووافد على مستوى اللفظ أو المعنى بعد أن تم التوحيد بينهما في عملية «التشكل الكاذب». التأليف تنظيرٌ مباشر للواقع دون توسط نص قديم أو نص جديد، بل تحويل الواقع إلى نص إبداعي مستقبلي مُضافًا إلى النصين السابقين: النص الماضي القديم والنص الحاضر الجديد. وبالتالي يحدث التراكم المعرفي الضروري، ويظهر الإسهام الحضاري لكل ثقافة في تراكم حضاري للإنسانية جمعاء.

إن معظم الأحكام الخاطئة الخاصة بالنقل والتأثُّر والخلط والتوفيق إنما ترجع إلى أنها تتعامل مع «النقل» أكثر من تعاملها مع «الإبداع»، وتنظر إلى النقل نظرة خارجية محضة دون وعي بظاهرة «التشكل الكاذب». وتغفل الإبداع لأن التأليف حكر على اليونان. أمَّا تأليف الشعوب الأخرى المجاورة السابقة على اليونان مثل شعوب الشرق القديم أو التالية لها مثل الشعوب الإسلامية، فإنه تأليف ديني أخلاقي سياسي، وليس تأليفًا فلسفيًّا ميتافيزيقيًّا نظريًّا منطقيًّا خالصًا، وهو ما يميز التأليف اليوناني القديم والتأليف الغربي الحديث. فالغرب وحده، في مصدره اليوناني القديم، أو في تطوره الحديث، هو الوحيد القادر على التنظير. أمَّا الشعوب اللاأوروبية فليس لها إلا النقل والترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض، التهميش على المتون.

رابعًا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة

(١) المنهج التاريخي والمنهج البنيوي

يمكن دراسة علوم الحكمة بعدة مناهج أهمها المنهج التاريخي والمنهج البنيوي. ولا يعني المنهج التاريخي ما هو متبع في دراسات المستشرقين وفي الكتب المقررة عند أساتذة الجامعات، مجرد رصد زماني لأسماء الفلاسفة وعرض مؤلفاتهم وتكرار مضمونها؛ فهذه هي النزعة التاريخانية عند المستشرقين التي ارتبطت بالمدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر. وهي العادة المتبعة عند الأساتذة الذين يكررون القديم استسهالًا أو كسبًا أو إيثارًا للسلامة أو للترقية.

المنهج التاريخي المقصود هو دراسة الحكماء طبقًا للترتيب الزماني: الكندي (٢٥٢ﻫ)، الرازي (٣١٣ﻫ)، الفارابي (٣٣٩ﻫ)، ابن سينا (٤٢٨ﻫ)، ابن باجة (٥٣٣ﻫ)، ابن طفيل (٥٨١ﻫ)، ابن رشد (٥٩٥ﻫ)، وغيرهم من الفلاسفة الموازين مثل أبو البركات البغدادي (٥٤٧ﻫ) باعتباره تراكمًا تاريخيًّا في علوم الحكمة. كل فيلسوف يبني على فيلسوف طوليًّا، تنويعًا على الاستشراق. وابن رشد يبني على الكندي طوليًّا لأنه استمرار للفلسفة العقلية. وكذلك الرازي يبني على الكندي طوليًّا لأنه استمرار للفلسفة العلمية. وفلاسفة المغرب يبنون على فلاسفة المشرق طوليًّا لأنهم تنويعات عليهم، ابن باجة تنويع على الفارابي، وابن طفيل تنويع على ابن سينا. أمَّا الفارابي فإنه يبني على الكندي عرضيًّا لأنه يؤسِّس مذهبًا موازيًا، الإشراق في مقابل العقل، والفيض في مقابل الخلق، والتصوف في مقابل العلم؛ فالمذاهب كائنات حية يتولد بعضها من بعض.٥٤ تتكاثر بالتمدد والانفصال وبخلق مذاهب متداخلة أو متقابلة، متجانسة أو متعارضة، ومتماهية أو متباينة. ويظل هذا التطور الخالق قائمًا حتى ينقضي عمر الحضارة، ويخف الدافع الحيوي، ويضمر العلم حتى ييبس ويتكلس. كل مذهب وحدة حسية مستقلة، رؤية أو تصور للعالم، نافذة للحضارة على غيرها، معمار هندسي ونسق فكري، وعمل فني، وإبداع ذهني. المنهج التاريخي بهذا المعنى ليس رصدًا للوقائع، ولا إحصاء لمؤلفات، ولا ترتيبًا لنصوص، ولا سلسلة من الأحداث كما هو الحالة في النزعة التاريخية Historicism، بل هو إبداع حيوي، وخلق حضاري، ووحدة عضوية متنامية تحكمها بنية العضو وقوانين الحياة. هو تاريخ أحياء وليس تاريخ أموات، إحساس بنبض وليس رفات أكفان.

وقد يتناول المنهج التاريخي تطوُّر علوم الحكمة من المتقدمين إلى المتأخرين كما هو الحال مع باقي العلماء. وقد لاحظ القدماء هذا التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين السلف والخلف، بين الأوائل والأواخر، وبلغتنا بين القدماء والمحدثين. إلا أن المتقدمين في التراث أفضل من المتأخرين، والأوائل أكثر علمًا من الأواخر، والسلف أكثر إبداعًا من الخلف، في حين أن المحدثين في عصرنا أفضل من القدماء منذ عصر النهضة الغربي في القرن الماضي.

وميزة المنهج التاريخي بهذا المعنى أنه يقدِّم دراسة لنشأة علوم الحكمة وتطورها ابتداءً من النقل والتعليق إلى الشرح والتلخيص، وتطورها إلى العرض والتأليف، وذروتها في الإبداع المستقل. يقدِّم صياغة لكل مذهب فلسفي كرؤية للعالم وتجربة فلسفية واختيار ذهني ومنظور كوني. وعيبه ارتباط علوم الحكمة بأشخاص الحكماء مع أنها مستقلة عنهم، لها بنيتها المستقلة، وموضوعاتها المستقلة.٥٥ كما يصعب الإحصاء الكامل للأشخاص والتمايز بين المذاهب، وضرورة الاقتصار على كبار الحكماء: الكندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. وهنا لا بد من ذكر الأسماء ابن سينا وابن رشد نموذجًا، والمذاهب المشتقة منها مثل السينوية والرشدية. أمَّا الفلسفة الإشراقية أو الفلسفة العقلية أو العلمية فهي اختيارات وتيارات عامة تضم أكثر من فيلسوف ومذهب.
ويتطلب المنهج التاريخي أيضًا تحليل صورة علوم الحكمة عند مؤرخيها ومؤرخي العلوم الإسلامية، سواء في المصنفات أو تاريخ المصنفين أو تاريخ العلوم أو تاريخ الطبقات أو تاريخ المصطلحات أو تاريخ الأمم في إطار التحليل العام للنصوص وكسند للأحكام العلمية وليس كتحليل مستقل؛ فعلوم الحكمة وصف لرؤى العالم تظهر من خلال رؤى المؤرخين. أمَّا التاريخ الصرف؛ أي الحوليات، فإنها موضوع لعلم خاص هو علم التاريخ كعلم إنساني مثل الجغرافيا واللغة والأدب. تحتوي على مواد من أخبار الحكماء تحتويها كتب الطبقات. أمَّا التاريخ السياسي الاجتماعي الصرف كأساس لنشأة علوم الحكمة وتطوُّرها فإنها مسلَّمة منهجية متضمنة، لا تظهر صراحة خشية الوقوع في الرد التاريخي. فلا علم إلا في مجتمع، ولا فكر إلا في واقع، ولا مذهب إلا ويعبِّر عن قوة سياسية واجتماعية، ولا تصوُّر إلا وله محدداته وأطره في علم اجتماع المعرفة. والمنهج التاريخي العضوي يتجاوز مسلَّمات المنهج التاريخي التقليدي الشائع.٥٦
والمنهج البنيوي يدرس علوم الحكمة، ليس كشخصيات أو مذاهب متتالية في الزمان، بل كموضوعات مستقلة أو كرؤية تركيبية أو منظور كلي واحد للعالم؛ فالحكمة إمَّا منطقية أو طبيعية أو إلهية. المنطق آلتها أو منهجها. وتشمل الحكمة الطبيعيات والإلهيات، العالم والله. ولما كان القول الطبيعي هو نفسه القول الإلهي بلغته وألفاظه وتصوراته ومفاهيمه عن الزمان والمكان والحركة والسكون، والعلة والمعلول، على نحوين مختلفين، مرة موجبًا في الطبيعة، فالعالم ذو زمان ومكان وحركة وسكون وعلة ومعلول، ومرة سالبًا في الله، فالله لا زمان ولا مكان ولا حركة ولا سكون فيه. هو قول واحد مرة متجهًا إلى أسفل نحو العالم، ومرة متجهًا إلى أعلى نحو الله، مرة سلبًا ومرة إيجابًا، مرة على نحوٍ نسبي ومرة على نحوٍ مطلَق، مرة على نحوٍ حسي مُشاهَد ومرة على نحوٍ غيبي عقلي. أمَّا النفس فمُحاصَرة بين الطبيعيات والإلهيات؛ في الطبيعيات مرتبطة بالبدن وبالقوى النامية والغاذية والمولِّدة والمحرِّكة والحساسة، وفي الإلهيات مرتبطة بالعقل الفعَّال أو الكلي وبالعقل المستفاد والعقل بالفعل. فلا يوجد قول مستقل في الإنسان، بل هو قول أيضًا مردود إلى أسفل نحو البدن في الطبيعيات أو إلى أعلى نحو النفس في الإلهيات. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى.٥٧
ويمكن دراسة هذه الموضوعات مثل الفلسفة والدين أو العقل والوحي أو النفس وقوى العقل وأنواعه أو الأخلاق والسياسة عبر الفلاسفة؛ فالمهم هو الموضوع وليس الشخص في حضارةٍ الأشخاص فيها يكشفون الموضوع ولا يخترعونه، يصفونه ولا يضعونه.٥٨ ويمكن دراسة الاتجاهات العامة لعلوم الحكمة مثل العقلانية (الكندي، والرازي، وابن رشد) والإشراقية (الفارابي، وابن سينا، وابن طفيل)، كما يمكن دراسة التفكير الجماعي، بقايا الفِرَق الكلامية (إخوان الصفا)، ويمكن أيضًا التمايز بين المدارس طبقًا للمدن (بغداد، والبصرة)، أو طبقًا للصقع الجغرافي (المشرق، والمغرب).
وميزة هذا المنهج اكتشاف البنيات الذهنية والموضوعية المستقلة عن الأشخاص والمذاهب وحوادث التاريخ وتطوره. يتعامل مع علوم الحكمة باعتبارها علومًا مستقلة لها يقينها ووسائل التحقق من صدقها في داخل أنساقها. علوم الحكمة علوم مستقلة عن أشخاص واضعيها. التوجُّه نحو الطبيعة مستقل عن شخص الكندي أو الرازي أو البيروني، بل هو توجُّه حضاري أساسًا نشأ بدافع من توجيه الوحي للذهن نحو الطبيعة. والمنطق آلة للعلوم وسابق على الطبيعات والإلهيات. أيضًا لا شأن له بأشخاص الفلاسفة لأن موضوعات الحكمة ثلاثة: الإنسان والطبيعة والله، بصرْف النظر عن ترتيبها، موجودة في كل حضارة بصرْف النظر عن خصوصيتها، في اليونانية: سقراط (الإنسان)، أفلاطون (الله)، أرسطو (الطبيعة). وفي الغربية في العصور الوسطى: أوغسطين (الإنسان)، أنسيلم، بونافنتورا (الله)، توما الأكويني (الطبيعة). وفي العصور الحديثة: ديكارت (الإنسان)، هيجل (الله)، ماركس، فيورباخ (الطبيعة). وهي التي جعلها كانط مُثُل العقل الثلاثة.٥٩ ولو لم يظهر هؤلاء الحكماء بأشخاصهم لظهر غيرهم بأسماء أخرى. تمثِّل علوم الحكمة نمطًا معينًا من التفكير، لغةً ومعنًى وموضوعًا. لغتها عقلية خالصة، ومعانيها عامة وشاملة، وموضوعاتها الإنسان والعالم والله. وهي نفس البنية التي ظهرت في علم أصول الدين؛ فالمنطق في علوم الحكمة يعادل نظرية العلم في أصول الدين. والطبيعيات في علوم الحكمة تعادل نظرية الوجود (الجوهر والأعراض) في علم أصول الدين. والإلهيات في علوم الحكمة تعادل الإلهيات أو العقليات في علم أصول الدين. والسمعيات أو النبوات في أصول الدين تعادل الشرعيات عند إخوان الصفا الذين ركَّزوا بوجه خاص على الاجتماع والسياسة والتاريخ في الناموسيات والشرعيات. كما يمتاز هذا المنهج بأنه يجعل الباحث حكيمًا مع الحكماء، فيلسوفًا مع الفلاسفة، على نفس مستوى المسئولية. يرى الموضوع من الداخل وليس من الخارج، صاحب دار وليس مستشرقًا غريبًا عليه، يتفلسف مع المتفلسفين. ويعود الأستاذ ليمارس دوره كفيلسوف وليس كمؤلف كتب مدرسية مقررة للترقية أو للإعارة. فيُعاد بناء المنطق والطبيعات والإلهيات بعد أن مرَّ عليها أكثر من ألف عام، ويُعاد كتابة «الشفاء» من جديد من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر في مسار الأنا، وفي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين في مسار الآخر، حيث يُبعث ابن سينا من جديد. والتفلسف في النهاية أسهل وأمتع من البحث التاريخي الخالص والتنقيب في الآثار. وهل تتساوى الحياة والموت؟ المنهج البنيوي هو المنهج الفلسفي الداعي إلى التفكير دون التأريخ للفكر؛ فالفكر لا تاريخ له، ولا يُؤرَّخ له، بل يُفكَّر فيه. الفكر موضوع للتفكير وليس موضوعًا للرصد والإحصاء كالأشياء.
ومن الباحثين، مستشرقين وعرب، مَن يستمد سُمْعته وشهرته وقيمته من الذين عكفوا على دراستهم حتى لا يكاد يُذكر الباحث إلا ويُذكر صاحبه.٦٠ وهو تقليد استشراقي لرسم شخصيات الحكماء وتحويل علوم الحكمة إلى أشخاص الحكماء. ولما كان الحكماء من غير العرب باستثناء الكندي، فالفارابي تركي، وابن سينا فارسي، وابن رشد أندلسي، أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق، فإن العرب أو الإسلام لم يكن لهما فضل أو دور في علوم الحكمة. في حين أن «من النقل إلى الإبداع» يتجاوز أسماء الحكماء إلى علوم الحكمة ذاتها، ولا يرتبط الباحث باسم فيلسوف بل بعلوم الحكمة ذاتها، علوم غير شخصية، أحد العلوم الرئيسية في الحضارة الإسلامية.

وقد يكون العيب الرئيسي في هذا المنهج هو إغفال الإبداعات الفردية، ومساواة الفلاسفة بعضهم ببعض، والوقوع في قدْر كبير من التجريد والعمومية، والانتقال بالفلسفة إلى الميتافيزيقا، ومن الموضوع إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفكر الخالص، بل ونسيان التاريخ والنشأة لصالح الماهية والبنية. وهذا اختيار فكري ومنهجي، مثل أفلاطون أو وقائع أرسطو.

وقد لا يكون هناك تعارض بين المنهجين: التاريخي والبنيوي؛ فالتاريخ تحقيق للبنية، والبنية تتكشف في التاريخ. التاريخ بلا بنية مجرد حصر كمي ورصد خارجي بلا دلالة. والبنية بلا تاريخ ماهية مجردة، معلَّقة في الهواء، لا مستقر لها ولا زمان.٦١ لذلك حاول الفارابي الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم. ميزة قراءة كل فيلسوف على حدة الحفاظُ على وحدة المذهب والرؤية بالرغم من تفكك الموضوع. وميزة قراءة الموضوع الحفاظُ على وحدته بالرغم من تفكك الرؤية لكل فيلسوف. الغاية هي معرفة استقلال الموقف الحضاري ضد شبهة التقليد والتبعية وليس رصدًا مَن مِن الحكماء قال هذا القول من الأقوال.

