خامسًا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)

وكتاب «إيضاح الخير المحض» لأبرقلس نموذج آخر للنصوص الأفلاطونية المُحدثة بين النقل والإبداع، بين الترجمة والتلخيص والشرح والانتحال والتأليف. له أسماء عديدة مثل «كتاب الخير الحصي»، «كتاب العلل». وهي أسماء كلها من نصِّ المضمون تضعُها الحضارة إبداعًا لا نقلًا لأنه يبحث في فيض الخير الأوَّل وفي خروج الموجودات عن العِلَّة الأولى.١
ولا يُهم مَن مؤلفه التاريخي. فلا يوجد لعملٍ جماعي ينتجه روح العصر وتبدِعه روح الحضارة مُؤلِّف تاريخي واحد. المؤلف هي الفلسفة الإشراقية التي عبَّر عنها أفلوطين وأبرقلس والفارابي وابن سينا والشرق القديم والفلسفة اليهودية (فيلون) والفلسفة المسيحية. وهو نفس مؤلِّف «العلل الأولى والثواني والفيض الصادر عنها». وهو نفس مؤلف «رسالة النفس»، فالروح تُبدِع أكثر من نصٍّ وتنسِبه لأكثر من مؤلِّفٍ نظرًا للإبداعات المُتكرِّرة وضرورة نِسبتها إلى أشخاص. المُهم الفكرة والموقف وليس الشخص والمؤلِّف.٢ وتتَّسِم بالأسلوب العربي التلقائي السليم، بل وأجمل لغويًّا من النصوص التي يؤلِّفها أشخاص بأعيُنهم مثل الفارابي وابن سينا. فالتأليف الجماعي من روح الحضارة أكثر إبداعًا من التأليف الفردي. ويبدو ذلك على مستوى جماليات التعبير. وقد جرى اصطلاح «الخير المحض» على أقلام الفلاسفة المسلمين قبل القرن السادس الهجري.٣ ولا يهم اللفظ «الخير» أو «العِلل» أو العبارة «الخير المحض»، «الخير الأوَّل» أو «إيضاح الخير المحض». فالمُهم هو الموضوع الفلسفي الواحد كماهيةٍ شعورية مُستقلة بصرْف النظر عن مؤلفيه. المُهم هو الموقف الحضاري والتشكُّل الكاذب كعمليةٍ حضارية لا تاريخية. فهل تُرجِمت عناصر الأثولوجيا أو الطبيعيَّات لأبرقلس إلى العربية؟ هل أُضيف إليها تفسير فادن للنفس؟ أمَّا الفارابي فلم يتعوَّد ذِكر مصادره باستثناء أرسطو وأحيانًا أفلاطون، سواء كان لدفع الأخطاء عنه بتُهمة نقْل الوافد أم لعملية التمثُّل الحضاري للفِكر بصرْف النظر عن الأشخاص. وربما ذكَره الفارابي ثم ضاعَت بعض كتُبه التاريخية التي يذكُر فيها أخبار المدارس الفلسفية باعتباره مؤرخًا نهايةً لمرحلة النقل والشرح والتلخيص وبدايةً لمرحلة التأليف والإبداع. وفي «إلهيَّات الشفاء» العبارة مألوفة مثل الواحد الأوَّل كنتيجةٍ لعملية التشكُّل الكاذب وليس كحادثةٍ تاريخية حول كتاب الخير المحض، خاصةً أنَّ ابن سينا يُمثِّل مرحلة الإبداع في الذُّروة من حيث الصمت عن المصادر، والمؤلَّفات وأسماء الأعلام ونهاية تشخيص الفكر وبداية الفكر اللاشخصي. يكتفي ابن سينا بذكر الأوصاف مثل فاضل المُتقدِّمين (الإسكندر)، أحداث المُتفلسفة الإسلامية (أبو الحسن المعامري، وأبو الخير)، والكل مشائي. فالأولى ألَّا يذكر أفلاطونيًّا صريحًا مثل أبرقلس ولم يذكره ابن رشد، ولم يُشِر إليه لأنه أدرك بفكره أنه منحول. وأبرقلس فيلسوف وَثَني أفلاطوني مُحدَث لاقى إعجاب العرب، فالفيلسوف ليس بدِينه بل بفِكره. بعض النصوص له والبعض منحول عليه. منها ما نُسِب إلى أفلاطون، ومنها ما نُسِب إلى هرمس، ومنها ما نُسِب إلى أرسطو.٤ ولم تُنسَب نصوص الأفلاطونية المُحدَثة إلى أصحابها الحقيقيِّين لأن الحضارة ليست مؤرخًا ناقلًا بل مُتمثلًا مُبدعًا. ولا يعني ذلك أنَّ أثرَها قد خف، بل إن المنحول قد يعظُم أثره أكثر من الصحيح، بدليل أثَر ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية. ولم تُحدِث المؤلَّفات الصحيحة لأفلاطون أثرًا مُشابهًا إلى المُؤلَّفات المنحولة، المنسوبة إليه خطأً.
