سادسًا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)

وأفلوطين ليس بشخصيته، بل بالتيَّار الذي يُمثِّله، حكمة الإشراق، وهو التيار الموجود داخل الحضارة الإسلامية في الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا، وحِكمة الإشراق عند السهروردي. لذلك كان من السهل نسبة «رسالة في العلم الإلهي» إلى الفارابي لأنه أقرب الفلاسفة المسلمين لروح أفلوطين، الشيخ الإسلامي والشيخ اليوناني سيان.١ وهي نصوص مُنتزَعة من تاسوعات أفلوطين من الخامس كما تدلُّ على ذلك مصطلحاته. مُترجِمُها هو نفس مترجم التاسوعات عبد المسيح بن ناعمة الحمصي المُعاصِر للكندي. فالفارابي هو الشيخ الفاضل الفيلسوف العالم الزاهد الذي فاقت ألقابه الصوفية ألقابه الفلسفية. فلا فرق بين نصوص أفلوطين ونصوص الفارابي نظرًا للاتفاق بين الشيخين، الإسلامي واليوناني. وهو الذي نُسِب إليه أيضًا كتاب «إيضاح في الخير المحض» لأبرقلس نظرًا لوجود موضوعات الخير المحض في «عيون السائل»، مع أنَّ الأوَّل نقل والثاني إبداع.٢ وكلاهما بِنية حضارية قديمة لاحتواء الفيض. مع أنه لا يُذكَر ضمن مؤلَّفات الفارابي ولا يتضمَّن أي نصٍّ له، وبعيد عن «تلخيص مبادئ الكل لأرسطو». نُسِب إليه لأنه إشراقي كما نُسِب الإنجيل الرابع الإشراقي إلى يوحنا اللاهوتي أحبِّ تلاميذ السيد المسيح إليه والذي أسند رأسه على صدره في العشاء الربَّاني كما يبدو في اللوحة الشهيرة.
ولا يهم مؤلِّف النص، الشيخ اليوناني أم الشيخ الإسلامي، بل المهم هو اتِّفاق مجموعة من النصوص في نفس الروح.٣ وبالتالي يمكن تجميع عدَّة موضوعات مُتشابهة في اتجاهها ووضعها تحت أي عنوان ونِسبتها إلى أي مؤلفٍ يوناني أو إسلامي، فالحكمة خالدة Philosophia Perennis لا يمتلكها أحد، لا الآخر ولا الأنا. حِكمة الكل عبر العصور: أثولوجيا أرسطاطاليس، مع رسالة في العلم الإلهي للفارابي، مع كتاب ما بعدَ الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي من تلخيص ابن رُشد، ورسالة لواحدٍ من فضلاء اليهود يهوده بن سليمان بيَّن فيها نُقصان براهين أرسطو في قِدَم العالم على ما ورد في شُروحِه في كتاب البرهان اعتمادًا على شرْح ابن رُشد وتفضيل براهين أخرى اعتمادًا على كتُب أرسطو الأخرى «السماع الطبيعي» و«السماء والعالم» و«ما بعد الطبيعة». فالحكمة الخالدة جعلت ابن رشد أيضًا إشراقيًّا لأنه في نفس الوضع الذي كان فيه أرسطو من قبل، عقلي طبيعي، وكأنَّ ابن رشد في حاجةٍ إلى أثولوجيا قدْر حاجة أرسطو. وشارك في هذه المجموعة يهودي فاضل. فالحكمة الخالدة لا تجمع فقط اليونان والقرآن، بل تجمع أيضًا الأديان، حِكمة موسى وحِكمة محمد. ولا توجَد حقائق نظرية بقدْر ما توجَد قدرات برهانية. فالمهم في قِدَم العالم ليس خطأ العقيدة أو صوابها، بل دقَّة البراهين المُستعملة وأحكامها من مجموع كتُب أرسطو نفسه.
وقد لا يكون الفِرَق بين الانتحال والتلخيص كبيرًا. فالانتحال هو وضع روح النص الأوَّل في عباراتٍ جديدة. وهو ما يفعله التلخيص الذي يفهم النص الأصلي ثم يُعبِّر عنه بألفاظ مباشرة. وهذا هو حال الفصول الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا. فالواضع في الانتحال هو الدافع على التلخيص، إيجاد الحجم المعقول.٤ وقد يقوم المؤلِّف بهذا الاختصار بعد الشرح الأوَّل المُسهِب. فالمؤلف الواحد يقوم بالعمليَّتَين معًا، الشرح أوَّلًا ثم التلخيص ثانيًا، وكما فعل ابن رشد في الشرح الأكبر ثم الشرح الأصغر مارًّا بالشرح الأوسط حرصًا على عنصر التشويق في القراءة والتركيز على المعنى في التلخيص بعيدًا عن المَلَل والإطالة في الشرح الكبير.

وبالرغم من أنَّ الفارابي إشراقي النزعة، إلا أنَّ الجانب المنطقي فيه أوضح، وبالتالي أمكن الانتحال الفلسفي فيه كما هو الحال عند أرسطو حتى يكون الجانب الصوفي فيه معادلًا للجانب المنطقي. فالفلسفة تؤدي إلى التصوُّف، والمنطق ينتهي إلى الإشراق.