(٢) منهج تحليل المضمون

الفَرْق بين مناهج الدراسة القديمة لعلوم الحكمة، سواء تلك التي استعملها المستشرقون أو الأساتذة العرب، وبين منهج تحليل المضمون، هو أن المناهج الأولى تَعتبِر النص مصدرًا للعلم، بينما النص في المنهج الثاني هو موضوع للعلم. النص لا يحتوي علمًا إلا بقدر ما يكشف عن مضمون بيان نشأته ومصدره كما يفعل المستشرقون، مجرد رد تاريخي يهدف إلى تبخير الموضوع والقضاء عليه. أمَّا مجرد تكرار معناه فهو مجرد تحصيل حاصل كما يفعل الأساتذة العرب، لا يزيد شيئًا. وكلاهما نقلٌ دون إبداع. الأول نقلٌ من الخارج، والثاني نقلٌ من الداخل. الأول نقلٌ من الخارج إلى الداخل ثم إرجاع الداخل إلى الخارج، والثاني نقلٌ من الداخل الماضي إلى الداخل الحاضر. الأول نقلٌ عبر الحضارات خارج الزمان، والثاني نقلٌ عبر الزمان داخل الحضارة الواحدة. وليس النص مصدرًا للمعلومات، بل هو موضوع للعلم، وهي نفس المسلَّمة التي قام عليها «علم الاستغراب»، الغرب ليس مصدرًا لعلمٍ، بل موضوع للعلم. لا يحتوي النص على أخبار، بل هو موضوع للتحليل. مهمة المؤرِّخ أو الباحث هنا نقلُ مهمة عالِم الكيمياء. يحلِّل أكثر مما يركِّب. نقد النص سابق على استعمال النص لأنه لا يمكن استعمال النص دون معرفة مكوناته؛ فالعلم داخله وليس خارجه. ومنطق النص سابق على معنى النص لأن آليات تكوينه هو العلم به. النص نوع أدبي Genre Literaire تُطبَّق عليه مناهجُ النقد الأدبي وليس مجرد وثيقة تاريخية، مصدرها وصحتها. الشكل الأدبي هو الذي يكشف عن عمليات إبداع النص قبل أن يكشف عنها المضمون، والتعرُّف على معناه. عملية إبداع النص أهم من النص المبدع؛ فالنص ما هو إلا آخر مرحلة من مراحل الإبداع، مرحلة التشيؤ والتيبس والتكلُّس. أمَّا عمليات الإبداع فهو ما قبل النص.٦٢ هكذا تعامل القدماء أيضًا مع نصوص اليونان وفارس والهند وكما نتعامل نحن مع نصوص الغرب الحديث؛ فالنص هو وحدة التحليل القياسية، سواء الأعمال كلها أم أبوابها وفصولها أم فقراتها وعباراتها.
ويتكوَّن منهج تحليل النصوص من خطوات ثلاثة:
  • (١)
    وصف تكوين النص من أجل معرفة كيف تكوَّن في التاريخ ابتداءً من الحدث أو التجربة المعاشة في فترة التدوين؛ فالنص يبدأ في التاريخ من خلال وعي المؤرِّخ. يقع الحدث ويراه المؤرخ ويدوِّنه بلغة ومفاهيم ورؤية، وربما ببواعث ودوافع لأنه جزء من الحدث، وله دور في التاريخ. النص ابن التاريخ دوَّن إحدى لحظاته ثم انغلق النص، وتغيَّرت الأحداث، واستمر التاريخ، وتناقل الناس النصوص بعد أن تكلَّست واستقلَّت عن مسارها التاريخي، وتحوَّلت إلى ثوابت عقلية في علوم الحكمة، ومقدَّسة في علم الكلام، وفي باقي العلوم النقلية، واستدلالية في علم أصول الفقه، وتوجُّهات عملية في علوم التصوف. والنص في علوم الحكمة يبدأ بالنقل ثم بالتحول من النقل إلى الإبداع، ثم ينتهي إلى الإبداع الخالص؛ ففي مرحلة النقل يتم استعمال الخطوة الأولى، وصف تكوين النص بداية بكيفية تدوينه في كتب تاريخ الحكمة ثم قراءتها ونقلها من ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا، ثم الإضافة عليها ابتداءً من روحها وهو ما يُسمَّى الانتحال. كما يبين تطور النص الانتقال من الترجمة إلى نشأة المصطلح الفلسفي إلى التعليق، أي تحرُّك النص المنقول إلى نص مفهوم باحتوائه وتمثُّله وإعادة التعبير عنه بلغة جديدة. كما يبيِّن أيضًا تذويب النص في الشرح بداية باللفظ، والتلخيص بداية بالمعنى، والجامع بداية بالشيء، حتى ينتهي تمثُّل النص الأول قبل إعادة عرضه وإخراجه وتوظيفه في بيئته الجديدة. وهو المنهج المستعمل في المجلد الأول «النقل».٦٣
    ولا يتم وصف التكوين التاريخي للنص إلا بعيش الواصف التجربة التاريخية القديمة التي عاشها المترجمون والشُّراح والفلاسفة لإعادة بناء الموقف الحضاري القديم بناءً على الموقف الحضاري الحالي؛ فوصف التكوين التاريخي للنص هو فهمه وليس مجرد بيان تركيبه.٦٤ والحقيقة أن الفهم لا يتم من الماضي إلى الحاضر إلا إذا كان الحاضر مُعاشًا أولًا، فتتم رؤية الماضي على أساسه. عيش الحاضر هو أساس فهم الماضي. وتجربة العصر هو أساس فهم التاريخ. لا يستطيع فهم التجربة القديمة إلا مَن عاش التجربة الحالية، وإلا كان كمن يقدِّم طبولًا جوفاء لا يسمع منها إلا رجع الصدى أو كمن يتعامل مع أعاجم صماء لا يرى إلا الحركات. لا يُفهم النص إلا كتجربة مُعاشة عند الباحث وفي الحضارة، فهْم الماضي ابتداءً من الحاضر، وفهْم الحاضر كتراكم للماضي، وإعادة بناء الموقف القديم بناءً على الموقف الحالي، رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر في الماضي. وبالتالي تتحقق وحدة التاريخ ووحدة الحضارة، وتظهر البنية الثابتة عبر العصور.٦٥ وتتم الاستفادة من النموذج السابق في حل أزمة العصر، والاستفادة من علوم العصر والتجارب الحالية لفهم تجارب الماضي. لا تُفهم علوم الحكمة ونشأتها في عصر الترجمة بفترتيها، الأولى في القرن الثاني والثانية في القرن الثالث عشر (التاسع عشر الميلادي) إلا بناء على تجارب معاصرة في التعامل مع النصوص الأجنبية واستئناف الحضارة مسارها في دورة ثانية. فإذا كانت الدورة الأولى قد تمَّت مع النص اليوناني، فإن الدورة الثانية تتم الآن منذ مائتي عام مع النص الغربي؛ فالحكيم هو الذي يقوم بالترجمة الآن من أجل احتواء النص الغربي والقضاء على الاغتراب الثقافي المعاصر. وبهذه التجربة الحضارية الجديدة يمكن فهم التجربة الحضارية القديمة عن طريق إعادة بناء الموقف الحضاري الماضي بناءً على وجود موقف حضاري حالي، رؤية الحاضر في الماضي ورؤية الماضي في الحاضر. هذا هو السبيل لفهم عصر الترجمة وما تلاه من شروح وملخصات أولًا، وعرض وتأليف وإبداع ثانيًا. النص تجربة حية عند مؤلفه ولا يُفهم إلا بتجربة حية مماثلة عند قارئه.٦٦ وباتحاد التجربتين يتم فهم النص الأول وإعادة كتابة النص الثاني. ودون معرفة تجارب العصر وهمومه سيظل النص القديم مغلقًا، نصًّا ميِّتًا. قراءة النص القديم لا تكون إلا بوعي يقظ وليس بوعي غافل.٦٧
  • (٢)
    تحليل مكونات النص. والنص خبرة فردية لصاحبه، وخبرة جماعية لمجتمعه وثقافته وحضارته. هو نص إبداعي من خلْق الذات الواعية لموقفها الحضاري. وهو نص جماعي لأن الذات الواعية كائن حضاري يعبِّر عن موقف حضاري؛ فمكونات النص تكشف عن مكونات الوعي الفردي والجماعي، والوعي الفلسفي والوعي التاريخي. الحضارة موقف يتم التعبير عنه وتدوينه في نص فردي وجماعي. تحليل مكونات النص إذن هو منهج لشرح النص بإخضاع النص الفلسفي لعملية تحليل قبل التأويل لمعرفة البواعث العامة للحضارة ومقاصدها.٦٨ ولا فرق بين الوعي الحضاري القديم في تعامله مع النص اليوناني قديمًا والوعي الحضاري الحديث في تعامله مع النص الغربي حديثًا. هناك إذن أربعة أطراف في هذا التحليل المزدوج للنص الماضي في الحاضر وللنص الحاضر في الماضي. الأول النص اليوناني القديم، والثاني موقف القدماء منه، والثالث النص الغربي الحديث، والرابع موقف المحدثين منه. والأنا الواعي هو حلقة الاتصال بين الموقف القديم والموقف الحديث بأطرافه الأربعة، تقرأ الموقف الثنائي القديم، النص اليوناني موضوعًا والقدماء ذاتًا من خلال الموقف الثنائي الحديث، النص الغربي موضوعًا والمحدثون ذاتًا. تدرس الأنا الواعي الموقف كله ثم تبين موقع القدماء منه كما فصَّل القدماء عندما درسوا الموضوع ذاته وبينوا موقع اليونان منه خاصة ابن رشد. وقد تم استعمال هذا المنهج في المجلد الثاني «التحول».
    وأهم مكونين للنص هما الموروث والوافد.٦٩ الموروث مما يأتي من الداخل، من الحضارة الناشئة، من العلوم النقلية، من علوم العرب. والوافد ما يأتي من الخارج، من الحضارة الغازية، من العلوم العقلية، من علوم العجم. ومن التفاعل بين الداخل والخارج ينشأ النص. في هذا التفاعل يبدو إبداع الذات، وتظهر عمليات الإبداع، «التشكُّل الكاذب»، من أجل حل قضية ازدواجية الثقافة، تغيير الوظائف، إكمال الناقص، عدل الميزان بين الأطراف، وضع الأجزاء المنتشرة في كل واحد، إيجاد نسق عقلي شامل، رؤية تطور المذاهب واكتمالها، إدراك دورات الحضارة وتعاقبها. الوافد من علوم الوسائل والموروث من علوم الغايات.٧٠ الوافد يعطي أدوات التعبير، والموروث هو مضمون التعبير. لو تحوَّل الوافد من أداة إلى جوهر، ومن شكل إلى مضمون نشأت ظاهرة التغريب، وتقوقع الموروث على ذاته ما دام قد فقد أدوات تخارجه، وانغلق وتغرَّب معاديًا الجسم الغريب الدخيل الذي أتى يزاحمه، وتجاوز وظيفة الأداة إلى حقيقة الجوهر.

    ويكون تفاعل الوافد والموروث في النص نوعًا أدبيًّا له مقوماته الذاتية وشكله الأدبي، ويتم التعامل معه كما يتعامل النُقَّاد مع النص الأدبي. كما يجوز للفيلسوف أن يتعامل مع النص الأدبي باعتباره نصًّا فلسفيًّا. الجمالي في النص الأدبي، والإخباري في النص التاريخي، والإلزامي في النص القانوني، والإيماني العملي في النص الديني، والمعقول في النص الفلسفي.

    إن النصوص التراثية كما بدت في العلوم القديمة كلها أنواع أدبية؛ فالنص الكلامي، والنص الفلسفي، والنص الفقهي، والنص الأصولي، أنواع أدبية قبل أن تكون مضمونًا. فالنص الفلسفي في علوم الحكمة وحدة تحليل واحدة لا تاريخ ولا موضوعات له، بل نوع أدبي واحد في مقابل نصوص العلوم الأخرى باعتباره إبداعًا حضاريًّا مشخصًا.

    وتحليل مضمون النص ليس تحليلًا إحصائيًّا شاملًا كما هو الحال في تطبيقات منهج تحليل المضمون في العلوم الاجتماعية في تحليل الخطاب، خطاب الرؤساء أو بيانات المحافظين ورجال الإعلام أو مواعظ رجال الدين؛ فالإحصائيات الكمية الصرفة دون وصف كيفي مجرد أرقام لعدد تكرار الأسماء والأفعال والحروف دون دلالة. إنما يكفي الإحصاء الدال، الكمي الكيفي. رؤية الكيف هي التي تحدد قدْر الكم كما هو الحال في الاستقراء المعنوي عند الأصوليين القدماء، وهو الاستقراء الناقص الذي يفيد معنى التام في الغرب المعاصر. الإحصائيات تقريبية، قد تزيد وتنقص دون أن يؤثِّر ذلك على اتجاه النص العام. تحليل الخطاب ليس غاية في ذاته كما هو الحال أحيانًا في العلوم الاجتماعية وفي تحليل الخطاب في الغرب المعاصر في علم اللسانيات الحديث، ولكنه وسيلة ضبط المعنى بدليل حسي لغوي مادي. تحليل المضمون لا يعطي المعنى، بل يؤكده ويبرهن عليه. ويعطي البراهين الجزئية على الحدوس الكلية، والتفصيلات التي تكمن وراء العموميات. ويكشف عن:
    • (أ)

      مدى استعمال الحجج النقلية، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمعرفة مدى اعتماد النص على الموروث أم على العقل، ومدى التكرار، ونوع الآيات والأحاديث، وطرق استخدامها مباشرة أم غير مباشرة، حرة نصية أم معنوية.

    • (ب)

      مدى ظهور الأنبياء، سواء من خلال الآيات والأحاديث أو بمفردهم باعتبارهم روادًا للحكمة لمعرفة مدى نهل النص من الأنبياء أم من الحكماء خاصةً في النصوص الفلسفية عند الشيعة، حيث تحول قصص الأنبياء من الماضي إلى الحاضر إلى فلسفة في التاريخ من الحاضر إلى المستقبل.

    • (جـ)

      مدى الإحالة إلى الموروث العام في علوم الكلام والتصوف والأصول أو العلوم النقلية، وأهم أسماء الأعلام والمذاهب خاصةً في النصوص المتأخرة التي غاصت فيها علوم الحكمة داخل منظومة العلوم كلها.

    • (د)

      الإشارة إلى التراكم التاريخي الفلسفي ومدى تكرار ظهور أسماء الحكماء لمعرفة كيف يبني حكيم على آخر، وكيف يقوم مذهب على آخر، ومدى إحالة اللاحقين للمتقدمين، إحالة الفارابي إلى الكندي والرازي، وإحالة ابن سينا إلى الفارابي والرازي والكندي، وإحالة ابن رشد إلى ابن سينا والفارابي والرازي والكندي أم أن كل حكيم يبدأ من الصفر ويخفي مصادره في حضارة لا تعرف نسبة الأفكار إلى أصحابها، بل تجعلها إرثًا عامًّا ينهل منه مَن يشاء كما هو الحال عند ابن سينا.

    • (هـ)

      مدى حضور البيئة المحلية في النص، أسماء الخلفاء والأمراء والقوَّاد أو أسماء المناطق الجغرافية، البحار والأنهار والبلدان أو أسماء المدن، بغداد والبصرة وبلخ ونيسابور، لمعرفة مدى ارتكان النص إلى بيئته المحلية وخروجه منها.

    • (و)

      نوع الإحالة إلى الوافد، مذاهب أو أسماء الأعلام، وأي المذاهب أو الأعلام أكثر إحالة من الآخر، أفلاطون أم أرسطو، جالينوس أم أبقراط لمعرفة توجُّه النص نحو الوافد ومدى حضور الوافد فيه.

    • (ز)

      مدى استعمال المصطلحات الوافدة، معربة أو منقولة، ومدى الاستقلال عنها بمصطلحات تلقائية شائعة من اللغة العادية، ونشأة المصطلح الفلسفي المستقل؛ فالحكمة لغة وأسلوب.

    • (ﺣ)

      مدى حضور بيئة الوافد، أسماء الملوك والبلدان والبحار والأنهار والمدن والتواريخ والأمثال لمعرفة مدى تخليص النص المترجَم من شوائبه الأولى التي نشأ فيها من أجل إعادة غرسه في بيئة أخرى بأقل قدْر ممكن منها أو باستبدال بيئة محلية أخرى موروثة بها.

    • (ط)

      متى تغيب الإحالات إلى المصدرَين الرئيسيين، الوافد والموروث، ويستقل الإبداع، وينتج نصًّا ثالثًا جديدًا لا أثر فيه للوافد أو للموروث أثرًا مباشرًا، وهو الإبداع الفلسفي العلمي الخالص، ومدى نسبة هذا الإبداع للتأليف السابق في مرحلة النقل، شرحًا وتلخيصًا وجمعًا أو في مرحلة التحول من النقل إلى الإبداع عرضًا جزئيًّا أو كليًّا، نسقيًّا أو أدبيًّا.

