(١) المصنفون والمصنفات
إذا كان التدوين قد بدأ بتاريخ الحضارات العامة والخاصة،
ثم بالوافد والموروث، ثم بالحضارة الإسلامية، ثم بتاريخ
الفِرَق، فإنه يتحول الآن إلى تقسيم العلوم كمنظومة عامة
تندرج أسماء الأعلام تحتها كما هو الحال في «الفهرست» لابن
النديم (٣٨٥ﻫ). فلا يوجد تاريخ بلا تصنيف. وهو طور لا
زماني يكشف عن بنية النص الفلسفي كنوع أدبي قبل أن ينفصل
النص نفسه إلى أسماء الأعلام حتى القواميس المعاصرة أو إلى
حِكَم وأقوال وأمثال، وهي وحدة التحليل المثلى للنص في
أرقى أنواع الأدبية التي تسمح بتحليل المضمون بعد ذلك
للنصوص الفلسفية؛ فالغاية أسماء الكتب من منظور أعم ورؤية
حضارية مقارنة أشمل حتى لو أدى ذلك إلى التكرار وإلى إدخال
أسماء الكتب في أخبارٍ أقرب إلى التاريخ الخالص دون
القراءة باستثناء حلم المأمون. لذلك وضع عنوان «أسماء
كتبهم» أو «الكتب المصنفة» في معظم الفنون. وإذا كان
«الفهرست» هو عمليًّا أول كتاب في تاريخ التدوين، فربما
كان لمهنته كوراق دافع في ذلك لرصد الكتب التي لديه وفي الأسواق.
١ وربما ساعد
على ذلك كونه معتزليًّا شيعيًّا؛ أي من المعارضة العلنية
والسرية التي يتبلور فيها الوعي بالتاريخ.
وقد استعمل ابن النديم مصادر مدوَّنة وشفاهية؛ استعمل
القرآن كمصدر تاريخي عن تاريخ الأديان مثل باقي المؤرخين،
كما استعمل الشعر العربي كمصدر من مصادر المعرفة كما كان
الحال عند العرب قبل الإسلام لمعرفة أخبار الأمم السابقة،
حيث يختلط الواقع بالخيال.
٢ كما يعتمد على تفسير ابن عباس. وعلم التفسير
لم يُذكر ضمن تقسيم العلوم، وهو تفسير مملوء
بالإسرائيليات؛ فالأسطورة تكمل تاريخ الأمم السابقة منذ
آدم ونوح، وتختلط بالآيات. الأسطورة والتاريخ، الحكاية
والرواية مصدران للمعرفة؛ فقد وُضعت الكتابة قبل آدم
بثلاثمائة عام وهو ما زال في الطين، ثم اكتُشفت بعد
الطوفان. ولما هُدمت الكعبة وجدوا حجرًا مكتوبًا عليه أن
السلف بن عبقر يقرأ على ربه السلام.
٣ ويعترف ابن النديم باعتماده على مصادر مدونة أخرى،
٤ لدرجة أنه يحدِّد خطوط أصحابها كما يعتمد على
روايات شفاهية وحكايات مروية.
٥ ويسأل ويستقصي ويتتلمذ ويتعلم ويقرأ على آخرين.
٦ يتسم بالتواضع وبالأمانة العلمية، ويعلن أنه
لا يعلم الروسية إذا كانت كلمات أو حروفًا، وأن من
المعتزلة من لا يعرف أمره غير ذكره مع إحساس بالعصر والزمن
ومشاهدة الأحداث في أسلوب مقتضب دون إنشائيات أو مقدمات،
تاريخ أكثر وقراءة أقل.
٧ ولم يستعمل ابن النديم القرآن كمصدر تاريخي
إلا آية واحدة بمناسبة ابن الرواندي، بالرغم ما توحي به
خواتيم الفقرات والعبارات الدينية من إيمان دفين.
٨
وقد اتَّبع ابن النديم تقسيمًا عشريًّا للعلوم يضم ثلاثة
وثلاثين فنًّا، يبدأ بعلم اللغة كما بدأ الفارابي بعلم
اللسان في «إحصاء العلوم».
٩ والغالب على كل مقال تقسيم ثلاثي للفنون،
الأولى والثانية والسابعة والثامنة، إلا المقالة الرابعة
والتاسعة (ثنائي)، والخامسة (رباعي)، والسادسة (ثماني)،
والعاشرة بلا تقسيم. ويتصدر المؤرخون من حيث الكم ثم
الفلاسفة ثم النحويون ثم التدوين ثم المذاهب والاعتقادات
ثم الفقهاء، ثم الكلام ثم الشعر ثم العلماء ثم الكيميائيون
أصغر المقالات.