ولا يُهم نقل التاسوعات كلها. يكفي باب منها أو فقرات كنقطة بداية ثم إكمالها بنفس الروح كما يفعل الموسيقي عندما يقوم بتنويعاتٍ جديدة على لحنٍ قديم. وهو حال كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي. فليس المطلوب نقل الكتاب كله وإلا كان الأمر نقلًا دون إبداع، بل تكفي بعض الفصول منه نقلًا حتى يتم إبداع الفصول الأخرى.٥ كما أنَّ بعض الفقرات العربية لا تُوجَد في النص الأصلي لأثولوجيا. ويُناظرها ما ورد في الترجمة اللاتينية في الفصل العاشر منها. فلا يُهم نص أفلوطين التاريخي. يمكن أن يُزاد عليه في الانتحال مرورًا من النقل إلى الإبداع، على حين أنَّ الترجمة اللاتينية فضَّلت الإبقاء على النقل لأنَّ العمليات الحضارية من اليونان إلى الرومان في العصر الوثني أو المسيحي كانت عملياتٍ في نفس الحضارة الأوروبية وليست بين حضارتَين مُتمايزتَين كاليونانية والإسلامية. الخلاف بين اليونان والرومان في الدرجة لا في النوع في حين أنَّ الخلاف بين اليونان والقرآن خلاف في النوع.

ولماذا كلُّ فكرٍ إشراقي من هذا النوع يكون بالضرورة أفلاطونيًّا أو أفلوطينيًّا؟ هل لأنه أقدَمُ في الزمان، وكل لاحِق عليه يُحال إليه؟ وإذا كان الشرق أقدم من اليونان، فلماذا لا تكون الأفلاطونية أو الأفلوطينية شرقية، ويكون كل فكرٍ إشراقي من هذا النوع صوفيًّا شرقيًّا؟ أم لأن اليونان ليس فقط الأصل التاريخي بل المركز الحضاري وما حولَها من ثقافاتٍ هي الأطراف؟ ولماذا لا تتعدَّد الإحالات فيكون أفلوطين شرقيًّا بقدْر ما يكون الشرق أفلوطينيًّا. في الوقت الذي تُذاع فيه ثقافات الأطراف من خلال سيطرة الإعلام والنشر وتُصبِح نقاط إحالة بدلًا من أن تكون موضوع إحالة.

ومن الطبيعي أن تمتلئ الرسالة المنسوبة إلى الفارابي في العِلم الإلهي من تاسوعات أفلوطين بألفاظ الله الذي جعل في العقل قوة جميع الصور والذي يعلَم كل شيء بما في ذلك ذاته كما يعلم العقل ويشتاق إليه، يُعطي عطايا فاضلة، مُبدع الأشياء. هو العلَّة الأولى، حياة الأحياء، وعقل العقول، وخير الخيرات.٦ وتظهر عملية التشكُّل الكاذب في الانتحال الفلسفي بوضوحٍ تام. فالله تبارك وتعالى، الباري عزَّ وجل، الباري تعالى، الربوبية الحق، الوحدانية الدائمة إلى آخر التعبيرات الموروثة هو أيضًا المبدأ هو الأوَّل، العلة الأولى، الفاعل الأوَّل، العقل المحض إلى آخر التعبيرات الوافدة. لا تُوجَد إذن ترجمة حرفية لتاسوعات أفلوطين في رسالة العلم الإلهي للفارابي، بل هناك نقل حضاري والتعبير عن حِكمة الإشراق الموروثة بألفاظ الوافدة.٧ والتشكُّل الكاذب عملٌ حضاري جماعي وليس بالضرورة عملًا فرديًّا؛ بدليل الانتحال الفلسفي الذي هو الخَلْق الجماعي. نسبة العلم الإلهي للفارابي مثل نسبة الإنجيل الرابع إلى يوحنا.٨
ويظهر التشكُّل الكاذب في كل نصٍّ يُعاد إنتاجه، سواء كان ترجمةً أو شرحًا أو تلخيصًا أو تأليفًا أو انتحالًا. فالله جلَّ وعزَّ وجلَّ وعلا بتعبيرات الموروث هو الفاعل الأوَّل ساكن غير مُتحرك، العقل الأوَّل، المُبتدع، الخير المحض، الذي يفيض بالخير على الأشياء، ليس له صورة ولا لمية، لا يحتاج في إبداعه إلى رؤية ولا فكر. وتداخل تعبيرات الموروث والوافد على التبادُل وليس بالضرورة على التعاقُب. فقد أصبح كلا المخزونَين النفسيَّين أدوات للتعبير بصرْف النظر عن مصدريهما، تعبيرات الأنا أم في تعبيرات الآخر. ويتَّحِد القولان لأن كليهما تعبير عن مطلبٍ واقتضاء واحد، مطلب نفسي أخلاقي، وليس شيئًا موضوعيًّا في الخارج قد تختلف الرؤية على وصفه وتصويره، فالفاعل الأوَّل «ينبغي أن يكون ساكنًا».٩
والموضوع الغالب في الانتحال الفلسفي، في كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، هو الواحد والكثير، مثل الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. وهو تشكُّل كاذب عن طريق التعبير عن الصِّلة بين الله والعالم بلُغة الواحد والكثير. مع أنَّ لفظ الواحد أيضًا لفظ موروث وليس بالضرورة لفظًا وافدًا. هنا يحدُث فقط عملية اقتران أو تشابُه لفظي.١٠ والوافد هو العلة الأولى الفاعلة لجميع الأشياء، وهو العلَّة القصوى، الفاعلة الأدلَّة هوية فحسب. هو الواحد الأوَّل الحق المبين، والمبدأ الأوَّل علَّة هويات العالَم بأسرِها، الفاعل الأوَّل في جميع الصور، المُبدع الأوَّل، وهو الفرد الأوَّل المحض يصحُّ عليه أيُّ توهُّم. والعلة الأولى بريئة عن جميع أصناف الحركة. وهي الأشرَف والأكمل. خلق جميع الصور الروحانية التي لا هيولى لها. خلق الله العقل وبذَر فيه جميع الأشياء كامنة فيه ثم تتخارَج منه. والعقل من الينبوع الأوَّل، والكلمة شيءٌ واحد وهي في سائر العالم، يهتدي بها كل واحدٍ إلى ما هو أصلح له، ويبتعد عما يضرُّ به، بها تسكن النفوس إلى معارضها، وتثق بصحة كل شيء.١١