  • (٣)
    قراءة النص من أجل إعادة توظيف بنيته الأولى التي تكوَّنت في التاريخ حتى العصر الحاضر، سواء بنفس البنية أو ببنية أخرى معدلة أو مغايرة. النص في هذه الخطوة كائن حي، نشأ وتكوَّن وتطوَّر. له مكوناته الأولى ونموه ثم استقلاله. يبدأ مفعولًا ثم يصبح فاعلًا مثل انتقال الإنسان من مرحلة الطفولة والصبا إلى مرحلة الشباب والرجولة. وكما يُولد ويحيا فإنه يهرم ويموت مثل الحكمة الطبيعية في علوم الحكمة والمقدمات النظرية خاصةً نظرية الوجود في المبادئ العامة، والجوهر والأعراض في علم أصول الدين.٧١ لا تتم قراءته إلا بمنهج حي مطابق. القراءة إعادة بناء القديم طبقًا للجديد، إحضار الماضي في الحاضر، وإلغاء الفارق الزمني بين العصور، فهم الذات العارف فهمًا تاريخيًّا زمانيًّا من أجل التعرُّف على الموقف المعرفي الثابت له. وقراءة النص تُعادل قضية المنهج أو نظرية المعرفة المسبقة التي يتطلبها الباحثون والمفكرون العرب المعاصرون المقلِّدون للغرب في أولوية نظرية المعرفة والمدخل المعرفي للعالم. وقد تم اتِّباع هذا المنهج في المجلد الثالث «الإبداع».٧٢
    وتتم قراءة النص على مستويات ثلاثة:
    • (أ)

      عرض المادة القديمة كما هي وبأمانة تامة حتى يعرف المحدثون ما أنتجه القدماء عن طريق اكتشاف البنية القديمة التي يقوم عليها النص وقراءة ما بين السطور. وهي البنية القديمة التي تكوَّنت في ظروف النص القديمة.

    • (ب)

      مناقشة المادة القديمة بعقد حوار مع بنيتها الداخلية وبيان كيفية توظيفها في ظروفها القديمة من أجل تفكيكها وخلخلة ثباتها وإعادة الحركة لها وتسخينها حتى يمكن بعد ذلك تعديلها جزئيًّا أو تغييرها كليًّا إلى بنية جديدة تعبِّر عن ظروف العصر.

    • (جـ)

      إعادة بناء النص القديم بناءً على ظروف العصر وإعادة كتابته بعد ألف عام، وكأن الحكماء قد بُعثوا من جديد ويقومون بفعل التفلسف في ظروف جديدة، هو المستوى الإبداعي الخالص والذي يرى فيه الحكيم الجديد الحكيم القديم.

    وتتحقق قراءة النص بخطوات أربع متمايزة:
    • (أ)

      تخليص النص القديم من شوائبه التاريخية والبيئة الثقافية القديمة، أسماء الأعلام والأماكن والشواهد حتى يصبح ماهية خالصة يسهل التعامل معها وتحريكها في التاريخ، من الماضي إلى الحاضر؛ أي التخلي عن الخاص من أجل العام، والانتقال من الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الزماني إلى الأبدي، ومن التاريخي إلى البنيوي. هكذا فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» متخلِّصًا من الشواهد والأمثلة اليونانية ومستبدلًا بها الشواهد والأمثلة العربية. يُعاد إنتاج النص من جديد. النص لم يَعُد وافدًا؛ أي نازلًا، بل أصبح موروثًا عقليًّا جديدًا في مقابل الموروث النقلي القديم. تقدِّمه الخاصة للعامة، وتقبله العامة مثل قبولها للمورث، فتتسع مداركها، وتتحدث رؤيتها للعالم.

    • (ب)

      نقل البنية الخالصة من الماضي إلى الحاضر، وتسليطها على العصر لمعرفة مدى استمرارها فيه، وأية وظائف قديمة أو جديدة تؤديها. صحيح أن النص الفلسفي لم يعِش في الوعي المعاصر كما عاش النص الأشعري والنص الصوفي والنص الفقهي وإلا كُنَّا قد استطعنا احتواء الحاضر والقضاء على التغريب في عصرنا كما استطاع القدماء احتواء الواقع والقضاء على عزلة النص. استطاع القدماء تخليص السقراطية من شوائبها وتركيزها على معرفة النفس ونقلها من «اعرف نفسك بنفسك» إلى «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»، بإضافة البُعد الرأسي الناقص إلى البُعد الأفقي الموجود وإكمال علاقة الإنسان بالعالم بعلاقته مع الله، وإكمال علاقة الداخل بالخارج مع علاقة الداخل بالمفارق. وإذا كان أفلاطون قد عرف نصف الحقيقة وأرسطو قد عرف النصف الآخر، فإن الفارابي قد جمع بين النصفين في حقيقة كلية واحدة شاملة تجمع بين الآخرة والدنيا، بين النفس والبدن، بين العقل والحس، بين الله والعالم، بين الداخل والخارج، بين الخيال والواقع، بين الفن والعلم، بين الدين والفلسفة. وبالنسبة لنا قد يتحول المنطق الصوري القديم إلى منطق شعوري حديث. وقد تصبح الطبيعات العقلية القديمة إحساسًا معاصرًا بالطبيعة ينقص المعاصرين. أمَّا الإلهيات الثنائية الرأسية القديمة فقد تتحول إلى إلهيات أفقية من نوع جديد، يصبح فيها الأعلى هو الأمام، والأسفل هو الخلف، ويتم تصوُّر واجب الوجود في حركة وليس في ثبات، في التاريخ وليس خارج التاريخ.

    • (جـ)

      ملؤها بمضمون جديد لو كانت مطابقة أو تعديلها طبقًا للمضمون الجديد قوة واتجاهًا، أو تعديلها إن لم تكن مطابقة، زيادةً أو نقصًا أو توازنًا وربما قلبًا رأسًا على عقب؛ فقد تغيَّرت المادة الثقافية من اليونانية والرومانية والفارسية والهندية إلى الغربية أساسًا بعد أن ضعف جناحنا الشرقي حاليًّا وقوي جناحنا الغربي، فأصبحنا تقريبًا طائرًا وحيد الجناح. فالتوحيد بين الفلسفة والدين، بين العقل والوحي، بين الحكمة والشريعة ما زال بنية مطابقة لاحتياجات العصر الذي اتُّهِمت فيه العقول بالقصور وضرورة فرض الوصايا عليها من السلاطين والعلماء، قدماء ومحدثين. ومقاربة المنطق في علاقته بالفكر مع الوحي وعلاقته بالحياة ما زالت مقاربة صحيحة تجعل الوحي منطقًا، والمنطق وحيًا، وتصنيف العلوم كلها في الحكمة الشاملة دون فصل بين العلوم الرياضية والطبيعية، والنقلية والعقلية ما زال وضعًا قائمًا نظرًا لفقدان النظرة الشاملة للحياة. فالماضي يصب في الحاضر، يقويه ويلبي حاجاته أو يتكيف طبقًا لمطالبه.

    • (د)
      إنشاء بنية جديدة في حالة وصول التجديد إلى أقصى حالاته وأبعد حدوده، وخلق نص فلسفي جديد لا يكون فقط إعادة قراءة «الشفاء» أو إعادة إنتاجه من جديد، بل خلق «الشفاء» الثاني موازيًا للأول وكأن ابن سينا قد بُعث من جديد بعد ما يقرُب من ألف عام، مستبدلًا بأرسطو هيجل، وبسقراط هوسرل، وربما بالطبيعيين الأوائل وبالمدارس الأخلاقية بعد أرسطو كارل ماركس. وبدلًا من أن تكون الحكمة ثلاثية: منطقية وطبيعية وإلهية، تكون أيضًا ثلاثية: الشعور الخالص، والشعور بالآخرين، والشعور بالعالم، ثلاث دوائر متداخلة، مركزها الوعي، وحولها دائرتان، الدائرة الإنسانية وعالم الأشياء كما هو الحال عند هوسرل.٧٣ وبدلًا من أن تنتهي الحكمة بالإلهيات، وتتوزع الإنسانيات، بدأها إخوان الصفا تحت اسم الناموسيات أو الشرعيات من أجل تلبية مطلب ناقص في عصرنا؛ ومن ثمَّ تبرز الحكمة العملية ابتداءً من الأخلاق والسياسة والتاريخ.٧٤ كما يمكن إبداع نص جديد كلية بتجاوز حكمة القدماء وبنيتها الثلاثية القديمة أو الجديدة إلى بنية أخرى نظرًا لتعامل الحكيم الآن مع الغرب الحديث. قد تكون الحكمة أيضًا ثلاثية: المثالية والواقعية وفلسفات الحياة (الإرادية أو العملية أو الوجودية) الرئيسية في الفلسفة الغربية كما كشف عنها الوعي الأوروبي.٧٥

خامسًا: التبويب والأسلوب

(١) التبويب الموضوعي

عادةً ما يتم التبويب، خاصةً إذا ما استُعمل المنهج التاريخي التقليدي، عن وعي أو عن لا وعي، على نحوٍ تاريخي زماني ابتداءً من عصر الترجمة وانتقال التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، من المركز إلى الأطراف، ثم توالي الفلاسفة، واحدًا تلو الآخر، ابتداء من فلاسفة المشرق: الكندي (٢٥٢ﻫ)، والفارابي (٣٣٩ﻫ)، وابن سينا (٤٨٢ﻫ)، ونهاية بفلاسفة المغرب: ابن باجة (٥٣٣ﻫ)، وابن طفيل (٥٨١ﻫ)، وابن رشد (٥٩٥ﻫ)، ولا يكاد يذكر شيئًا عن أبي بكر الرازي (٣١٣ﻫ) أو الرازي صاحب الحكمة المشرقية (٦٠٦ﻫ)، وأبو البركات البغدادي (٥٤٧ﻫ)، وأبو الحسن العامري (٣٩١ﻫ). ولا يكاد يذكر شيئًا عن المترجمين الفلاسفة، مثل: يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ)، وثابت بن قرة (٢٨٨ﻫ)، وابن ناعمة الحمصي (القرن الثالث) وغيرهم. ولا يكاد يذكر شيئًا عن الفلاسفة بعد ابن رشد نظرًا لازدهارهم عند الشيعة في إيران، مثل: الطوسي (٦٧٢ﻫ)، ملا خسرو (٨٨٥ﻫ)، صدر الدين الشيرازي (١٠٥٩ﻫ)، وغيرهم. ولما كانت الشخصيات لا تضع حكمة، بل تعرض وتصف، فإن التبويب طبقًا للأشخاص هو أسهل أنواع التبويب وأسوَؤها في آنٍ واحد، وأدلها على الكسل والترهل العقلي. وبالرغم من أن كل فيلسوف يمثل عصرًا إلا أن العصر أدل من الفيلسوف. والفيلسوف كاشف للعصر وأدل عليه وليس صاحب مذهب فردي خاص به. وقد ارتبط الفيلسوف بالمذهب لدرجة اشتقاق اسم المذهب من اسم الفيلسوف مثل السينوية والرشدية كما حدث من قبل في علم الكلام من اشتقاق اسم الفرقة عادةً من أسماء رؤسائها.٧٦ وبهذه الطريقة في التبويب بحجة المنهج التاريخي يتم تقطيع الموضوعات وتجاهل البناء واستحالة التفكير على علوم الحكمة، وكأن الباحث عارضٌ سيئ لأجود بضاعة. كما يستحيل استيفاء حق كل فيلسوف في كمٍّ متناسب نظرًا لاختلاف الأهمية، ولِعِظَم أهمية ابن رشد على الكندي، وابن سينا على ابن طفيل، والفارابي على ابن باجة. وفي كل الحالات يغفل هذا التبويب ظروف العصر التاريخية والإطار الاجتماعي للمعرفة، وكأن الفلاسفة نجوم مضيئة في ليل بهيم.
أمَّا التبويب الموضوعي فإنه التبويب الفلسفي المطابق لعلوم الحكمة في مرحلة الذروة، مرحلة «الشفاء»، والذي استمر بعده حتى ابن خلدون. يكشف عن البناء، ويدعو الباحث إلى التفلسف، وإلى أن يصبح جزءًا من موضوعه، من الداخل وليس من الخارج، من أهل الدار وليس من المتفرجين أساتذة الجامعات العرب أو الغرباء المستشرقين. وهو التبويب الذي يقوم على تجميع الموضوعات، والكشف عن البناء. قد يصعب ذلك في الكندي والفارابي وابن رشد ويسهل في ابن سينا الذي وضع البنية الثلاثية لعلوم الحكمة وعند إخوان الصفا الذين وضعوا البنية الرباعية لها. ومع ذلك يمكن تجميع موضوعات السابقين واللاحقين لابن سينا في بنية «الشفاء»، وجمع المتناثر المتفرق في كلٍّ واحد متجانس. التبويب الموضوعي هو الذي ينبثق من الموضوع ذاته وهو يتخلق في الوعي الفردي والوعي الجماعي، ويتحول إلى بنية للحضارة. وهو التبويب الطبيعي الذي يصاحب الأشياء. التبويب والموضوع شيء واحد. التبويب موضوع مرئي، والموضوع تبويب ذهني. وهو لا يبتعد كثيرًا عن تبويب القدماء وقسمة ابن سينا الحكمة إلى نظرية وعملية. النظرية تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات. والعملية تضم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. وهذه البنية وراء كل حكمة يونانية أو إسلامية أو غربية. وصلت إليها الفلسفة الغربية الحديثة في مرحلة الذروة عند هيجل عندما قسَّم الفلسفة إلى منطق، وفلسفة للطبيعة وفلسفة للروح.٧٧

مشروع «التراث والتجديد» يعيد بناء العلوم القديمة كأنساق كما تم ذلك من قبلُ في «من العقيدة إلى الثورة» كأنساق للعقائد وليس كتاريخ للفِرَق الكلامية المسماة في معظمها بأسماء رؤساء أصحابها. وعلوم الحكمة علم متكامل له نسقه بصرْف النظر عن أشخاص المتكلمين والفلاسفة.

ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» هو الإسهاب، وأي قارئ يستطيع قراءة خمسة مجلدات، حتى ولو كان مؤلفها القاضي عبد الجبار صاحب العشرين مجلدًا في «المغني في أبواب التوحيد والعدل»؟! ومن ثمَّ كانت الخطة الأولى أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» في مجلدين: الأول «النقل»، والثاني «الإبداع». الأول عن الحكمة النقلية، والثاني عن الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. الأول تحليل للنصوص والثاني تركيب لها. الأول رصد للوافد، نقلًا وتعليقًا وشرحًا وتلخيصًا وعرضًا، والثاني تفاعُل الوافد والموروث تأليفًا وإبداعًا ونسقًا. الأول يغلب عليه المنهج التاريخي ومنهج تحليل المضمون، والثاني يغلب عليه المنهج البنيوي ومنهج قراءة النصوص. الأول حفر البئر والثاني تفجير النفط بلغة أغنياء العصر. للموضوع إذن مرحلتان: الأولى رد الاعتبار إلى الفلسفة وإلى دورهم الحضاري في تمثل الوافد واستعماله للتعبير من خلاله عن الموروث؛ فقد كانوا زعماء حداثة. والثانية الحوار معهم، فكرًا لفكر، وندًّا لند، وعصرًا لعصر. الأولى نقل الخارج إلى الداخل، والثانية نقل الداخل الماضي إلى الداخل الحاضر. هناك إذن استدراك على ما فات، وتقدم من المجلدات الخمسة في «من العقيدة إلى الثورة» إلى مجلدين في «من النقل إلى الإبداع». ومجلدان بالنسبة لمجلدات «الشفاء» التي تفوق العشرة تقدم بالنسبة إلى كم القدماء. إن ضخامة إنتاج القدماء وبعض المحدثين لأن كلًّا منهم لديه مشروع متكامل وليس مجرد كتاب مقرَّر غير مترابط، ولا هدف له كمتطلب حرفة وليس لتحقيق رسالة. ومشروع «التراث والتجديد» به هذا النفَس الطويل من القدماء، من «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار، ومن «الشفاء» لابن سينا، ومن «إحياء علوم الدين» للغزالي، ومن كتب التفسير والحديث والفقه المطولة. وفي كلتا الحالتين، القراء هم الضحايا. الأول يبدأ من صورة الفكر، النقل، والثاني يتعامل مع مضمونه، الإبداع. ولا تقلُّ معرفة شكل الفعل عن مضمونه؛ فالفكر شكل ومسار واستدلال قبل أن تكون له مادة أو موضوع. الأول يحفر ويؤسس والثاني يبني ويشيِّد. الأول يستقرئ الجزئيات، والثاني يستنبط الكليات. الأول يغلب عليه النقل وتحليل المادة القديمة، والثاني يحاول الخروج من النقل إلى الإبداع عن طريق القراءة.