١٠ ويبدو من هذا التصنيف توتر داخلي في الزمان
بين علوم اللغة والشعر السابقة على الإسلام والعلوم
الإسلامية التالية له، الفقه والكلام والفلسفة وتاريخ
الأديان والكيمياء في فترة يتم فيها التدوين ويكتب
التاريخ. فعلوم العرب تأتي قبل علوم الإسلام، بما في ذلك
علوم العجم.
المقالة الأولى لغات الأمم، العرب والعجم، أقلامها
وخطوطها وكتاباتها. فالكتابة تأتي قبل الكلام، والتدوين
قبل الشفاه. تاريخ الحضارة هو تاريخ الكتابة وليس تاريخ
الكلام، بما في ذلك أنواع الأقلام والأوراق. وينشأ التاريخ
المدوَّن بأول من وضع الخطوط.
١١ والتقابل بين العرب والعجم هنا في اللغة وليس
في العلم كما هو الحال عند الخوارزمي وليس في العرق، ولا
يتضمن أي نوع من الشعوبية. وأن وضع الكتب السماوية والقرآن
في هذا المقال عن تدوين الكتابة يبين دورها في تقنين
الكتابة وأشكال الحروف والحرص على استمرارها في التاريخ.
١٢ ويرتبط علم القراءات وهو أقرب إلى الشفاه وعلم
الأصوات بالكتابة والتدوين. وإذا كان القرآن قد دخل في علم
الكتابة وعلوم التدوين، وهو من العلوم النقلية، فإن باقي
العلوم النقلية كالحديث والتفسير والسيرة لم تدخل في تقسيم
العلوم مع أن الحديث والسيرة يدخلان في تدوين التاريخ،
والتفسير عادةً ما يُقارن بعلوم القرآن.
وفي المقالة الثانية يتم تصنيف علوم النحو طبقًا للمدن
التي تحولت إلى مدارس نحوية مثل البصرة والكوفة أو مدارس
تجمع بينهما.
وتضم المقالة الثالثة علم التاريخ، أخبار النسابين
وأصحاب السير والأحداث والآيات، بما في ذلك كتاب الخراج
وأخبار الأدباء والندماء والمغنين؛ فلا فرق بين التاريخ
العام والتاريخ الحكومي والتاريخ الشعبي.
وتضم المقالة الرابعة أخبار الشعر والشعراء ومناقضاتهم،
ورواة القبائل في العصرين الجاهلي والإسلامي حتى دولة بني
العباس.
والمقالة الخامسة عن الكلام والمتكلمين طبقًا للفِرَق
وليس للعقائد، كل فرقتين في فن مثل الشيعة والإمامية،
والمجبرة والحشوية، مع أن جهم جبري في الأفعال تأويلي في
المعاد. أمَّا المعتزلة والمرجئة فلا يجتمعان في الإيمان
والعمل، المعتزلة تربط والمرجئة تفصل، ولا في الموقف من
السلطة، فالمعتزلة معارضة والمرجئة سلطة، والخوارج
بمفردهم. والعجيب وضع العباد والزهاد والمتصوفة مع
المتكلمين وإخراج أصول الفقه وهو الشق الثاني من علم
الأصول من أصول الدين. ويبين أواصر القربى بين المعتزلة
والشيعة باعتبارهما من فرق المعارضة. ويعرِّف بالفِرَق لا
بالأشخاص. ويقرِّر ضياع كتب كثير من فرق المعارضة؛ لذلك
تبدو أسماء الكتب المذكورة أقل شهرة. ويربط بين
الإسماعيلية والقرامطة، ويضعهم مع الصوفية وليس مع الشيعة
الإمامية. ويعرض رد الصوفية على المعتزلة مما قد يبرر
وضعهم مع المتكلمين في الخلاف بين منهج الذوق ومنهج النظر.
ويبين اشتغال بعض المتكلمين بالفلسفة؛ فلهشام بن الحكم
كتاب على أرسطاطاليس في التوحيد، وللحسن بن موسى النوبختي
اختصار الكون والفساد لأرسطاطاليس أيضًا.
١٣
والمقالة السادسة عن الفقهاء في مذاهب ثمانية بإضافة
الفقه الظاهري عند داود وابن حزم وفقه الشيعة وفقه الخوارج
(الشراة)، وإخراج فقه أحمد بن حنبل، وربما يعني به فقه
أصحاب الحديث، وإدخال فقه الطبري الذي لا يُعلم له فقه في
عصرنا.