ويعيد الانتحال الفلسفي بناء النَّسَق الفلسفي لأفلوطين طبقًا لأرسطو المنطق، والطبيعيات، والإلهيات، وطبقًا للمسلمين كما ظهر في بِنية الشفاء. فقد عرَف الشيخ اليوناني المقولات معرفةً منطقية. والمعرفة الطبيعية أعلى من المنطقية، والإلهية أعلى من الطبيعة في صعودٍ تراتُبي من الأدنى إلى الأعلى عن طريق الصوفية.١٢
والواحد، العلَّة الأولى، المبدأ، الفاعل الأوَّل هو الباري، المُبدع، الله سبحانه، الباري تعالى، ألفاظ الموروث التي يتمُّ استعمالها مع ألفاظ الوافد خاصَّةً أن هناك ألفاظًا مشتركة مثل المبدع، الكلمة، العناية الإلهية، الشريعة الإلهية، نور الله سبحانه، الباري تعالى، الباري سبحانه. الكلمة إسلامية فهي قرآنية، كلمة الله، ومسيحية في آنٍ واحد، بل ويهودية أيضًا. وقد يتمُّ النقل الحضاري من حضارة إلى أخرى في موضوع الكلمة. تتشابَهُ الألفاظ وتختلف المعاني. فالعناية الإلهية ضدَّ القِدَم، والشريعة الإلهية استنباط القانون من النظم، والنور الإلهي ما يقوله الصوفية المسلمون.١٣ ولا يكتفي النص بالفلسفة الإلهية ونظرية الفَيض من الله إلى العقل إلى النفس إلى المادة، بل أيضًا يُضيف وصْف الطريق، الصعود إلى الله عن طريق التضرُّع إلى الله وسؤاله العَون والتوفيق كصُوفي مسلم يقرِض الشعر. ولا يكفي في التضرُّع مجرد رفع الأكفِّ إلى السماء وحركة اليد، بل التضرُّع بالعقل والخشوع بالقلب حتى يُشرق نوره في العقل وعلمه في الجهل، وإرادته في الاستطاعة.١٤ وفي الفصل الرابع والعشرين يذكر بقية الأثولوجيا. فالعِلة لا تتحرَّك، ومبدأ العالم واحد، فضله الذي لم يزل. وعالم الربوبية مُطابق لعالَم الطبيعة، لذلك تنفذ إرادة الله فيه. صفاته عين ذاته، وذاته عين صفاته، ممَّا يدلُّ على وشائج القُربى بين علوم الحكمة والاعتزال.١٥ وهو عالم الغيب والشهادة ممَّا يكشف مباشرةً عن عملية التشكُّل الكاذب.١٦
ثم يتم الانتقال من اللاهوت السلبي، واجتماع الفلسفة والاعتزال إلى الفلسفة والتصوف، ولغة الحب والحديث عن الله بلغة الحُسن والبهاء فاعله هو «أعز الدنيا».١٧
وليس كل ما لدى الشيخ اليوناني مقبول، فإنه يمكن أيضًا نقدُه. «أحبُّ أفلاطون ولكنَّ حُبي للحق أعظم.» فالنقد أيضًا ممكن وليس فقط المدْح والتقريظ. فالشيخ يخرج عن الموضوع ويتحدَّث عن المنطق والاستقصاءات دون حاجةٍ إليه. كما أنه كثير الخلْط ويقَع في التناقض، ويجمع بين آراء القُدَماء وآراء المحدثين في عوارض النفس، وأقرب إلى القدماء في بيان جوهرها. وليس لحُجَجه أي نظام أو ترتيب عند الحاجة إليها. لذلك لا بدَّ من إعادة ترتيب النصِّ بين الأوَّل والوسَط والنهاية حتى يظهر منطق الكلام. فالناقد هنا أكثر عقلانيةً من الشيخ اليوناني الواسع العِلم، الطيب القلب، الطاهر النفس من أجل إكماله وإعطائه جانبًا عقلانيًّا ينفعه كما أعطى هو أرسطو جانبًا إشراقيًّا ينقُصه. ولا يُهم من الناقد، شخصًا أو جماعةً، بل روح الحضارة الباحثة عن الحكمة الخالدة.١٨
وفي الانتحال الفلسفي تُعاد قراءة تاريخ الفلسفة كله من منظورٍ إشراقي وفي إشكال إشراقي واحد مثل الواحد والكثير أو نظرية الاتصال. فيثاغورس إشراقي لأنه يُسَمِّي المُبدع لغز أبولون، وهو واحد ليس بكثير.١٩ وديوجينس الكلبي إشراقي بسلوكه، زاهد في حياته، شيخ طريقة، والشيخ اليوناني مُريد له. ترتبِط الأنوار بالأفكار، وسِيَر حياة الحُكماء بآرائهم كدليلٍ على وحدةِ النظر والعمل، الحقيقة والشريعة.٢٠ ولا يهم إن كانت هذه العلاقة صحيحة تاريخيًّا أم لا. فديوجنس الكلبي عاش قبل أفلوطين بسبعة قرون. ومع ذلك هو المُريد وأفلوطين هو الشيخ.٢١ وأفلاطون في طيماوس يُبين مطابقة عالم الربوبية لعالم الطبيعة، ويَعتبر الأجرام السماوية إلهًا، ويرى أن الباري أبدع العالم لِعِلَّة، وأنها فضل الله ووجوده.٢٢ وسقراط واضِع النواميس لأهل أثينا أقرَّ أيضًا بأن الباري هو أول الأشياء وآخرها. كما أقرَّ بذلك الأطباء.٢٣ والكل أرسطي شرقي.