وكالعادة، وكما حدث في «مقدمة في علم الاستغراب» عندما تضخَّم وصف تكوين الوعي الأوروبي عن فصل واحد إلى خمسة فصول عن المصادر، والبداية، والذروة، ونهاية البداية، وبداية النهاية، تضخَّم النقل في وصف كيفية انتقال الوافد وتحوُّله إلى موروث عقلاني جديد من مرحلة الترجمة إلى التعليق إلى الشروح الثلاثة: الكبير والمتوسط والصغير، كما فعل ابن رشد، ثم إلى العرض ومراحله من العرض الجزئي إلى العرض الكلي إلى العرض النسقي والعرض الأدبي ثم إلى التأليف، حيث يتفاعل الوافد والموروث في مراحل متعددة ابتداءً من تمثُّل الوافد وحده ثم تداخل الوافد والموروث، مرة مع أولوية الوافد ومرة مع أولوية الموروث حتى يختفي الوافد كلية وتصبح الأولوية للموروث في النهاية كما كانت الأولوية للوافد في البداية، وأخيرًا إلى الإبداع الخالص حيث يختفي الوافد والموروث كلية ولا يعتمد العقل إلا على ذاته في إبداع نص فلسفي لا يحيل إلا إلى ذاته، وغالبًا ما يكون هو النص العلمي الرياضي والطبيعي وأقل من ذلك النص الفلسفي. فلزم فصل هذه المراحل كلها في مجلد مستقل انفصل عن النقل وتوَّلد منه، وهو «التحول». ولم يُضِف القدماء «النقل» ولا «التحول» كجزء من الحكمة؛ فالأوراق والثمار لا ترى جذورها، والرجولة لا ترى الطفولة، إنما يفضل ذلك الزارع الذي رأى الشجرة وهي تنمو وعالم النفس الذي درس طفله أو أطفال الآخرين من الطفولة إلى الرجولة.٧٨ ولما تضخَّمت الحكمة العملية وخشيت أن تنفصل إلى جزء رابع، وبالتالي يكاد يقترب «من النقل إلى الإبداع» من الهم الكمي السباق في «من العقيدة إلى الثورة» وخروجًا على قاعدة القسمة الثلاثية: ثلاثة مجلدات، كل منها ثلاثة أبواب، كل منها ثلاثة فصول، جاء البابان الثاني والثالث في المجلد الثالث، كل منهما في أربعة فصول. الباب الثاني الحكمة النظرية في أربعة فصول: المنطق والطبيعات والإلهيات والإنسانيات إبرازًا للنفس واستقلالها عن الطبيعات كبدن وعن الإلهيات في نظرية الاتصال بالعقل الفعَّال كنفس. والباب الثالث الحكمة العملية في أربعة فصول: الأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والتاريخ، إدخالًا للاقتصاد في الاجتماع، وإبرازًا للتاريخ كإضافة معاصرة للحكمة العملية، وإجابة على سؤال: لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟٧٩

(٢) الأسلوب المباشر

ليست الحكمة فقط معاني وتأمُّلات، بل هي وسائل تعبير. والأسلوب المختار هو الأسلوب المباشر، وهو الأسلوب الذي يبعد عن الإنشاء والخطابة، والذي يعبِّر عن الأهواء والانفعالات أكثر مما يعبِّر عن وقائع أو حقائق تملقًا لأذواق العامة. كما يبتعد عن الأسلوب المجرد الذي لا يقدِر عليه إلا الخاصة للتعالي والتعالم على الجمهور وادعاء أهمية القول وضياع العالم أمام جهل الناس. وهو الأسلوب الذي يتوجَّه إلى جماهير القراء وبسطاء الناس الذين يجمعون بين المعرفة العامة والثقافة الخاصة. هو الأسلوب العادي الشائع الذي يتوجَّه إلى عموم القراء، يقدِّم للخاصة علوم الحكمة، ويكشف للعامة أزْمة الإبداع. هو السهل الممتنع الذي اشتهر به كبار الفلاسفة، قدامى مثل سقراط وأفلاطون، ومحدثين مثل ديكارت وبرجسون. عرفه القدماء مثل أبو حيان وأبو سليمان السجستاني. يدرك أهمية العرض النظري المجرد، وفي نفس الوقت أهمية الصورة الفنية. يخاطب العقل والخيال، ويستعمل المقولات والصور.٨٠ كيف يمكن إيجاد أسلوب يتجاوز تجريد «الشفاء» وملله؟ وهو أسلوب لا شخصي لا يذكر أسماء الأعلام إلا اضطرارًا حتى تظل الحقائق مستقلة عن الأشخاص، ووضع كل شوائب النص هذه في الهوامش، خاصةً المجلد الأول «النقل» والثاني «التحول». أمَّا الثالث «الإبداع» فالتعامل مباشرةً مع النص الذي مات مؤلفه، ويُعاد إنتاجه من جديد بواسطة القارئ. مات المؤلف، عاش القارئ. والنص اللاشخصي ليس مِلكًا لأحد، خلية حية تتكاثر طبقًا لقوانين الحياة يموت ويحيا، ويتحوَّل إلى طاقة منتجة وفعَّالة في التاريخ. النص طاقة مختزنة يفجِّرها القارئ، قنبلة زمنية موقوتة، دفنها المؤلف في رمال الصحراء، وفجَّرها القارئ بعد الاصطدام بها.٨١
ولا تصدر أحكام بالثناء أو بالنقد، بالمديح أو التجريح، لا على القدماء ولا على المحدثين؛ فاجتهادات الفريقين بالرغم من اختلاف الظرفين لها أجر إن أخطأت، ولها أجران إن أصابت. إنما الأحكام عندي جزء من بناء الموضوع، حكم داخلي وليست حكمًا خارجيًّا، وكأن الموضوع هو الذي يحكم على نفسه بنفسه.٨٢ وهذا ناتج من أن «من النقل إلى الإبداع» إعادة دراسة لموضوعات علوم الحكمة، وليس نقلًا لها كما فعل الفارابي مع اليونان، يفحص صدقها، ويعيد بناءها. لا تحتوي الأحكام على رأي خاص للهجوم أو للدفاع عن هذا الفيلسوف أو ذاك، بل وضع الحكماء في منظور كلي كمساهمات متعددة لبناء صرح واحد. ليس المطلوب هو إلقاء المدح أو الذم على هذا الفيلسوف أو ذاك، تخطئةً أو تصويبًا، تحقيرًا أو تعظيمًا، ولكن إعادة وضع الكل في نسق عام حاولت علوم الحكمة وضعه. الوصف المزدوج لعلاقة الأنا بالآخر سواء عند القدماء مع اليونان أو عند المحدثين مع الغرب هو في حد ذاته حكم ورأي، ولكن من الداخل وليس من الخارج. الوصف حكم غير مباشر من داخل الموضوع وليس من خارجه. وإعادة بناء الموضوع من خلال إعادة تركيب الموقف هو حكم عملي داخلي وليس حكمًا خارجيًّا نظريًّا، حكم التزام ومسئولية وليس حكم فرجة أو تشفي. لا يوجد تجريح أو تخوين، اتهام أو سب، طعن في أحد أو اتهام للحكماء بأنهم دوائر منعزلة عن الثقافة الإسلامية أو متفلسفة، وليسوا فلاسفة أو كفرة ملاحدة، شيعة باطنية. هناك فقط محاولة لفهم طبيعة العمليات الثقافية التي تنشأ في حالة التقاء حضارتين، الأولى ناشئة والثانية وافدة. وإذا أخطأ أحد من القدماء أو المحدثين فله العذر. كل خطأ له دوافعه وظروفه، بيئته الثقافية وجوُّه الحضاري. هم رجال ونحن رجال. اجتهدوا على مستوى عصرهم وثقافتهم، ونجتهد على مستوى هذا العصر وثقافته. المسئولية واحدة. بنى القدماء وأعاد المحدثون البناء.٨٣
وإذا كان الحكم بالأثر الخارجي على مشروع «التراث والتجديد» في جبهاته الثلاث وفي أجزاء كلٍّ منها ما زال يصدر فإنه بطبيعة الحال صادر على هذا الجزء. فإن قيل إن «من العقيدة إلى الثورة» هو نقل فيورباخ في «جوهر المسيحية» إلى علم أصول الدين من أجل تأسيس «فيورباخية إسلامية» كما أن «التراث والتجديد»، هذا البيان النظري الأول، هو محاولة لوضع «ظاهراتية إسلامية» طالما يتحدث عن منهج تحليل الشعور، فقد يصدر حكمٌ على «من النقل إلى الإبداع» أنه استعارة «التشكل الكاذب» من أشبنجلر في «أفول الغرب» كما يتهم البعض.٨٤ والحقيقة أن جدل اللفظ والمعنى والشيء وظاهرة الاستبدال اللغوي كأحد ظواهر التقاء الحضارات تنظير مباشر لتجارب حية في علاقة الأنا بالآخر، وحددت ذلك في الوعي بتجربة التعبير عن مضمون لفظ الله بألفاظٍ أخرى مستمدة من الفلسفة الغربية الحديثة. فهو الكمال (ديكارت)، والجوهر (أسبينوزا)، ومثال العقل (كانط)، والروح (هيجل)، والدافع الحيوي أو الطاقة الروحية أو التطور الخالق أو الديمومة (برجسون)، والفعل (بلوندل) والشخص (مونييه)، والجسم (ميرلوبنتي)، والوجود (هيدجر)، والحرية (سارتر)، إلى آخر هذه المفاهيم الحديثة التي تدل على المنطق في الفلسفة الغربية كما دلت عليه ألفاظ العلة الأولى، والمحرك الأول، والصورة المحضة من الفلسفة اليونانية القديمة. فلا أثر من مذهب أو فيلسوف قديم أو حديث، يوناني أو غربي على «من النقل إلى الإبداع». إنما في الذهن باستمرار مشاريع مماثلة للتراث والتجديد في الفكر الغربي مثل «إعادة البناء العظيم» لفرنسيس بيكون في القرن السابع عشر في البداية، وإعادة بناء العلوم لهوسرل في القرن العشرين، والأقرب إلى النفس «إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام» لمحمد إقبال. فقد استعمل أيضًا لفظ Reconstruction، بل إن مشروع الفلسفة الغربية كله منذ ديكارت حتى هوسرل هو إعادة بناء العلوم، إعادة بناء العصر الوسيط كله بناءً على الذاتية الحديثة، وديكارت وكانط وفشته وهيجل، كيف يمكن أن تكون الذاتية موضوعًا لنظرية العلم.٨٥

سادسًا: المصادر والمراجع

(١) استعمال المصادر القديمة

الاعتماد الأول في «من النقل إلى الإبداع» على المصادر الأصلية، وهي المصادر القديمة، المادة الخام. وهي النصوص موضوع التحليل المباشر والقراءة الفلسفية من أجل إعادة البناء. والتفضيل الأول للمصادر الكاملة كما كان الحال في كتب العقائد في علم أصول الدين، النصوص الرئيسية التي وضعت لعلوم الحكمة بنيتها، سواء في مرحلة النقل أو في مرحلة الإبداع. نموذج ذلك الترجمات العربية القديمة وشروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه عليها في مرحلة النقل، وعروض الفارابي لفلسفة أرسطو، و«الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا في مرحلة التحول وبعض المؤلفات الفلسفية والرياضية والطبيعية، وكذلك رسائل الكندي الفلسفية والطبيعية بصرْف النظر عن الترتيب الزماني في مرحلة الإبداع. فالبنية في التاريخ، في المعية الزمانية، وليست في التوالي الزماني. فابن رشد هو الشارح الأعظم في مرحلة النقل، والفارابي هو المعلم الثاني، وابن سينا الشيخ الرئيس في مرحلة التحول، والكندي فيلسوف العرب في مرحلة الإبداع.

وبعد الأعمال الكاملة تأتي الأعمال الجزئية، الرسائل والمقالات والسير الذاتية، مثل سيرة ابن سينا بيد تلميذه البوزجاني، وسيرة حنين بن إسحاق عما ترجم عن اليونانية. وتدخل في ذلك كل مؤلفات الفارابي التي وُضعت في صيغة رسائل باستثناء كتاب الحروف و«آراء أهل المدينة الفاضلة» وكتاب «الموسيقى الكبير»، وكذلك «رسائل إخوان الصفا» لدلالتها على البنية الرباعية لعلوم الحكمة مثل دلالة أعمال ابن سينا وقسمته الثلاثة، نظرات جزئية تدخل في النسق الكلي. وهناك أعمال جزئية أخرى في إحدى فروع الحكمة، إمَّا في المنطق أو في الطبيعيات أو في الإلهيات، مثل «الحكمة السعيدية في الحكمة الطبيعية»، ومثل كتب المنطق المتأخرة الذي أصبح علمًا مستقلًّا، نثرًا أو شعرًا، مثل «البصائر النصيرية» للساوي، و«السلم المنورق»، والشروح المتعددة على نصوص المنطق القديم في القرنين السابع والثامن بعد نهاية التأليف الفلسفي عند ابن رشد وقبل استئنافه في فارس على يد صدر الدين الشيرازي وملا خسرو.

وكنت قد ظننت تحت وهم مناهج التعليم ومقرراته في عصرنا وتبعيتها للاستشراق الغربي أن مؤلفات علماء الطبيعة والرياضة أدخل في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية منها في علوم الحكمة؛ فأعمال الكندي العلمية وكذلك رسائل الرازي وابن حيان والبيروني والحسن بن الهيثم وثابت بن قرة وأعمال حنين بن إسحاق الطبية وكذلك «القانون» في الطب لابن سينا و«الحاوي» للرازي، و«الكليات» لابن رشد، أقرب إلى تاريخ الطب عند العرب، وكذلك الأعمال الفلكية والموسيقية، كل ذلك أدخل في تاريخ العلوم عند العرب، والذي يبعد عن الحكمة الطبيعية التأملية الخالصة. وكان في مشروع «التراث والتجديد» في صياغته الأولى سيتم عرض هذه المادة في الجزء السادس من الجهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» بعنوان «العقل والطبيعة» محاولة لإعادة بناء العلوم الرياضية والطبيعية. ثم أُضيف إليها «الوحي» في عنوان ثلاثي الإيقاع: «الوحي والعقل والطبيعة» يخرج عن ثنائية الإيقاع المتبع في باقي الأجزاء. ثم جاء التردد نظرًا لأنها أصبحت مهنة خاصة لها متخصصوها. أصبحت موضوعًا لعلم خاص ومعاهد خاصة في تاريخ العلوم، كجزء من تاريخ العلم العام تحت بند «تاريخ العلوم عند العرب». يرث ما قبله عند اليونان والشرق القديم، ويرثه من بعده في تاريخ العلم الغربي الحديث. ثم تبدَّد هذا الوهم بعد دراسة الحكمة الطبيعية، وأنها تشمل كل هذه العلوم الرياضية، الحساب والهندسة والموسيقى والفلك والكيمياء، بل والجغرافيا باعتبارها علم طبقات الأرض، والتاريخ نظرًا لسيادة النظرية الجغرافية على تفسير أمزجة وطبائع الشعوب. ولا عجب أن يضم «الشفاء» القسم الرياضي، وأن تضم رسائل إخوان الصفا القسم الرياضي كذلك. والعجيب أنه هو الجانب الذي به الإبداع الخالص دون الإحالة إلى الموروث أو الوافد والذي يتم فيه التركيز على العقل والطبيعة تنظيرًا مباشرًا للواقع دون رؤيته من خلال نص الأوائل أو الأواخر.

وهناك مؤلفات فلسفية أخرى لم يكتبها حكماء خُلَّص مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، بل كتبها مؤلفون موسوعيون مثل الغزالي، الذي كان متكلمًا مع المتكلمين في «الاقتصاد»، وحكيمًا مع الحكماء في «مقاصد الفلاسفة»، و«تهافت الفلاسفة»، ومنطقيًّا مع المنطقيين في «محك النظر» و«معيار العلم» و«القسطاس المستقيم». وهناك أيضًا الرازي، الذي كتب «الحكمة المشرقية» جامعًا بين الفلسفة والكلام، كما هو الحال في علم الكلام المتأخر. أمَّا كتب المصطلحات فإنها جزء من علوم الحكم، مثل: «اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة» للآمدي، و«التعريفات» للجرجاني، و«كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي، و«أبجد العلوم» لحسن صديق خان، و«دستور العلماء» للقاضي عبد الرسول؛ فهي قمة ما وصلت إليه علوم الحكمة من تجريد؛ فالفلسفة هي المصطلح، نشأةً وتكوينًا واكتمالًا.