وفي كلِّ نصٍّ منحول تظهر العناصر المكنونة للروح الأفلوطينية: الله والعقل والنفس والمادة. كما تحدُث عمليات التشكُّل الكاذب، التعبير عن التصوُّر الإسلامي للعلم من خلال هذه العناصر، والتعبير عن الإيمان الدِّيني في تصوُّر فلسفي حرصًا على التنزيه والمُفارقة الطبيعية. فالله هو الإنية المَحضة، الواحد الحق، الخير المحض، العلَّة الأولى، الهوية الأولى المُبتدِعة، الجوهر القائم بذاته غير المُكوَّن، لا يفيد ولا يتجزَّأ ودائم، العلَّة الأولى ثابتة قائمة بقوانينها المحضة، مُستغنية بنفسها وموجودة، تُوجَد في جميع الأشياء. القوة الإلهية فوق كل قوة عقلية ونفسانية وطبيعية. والفعل الإلهي شامل ومُمتد.٥ وهذه كلها اجتهادات تقريبية، فالعلَّة الأولى تندُّ عن الوصف، ليس كمثلِه شيء، لا تستمدُّ نورها من نورٍ آخر، فوق كل اسم يُسَمَّى، ولغتها هي لغة النور والاستنارة. لذلك كان الإشراق هو الطريق إليها، إشراق الحقائق في النفس فيما وراء التصوُّر واللغة والرَّسْم. الخير يملأ العوالم كلها، ويفيض من الخير المحض. وهو المُدبِّر الإلهي، الله تبارك وتعالى. العقل أكثر تشبُّهًا بالله. كل عقلٍ إلهي يعلم الأشياء بعقله ذاته، ويُدبِّرها بعقله أنه إلهي. فخاصَّة العقل العِلم. وتمامُه وكماله بأن يكون عالمًا. والمدبر هو الله تعالى. وكما يفيض الله الخير على الأشياء يفيض العقل العِلم عليها، ولكن التدبير الأوَّل لله والتدبير الثاني للعقل. المُدبِّر الإلهي هو الله تبارك وتعالى، والعقل يتشبَّه به في التدبير.
يُستعمَل النصُّ الوافد لتركيب تصوُّر الموروث. فالنصوص الأفلوطينية وسيلة لإثبات الوحدانية على مستوى التصوُّر الخالص دون ما حاجةٍ إلى دليل نقلي. وهذا هو طريق التشكُّل الكاذب في جدَل اللفظ والمعنى والشيء من أجل الوصول إلى المركز أو القلب أو القمَّة، ثم تركيب الوافد في الموروث وإقامة الموروث على التصوُّرات الجديدة للوافد بحيث يتمُّ ابتلاع الوافد في الموروث من حيث المادة وابتلاع الوافد للموروث من حيث الصورة.٦

كتاب «الإيضاح لأرسطوطاليس في الخير المحض» إذن كتاب منحول على أرسطو، وهو ما عُرف أيضًا باسم «كتاب العِلَل» نظرًا لتركيزه على موضوع العلَّة الأولى، وهو نوع من التنزيه العقلي أو الإيمان الفلسفي والمفارقة الطبيعية. وهي قريبة من الإنية المحضة، الواحد الحق. والعلة الأولى هي الحيِّز المحض. وكل وحدانية مُستمدَّة من وحدانيته. وكل نفس لها فِعل إنساني وفعل عقلي وفعل إلهي. والفعل الإلهي يدير الطبيعة بالقوة، وهي قوة ذاتية وعقلية وإلهية. والقوة الإلهية فوق كل قوة عقلية ونفسانية وطبيعية. والعقل نوعان: عقل فقط لا يقبل الفضائل إلَّا بتوسُّط، وعقل إلهي يقبَل الفضائل عن العلَّة الأولى مباشرة. ويعلم العقل الإلهي الأشياء ويُدبِّرها. والمُدبِّر هو الله تبارك وتعالى، والعقل هو المُبتدِع الأوَّل الأكثر تشبُّهًا بالله. ويفيض بالله تبارك وتعالى على الأشياء. ويتقدَّم الله تبارك وتعالى العقل بالتدبير. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة والتوفيق بالله ينتهي بالحمد له والصلاة على محمد وآله والسلام إلى يوم الدين. يتمُّ إذن تعشيق أرسطو في الإسلام، والعقل الأوَّل أو العلة الأولى مع الله في منطق التشكُّل الكاذب حتى يُمحى الفرق بين أرسطو والإسلام. لا يكفي التنزيه العقلي لحساب اليونان، بل يُضاف إليه الإيمان الفلسفي لحساب الإسلام.