وقد يكون السبب في الانتحال والتلخيص الأقرب إلى الانتحال هي غايات محلية صِرفة لنقْد الموروث الدِّيني أو الفلسفي استعمالًا لثقافة الغير. فثقافة الآخَر هي علوم الوسائل، وثقافة الأنا هي علوم الغايات. ينقُد عبد اللطيف البغدادي مثلًا ابن سينا لمُخالفته طريقة المشَّائين وتصحيح فهم ما بعد الطبيعة اعتمادًا على حُسن فهم الفارابي.٢٤ فالمؤلف هنا يصحح فهم الموروث دفاعًا عن الوافد وليس الدفاع بالضرورة عن الموروث ضدَّ الوافد. وإذا ما تمَّ التأليف في الوافد، مثل كتاب ما بعد الطبيعة، فإنه يتمُّ التأليف فيه بطريقةِ الموروث، بيان حدِّ العِلم وغايته ومنفعته وأقسامه وكأنه علم قديم. ونظرًا لتراكُم العلم، فإنَّ التأليف يعتمد على اجتهادات السابقين مثل الفارابي في شرح أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. يُلخِّص البغدادي النصَّ الأصلي تلخيصًا شاملًا. ويتابع الأصل بحروفه في مواضع أو يجهل معانيه في مواضع أخرى، ثم يضيف من عنده؛ أي من غير النصِّ الذي يُلخِّصه، ينقله عن غيره من المؤلفين مثل «الخير المحض». يتبع النص أوَّلًا ثم يخرج عنه لإيضاح الفكرة بعرضها عرضًا موسعًا؛ ومن ثمَّ يمكن تتبع المراحل من النقل إلى الإبداع على النحو الآتي:
  • (١)

    البداية بالنقل الحرفي من النص الأصلي.

  • (٢)

    التلخيص للمعنى بألفاظٍ مستقلة وإيضاح الأفكار.

  • (٣)

    إكمال المعنى وإبداع نصٍّ جديد في نفس روح النص الأوَّل من أجل إكمال الرؤية اعتمادًا على نصوص مُتفرقة أخرى لنفس المؤلِّف أو لمؤلفٍ آخر غيره من الحضارة المنقول منها أو الحضارة المنقول إليها أو بالاستقلال التام عن أية نصوصٍ والاعتماد على الإبداع الذاتي الخالص.

  • (٤)
    إكمال النص بآيةٍ قرآنية أو حديثٍ نبوي كخاتم عام وإعلام ختامي Finale تُبيِّن أن الوسائل قد تمَّ استعمالها، أنَّ الغاية قد تحقَّقت.
وتطبيقًا للمراحل الأربع السابقة يتضمَّن كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي عدَّة فصول. الفصل العشرون مُقتبس من «إيضاح الخير» لأبرقلس. أمَّا الفصول من الواحد والعشرين حتى الرابع والعشرين، فكلها في أثولوجيا وهو علم الربوبية.٢٥ الفصل الواحد والعشرون ليس تلخيصًا، بل عرضًا عامًّا ممزوجًا بآراءٍ أرسطية وأفلوطينية مثل «المدينة الفاضلة» للفارابي و«الإشارات والتنبيهات» و«الشفاء» لابن سينا. فالمُهم الموضوع وليس الشخص، الكل وليس الجزء. والفصل الثاني والعشرون استطرادات على معاني النص الأصلي تأليفًا وليس نقلًا أو تلخيصًا أو تجميعًا. والفصل الرابع والعشرون لا ينقل النص الأفلاطوني، طيماوس حرفيًّا بل بالتلخيص الحُر الواسع من أجل إثبات الفيض، فيض عالم الطبيعة عن عالم الربوبية. فالأجرام السماوية آلهة تعبيرًا عن وحدة العالمَين، العالم الإلهي والعالم الطبيعي، بالرغم ممَّا قد يصطدم هذا التعبير بالتصور الإسلامي، إلا أنه له ما يُشابهه في التصوُّف الإسماعيلي ومطابقة عالَم الروح مع عالم الطبيعة في عِلم الميزان، ولكن آلهة هنا تعني مجازًا أي الروحانية والعظمة والجلال.٢٦ ويعرض رأي أفلاطون في العلة التي من أجلها أبدع الباري العالم. فلا فرق بين أفلاطون وأرسطو وأفلوطين ما دامت النظرة إلهية واحدة. وأنَّ هذا الإبداع قد تمَّ بفضل الله ووجوده مع استطرادٍ في صفات الله وتداخل مع علم الكلام. فلا فرق بين الوافد والموروث من حيث المادة العلمية ثُم الانتهاء بحديثٍ نبوي في حق النبي وظهور الحجج النقلية بعد أن كادت تختفي من علوم الحِكمة التي تتميَّز على علم الكلام باعتمادها على التحليل العقلي الخالص، والوعد بكتاب في آراء أهل المدينة الفاضلة كختامٍ للعلم الإلهي، وإعلان عن مرحلة التأليف الإبداعي للمستقبل، وتحويل للإلهيَّات إلى سياسيات، فالمصبُّ النهائي للإلهيَّات في المجتمع والسياسة.