وهناك أعمال فلسفية نشأت في ثنايا الفلسفة الإسلامية، ولكن باسم الفلسفة اليهودية والمسيحية. كانت الفلسفة الإسلامية النموذج الذي بُنيت عليه الفلسفتان الشقيقتان؛ فقبل اتصال اليهود والمسيحيين بالمسلمين لم تكن لديهما فلسفة عقلية. عرف اليهود الدراسات التوراتية، الشروح على التوراة والتلمود والمشناه. وغلب على علومهم النقل دون العقل، والتقليد دون التجديد، فلما اتصلوا باليونان ظهر فيلون، ولما اتصلوا بالمسلمين مرة ثانية ظهر سعيد بن يوسف الفيومي، وداود بن مروان المقمس، وباهيا بن باقوده، وسليمان بن جبرول، وموسى بن ميمون، وإبراهيم بن عزرا، وغيرهم من المتكلمين والفلاسفة العقليين اليهود الذين كتبوا أعمالها إمَّا بالعربية، أو بالعربية بحروف عبرية، أو باللغة العبرية بناءً على النسق الإسلامي أو الكلامي أو الفلسفي. ومنهم مَن تحوَّل إلى الإسلام مثل ابن السموأل الذي كتب «بذل المجهود في إفحام اليهود» وأبو البركات البغدادي (ابن ملكا) صاحب «المعتبر في علوم الحكمة». ومنهم مَن تحوَّل إلى الإسلام ثم ارتد إلى دين الآباء كما تنقل الروايات عن موسى بن ميمون صاحب «دلالة الحائرين». فهل تُعتَبر هذه الأعمال نصوصًا في علوم الحكمة أم تظل أقرب إلى الفلسفة اليهودية؟ وهل يحلل «ينبوع الحياة» مثل «النجاة»، ويحل «دلالة الحائرين» مثل «فصل المقال»؟ وماذا عن باقي أعمال موسى بن ميمون في شروحه على التوراة والمشناه والوصايا العشر، هل هي أدخل في النموذج الإسلامي أم في التطبيق العبري؟ والحقيقة أن العامل الحاسم في ذلك هو مضمون النص بالإضافة إلى انتماء صاحبه الديني؛ فكتاب «المعتبر» داخل في علوم الحكمة لأن صاحبه اعتنق الإسلام وظل على اعتناقه، كما أن مضمونه في بنية ابن سينا الثلاثية لعلوم الحكمة. أمَّا مَن ظل يهوديًّا مثل ابن جبرول أو مَن ارتد إلى اليهودية بعد أن اعتنق الإسلام فهو أقرب إلى الفلسفة اليهودية، حتى ولو كانت متبنية للنسق الإسلامي.٨٦

كما ظهر الأدب المسيحي الشرقي في حضن المسلمين؛ فهو جزء من تاريخ الفلسفة الإسلامية باعتبارها النموذج الذي تمَّت عليه صياغة الفلسفة المسيحية منذ يحيى بن عدي ونصارى الشام الأوائل حتى بولس الأنطاكي وفلاسفة الشرق المسيحيين، بل إن الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط المتأخر تُعتَبر امتدادًا للفلسفة الإسلامية لاعتبارها النموذج العقلي للإيمان عند أبيلار وغيرهم من الفلاسفة العقليين منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي.

فهل تشمل علوم الحكمة النمط الفكري السائد بصرْف النظر عن العقيدة؟ لو كان الرد بالإيجاب لدخلت الفلسفة اليهودية ضمن الفلسفة الإسلامية. فلا فرق بين ما يقوله موسى بن ميمون وبين ما يقوله ابن رشد، ولا فرق بين ما يقوله سعيد بن يوسف الفيومي وبين ما يقوله الفارابي في الغالب. والقراءون خير نموذج للفلاسفة اليهود المسلمين، وكذلك كل أنصار النزعة العامة في الفكر اليهودي.٨٧ ولا فرق بين ما يقوله الفلاسفة النصارى الذين عاشوا بين المسلمين وبين ما يقوله المسلمون منذ إنجيل المصريين، وإنجيل توما، وإنجيل برنابه، حتى فلاسفة الكنيسة الشرقية وفِرَقها مثل اليعاقبة مرورًا بآريوس الذي يقول بوحدة الأقنوم في طبيعة السيد المسيح، ويؤكدون بشريته. فالاشتراك في الحضارة يجب العقيدة. ومع ذلك تم استبعاد هذه النصوص من أجل دراسات مستقلة عن الفلسفة اليهودية العربية والفلسفة المسيحية العربية التي تشارك الفلسفة الإسلامية في نفس النسق الفلسفي والنموذج الحضاري بالرغم من محاولات الغرب المعاصرة لضمها للفلسفة الغربية في العصر الوسيط.
وهناك أيضًا تدوين علوم الحكمة في كتب التاريخ والطبقات مثل «الفهرست» لابن النديم، «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» لابن أبي أصيبعة، «طبقات الأطباء» للقفطي، «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي، «وفيات الأعيان» لابن خلكان، «تتمة صوان الحكمة» للبيهقي، «نزهة الأرواح» للشهرزوري، وغير ذلك من المصادر القديمة. وأهميتها في تدوين علوم الحكمة كما هي عند أهلها وفي حضارتها. وقد تكون هذه الصورة أدق من صورتها عند المحدثين، مستشرقين غربيين وباحثين عرب. والحقيقة أن هؤلاء المؤرخين ومؤلفي الطبقات ليسوا مؤرخين، بل فلاسفة حضارة، ينظرون إلى العلوم كمكونات حضارية، يحددون من خلالها رؤية حضارية بعيدًا عن النزعة التاريخية في القرن التاسع عشر الأوروبي، بل إن الأخطاء التاريخية، سواء في تواريخ الميلاد والوفاة للحكماء، والنسبة الخاطئة للمؤلفات من الوافد والموروث لغير أصحابها، والنوادر المختلفة، كل ذلك له دلالاته الحضارية على الإبداع التاريخي. ولما كان «من النقل إلى الإبداع» يهدف أيضًا إلى إعادة بناء علوم الحكمة من داخل الحضارة وليس من خارجها، فإن صورة هذه العلوم داخل الحضارة كما تصوَّرها القدماء قد تساعد على إحكام صورتها الجديدة عند المحدثين. وتغني هذه المصادر عن كتب التاريخ خارج علوم الحكمة التي يتم منها عادة وضع إطار مادي للعلوم. في حين أن علوم الحكمة قد دونت تاريخها، وقرأت الآخر من منظور الأنا، بل وانتحلت نصوصًا ناقصةً في حضارة الآخر. فكيف لا يراسل الإسكندر أستاذه أرسطو أو أمه؟ وكيف لا يكتب أرسطو إلهيات إشراقية؟ وكيف لا يكتب اليونان فلسفة باطنية؟ وكيف لا يكتب سقراط عهدًا قبل أن يموت؟٨٨

وهناك صورة لعلوم الحكمة في كتب الفِرَق، فالحكماء فرقة، أتباع سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرسطو ضمن الفِرَق غير الإسلامية، خاصةً عند الشهرستاني في «الملل والنحل». وقد تم عرض هذه الصورة في التدوين تلافيًا لنقص «من العقيدة إلى الثورة»، الذي لم يتعرض لهذه الصورة؛ نظرًا لأنه في نسق العقائد وليس في تاريخ الفِرَق.

وهناك صورة معادية لعلوم الحكمة في كتب الفقهاء المعادين للمتكلمين والحكماء والصوفية وكل اجتهاد أو إبداع إنساني بدعوى ابتعادها عن الشرع وخروجها على العقيدة ورجمها بالظن، وخطرها على العامة، وضلال الخاصة منذ محنة أحمد بن حنبل في موضوع خلق القرآن، حتى «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني، و«اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم، ومجموع أعمال ابن تيمية في «منهاج السنة» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» حتى فتاوى ابن الصلاح. وقد تساعد هذه الصورة على نحوٍ سلبي على معرفة وضع هذه العلوم من منظور فقهي خالص الذي يرفض الوافد لصالح الموروث، ويرجِّح أساليب القرآن على منطق اليونان. ولم يتم استعمال هذه المصادر لأنها أدخل في الفكر الفقهي؛ فالفقهاء هم حراس المدينة، دورهم في التطهير ودق نواقيس الخطر وأجراس الإنذار من أجل العودة إلى النص الخام قبل أن يعمل الاجتهاد الإنساني فيه.

وهناك ثالثًا صورة هذه العلوم في كتب التاريخ العام، الحوليات والطبقات مع الطبري وابن كثير وغيرهم، وكتب التاريخ الشامل مثل «مقدمة» ابن خلدون؛ فعلوم الحكمة في النهاية جزء من التاريخ، تاريخ العلم والعلماء على الأقل. وهي أدخل في علم التاريخ كأحد العلوم الإنسانية، وأبعد عن علوم الحكمة من داخلها أو من خارجها في تاريخ العلوم والحضارات العامة.٨٩
أمَّا المنتحلات والنوادر وكل ما أبدعته الحضارة إبداعًا موازيًا للتاريخ، فإنه يدخل ضمن المنتحلات الدالة على قدرة الحضارة على فهم روح الوافد، ثم إنتاج نص يعبِّر عن روح واحدة تجمع بين الموروث والوافد. تستخدم الوافد لإعادة كتابة الموروث، وتستخدم الموروث لإعادة إكمال الوافد، وذلك مثل رسائل الإسكندر إلى أمه، ووصايا أم الإسكندر إلى ابنها، وكتاب التفاحة لأرسطو.٩٠

وبطبيعة الحال لا يمكن نظريًّا وعمليًّا تحليل كل النصوص؛ فلا يمكن لأي باحث الاطلاع على كل ما أنتجته علوم الحكمة من مطبوع ومخطوط، حتى ولو أمكن الحصول عليه بمزيد من الجهد والصبر والوقت. فالبحث العلمي له حدوده الزمنية والبشرية، وإلا لما أمكن إصدار حكم على أي شيء انتظارًا لتوافر المادة العلمية الكاملة في كل ميدان بحثي، ولتوقَّف البحث العلمي إلى يوم الدين نظرًا لما يكتشفه الباحثون في دهاليز المكتبات القديمة كل يوم من مخطوطات جديدة. بل إنه يستحيل البحث العلمي على الإطلاق نظرًا لضياع جزء كبير من التراث القديم إلى غير رجعة. وما بقي منه لا يمثِّل في حالة علوم الحكمة إلا ثلثه. لم يبقَ إلا ما هو في الإمكان، ما هو متاح؛ فبعض المطبوع غير متاح بالنسبة لقدرات أي باحث لصعوبة الحصول عليه من خارج الأوطان في عصرٍ أصبح فيه تبادل الكتب والمجلات العلمية أشبه بتناول المخدرات. وحتى في عصر إنشاء معاهد المخطوطات في المنظمات العربية والإقليمية. والبعض ما زال مخطوطًا، مصوراته قد تكون متاحة والبعض غير متاح. والمنشور منها أكثر بكثير من غير المنشور، ويعطي مادة كافية للحكم على الفيلسوف أولًا وعلى مجموع نصوص علوم الحكمة ثانيًا. فأعمال الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد المنشورة أكثر من الأعمال غير المنشورة إن وُجدت. ولما كان المتاح المطبوع يعطي عينة ممثلة للمادة الأولى، فإن تحليله يكون ممثلًا لتحليلات غير المتاح المطبوع أو المخطوط المفقود. وبالتالي يمكن إصدار أحكام عامة على التراث، علوم الحكمة نموذجًا. الاستنتاجات العامة كاملة حتى ولو كانت مادة التحليل ناقصة. الروح مرئية في حين أن البدن قد تنقصه أحد الأعضاء. وهذا لا ينفي وجود الإنسان. وهو ما يُسمَّى في المنطق بالاستقراء الناقص الذي يقوم عليه القانون العلمي دون الاستقراء التام الذي يستحيل تطبيقه إلا اعتمادًا على مبدأ الاطراد في الطبيعة. ويُسمَّى في علم أصول الفقه عند الشاطبي الاستقراء المعنوي، الذي يقوم على اطراد العلة في الفرع في حالة واحدة دون استقرائها في كل الحالات. لا يهم إذن غير المتاح من النصوص المطبوعة غير المتاحة أو المخطوطة أو المفقودة؛ فالمتاح فيه دلالة ومؤشر على غير المتاح، والحاضر يغني عن الغائب وإلا استحال الحكم انتظارًا لعودة الغائب الذي قد لا يعود. يمكن إذن قياس الغائب على الشاهد. وما يشفع في ذلك أحيانًا هو تكرار المادة المتاحة بحيث تتوقف أية مادة جديدة عن إضافة أية دلالة جديدة أو تغييرها أو تعديلها أو مناقضتها. بمجرد حصول الكيف تتوقف دلالة الكم، وبمجرد حصول المعنى يصبح تامًّا باكتمال المعنى وإن لم يكن تامًّا باكتمال الأمثلة. وماذا عن حريق مكتبة الإسكندرية وإغراق مكتبات بغداد، وما دمَّره الحريق أو العسكر، وما أتلفته غوائل الزمان؟ الروح لا تضيع، وإن ضاعت بعض أطراف البدن. حجة «الإنسان الطائر» عند ابن سينا و«أنا أفكر فأنا إذن موجود» عند ديكارت. والوعي التاريخي في النهاية مستقل عن الوثائق التاريخية، وإن كان محمولًا فيها ومدوَّنًا عليها. إن عدم الاطلاع على كل النصوص حجة لا نهاية لها ولا حدود لها. فما ضاع ربما أكثر مما حُفظ طبقًا لما روته الأخبار عن حريق مكتبة الإسكندرية والكتب الملقاة في نهر دجلة كي تسير عليها الخيل، حتى تحوَّلت مياه النهر إلى أحبار سوداء! ليس المهم اكتمال الوثائق، بل نوع العمليات الحضارية التي يمكن التعرُّف عليها بما تبقَّى من التراث القديم؛ فالمفهوم من المقروء عينة من المتاح المطبوع. والمتاح المطبوع عينات ممثلة للمطبوع كله. والمطبوع عينة ممثلة للمخطوطات المفقودة. والمخطوطات الموجودة عينات ممثلة للمخطوطات الضائعة والتي يمكن تحليل عناوينها لاكتشاف دلالاتها. وربما ما تم تأليفه، المطبوع والمخطوط والمفقود، ما هو إلا عينة ممثلة لمشاريع التأليف عند الحكماء التي لم ترَ النور. وكم من مشاريع الفكر ما زالت مطوية في أذهان أصحابها، ولها أكبر الدلالة على التحول من النقل إلى الإبداع. ولو انتظر الباحث استيفاء كل المادة لما صدر حكم عام، والأحكام العامة تتراءى من المستشرقين وغيرهم على الحضارة الإسلامية منذ قرنين من الزمان.

ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» الإكثار من النصوص القديمة أسفل الصفحات لدرجة قسمتها إلى نصفين، القراءة في النصف الأعلى والنص في النصف الأسفل، من أجل دعوة القارئ مشاركة الكاتب في حمل همومه وإدراك تصوُّر القدماء ومدى بُعده أو قُرْبه من حاجات العصر، حتى يقدِّر الكاتب في غضبه من تراث السلطة ويفرح معه بتراث المعارضة، فإن استعمال النصوص القديمة في «من النقل إلى الإبداع» أصبح على نحوٍ أقل تخفيفًا على القراء، واكتفاءً بالنصوص الدالة. وإذا كانت المحاولة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدِّين قد وضعت النص الخام دون تحليل أو تفتيت أو هضم أو قضم حتى يسهل ابتلاعه، تكفي مشاركة القارئ الكاتب في «سد الزور»، و«ضيق الصدر»، والإحساس بالغم، بالإضافة إلى حمل هموم العصر، فإن هذه المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة، تقوم بتحليل النص وتفتيته والإجهاز عليه وعصره وترك الخارج منه، إلا إذا كان نصًّا دالًّا بأكمله مثل نص الكندي على الاعتراف بفضل القدماء في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى أو نص ابن رشد عن اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال». وتتفق المحاولتان في الفصل بين أعلى الصفحة الذي يحتوي على التحليل الجديد وأسفل الصفحة الذي يضم الهوامش والشواهد والنتائج الإحصائية لتحليل مضمون النصوص.٩١ أعلى الصفحة مخصص للروح وأسفل الصفحة مخصص للبدن حتى لا يتم كسر الخطاب وربطه افتعالًا بنصوص قديمة. تعرض المطبخ بكل عبله دون أن تكتفي بتقديم الأطباق. كان من الممكن وضع نموذج ثالث، وتقسيم الصفحة ثلاثة أقسام: الأعلى يحتوي على تحليل بنيوي للموضوع وهو الزبد، والوسط يضم تحليلات النص والتي تجمع بين النتائج والمادة المحللة وهو الحليب المتبقي، والأسفل يضم النص الخام بعبله المستقَى من المصادر الأولى، ماء الحليب، حتى ولو لم تكن محققة تحقيقًا علميًّا حديثًا مثل نصوص الجامعة العثمانية بحيدر أباد الدكن. ونظرًا لعدم تعوُّد القراء على هذا الأسلوب واحتمال تشتتهم بين ما يقرءون، وصعوبة الإخراج، وتضخيم الحجم، استُبعد هذا النموذج الافتراضي من أجل الاكتفاء بالصفحة المزدوجة بين التحليل الجديد أعلاها والمادة المحلَّلة أسفلها.