والمقالة السابعة هي بيت القصيد عن الفلاسفة، تضع
الطبيعيين المنطقيين في فن دون الإلهيين، والمهندسين
والحساب في فنٍّ ثانٍ من العلوم الرياضية، والطب في ثالث
من العلوم الطبيعية. وتستبعد الحكمة العملية، الأخلاق
والسياسة والاقتصاد، وكل ما سمَّاه إخوان الصفا العلوم
الإلهية الناموسية والشرعية؛ أي الإنسانيات. ويعرض للترجمة
والشرح، الموجود والمفقود، ودور عبد الله بن المقفع
مترجمًا، وأسماء النَّقَلة من الفارسية إلى العربية وباقي
اللغات، ونقلة الهند والنبط. وينقل حكايات الفلاسفة
بألفاظها. ويتحدث عن أسطورة هرمس، والجمع بين الفلك
والخرافة، السقوط والرفع، من الوحدة إلى التفرقة، ثم من
التفرقة إلى الوحدة، من الطهارة إلى الدنس، ومن البراءة
إلى الذنب.
١٤ فقد كتب هرمس في النيرنجيات والخواص
والطلسمات. ويبين أول من تكلم في الفلسفة، طاليس
وفيثاغورس، وأهمية سقراط في السياسات، وأفلاطون وأخبار
أرسطاطاليس وترتيب كتبه في قسمة رباعية: منطقيات وطبيعيات
وإلهيات وخلقيات. ويعرض أسماء الفلاسفة الطبيعيين كاتجاهات
ومدارس وليس كأسماء. ويضم الموروث إلى الوافد، الكندي
وأرسطو. ويفصل أعمال الكندي في الفلسفة والكريات والمنطق
والحساب والموسيقى والنجوم والفلك والهندسة والأنواعيات
والطب، والإحكاميات والجدل والنفس والسياسة والإحداثيات
(وقوع الحوادث) والأبعاديات (هندسة الأرض)، والتقدميات
(التنبؤ).
والمقالة الثامنة عن العلماء، وهو لفظ عام لا يدل على
علمٍ بعينه، ولكن يضم المسامرين والمخرفين في فن،
والمشعبذين والسحرة في فنٍّ ثانٍ، وعلماء متفرقين في فنٍّ
ثالث! وهو تصوُّر قديم للعلم بمعنى العلم المزيف أو
التعالم، لا فرق فيه بين الظرفاء والمدَّعين والكذابين.
ويضم أسماء العفاريت الذين دخلوا على سليمان وأحاديث
البطالين والمغفلين، والتمييز بين الطريقة المحمودة
والطريقة المذمومة في العزائم والطلسمات والحِيَل
والرقيات.
والمقالة التاسعة عن المذاهب والاعتقادات، وهو ما يعادل
الفِرَق غير الإسلامية في علم الكلام التي تطورت فيها
الفلسفة كما فعل الشهرستاني في «الملل والنحل»، ثم تحولت
من تاريخ الأديان إلى تاريخ الحضارات مقارنة ودخول الشرق
مع الغرب في دائرتين حضاريتين، ثم تنويع الشرق إلى منطقتين
حضاريتين، العراق وفارس، والهند والصين، العراق بالحرانية،
وفارس بالثنوية، والهند والصين كامتدادات حضارية.
والمقالة العاشرة الصنعويون؛ أي المشتغلون بالسيمياء (أي
الكيمياء غير العلمية)، السحر من أجل القوة بالرغم من
الحديث عن المشعوذين والسَّحرة في المقالة الثامنة عن
العلماء وإخراج هؤلاء من زمرة العلماء.
ويضع ابن النديم «الفهرست» في إطار حضاري عام، وعلى نحو
مقارن بين الشرق والغرب، جناحي الحضارة الإسلامية، العرب
والسريان والعبرانيون والترك والفرس والهند والصين شرقًا،
واليونان والرومان والأرمن والروس والإفرنج غربًا. فقد نبش
العرب التاريخ بالترجمة بعد حلم المأمون، وكانت الكتب قد
انتهت بعد أن تنصرت الروم. دوَّنوا أحاديث العشق والعشاق
بما في ذلك عشق الإنس والجن كما فعل الأصفهاني وابن حزم.
وانضم المتكلمون والفلاسفة لزمرة المؤرخين.
١٥ وقام السريان بمهمة الترجمة، وساهم معهم ابن
وحشية من الكلدان. وترجم عبد الله بن المقفع من اللسان
الفارسي. ويذكر ابن النديم أسماء كتب الفرس، فلا فرق بين
عرب وعجم. كما كتب ابن قتيبة كتاب «التسوية بين العرب
والعجم» بالرغم من بيان الجاحظ فضائل العرب. والترك متعددو
اللغات، وهي منتشرة في كل شرق أوروبا وغرب آسيا، وسط بين
الشرق والغرب، مثل مصر وبابل منشأ العلوم.