ولم تكن الميتافيزيقا بمعزلٍ عن الأخلاق والاجتماع والسياسة. فالغاية من المعرفة السعادة، ونتيجة السعادة الحياة في مدينة فاضلة. وهو ما اتَّضح في آراء أهل المدينة الفاضلة «للفارابي» فيما بعدُ دون أن يتطوَّر وأن يكتمِل، وظلت إلهيَّات أكثر منها سياسيات. وبقي اغتراب الإنسان في الله أكثر من العودة إلى نفسه إلى مجتمعه. الله قدوة القدوات وإليه الأمر، وبيده الخير. وهنا يتم الانتقال من الإنسان الكامل إلى المجتمع الفاضل، من الكمال الإلهي إلى المدينة الفاضلة. ويكون التحدِّي: أيهما اغتراب وأيهما حقيقة؟٢٧
ويتكشف الشكل الكاذب كليةً في إنهاء الترجمات والانتحال الفلسفي بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى على لسان فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، لا فرق بين مؤلفٍ ومترجِم وناسخ وقارئ. فالهدف هو إدخال الوافد في الموروث، وتمثُّل الموروث في الوافد، ونقل علوم الوسائل من أجل إبداع علوم الغايات. وتكثُر الأحاديث عن القرآن؛ لأنَّ الوضع فيها أسهل والتأويل فيها أيسر، والتاريخ فيها أظهر، والثقافة فيها أوضح. تُذكَر هذه الآيات والأحاديث على أنها مفتاح السر في النهاية، كلمات مُوجَزة ومركَّزة توضِّح القصد والهدف الكامن في الموروث دون إسهابٍ وبرهان وإطالة، الطابع المُميز للوافد، وكأن الأدلة النقلية سِر الأدلة العقلية، عَودًا من الفلسفة إلى الكلام، ومن العقل إلى النقل. فالنقل هو بطن الموروث، والعقل أساس الوافد. والآيات والأحاديث المُختارة من نوع الوافد، التصوُّف والإشراق، لغة الحبِّ والنور، لغة الطبيعة والأشياء، اللاهوت السلبي، حركة علوٍّ وسفل، امتحان دنيوي، وخَلاصي بشري. فلا فرق بين النبوَّة والفلسفة، بين الموروث والوافد.٢٨
ويظهر في الانتحال الفلسفي أسلوب التدوين الإسلامي، تخيُّل الاعتراض والرد عليه مُسبقًا، فإن قال قائل … قلنا …٢٩ كما يتم استعمال أسلوب الوعظ وطريق إعطاء النصائح والتوجيهات الخلقية. ويتم الاستشهاد بالشعر على عادة المُفسرين المسلمين طبقًا لنصيحة عمر: «عليكم بشعر جاهليتهم فإن فيه تفسير كتابكم.» كما يظهر أسلوب الحوار في مخاطبة الله لمظاهر الطبيعة.٣٠
١  رسالة في العلم الإلهي للفارابي: أفلوطين، ص١٦٧–١٨٣.
٢  هذا هو افتراض ألونسو ألونسر (الإيضاح في الخير المحض، الأفلاطونية المُحدَثة عند العرب، تقديم، ص١–٣٠).
٣  هذه رسالة في العِلم الإلهي للشيخ الفاضل الفيلسوف العالم الزاهد أبي نصر الفارابي: أفلوطين، ص٥٦، ص١٦٧. قال الشيخ اليوناني، ص١٨٤، ص١٨٨-١٨٩، ص١٩٢، ص١٩٥. وقال الشيخ، ص١٩٢، ص١٩٥.
٤  قال المؤلف الشيخ عبد اللطيف بن يوسف، رحمه الله تعالى: غرض كتاب في علم ما بعد الطبيعة يكون متوسطًا بين المبسوط والمختصر لأني كنت قد صنفت كتابًا في ذلك فجاء مبسوطًا، وكررت فيه المعاني تكرارًا طويلًا يكاد أن يمله القارئ فيه («كتاب ما بعد الطبيعة» لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٥٦-٥٧).
٥  الفصول الأخيرة من «ما بعد الطبيعة» لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا، أفلوطين، ص١٩٩–٢٤٠.