١  الإيضاح في الخير المحض، الأفلاطونية المُحدثة عند العرب، تقديم، ص١–٣٠.
٢  النص الذي نقل عنه البغدادي كتاب الخير المحض هو «كتاب في عِلم ما بعد الطبيعة» فيه أربعة اختصارات: (أ) ما بعد الطبيعة لأرسطو (١–١٦). (ب) العناية للإسكندر (١٧–١٩). (ﺟ) الخير المحض (٢٠). (د) أثولوجيا أرسطوطاليس (٢١–٢٤).
٣  الإيضاح في الخير المحض، الأفلاطونية المُحدثة عند العرب، ص١٤–٣٠. تذكُر المصادر العربية لأبرقلس كتاب الخير، ويذكر «الفهرست» الخير الأوَّل. ويذكره ابن أبي أصيبعة وابن سبعين (المسائل الصقلية)، والكل ينسِبه إلى أرسطو. ويذكُره عبد اللطيف البغدادي (٥٥٧–٦٢٩ﻫ) في «ما بعد الطبيعة»، وينسِبه إلى الحكيم. ويظهر الموضوع عند الفارابي في الجزء الأوَّل من «المدينة الفاضلة»، وفي «السياسات المدنية» وفي «عيون المسائل». ويظهر عند ابن سينا في المقالة التاسعة من «إلهيَّات الشفاء»، وفي النمَط السادس من «الإشارات». ولعبد اللطيف البغدادي كتُب أخرى ضاعَتْ مثل «الكتاب الجامع الكبير في المنطق والعلم الطبيعي والعلم الإلهي»، وهو زهاء عشرة مجلدات، صنَّفَه في نَيفٍ وعشرين سنة. وله أيضًا «الطبيعيات» من السماع حتى آخر كتاب الحسِّ والمحسوس ثلاثة مُجلدات. وله أيضًا مختصر فيما بعد الطبيعة.
٤  الأفلاطونية المُحدَثة عند العرب، ص١.
٥  إيضاح الخير المحض الأفلاطونية الممنة عند العرب، ص٣–٣٣. «إن العلَّة الأولى أعلى من الصفة، وإنما عجزت الألسُن عن صفتها من أجل وصف. وهي لا تستنير من نورٍ آخر، فوق كلِّ اسمٍ يُسَمَّى. الخير الأوَّل يملأ العوالم كلها. كل عقلٍ إلهي فإنه يعلم الأشياء بأنه عقل، ويُدبِّرها بأنه إلهي. وذلك أنَّ خاصية العقل العلم، وإنما تمامُه وكماله بأن يكون عالمًا. والمُدبِّر هو الله تبارك وتعالى لأنه يملأ الأشياء من الخيرات، والعقل هو أول مُبتدع، وهو أكثرها تشبهًا بالإله تعالى. فمن أجل ذلك صار يدبر الأشياء التي تحته. وكما أنَّ الإله — تبارك وتعالى — يفيض الخير على الأشياء، كذلك العقل يُفيد من العلم على الأشياء التي تحته. غير أنه وإنْ كان العقل يُدبِّر الأشياء التي تحته فإن الله تبارك وتعالى يتقدم العقل بالتدبير» (إيضاح الخير المحض، الأفلاطونية المُحدثة عند العرب، ص٢٣).
٦  «فإن كانت الوحدانية فيه ثابتة غير موجودة من غيره كان غير الواحد الأوَّل الحق كما بَيَّنَّا. فإنْ ألفَيتَ الوحدانية فيه موجودة من غيره كان غير الواحد الأوَّل الحق. فإن كان من غيره كان من الواحد الأوَّل إذن مُستفاد غير الأواحد. فيعرض من ذلك أن يكون الواحد الحق المَحض وسائر الأواحد وحدانية أيضًا. وإنما صارت وحدانية من أجل الواحد الحق الذي هو علَّة وحدانيتها. فقد بان ووضح أنَّ كل وحدانية بعد الواحد الحق فهي مُستفادة مُبدَعة غير الواحد الحق الأوَّل مُبدِع الوحدانيات، فهو مفيد غير مُستفيد كما بَيَّنَّا والسلام» (إيضاح الخير المحض، الأفلاطونية المُحدثة عند العرب، ص٤٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