أمَّا الإشارات إلى أسماء الحكماء، فإنه تم تفضيل النسبة على الكنية أو اللقب، الكندي وليس أبو يعقوب أو فيلسوف العرب، والفارابي وليس أبو نصر أو المعلم الثاني، وابن سينا وليس أبو علي والشيخ الرئيس، والغزالي وليس أبو حامد أو حجة الإسلام، وابن رشد وليس أبو الوليد أو الشارح الأعظم. فالكنية تحول العلم إلى شخص، وقد تقلل من هيبته وثقله في التاريخ، ولا يعرفها كل القراء. واللقب يضفي عليه هيبة أكثر مما هو عليها، تقدِّسه وتعظِّمه وتمنع من نقاشه والحوار معه وتجاوزه. كما أن هذه الألقاب من صُنْع التاريخ ومن وضْع المؤرخين في عصورٍ متأخرة عندما تحوَّل الماضي إلى مقدَّس وعزَّ الإبداع في الحاضر، وهو ما يعارض روح «من النقل إلى الإبداع»، بل ومشروع «التراث والتجديد» كله، الذي يقوم على أن الحاضر يزخر بإمكانيات أكثر من الماضي، وأن المستقبل أغنى وأثرى من الحاضر طبقًا لروح التقدم في التاريخ.

(٢) إغفال المراجع الثانوية

المراجع الثانوية نوعان؛ الأول دراسات المستشرقين، والثاني دراسات العرب المحدثين. وتأتي في المرتبة الثانية من أجل تصحيح حكم خاطئ. وما دام الأصل موجودًا فلمَ الفرع؟ وما دام «من النقل إلى الإبداع» دراسة نصية للمصادر الأولى، فلمَ مضغ اللقمة ثانيةً في فم الآخرين؟ إن أهمية الاستشراق ترجع فقط إلى تحقيق النصوص كوثائق تاريخية، والتعريف بالتراث وإخراجه من بطون المكتبات القديمة استئنافًا لدور الحضارة في التحقيق العلمي للتراث، بدايةً باليوناني ثم المسيحي في العصر الوسيط وانتهاءً بالتراث اللاأوروبي في الهند والصين والعالم الإسلامي. ترجع أهمية الاستشراق إلى توفير المادة العلمية دون تحليلها، إعطاء البدن دون الروح، والنظر إلى العالم دون الله. به كل شيء ولا شيء، المعلومات دون العلم، النظر دون الرؤية، وبطبيعة الحال الماضي دون الحاضر. فالمستشرق غريب على التراث وليس من أصحاب الدار، لا يهمه احتراق المنزل ما دام يتعامل مع الرماد، ولا يهتم بالأحياء طالما يخاطب الأموات. أمَّا التحليلات والاستنتاجات والأحكام فشيء آخر يخضع لمناهج الاستشراق وتنبع من عقلية المستشرقين. الاستشراق بهذا المعنى «موضوع دراسة» وليس «دراسة موضوع». هو في حاجة إلى مراجعة علمية دقيقة قبل استخدامه كمرجع من أجل تصحيح الأحكام أو من أجل إيجاد الدلالة الحضارية للمادة التاريخية الخام.٩٢ نشأت معظم الدراسات الاستشراقية قبل نشأة علوم التأويل المعاصرة والأنثروبولوجيا الحضارية. لم يقم بها فلاسفة أو مفكرون أو مثقفون وطنيون يحملون هموم الفكر والوطن، بل لغويون ومؤرخون وضعيون على طريقة القرن التاسع عشر. ليس الهدف هو إثبات الإبداع الذاتي للشعوب، بل تفريغها من مضمونها وإثبات تقليدها للغير، اليونان القديم أو الغرب الحديث في حالة دراسة الفكر العربي الحديث لنقل الأطراف إلى إبداع المركز. ما أسهل من إصدار قائمة مراجع الاستشراق من أية مكتبة عامة أو من هوامش آخر المستشرقين أو من الموسوعات والمعاجم أو من المجلات الاستشراقية المتخصصة ومؤتمرات جمعياتها السنوية، براءة من عقدة النقص أمام الاستشراق، وتأكيدًا لمركَّب العظمة والتفوق عند الغرب. لقد بلغت الدراسات والبحوث الوطنية سن الرشد، ولم تَعُد في حاجة إلى هذا التحايل النفسي على الذات وعلى الآخر باسم البحث العلمي الدقيق.٩٣ ولا يعني الاستشراق فقط دراسة الأوروبيين لعلوم الحكمة، بل يشارك فيها أيضًا بعض الباحثين والأساتذة العرب المحدثين، نصارى ومسلمين، في الجامعات الوطنية والخاصة، حتى أصبح هذا النمط من الدراسات هو العلم الذي تُعطى في اجتيازه الشهادات والدرجات العلمية.٩٤

ولا يبحث العالم إلا همه. ولما كان همه هو إبداع المعاصرين وتجاوز نقلهم بدليل إبداع القدماء، فإن هم المستشرقين إثبات نقل القدماء بناء على نقل المعاصرين، وتأكيدًا للمركزية الأوروبية القديمة عن اليونان أو الحديثة عند الغربيين المحدثين. ويمكن تحقيق هدفي موضوعيًّا في حين يصعب تحقيق هدف المستشرق إلا ذاتيًّا بناءً على الأحكام المسبقة والحكم بظاهر اللغة في النصوص الفلسفية القديمة ونقص في العلم بمناهج التأويل الحديث والأنثروبولوجيا الحضارية، مع أنه تربَّى في الغرب وتعلَّم في جامعاته. ولكنه لا يستعمل ذلك كله إمَّا كسلًا أو تجاهلًا. فدراسة الشرق تتم بأسهل الوسائل، اللغة والتاريخ، والتحرر الثقافي كقصد أقرب إلى الموضوعية من الغزو الثقافي كهدف.

إن الاستشراق العربي، وهو امتداد للاستشراق الغربي، إنما يقوم على التبعية للغرب والإعجاب بتقدُّمه، وأنه آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدُّم، وأنه هو المبدع الخلاق، وما على غيره من الشعوب إلا التبعية والتقليد. وهذا إحساس بالنقص أمامه، والعجز أمام خلقه، ونسيان للإبداع الذاتي للشعوب عبر التاريخ مثل إبداع القدماء. ولو أخذ الاستشراق العربي موقفًا حضاريًّا ذاتيًّا، واعتبر نفسه من الداخل وليس من الخارج مسئولًا عن التطوير وإعادة البناء لتحوَّل من استشراق عربي إلى بحوث وطنية.

أمَّا النوع الثاني، وهو الدراسات الثانوية التي كتبها معظم أساتذة الجامعات المصرية خاصةً والعربية عامةً في عصر النفط ومن أجل الترقيات والإعارات والتدريس اعتمادًا على كتب جامعية مقررة، فإنها لا تمثِّل تأليفًا علميًّا بهدف البحث العلمي، فلا هي بالاستشراق الغربي الأصلي، ولا هي بالدراسات الوطنية المحلية. لا تحمل هموم العلم أو الوطن. يكرِّر بعضها أحكام الاستشراق تملُّقًا للغرب وإحساسًا بالدونية أمامه وتشدُّقًا بالاطلاع عليه، والبعض لا يكاد يعرف اللغات الأجنبية الأصلية التي كُتب بها ولم يعرفها إلا ببعض الترجمات المحلية. وتصدر أحكام مماثلة في عبارات عامة مثل تسمية علوم الحكمة الفلسفة العربية أو الحديث عن أثر اليونان في الفلسفة الإسلامية دون تحليل لمعنى الأثر ودون وعي بالنص كموضوع حضاري. مثل هذه المؤلفات هي مؤشرات على انهيار الدراسات الإسلامية والبحوث في علوم الحكمة كدليل على انهيار عام للحضارة آثر فيها خلفاء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد على أن يكونوا متفرجين من الخارج وليسوا أصحاب دار، متكسبين بعرض القدماء وليسوا مطورين لهم، مفضلين عالم النفط الخارجي والساعات الإضافية الداخلية على محبة الحكمة.٩٥
وهناك بعض الدراسات العلمية الجادة قام بها بعض علماء اللغة المقارنة تخرج عن نطاق التخصص في علوم الحكمة، ولكنها من الدراسات المساعدة مثل كتب تاريخ الأدب السرياني.٩٦ ومن ذلك أيضًا الدراسات اللغوية الخالصة في فقه اللغة المقارن والتي تقوم بها أقسام اللغات القديمة، اليونانية واللاتينية، والشرقية، مثل السريانية والعبرية. ويمكن الاستفادة منها واستنتاج دلالتها في النقل الذي لا يقدر عليه اللغوي وحده، بل يستطيع ذلك الناقل الفيلسوف مثل حنين بن إسحاق والمترجمين الأوائل.

وعيب هذه الدراسات أنها تخلو من الرؤية، ولا تقوم على تفلسف، ولا تتجه نحو هدف، ولا تضع افتراضًا، ولا تقيم برهانًا، تكرر نفسها وتنقل عن غيرها. يحفظ الطلاب، وتوزِّع دُور النشر، ويطبع الأساتذة على نفقاتهم حتى يستحوذوا على كامل الربح. تحول إلى التجارة، وانتقل الهدف من ميدان البحث إلى ميدان الرزق. وهي تعبِّر عن العيب الرئيسي في الدراسات الجامعية التي لا ترتبط بمشروع حضاري شامل يربط أجزاءها، وينسِّق بين موضوعاتها، وتصب جميعها في تحقيق هدف مشترك وهو توظيف القديم لصالح الجديد، ومعرفة كل علوم الوسائل بما في ذلك الفلسفة الغربية الحديثة من أجل تطور علوم الغايات، واستعمال الآخر لتطوير ثقافة الأنا.

وما زال يقع الباحث تحت الأوهام والأحكام الخاطئة التي تُلقى له وهو ما زال في مرحلة الدراسة الجامعية. إن الفلسفة الإسلامية شرح لليونان دون إعطاء البراهين والأدلة، ودون تحليل لغوي للنصوص، وإخراج النصوص الرياضية والطبيعية من النصوص الفلسفية بدعوى أنها أدخل في تاريخ العلم عن العرب تحت أثر مؤرخي العلم الغربي، وتقسيم الفلاسفة إلى فلاسفة المشرق: الكندي والفارابي وابن سينا، وفلاسفة المغرب: ابن باجة وابن طفيل وابن رشد طبقًا لقسمة المؤرخين الغربيين العالم الإسلامي إلى مشرق ومغرب للفصل بين جناحيه، والإيحاء بالقطيعة المعرفية بين الاثنين، المشرق أقرب إلى إشراقيات إيران، والمغرب أقرب إلى عقلانية الغرب، وانتهاء الفلسفة بعد ابن رشد وكأن صدر الدين الشيرازي والطوسي وغيرهم لا وجود لهم، والسخرية من عصر الشروح والملخصات، عصر التدوين الثاني، وهو موضوع دراسة وتحليل، لكيف تعيش الحضارة على ذاتها، تجتر ما ابتدعته سلفًا وتدوِّنه بالذاكرة الجماعية بعد أن عزَّ الإبداع، وصعوبة تصنيف الغزالي، وهو متكلم مع المتكلمين، فيلسوف مع الفلاسفة، أصولي مع الأصوليين، صوفي مع الصوفية … إلخ. وغياب العلاقة مع فارس والهند والصين، وكأن الغرب اليوناني أكثر حضورًا فينا من الشرق الآسيوي، والتركيز على اليونان دون الرومان إسقاطًا من أولوية الغرب على الشرق في وعينا السياسي المعاصر.

إن الذي أمات الفلسفة هو الكتب المقررة للكسب والرزق، والرسائل الجاهزة سلفًا بلا خطة أو رؤية. وما يحييها هو البحث الوطني الذي يقوم على رؤيةٍ للأنا ومسارها في التاريخ، والمشاريع القومية العامة التي تُعِدُّ لنهضة فلسفية مواكبة لمرحلة جديدة يقوم بها المحدثون لوراثة القدماء.٩٧

أمَّا الإحالات إلى الذات، والأعمال السابقة، دراسات ومقالات، فإنها لا تعني أية نرجسية أو غرور أو ثقة زائدة بالنفس، أن يكون الباحث هو مرجع نفسه، بل يعني أن «من النقل إلى الإبداع» هو جزء من مشروع «التراث والتجديد»، وأن اللاحق يعتمد على السابق، وأن السابق يؤدي إلى اللاحق، وأن الدراسة السابقة أو المقال السابق هو جزء من كلٍّ حتى يكتمل البناء دون تكرار اللبنات أو الأدوار السابقة ودون تكرار ما قيل سلفًا على وجه الخصوص. كما أن ذلك يفيد في ربط أجزاء المشروع الممتدة على أكثر من ثلاثين عامًا منذ ثلاثية الشباب «مناهج التفسير» و«تفسير الظاهريات» و«ظاهريات التفسير»، منذ منتصف الستينيات، حتى «من النقل إلى الإبداع» في أواخر التسعينيات. وقد يصل التذكير إلى حد التكرار تنبيهًا وإرشادًا.

ولم تتم الإحالة إلى الآخر الغربي في صلب التحليل لإعادة قراءة النص الفلسفي القديم من داخله وبناءً على ظروف العصر دون تطوير له من الخارج باستعمال مناهج أو استخدام مفاهيم وإسقاط تصورات وضرورة تجاوز أن تكون الثقافة الغربية المعاصرة إطارًا مرجعيًّا لكل تجديد كما هو الحال في الفكر العربي الحديث، رؤية الأنا في مرآة الآخر، وتطوير ثقافة الأنا من خلال ثقافة الآخر. ومع ذلك أمكن التنبيه على احتمال قيام هذه المقارنات أسفل الصفحات لبحوث قادمة مستقبلية تقوم بوضع منطق جديد للحضارات المقارنة.

كما تهدف المقارنات مع الغرب الإعداد للخاتمة «من اليونان القديم إلى الغرب الحديث»؛ فقد كان الهدف «من النقل إلى الإبداع» بيان التقابل بين إبداع القدماء ونقل المحدثين. فلا فرق بين سقراط وأفلاطون وأرسطو بالنسبة إلى القدماء وبين ديكارت وكانط وهيجل بالنسبة إلى المحدثين. تعامل القدماء مع اليونان وبين الاثنين ما يزيد على ألف ومائتي عام، أربعمائة قبل المسيح وثمانمائة بعده حتى عصر الترجمة، في حين نتعامل نحن مع الغرب الحديث والمسافة الزمانية ليست بعيدة بيننا وبينه منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر وعصر النهضة في السادس عشر؛ أي أربعمائة أو خمسمائة عام على الأقل، ثلث الزمن الذي كان بيننا وبين قدماء اليونان. فالموضوع واحد بيننا وبين القدماء مع اختلاف الآخر، الآخر اليوناني قديمًا والآخر الغربي حديثًا. واليونان في النهاية أصل الغرب. كما تهدف الإحالات إلى الغرب في أسفل الصفحات إلى وضع الغرب في إطار إسلامي بدلًا من وضع الفكر الإسلامي في إطار الفكر الغربي إلى أن يُعاد كتابة تاريخ الفكر الغربي في إطار لا غربي، وكما تمَّت محاولة من قبل في «مقدمة في علم الاستغراب». كما تهدف هذه الإحالات إلى بيان كيف تكون علوم الأنا هي علوم الغايات، بينما علوم الآخر هي علوم الوسائل.

وحتى يمكن تطوير الدراسات العليا ووضع خطة مستقبلية لها في ميدان الدراسات الفلسفية، تم التنبيه على بعض الموضوعات أسفل الصفحات تستحق التطوير والدراسة في خطة متكاملة لإعادة بناء العلوم القديمة بوجه عام وعلوم الحكمة بوجه خاص؛ فمشروع «التراث والتجديد» ما هو إلا نموذج لمشروع رؤية للدراسات الإسلامية الجديدة تطويرًا للدراسات القديمة وحلًّا لأزمتها موضوعًا ومنهجًا.