٦  كذلك العقل، فيجعل الله فيه قوة جميع الصور (رسالة في العِلم الإلهي للفارابي، أفلوطين، ص١٦٨). إنه إذا علم الله تعالى لا يعلم نفسه أيضًا. إن العقل يعلم الله تعالى ويشتاق إليه. إنه إذا عَلِم عَلِم ذاته. هو جميع عطايا الله الفاضلة. إنَّ العقل يعلم الله تعالى. فإنْ لم يقوَ العقل على أن يعلم الله تعالى كُنه علمه … (أفلوطين، ص١٧٢). لمَّا أراد الفاعل الأوَّل إبداع الأشياء أبدع العقول. إن العلَّة الأولى هي حياة الأحياء وعقل العقول وخير الخيرات (أفلوطين، ص١٧٧).
٧  «يحقُّ علينا أن نفحص عن العقل وعن المبدأ الأوَّل الذي دلَّ عليه القياس وأنه هو الربوبية الحق غير أنَّا نريد قبل أن نفعل ذلك أن نسلُك طريقًا آخر فنقول …» (رسالة الفارابي في العلم الإلهي، أفلوطين، ص١٦٧). في الأوَّل وفي الأشياء التي بعدَها وكيف هي منه. كل ما كان بعد الأوَّل فهو من الأوَّل اضطرارًا (العقول العشرة، ص١٧٨). وذلك أنَّ العقل هو الذي يُميزها من حاملها في أمر المنطق (ص١٧٩). إنَّ العاقل الأوَّل إنما يعقل وهو ساكن ثابت (ص١٧٩). الفاعل الأوَّل يبنى على حاله ساكنًا قائمًا تامًّا (ص١٧٩). إنَّ العقل إذا ذهب إلى الباري تعالى (ص١٨١). الإله تبارك وتعالى (ص١٨٢). لأنه الباري عزَّ وجل يُوصف بالحُسن (ص١٨٢). فمن أراد أن يصف الباري تعالى فلينفِ عنه جميع الصفات وليجعلْه خيرًا فقط. فأمَّا الخير الأوَّل فهو البسيط المُفيد الخير جميع الأشياء، وليس في الباري تعالى صِفة من صفات الأشياء وهو فوق الصفات كلِّها لأنه علَّة الصفات (ص١٨٣). والشيء الأوَّل لا يقبل تكثيره بل تبقى وحدانية دائمة (ص١٨٣).
٨  يعيب بول كراوس على رسالة العلم الإلهي للفارابي أنها ليست ترجمةً حرفية لأفلوطين.
٩  الفاعل الأوَّل ساكن. وينبغي للفاعل الأوَّل أن يكون ساكنًا (نصوص مُتفرقة لأفلوطين، أفلوطين، ص١٨٤). إن الواحد المَحض يُشبه الضوء، إنَّ الواحد الحقَّ مُبدع الأشياء، إنه واحد عظيم (ص١٨١). العقل الأوَّل المُبتدِع كل الآثار معلق في الفصل الأوَّل (ص١٨٨-١٨٩). الخير المَحض في الأوَّل الذي يفيض بالخير على الأشياء. الخير الأوَّل خير مَحْض. ليس للمُبدِع جلَّ وعلا صورة ولا لمية (ص١٩٦). الله أبدع الأشياء بأنه فقط … إن الفاعل الأوَّل — جلَّ وعزَّ — أبدع الأشياء كلها بغاية الحِكمة … وأن الباري — جلَّ وعزَّ — صيَّرها وبسَطَها (ص١٩٧). إن الفاعل الأوَّل — جلَّ وعزَّ — لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى رؤيةٍ ولا فِكر (ص١٩٨).
١٠  إن في كلِّ كثرةٍ الواحد موجود، وآخر يُبيِّن ذلك بأقاويل مُقنِعة وحجج دقيقة وذلك إنْ لم يكن الواحد في شيءٍ من الكثرات (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص١٩٩). «فالواحد هو واحدٌ من جهة الذات لا كثرةَ فيه البتة. الواحد قبل الكثرة» (ص٢٠٠-٢٠١). الواحد الحق الأوَّل المُبين (ص٢٠٤). العلَّة الأولى والعلَّة القصوى إنما هو هوية فقط (ص٢٠٢). والمبدأ الأوَّل هو علَّة هويات العالم بأسره (ص٢٠٥). والفاعل الأوَّل فيه جميع الصور (ص٢٠٨). فقط ظهر لنا من هذه البحوث صور روحانية لا هيولى لها (ص٢٠٤). العلة الأولى بريئة عن جميع أصناف الحركة، وهي الأشرَف والأكمل (ص٢٢٥).
١١  أمَّا المُبدع فلا يصحُّ عليه ذلك (ص٢٢٨). العلة الأولى، الربوبية (أفلوطين، ص٢٣٨-٢٣٩).
١٢  وعرف جميع قاطيغورياس معرفة منطقية، وأعلى من المنطقية أعني معرفة طبيعية ومعرفة إلهية (كتاب ما بعد الطبيعة للبغدادي، أفلوطين، ص٢٢٩).