إن هذه المقدمة الطويلة تصوِّر الوضع الراهن لعلوم الحكمة كمدخل طبيعي لهذه المحاولة التي تجمع بين رصد الماضي وإبداع الحاضر، بين تحليل نقل القدماء ومحاولة إسهام المحدثين.٩٨
١  انظر أقسام المشروع في مؤلفاتنا العديدة السابقة، خاصةً «التراث والتجديد»، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠م، ص٢٠٣–٢١٦؛ وأيضًا «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١م، ص٩–١٥.
٢  انظر: «التراث والتجديد»، (٣) شبهات ومخاوف، (٢) شبهات في المقدمات، (ب) مخاوف من النتائج، ص٥٦–٧١؛ وأيضًا «مقدمة في علم الاستغراب»، سادسًا: شبهات واعتراضات، (١) شبهات ومخاوف، (٢) اعتراضات وردود، ص٩٠–١٠٥، وأيضًا الخاتمة: النقد الذاتي وحدود العمر، (١) محاولة في النقد الذاتي، (٢) هموم قِصَر العمر، ص٧٧٧–٧٩١.
٣  هذا أيضًا ما لاحظه أ.د. نصر حامد أبو زيد في دراسته الرائدة «التراث بين التأويل والتلوين»، «قراءة في مشروع اليسار الإسلامي»، ألف، مجلة البلاغة المقارنة، القاهرة، العدد العاشر، ١٩٩٠م، ص٥٤–١٠٩. وهو ما لاحظته أيضًا عليه في دراستي «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثالث، القاهرة، ١٩٩٤م، ص١٥–١٠٤. وأيضًا حوار الأجيال، ص٤٣٣–٥١٢.
٤  انظر: «مناهج التفسير»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (بالفرنسية)، المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، ١٩٦٥م، ص٧٩–١٩٧ (بالحروف الرومانية)، وقد سُمِّي النقل حينئذٍ La Transposition. وكان أثر سيد قطب واضحًا في استخدام المنهج الشعوري وأساليب الصور الفنية.
٥  تعني الأوَّليات هنا Axiomes.
٦  وقد حدث ذلك بعد التردد مدة طويلة والحرص على الجمع بين اللغة القديمة واللغة الجديدة، وبعد استشارة أ.د. نصر حامد أبو زيد في الجمع بين الاثنين، عنوانًا رئيسيًّا من القديم وعنوانًا فرعيًّا من الجديد، وكلانا في اليابان في ١٩٨٦م.
٧  وهذا هو خلافنا مع صديقنا د. نصر حامد أبو زيد في كيفية إدارة معارك التقدم والتخلف للخاصة أم للعامة، في العلم أم في الأعلام، على الأمد الطويل أم على الأمد القصير؟
٨  استعملنا من نصوص المحدثين «رسالة في اللاهوت والسياسة» لأسبينوزا؛ «تربية الجنس البشري» للسنج؛ «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» لأوغسطين وأنسيلم وتوما الأكويني؛ و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر؛ وكذلك دراساتنا عن الفلسفة الغربية في «قضايا معاصرة»، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر؛ و«دراسات فلسفية»، الجزء الثاني.
٩  التراث والتجديد، ص٢٥.
١٠  كان هذا هو النقد الموجَّه دائمًا من الأستاذ السيد ياسين، وأيضًا من د. محمود إسماعيل صاحب مشروع «سوسيولوجيا الفكر الإسلامي» في مجلداتٍ خمس يستعمل فيه هذا المنهج التاريخي الغائب عندنا.
١١  وهذا هو ما سميناه التحديث من الخارج. انظر: «التراث والتجديد»، ص٣٧–٥٠.
١٢  وهو ما قد قام به الآن د. حيدر إبراهيم علي والأب وليم سيدهم في عدة دراسات عن الموضوع، د. حيدر إبراهيم علي، «الدين والثورة، لاهوت التحرير في العالم الثالث»، نجمة الدار البيضاء، ١٩٩٢م؛ الأب وليم سيدهم: «لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية»، دار المعرفة، بيروت ١٩٩٣م.
١٣  عرف تاريخ الفلسفة هذا الأسلوب، أسلوب ديكارت في «التأملات»، وكل فلاسفة التنوير في فرنسا، وتوماس بين وماركس الشاب وماكس شيلر وبرجسون. ومن تراثنا أبو سليمان السجستاني وأبو حيان التوحيدي ومسكويه والغزالي وابن رشد في مؤلفاته، ومن المحدثين محمد إقبال.
١٤  وقد فعل ذلك توينبي في «دراسات في التاريخ» (عشرة أجزاء)، لخَّصه تلميذه سمرفيل في جزء واحد.
١٥  انظر محاولتنا أيضًا لنفس الهدف: «جمال الدين الأفغاني»، دار قباء، القاهرة ١٩٩٨م.
١٦  التراث والتجديد، ص٦١، ٦٢.
١٧  كتبت الأفكار الأولى لهذا النص في أكتوبر ١٩٨٤م في طوكيو بمجرد الانتهاء من الصياغة الأخيرة لكتاب «من العقيدة إلى الثورة» في فاس بالمغرب في يونيو ١٩٨٤م، وكتابة الخاتمة والمراجع العامة في القاهرة في صيف نفس العام، وقد تأكَّد هذا النقد الذاتي بعد صدور الكتاب من خلال المراجعات له والندوات القليلة حوله بالاشتراك مع عدد من الأصدقاء والزملاء.
١٨  وهو نفس ما قام به كانط في «نقد العقل العملي» كدراسة نظرية للعمل؛ فهو عقل عملي نظري.
١٩  «من العقيدة إلى الثورة»، ج١، المقدمات النظرية، الدليل النقلي، ص٣٩٠–٤٠٣. مدبولي، القاهرة، ١٩٨٧م.
٢٠  المصدر السابق، ص٦٢٧–٦٣٦.
٢١  كما فعل ذلك الشيخ حسين أفندي الجسر في «الحصون الحميدية» اعتمادًا على بعض نتائج العلم الحديث في علم الكلام. وكما فعل ذلك الشيخ طنطاوي جوهري في علوم التفسير.
٢٢  انظر دراستنا: «علوم الوسائل وعلوم الغايات»، هموم الفكر والوطن، ج٢، دار قباء، القاهرة ١٩٩٨م، ص١٥–١٦٦.
٢٣  علي بن فضل الله الجيلاني: «توفيق التطبيق في إثبات أن الشيخ الرئيس من الإمامية الاثنى عشرية»، تقديم وتحقيق وتعليق د. محمد مصطفى حلمي، عيسى الحلبي، القاهرة ١٩٥٤م.
٢٤  انظر دراستنا: «حكمة الإشراق والفينومينولوجيا»، دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٢٧٣–٣٤٥.
٢٥  انظر دراستنا: «الوحي والواقع»، دراسة في أسباب النزول، هموم الفكر والوطن، ج٢، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٧م، ص١٧–٥٦.
٢٦  العلَّامة خوجه زاده: «تهافت الفلاسفة»، مصطفى الحلبي، القاهرة، على هامش تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت.
٢٧  ابن رشد: «الكشف عن مناهج الأدلة»، تقديم وتحقيق محمود قاسم، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٦٤م، ص١٤٩.
٢٨  «حوار المشرق والمغرب» بالاشتراك مع محمد عابد الجابري، مدبولي، القاهرة ١٩٩٠م، ص٢٣–٢٧.
٢٩  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل الأول: ماذا يعني علم الاستغراب؟ الدار الفنية، القاهرة ١٩٩١م، ص٧–١٠٥.
٣٠  المستشرق Blumberg لديه أيضًا هم الإبداع، جمال الدين العلوي: «مقالات في المنطق، العلم الطبيعي» لأبي الوليد ابن رشد، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ١٩٨٣م، ص٥–٣٣.
٣١  هناك ترجمات قصدية من هذا النوع مثل ترجمات عثمان أمين لديكارت وكانط، وعبد الرحمن بدوي للمثالية الألمانية ودراسات المستشرقين، والطويل لكتب الأخلاق، وزكي نجيب محمود لرسل، وفؤاد زكريا لريشنباخ، وعزمي إسلام لفتجنشتين، وترجماتي لأسبينوزا ولسنج وسارتر وأوغسطين وأنسيلم وتوما الأكويني.
٣٢  هناك استثناءات لذلك مثل «مناهج الألباب» للطهطاوي؛ «الجوانية» لعثمان أمين، وأمثلة أخرى تحتاج إلى إحصاء دقيق.
٣٣  انظر: «علوم الوسائل وعلوم الغايات»، هموم الفكر والوطن، ج٢، ص١٦٧–١٧٨.
٣٤  في مصر محاولات عثمان أمين، وتوفيق الطويل، وزكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وزكريا إبراهيم، وأنور عبد الملك، ومشروع «التراث والتجديد». وفي المغرب مشاريع محمد عزيز لحبابي، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري. وفي الجزائر محاولة مولود قاسم. وفي تونس محجوب بن ميلاد، وهشام جعيط. وفي ليبيا علي فهمي خشيم. وفي الشام مشروع الطيب تيزيني ومحاولات صادق جلال العظم. وفي لبنان حسن صعب. وفي الأردن فهمي جدعان. وفي البحرين محمد جابر الأنصاري. انظر: «هموم الفكر والوطن»، ثالثًا: تيارات الفكر العربي الحديث، (١٢) المشاريع العربية المعاصرة، ص٤٦٦–٤٧٨.
٣٥  لما كان الكندي أول الفلاسفة (٢٥٢ﻫ)، فإنه يكون معاصرًا لكبار المترجمين: ابن ناعمة الحمصي (النصف الأول من القرن الثالث)، حنين بن إسحاق (٢٦٠–٢٦٤ﻫ)، ثابت بن قرة (٢٨٨ﻫ)، إسحاق بن حنين (٢٩٨-٢٩٩ﻫ)، قسطا بن لوقا (٣٠٠ﻫ).
٣٦  أهم المترجمين في القرن الرابع المعاصرين للفارابي (٣٣٩ﻫ) وابن سينا (٤٢٨ﻫ): قدامة ابن جعفر (٣٢٠ﻫ)، أبو بشر متى بن يونس (٢٣٨ﻫ)، يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ).
٣٧  من شُرَّاح القرن الخامس: ابن السمح (٤١٨ﻫ)، ابن الهيثم (٤٣٠ﻫ)، أبو الفرج الطيب (٤٣٥ﻫ)، جورجيس اليبرودي (٤٤٢ﻫ)، علي بن رضوان المصري (٤٥٣ﻫ). من شرَّاح القرن السادس: عبد اللطيف البغدادي (٦٢٩ﻫ).
٣٨  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل الثامن: مصير الوعي الأوروبي. أولًا: جدل الأنا والآخر، (٣) تداخل مسارَي الأنا والآخر، ص٧٠٣–٧٠٩.
٣٩  وأيضًا مسكويه في «تجارب الأمم».
٤٠  وذلك مثل «الحكمة الخالدة» لمسكويه؛ و«تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني.
٤١  انظر مقدمة عبد الرحمن بدوي لكتاب «الحكمة الخالدة»، ص٧–٦٤.
٤٢  انظر محاولة صديقنا د. أنور عبد الملك لإعادة التوازن لوعينا القوي بين الشرق والغرب في كتابه «ريح الشرق»، دار المستقبل العربي، القاهرة ١٩٨٣م.
٤٣  «التراث والتجديد»، ص٢٠٥–٢٠٩.
٤٤  جاء العنوان «من النقل إلى الإبداع» وأنا في مكتبي الصغير. وبعدها تناولت العناوين النمطية «من الفَناء إلى البقاء»، «من النص إلى الواقع» أو «من النص إلى المصلحة»، الأول أكثر ميتافيزيقية والثاني أكثر مادية. الأول حديث والثاني قديم. وفي كل عنوان طرف قديم مثل: العقيدة، النقل، النص، وطرف جديد مثل: الثورة، الإبداع، الواقع، وذلك باستثناء «من الفناء إلى البقاء»، وهما لفظان قديمان. وأصبح هذا الممر شائعًا «من … إلى» في حركة الفكر مثل: من اللغة إلى الشيء، من الوحي إلى الواقع، من الدين إلى الدولة، من الله إلى العالم … إلخ. أمَّا «العقل والطبيعة» فقد دخلت مادته في علوم الحكمة في الإبداع الرياضي والعلمي و«الإنسان والتاريخ» دخلا أيضًا في علوم الحكمة في الإنسانيات بين الحكمتين النظرية (النفس)، والعملية (الاجتماع والسياسة والتاريخ).
٤٥  وبهذا المعنى عنون أبو الأعلى المودودي تفسيره «ترجمان القرآن».
٤٦  انظر دراستنا: «الإبداع»، (أ) موانع الإبداع، (ب) شروط الإبداع الفلسفي، (ﺟ) تجديد اللغة شرط الإبداع، (د) الشيء قصد هو أم صورة؟ هموم الفكر والوطن، ج٢، الفكر العربي المعاصر، ص١٧٩–٢١٦.
٤٧  الفارابي: فيما ينبغي أن يقدَّم قبل تعلُّم الفلسفة، «المجموع»، القاهرة، مطبعة السعادة، ١٩٠٧م، ص٥٧–٦٤.
٤٨  ورد لفظ الحكمة في القرآن عشرين مرة، الكتاب والحكمة «١٠»، الحكمة «٨»، المُلك والحكمة، الحكمة والموعظة الحسنة، الحكمة وفصْل الخطاب.
٤٩  «التراث والتجديد»، ص٧٧–٨٢.
٥٠  انظر عرضنا للثلاثية الرائعة لمارتن برنال: «أثينا السوداء»، والذي حاول في علوم التاريخ بيان هذا الفرض العنصري في التحول من النموذج الآسيوي إلى النموذج اليوناني (مجلة القاهرة، نوفمبر ١٩٩٥م، ديسمبر ١٩٥٥م).
٥١  انظر التحليلات اللغوية البارعة التي قدَّمها د. علي فهمي خشيم للغات القديمة المقارنة لإثبات الأصل العربي للغة المصرية القديمة، ولكل اللغات في كتابه «آلهة مصر العربية» (جزءان)، الدار الجماهيرية، مصراتة ١٩٩٠م.
٥٢  هذا هو رأي علي سامي النشار في «مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسطاطاليسي»، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٤٧م.
٥٣  انظر وصفنا لهذه الظاهرة في: «التراث والتجديد»، رابعًا: طرق التجديد اللغوي، منطق التجديد اللغوي، ص١٢٣–١٤٦، وأيضًا خامسًا: موضوعات التجديد وإعادة بناء العلوم، (أ) العلوم الإسلامية الأربعة، ص١٧٩–١٨١، (ب) العلوم العقلية باعتبارها ظواهر فكرية، ص١٩٣–١٩٦.
٥٤  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل السابع: بنية الوعي الأوروبي، رابعًا: المذاهب الفلسفية، (٣) توالد المذاهب، ص٦٥٥–٦٦٥.
٥٥  «التراث والتجديد»، ص٨٣-٨٤.
٥٦  يغلب هذا المنهج على المجلد الأول «النقل» خاصةً الباب الأول: التدوين بفصوله الثلاثة: التاريخ، والقراءة، والانتحال.
٥٧  «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الأول: المقدمات النظرية، خاتمة، ص٦٢٧–٢٣٦.
٥٨  «التراث والتجديد»، ص٨٣–٩٥.
٥٩  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل الثالث: تكوين الوعي الأوروبي (البداية)، ص٢٤٧–٣٢٧، الفصل الرابع: تكوين الوعي الأوروبي (الذروة)، ص٣٢٩–٤٣٣. وهذا يدل على أن الفلسفة الغربية الحديثة تخضع في مسارها لتوجهات إسلامية غير مباشرة. انظر أيضًا:
Certainty and conjectures, a protype of Islamic Christian relations, in “Religious Dialogue and Revolution”, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977. PP. 56–89.
٦٠  وذلك مثل اقتران أسماء: محسن مهدي ومباهات تركر بالفارابي، وعثمان يحيى وأبو العلا عفيفي بابن عربي، وماسنيون بالحلاج، وجواشون دالفرني بابن سينا، ومحمود قاسم بابن رشد، وأبو ريدة بالكندي والنظَّام، ومصطفى حلمي بابن الفارض، ولاوست بابن تيمية، وآرنالديز بابن حزم.
٦١  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل السابع: بنية الوعي الأوروبي، سادسًا: البنية والتاريخ، ص٦٧٩–٦٩٢.
٦٢  وهو الذي يسميه الفينومينولوجيون المعاصرون الذهاب إلى ما قبل الحمل المنطقي؛ أي إلى مرحلة التجربة الحية قبل صياغة القضية ونسبة المحمول إلى الموضوع كما بيَّن هوسرل في «التجربة والحكم».
٦٣  وهو يعادل الجزء الثاني «تكوين العقل العربي» من ثلاثية صديقنا محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي».
٦٤  وهو الفرق في مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة بين الفهم Understanding والتفسير Explaining.
٦٥  وهو ما سمَّاه البنيويون المعاصرون التوالي الزماني Diachronism والمعية الزمانية Synchronism.
٦٦  كان برجسون في أول محاضرته عن الزمان في الكوليج دي فرانس يضع قطعة من السكر في الماء أمامه ويطلب من المستمعين الانتظار حتى يحلِّل تجربة انتظار السكر، هل الزمن في الكوب أم في الشعور؟
٦٧  يفرِّق هوسرل أيضًا بين الوعي الغافل والوعي اليقظ.
٦٨  وهذا ما حاوله كاسيرر في «فلسفة التنوير» والكشف عن بواعث ومقاصد حضارية في الوعي الجمعي.