١٣  إن الله خلق العقل وبذَر فيه جميع الأشياء وكذلك هو ساكن (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٢٠٩). إن الله سبحانه أوجد إثبات الأشياء وصورها (ص٢١٠). لو أنَّ الباري تعالى لم يُبدِع الأشياء وكان وحده فقط لخفِيَت الأشياء ولم يظهر حُسنها وبهاؤها (ص٢١٥). ولا يُدرَك سبحانه إلا بنفي ما تقَعُ عليه الإشارة وسلْب ما سُلِب من الإشارة (ص٢١٨). والعِلة من الينبوع الأوَّل، والكلمة شيء واحد، والكلمة في سائر العالم، هي التي يهتدي كلُّ واحدٍ فيه إلى ما هو أصلح له، ويهرُب مما هو أضرُّ به من أصناف النبات والجماد والحيوان. وهي التي بها تسكن نفوسُنا إلى ما عرفناه، ولها الناموس الأكبر والشرعية الإلهية. وهي نور الله سبحانه الذي به يصير كلُّ شيءٍ إلى ما خُصَّ به وفُرض له (ص٢١٦). فالباري تعالى قدوة القدوات، والكل أصنام مُتشبِّهون به مُتحرِّكون نحوَه كما قال الشاعر «المعشوق واحد وهو كثير.» يعني من أحبَّه فصار لذلك كثيرًا مع أنه واحد. وانظر كلمة الناموس في المدينة وهي واحدة، والحركة منها وإليها كثيرة مُتقنعة (ص٢١٩).
١٤  وقبل أن نُطلق هذه المسألة نبتدئ ونتضرَّع إلى الله سبحانه ونسأله العون والتوفيق على إيضاح ذلك بقدْر استطاعتنا. وليس ما نسأله ونتضرَّع إليه بالأول فقط، ولا نرفع أيدينا الدائرة إليه، كلنا نبتهِل إليه ونتضرَّع بخضوع عقولنا، ونبسط أنفسنا له، ونتضرَّع إليه أشدَّ تضرُّع، ونطلُب طلبًا مُتواترًا دائمًا ولا نَمَل. فإذا فعَلْنا ذلك مُخلصين أنار عقولنا بنورِه الساطع، ونفى عَنَّا الجهل الذي يغلب على سوسنا، وقوَّانا على ما سألناه من المَعونة على ذلك (ص٢١٨).
١٥  فقد تبيَّنَ وصحَّ أن العِلة الأولى التي لا تتحرَّك (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٢٣٢). بدء العالم واحد، وهو فضيلة الله تعالى التي لم تزل، وعالم الربوبية مُطابق لعالم الطبيعة وبهذه المطابقة صارت عطيَّة الله تعالى تنفذ إلى عالم الطبيعة وإلى أجزائه الكبار والصغار … ليست صفة من الصفات ولا نعت من النعوت التي يُوصَف بها الباري إلا وتلك الصفة هي هو … ونقول إنَّ المبدأ الأوَّل صفاته هي ذاته وذاته هي صفاته (وحدانية مَحضة، ٢٣٦-٢٣٧).
١٦  إلهكم الله الذي لا إلا هو عالم الغيب والشهادة (ص١٣٣).
١٧  إن اسم الباري وصفاته في منطقية ذاته هي الجوهر والفرد والقُدرة والحُسن والبهاء والمجد والعلم والكبرياء. فأمَّا العقل فإنه يُجسِّم هذه الأسماء قليلًا، فيُقال عالم وحكيم وقادر وأشباه ذلك. وكل واحدٍ يعرف منطقية عِلته على قدْر قوَّته. وجميع الصور تطلُب شوقًا ومحبَّة محضة لأنَّ المحبة المحضة ليست مُحددة، ولا مُتناهية. وكل عالمٍ من العوالم فإنه الشوق الشديد والعشق الدائم. كيف اجتهدت الألسُن والمنطق على أن تُدرك وتصِف الشوق والعشق الذي بذر الباري سبحانه؟ إنه فوق كل معشوقٍ وهو لبُّ كل شَوق وهو هو المعشوق عشقًا روحانيًّا وهو الحُسن والبهاء والسرور والبهجة والسنا والمجد والعزُّ والجلال (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٢٣٧).
١٨  نشر روزنتال مع نصوص أفلوطين الحقيقية «رسالة الشيخ اليوناني في بيان عالم الروحاني والجسماني»، بها نقد للشيخ «ثم فحص هذا الرجل عن أشياء من أمور المنطق والاستقصاءات لم نرَ للشيخ إليه حاجة.» ويُحقِّر واضع الرسالة الشيخ بقوله: «إنَّ صاحب الكتاب كثير تخليطٍ وتناقُض في عوارض النفس بين الرأي القديم والرأي المُحدث. وأمَّا في جوهرها فهو على الرأي القديم. وليس لحجاجِه أيضًا نظام مُشرف على جميع كتُب الحكماء في هذا الفن. ومن أجل أنه لا ترتيب لكلامه نحتاج نحن أن ننقل ما في وسط الكتاب أو في آخِره إلى أوله، وكثيرًا مما في أوائله إلى آخره لتأتلِف المعاني وتُفهم» (أفلوطين عند العرب، تصدير عام، ص٣٤-٣٥).
١٩  كان أصحاب فيثاغورس يُسمُّون المُبدع الأوَّل بلُغز أبولون الذي ليس بكثير (رسالة في العلم الإلهي للفارابي، أفلوطين، ص١٨٠).
٢٠  «وديوجانس الكلبي: كان ديوجانس هذا حكيمًا فاضلًا قد أخذ نفسه بالتقشف. لا يقتني شيئًا البتة، ولا يأوي إلى منزل. ولم يكن في مِلكه شيء غير ما يواري عورتَه ويستر بدَنه. يأكل قوت يومٍ بيوم. وكان إذا جاع أكل الخُبز أين وجدَه ليلًا كان أو نهارًا، عند ملك كان أو سُوقة، لا يحتشِم أحدًا. وقيل أنه مر بخبَّاز يخبز فأخذ من خُبزه فأكل، ثم مرَّ به في الغد فوجدَه يخبز، فتناول خُبزه ليأكل، فقال له الخباز: قد أكلتَ أمس! قال له: وآكل اليوم أيضًا لأنك تخبز في كلِّ يوم وأنا أجوع في كل يوم. وهو صاحب الشيخ اليوناني ومُعلِّمه. والشيخ اليوناني هو صاحب الحكمة التي ظهرت منه في كتبه المعروفة به وليس هذا موضوع ذكرها. فمن أحبَّ أن يطالعها فليقرأها من تلك الكتب فإنها موجودة فيها» (نصوص متفرقة لأفلوطين، أفلوطين، ص٩٥).
٢١  أفلوطين (٢٠٤–٢٧٠م)، وديوجينس الكلبي (٤١٣–٣٢٧ق.م.).
٢٢  قال أفلاطون: وقد نسأل لمَ أبدع الباري هذا العالم ولِمَ أحدثَ الكون (العِلَّة الأولى، أفلوطين، ص٢٣٤). وقد ذُكر أفلاطون ١٣ مرة، وكلٌّ من أنبادقليس وفيثاغورس وسقراط مرَّتَين، وكل من هرقليطس وأبقراط مرة واحدة. يحيل البغدادي في أول الفصل الرابع والعشرين إلى طيماوس. أفلاطون الشريف الإلهي مرَّتان، والشريف مرة واحدة.
٢٣  وسقراطيس واضع النواميس لأهل أثينا قال: إنَّ الباري هو أول الأشياء وآخرها. قد أقرَّ فضلاء الأطباء الذين عرفوا عِلة الكل الفاعلة وفرضوها وحدُّوها. يقولون إنها هي المدبِّرة لجميع الأشياء الكلية والجزئية (الفصول الأخيرة من بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا، أفلوطين، ص٢٣٢).
٢٤  «ثم ذكر أنه ما دعاه لتصنيف هذا الكتاب إلَّا كونه وجد لابن سينا تصانيف مُخالِفة لرأي المشَّائين، فأراد أن يُنبِّه طالبي العلم بأنهم لا يعودون بتأليفه. ثم أنه بعد ذلك ذكر أنه يريد أن يُقدِّم مقدمةً يذكُر فيها أغراض الكتاب ومنفعته وتقسيم أجزائه، فقال إن أحسن ما يُنبئ عن جميع ذلك مقالة لأبي نصر ذكَر فيها جميع هذه الأراضي، فأريد أن أنقلها بنصِّها، فقال أبو نصر …» (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٥٦-٥٧).
٢٥  أفلوطين عند العرب، تصدير عام ٥٨.
٢٦  مثل حميد الدين الكرماني: راحة العقل.
٢٧  في نهاية كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي: «فإنِ ازداد شرقًا وروحانيةً انعطف إلى العالم الأسفل فدبَّره وساوسه وجذَب من قدَرَ عليه منهم إليه ورتَّبهم مراتب بقدْر استعدادهم واستنهالهم حتى توجَد المدينة الفاضلة. ونحن في استبداء تصنيف كتابٍ نصِف فيه أحوال المدينة الفاضلة وما يتبَع ذلك» (أفلوطين، تصدير عام ٥٧).
٢٨  «وفي الشريعة كلماتٌ موجزة في التوحيد هي جوامع الكلم منها أن النبي سُئل هل رأيتَ ربك؟ فقال: نوراني أراه. وقال له قوم: صِف لنا ربك. قال: ربي بائن من الأشياء. وقرأ ليس كمثلِه شيء» (الفصول الأخيرة من ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا، أفلوطين عند العرب، ص٢٣٩). «ويصير الواحد بعد الواحد بشرًا، إلهيًّا غير مُتأثر بالآلام الدينية مُستهينًا بها. ومن كلام النبوَّة إذا أوقع العبد في الداهية الرب ومهينوه الصديقون ورهبانية الأبرار لم يجِد من يأخذ بقلبه ولا يلحقه عينه» (أفلوطين، ص٢٣٩).
٢٩  «ولا يقدر قائل أن يقول … وقلنا» (رسالة في العلم الإلهي للفارابي، أفلوطين، ص١٧٢). ونقول … (كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، أفلوطين، ص٢٢٧).
٣٠  قال الباري للأفلاك: «أنتم الإله وأنا خلقتكُم فافعلوا وأحدِثوا» (الفصول الأخيرة من ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا، أفلوطين، ص٢٣٢). وأيضًا، فإنَّ الباري لهذه الأجرام السماوية لمَّا حذاها من عالم الطبيعة قال لها: خلقتكم غير واقعين تحت الموت البتة، وأنتم آلهة لهذا العالم ومُدبِّروه (ص٢٣٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