٦٩  نَدين بهذين المصطلحين للأخ الصديق المستشار طارق البشري.
٧٠  انظر بحثنا المُشار إليه سلفًا: «علوم الوسائل وعلوم الغايات»، هموم الفكر والوطن، ج٢، ص١٦٧–١٧٨.
٧١  «من العقيدة إلى الثورة»، ج١، المقدمات النظرية.
٧٢  وهو يعادل الجزء الأول «بنية العقل العربي» في مشروع صديقنا محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي». أمَّا «نقد العقل السياسي»، الجزء الثالث، فإنه يعادل «من العقيدة إلى الثورة».
٧٣  انظر الجزء الأول من رسالتنا الثانية: «تفسير الظاهريات»، باريس ١٩٦٦م، القاهرة ١٩٧٨م، الأنجلو المصرية، ص٢٦٦ (بالفرنسية).
٧٤  انظر بحثنا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» و«لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم»، دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٢م، ص٢٩٣–٤٥٦.
٧٥  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل السابع: بنية الوعي الأوروبي، ص٦٠٩–٦٩٢.
٧٦  وحدث ذلك أيضًا في الفلسفة الغربية مثل: الديكارتية والأسبينوزية والكانطية والهيجلية والبرجسونية … إلخ.
٧٧  «مقدمة في علم الاستغراب»، الفصل الرابع: تكوين الوعي الأوروبي (الذروة)، ثالثًا: الهيجلية، ص٣٥٤–٣٧٤.
٧٨  تُعتبر ترجماتي الأربع عن الفلسفة الغربية وشروحي عليها لأوغسطين وأنسيلم وتوما الأكويني وأسبينوزا ولسنج وسارتر نموذجًا للحكمة النقلية الحديثة استئنافًا للحكمة النقلية القديمة.
٧٩  في الحقيقة كان «من النقل إلى الإبداع» جزءًا واحدًا للتخفيف من عناء كم «من العقيدة إلى الثورة». فلما تضخَّم الموضوع أصبح جزأين: الأول للنقل والثاني للإبداع. فلما تضخَّم النقل في فترة العرض والتأليف أصبح ثلاثة أجزاء: النقل، والتحول، والإبداع. ويبدو أنه كلما تقدَّم بي العمر، وتوالت أجزاء «التراث والتجديد» أدركت أني مفكِّر من القدماء مثل نهاية العصر الوسيط الأوروبي، خارجًا من الكهوف، ومثل ابن سينا في «الشفاء». لذلك تغلب على أعمالي الموسوعات الضخمة؛ فأنا من القدماء بين المعاصرين، ومن المعاصرين بين القدماء. وقد يتم الإبقاء على القسمة الثلاثية للفصول في البابين الثاني والثالث؛ في الحكمة النظرية الطبيعيات والإلهيات علم واحد كما هو الحال عند الفارابي. وفي الحكمة العملية الاجتماع والسياسة علم واحد كما هو الحال أيضًا عند الفارابي.
٨٠  قضية الجمهور المخاطَب قضية مطروحة في كل عمل. لمن أكتب؟ للخاصة أم للعامة؟ للعلماء المتخصصين أم لجمهور المثقفين؟ فقد كتب «اليسار الإسلامي» للجمهور، وهو عند البعض صعب عليهم. وكتب «التراث والتجديد» للخاصة، وهو عند البعض (محمد عابد الجابري) تحريض للجماهير. كما يمكن الكتابة لخاصة الخاصة. وهذا ترفٌ لا يمكن دفع ثَمنه من الوقت والجهد، والمنزل يحترق، والوجود مهدَّد. كما يمكن الكتابة لعامة العامة، وهذا وعظ وإرشاد أتركه لأهله. إنما مؤلفاتي حتى الآن تخاطب مستوياتٍ ثلاث: الخاصة مثل «التراث والتجديد» ١٩٨٠م، «من العقيدة إلى الثورة» ١٩٨٨م، وترجماتي الأربع عن الفلسفة الغربية، ومشاركتي في نشر «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري ١٩٦٤م. ورسائلي الثلاثة الأولى (بالفرنسية): «مناهج التفسير» محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، «تفسير الظاهريات» محاولة في المنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين، «ظاهريات التفسير» محاولة في الهرمنيطيقا الوجودية ابتداءً من العهد الجديد ١٩٦٥م. وللمثقفين الذين هم وسطٌ بين الخاصة والعامة مثل طلبة الجامعات، كتبت لهم «قضايا معاصرة» بجزأيه، «في فكرنا المعاصر» و«في الفكر الغربي المعاصر» بعد هزيمة ١٩٦٧م، وصدر ١٩٧٦م، «دراسات إسلامية» ١٩٨٢م، «دراسات فلسفية» ١٩٨٧م، حوار المشرق والمغرب (بالاشتراك مع محمد عابد الجابري) ١٩٩٠م، «هموم الفكر والوطن» بجزأيه، التراث والعصر والحداثة، الفكر العربي المعاصر، ١٩٩٨م، «حوار الأجيال» ١٩٨٨م، «جمال الدين الأفغاني» ١٩٩٨م، «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي» ١٩٩٨م. وللعامة «الدين والثورة في مصر» بأجزائه الثمانية ١٩٨٩م، بعد انقلاب الثورة على نفسها، ونشري لكتابَي الخميني «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس» ١٩٧٩م، تأييدًا للثورة الإسلامية في إيران، ودفاعًا عنها ضد المهاجمين لها ظلمًا وعدوانًا. أمَّا «مقدمة في علم الاستغراب» فقد كُتب للجميع. الفصل الأول: «ماذا يعني علم الاستغراب؟» للمثقف العام. وفصول التكوين الخمسة التالية: المصادر، البداية، الذروة، نهاية البداية، بداية النهاية، للطالب الجامعي، المثقف المتوسط حتى يضيع منه إرهاب أسماء الأعلام. والفصل السابع: بنية الوعي الأوروبي، للأستاذ، حتى يرى الكل من خلال الأجزاء. والفصل الثامن: «مصير الوعي الأوروبي»، للسياسي الذي يريد وضع استراتيجية حضارية جديدة للأمة (انظر: ص٧٨٢–٧٨٤). وأيضًا «من النقل إلى الإبداع» مكتوب أساسًا للوعي القومي لإعادة التوازن إليه بين الشرق والغرب، ولتحويله من مرحلة النقل التي طالت إلى مرحلة الإبداع التي تأخرت، فهو مكتوب للمثقف الواعي وللطالب الدارس من أجل اشتقاق عدة موضوعات في النقل أو الإبداع للدراسات العليا، مثل نشأة المصطلح الفلسفي عند كبار المترجمين وفي مدارس الترجمة، ودراسة بنيوية لغوية للمصطلحات، ونشأة الفكر الفلسفي في عصر الترجمة، سواء في المترجمات أو في مؤلفات المترجمين، وفي عصر الشروح والملخَّصات أو في عصور التأليف، موقف الحكماء من الشُّرَّاح اليونان، تصوُّر المؤرخين لعلوم الحكمة، نقد الفلاسفة للمتكلمين، نقد الفقهاء للحكماء، صورة الحكماء اليونان عند العرب: سقراط، أفلاطون، أفلوطين، أرسطو، فيثاغورس، أبرقلس أو الشُّرَّاح، ثامسطيوس، ثاوفراسطس، الإسكندر الأفروديسي، سمبليقيوس، تاريخ الفلسفة اليونانية عند العرب، فلسفة الحضارة والتاريخ في كتب الطبقات، ومقارنة ذلك كله بالموقف عند المسيحيين في العصر الوسيط، وهو نفس الهدف من فصول التكوين الخمسة في «مقدمة في علم الاستغراب».
٨١  انظر دراستنا: «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الثالث، القاهرة ١٩٩٤م، ص١٥–١٠٤. وأيضًا في «حوار الأجيال»، دار قباء، القاهرة ١٩٩٨م، ص٤٣٣–٥١٢.
٨٢  لم نستعمل الأسلوب الشخصي الذي يبدأ بضمير المتكلم المفرد أو الجمع إلا في هذه المقدمة التي تجمع بين تقديم الموضوع والسيرة الذاتية. فلا فرق بين بناء العمل ومسار الحياة. انظر دراستنا عن عبد الرحمن بدوي في عيد ميلاده الثمانين: الفيلسوف الشامل، مسار حياة وبنية عمل في «حوار الأجيال»، دار قباء، القاهرة ١٩٩٨م، ص٢٩٧–٣٩١.
٨٣  لما كان مشروع «التراث والتجديد» يعبِّر أيضًا عن تجربة صاحبه وعصره، فكان «من العقيدة إلى الثورة» محاولةً لتجاوز الصدام بين الإخوان والثورة، والتأكيد على الشرعيتين معًا، شرعية الإسلام وشرعية الثورة، ضرورة الماضي وضرورة الحاضر، فإن «من النقل إلى الإبداع» يعبِّر أيضًا عن تجربةٍ شخصية مرَّ بها المؤلِّف وهو طالب، منذ أن كان يسمع أشياء غير مفهومة مثل العقل المنفعل والعقل الفعَّال، ولا يدرك مدى صلة ذلك بالفلسفة الإسلامية التي كانت في ذهنه الإسلام في مواجهة الاستعمار والتخلف على ما هو معروف في الفكر الإسلامي المعاصر، خاصةً الحركة الإصلاحية كما مثَّلها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومحمد إقبال. كانت الفلسفة الإسلامية القديمة كما عُرضت لا شأن لها بشئون الأمة ولا بحال الفكر فيها، ولا بأزماتها وهمومها، مما جعل أحد المستشرقين (هنري لاوست) بعد أن قرأ خطة بحثي الأول المُعَد لخطة رسالة الدكتوراه في آخر ١٩٥٦م، يتساءل بأنني من المعاصرين، فكيف أدرس القدماء؟ والحقيقة أنني كنت مع المعاصرين، أبحث عن فكر إسلامي به نبض وحياة، يصوِّر مأساة أمَّة ويحاول الخروج من كربها في حين أن الفلسفة الإسلامية القديمة وما تقدِّمه من عقول عشر وأفلاك عشر، وعالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر موت وخرافة واغتراب. ولم ينفتح الأمر عليَّ كما انفتح وأنا أقرأ علم أصول الفقه وأنا بصدد تأسيس «المنهاج الإسلامي العام» إلا بعد قراءة ظاهرة «التشكل الكاذب» في كتاب «أشبنجلر» لعبد الرحمن بدوي، فتساءلت: ربما الفلسفة الإسلامية القديمة كما عرضها القدماء وكما كرَّرها أساتذة الجامعات دون تأويل أو قراءة قد خضعت لظاهرة «التشكل الكاذب»، هذه ألفاظ يونانية ومضامين إسلامية خاصة، وأن بها الفعل والانفعال والحركة، وهو ما كنت أبحث عنه فيه حتى وصفني أحد الأساتذة (زكريا إبراهيم) أنني برجسون، عندما أهديت بحثي الكبير لقسم الامتياز في السنة الرابعة إلى كلِّ مَن يتغير فيتحرك فينطلق فيبدع شيئًا جديدًا. وكنت أسمع في نفس الوقت فشته ومحمد إقبال من عثمان أمين، وكنت أجد نفس الألفاظ والمفاهيم الذاتية، الحركة والتغير والانطلاق والغائية. وكنت أتساءل: لماذا برجسون وليس محمد إقبال؟ لماذا الوافد دون الموروث؟ كان موضوع الخصائص المشتركة بين الفكر الإسلامي والفكر اليوناني أحد الموضوعات المُلِحَّة للدكتوراه: العقل، الإنسان، الطبيعة، الجمال، وفي نفس الوقت الخصائص المشتركة بين الفكر الإسلامي والفكر الألماني أو فلسفة التنوير التي أعادت تقديم نفس المُثُل اليونانية، وكانت همومي الالتقاء بين حضارتين، والوجود بين ثقافتين، عند القدماء أو المحدثين دون أن أعي بعدُ «جامع الحكمتين» لملا خسرو. وهو ما تجلَّى بعد ذلك في مشروع «التراث والتجديد» بجبهاته الثلاث، ومنها هذا الجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع» من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم». انظر أيضًا: «الحرية والإبداع، شهادة على العصر، محاولة ثانية لسيرة ذاتية»، هموم الفكر والوطن، ج٢، ص٦٠٩–٦٦٧.
٨٤  جورج طرابيشي: «المثقفون العرب والتراث، التحليل النفسي لعصاب جماعي»، رياض الريس، لندن ١٩٩١م.
٨٥  يتفاوت أحيانًا أسلوب «من النقل إلى الإبداع» بين فصل وآخر، أو حتى بين فقرة وأخرى؛ فعند الانتهاء من «من العقيدة إلى الثورة» في نهاية أغسطس ١٩٨٤م في القاهرة، بعد سنتين في فاس بالمغرب، بدأت «من النقل إلى الإبداع» في أوائل سبتمبر ١٩٨٤م في طوكيو، جمعًا للمادة حتى ١٩٨٧م، ثم انشغلت بعدها في إصدار «دراسات فلسفية» ١٩٨٧م، وإعداد الطبعة المصرية لكتاب «من العقيدة إلى الثورة» ١٩٨٨م، والطبعة المصرية لمجموعة «الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء) ١٩٨٩م، ثم «حوار المشرق والمغرب» ١٩٩٠م، ثم «مقدمة في علم الاستغراب» ١٩٩١م، بعد أن رأيته أمامي في الذهن مستعدًّا للخروج. ثم بدأت الصياغة الثانية في ١٩٩١-١٩٩٢م. وتم الانشغال عنه من جديد بالشهادات على العصر في الجمهورية الثالثة ابتداءً من «الإسلام في العالم الحديث» (جزءان، بالإنجليزية) ١٩٩٥م، هموم الفكر والوطن (جزءان) ١٩٨٧م، «حوار الأجيال» ١٩٩٨م، «جمال الدين الأفغاني» ١٩٩٨م، «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي» ١٩٩٨م. وقد تمت الصياغة الثالثة والأخيرة في ١٩٩٨م. الجزء الأول في مدينة بريمن الألمانية في منزل الجامعة على ضفاف نهر الفيزر، والثاني والثالث في القاهرة في شتاء ١٩٩٨م وربيع وصيف ١٩٩٩م.
٨٦  واتصل اليهود للمرة الثالثة بالغرب الحديث، فظهر منهم فلاسفة مثل أسبينوزا تلميذًا لديكارت، وموسى مندلسون تلميذًا لكانط، وهرمان كوهين ممثلًا للكانطية الجديدة، ومارتن بوبر وروزنزفيج ممثلين للتيارات المعاصرة، الظاهراتية والوجودية.
٨٧  انظر دراستنا: «يهودا اللاوي والفلسفة اليهودية العربية»، هموم الفكر والوطن، ج١، ص١٨٧–٢٢٥.
٨٨  هذا هو موضوع الباب الأول «التدوين» بفصوله الثلاثة: التاريخ، القراءة، الانتحال، من المجلد الأول «النقل» كباب تمهيدي بديل عن الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية لنشأة علوم الحكمة.
٨٩  كان هو موضوع الجزء السابع «الإنسان والتاريخ» من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» من مشروع «التراث والتجديد» قبل أن يدخل ضمن الإنسانيات في علوم الحكمة الفصل الثالث من الحكمة العملية.
٩٠  المجلد الأول، النقل، الباب الأول: التدوين، الفصل الثالث: الانتحال.
٩١  كثيرًا ما تكون النصوص حرة، سواء في العرض في أعلى الصفحة أو في الاقتباس في أسفل الصفحة، أمَّا إذا كان النص مباشرًا أسفل الصفحة فإنه يُوضع بين معقوفتين.
٩٢  وذلك طبقًا للمثل العامي الشعبي المصري: «جبتك يا عبد المعين تعيني، لقيتك يا عبد المعين تتعان.»
٩٣  «التراث والتجديد»، ص٧٥–٧٧.
٩٤  ومن أمثال هذه الدراسات تلك التي ترجمها د. عبد الرحمن بدوي بعنوان «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية»، دار النهضة المصرية، القاهرة ١٩٤٠م.
٩٥  أدركت حدود الدراسات الثانوية بتجربة ما كُتب عني، رسائل علمية أو مقالات بحثية، وإلى أي حدٍّ تُعبِّر عن مضمون فكري أم عن أشياء هامشية فيه تعبِّر عن هم الباحث أكثر مما تكشف عن صورة الموضوع. انظر: أحمد عبد الحليم عطية: «جدل الأنا والآخر، قراءات نقدية في فكر حسن حنفي»، مدبولي الصغير، القاهرة ١٩٩٧م.
٩٦  وذلك مثل مراد كامل، حمدي البكري: «تاريخ الأدب السرياني»، المقتطف، القاهرة سنة ١٩٤٩م؛ د. رشيد الجميلي: «حركة الترجمة والنقل في المشرق الإسلامي في القرنين الأول والثاني»، جامعة قاريونس (د.ت)، حركة الترجمة والنقل في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة، طرابلس، ليبيا ١٩٨٢م؛ فينا بيغوليفسكايا: «ثقافة السريان في العصور الوسطى»، ترجمة خلف الجراد، دار الحصاد، دمشق ١٩٩٠م.
٩٧  انظر دراستنا: «متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟» دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧م، ص٢٥٩–٣١٨.
٩٨  وهو ما يُسمَّى The State of the Art.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