١٦ ويذكر ابن النديم الهند وأسماء الكتب فيها مثل
«سه الهندي»، وسائر الكتب في الخرافات والأسمار والأحاديث
والفأل والزجر والجوارح والمواعظ والآداب والحِكَم. كما
يعرض مذاهب الهند.
١٧ ويضم إليها السودان اعتمادًا على الجاحظ
ونظرًا لتجاور أفريقيا والهند عبر المحيط الهندي. ويذكر
الصين امتدادًا لديانات فارس والهند. ويصف قلم الصين
وطابعهم الحسي.
١٨
ونظرًا لحضور الجناح الشرقي أكثر من الجناح الغربي، يقل
الحديث عن اليونان والرومان والأرمن والإفرنج.
١٩ ويستشهد بقول سقراط في فضائل الكتب، وبأفلاطون
وإقليدس لبيان فضل الخط، وبأرسطو مع العتابي وطريح بن
إسماعيل والكندي وعبد الحميد لبيان فضل القلم. ويذكر
بليناس الحكيم. ويورد أسماء كتب الروم في الأسماء
والتواريخ واللغة. فلا فرق بين حضارة اليونان والروم. ويرى
أن «الأيطومولوجيا»؛ أي علم الاشتقاق، وافد إلى اليونان من مصر.
٢٠ وكان على وعي بوجود الغرب قبل ابن خلدون في
هذا الوقت المبكر؛ فيتحدث عن قلم لذكبروه ولسكاه، أمة بين
رومية والإفرنج يكتبون من اليسار إلى اليمين، وحروفها
مستوية مثل الرومية.
٢١
ويضع ابن النديم الخطوط العامة لرسم شخصية الفيلسوف من
خمسة عناصر، كما هو الحال عند السجستاني والبيهقي:
-
(١)
الاسم والكنية وتاريخ الميلاد والوفاة
والعمر. ويكون الاسم بالابن والأب، والكنية
بالقبلية أو المكان أو المذهب أو المهنة.
وتكون الوفاة بالسنة والشهر واليوم وأحيانًا
بالساعة.
-
(٢)
الأساتذة والتلاميذ والأصحاب، من أخذ عنهم
ومن تتلمذوا عليه ومن صاحبوه.
-
(٣)
العصر الذي عاش فيه، والسلاطين الذين اتصل
بهم. وتبدأ السيرة بلفظ «أخبار».
-
(٤)
الأخلاق والشيم والطبقة من العلم.
-
(٥)
المؤلفات وأسماؤها وتصنيفها وبيان أهميتها
من حيث نشأة العلم وتطوره.
٢٢ وقد فُقد معظمها مثل كتب «خلق
الإنسان»، والتي كان يمكن أن تجيب على سؤال:
لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟
ولمن كُتبت، لله أم للسلطان؟ وأحيانًا يتم وصف
الكتاب، حجمًا وخطًّا وأبوابًا، بالرغم من
غزارة التأليف بالعشرات وربما بالمئات للمؤلف
الواحد، مما يدل على بزوغ المؤلف من ثنايا
المؤلفين، وبداية ظهور النص كوحدة مستقلة
للتحليل، سواء كانت القصائد أو الرسائل أو
الكتب المصنفة في الكلام والفقه والأصول
والفلسفة أو الحيوان وعجائب البحر، والإشارة
إلى علماء لم يتركوا وراءهم مؤلفات وكأنها هي
الأبقى بعد أن يذهب الأصحاب.
٢٣
(٢) المصنفات والمصنفون
وبطريقة أكثر علمية وموضوعية يدوِّن «مفتاح السعادة
ومصباح السيادة في موضوعات العلوم» لأحمد مصطفى الشهير
بطاش كبري زاده (٩٦٨ﻫ) الفلسفةَ بطريقة تقسيم العلوم
أيضًا، بحيث أصبحت الفلسفة جزءًا صغيرًا من كل، جانبًا
واحدًا في منظومة المعرفة الشاملة. بالرغم من العنوان
الإشراقي «مفتاح السعادة» والتسلطي «مصبح السيادة»، ولكنه
دال على حياة العصر العقلية والسياسية.
٢٤ والكتاب مقسَّم إلى سبع دوحات: العلوم الخطية،
والعلوم اللفظية، وعلم الأذهان، وعلوم الأعيان، والحكمة
العملية، والعلوم الشرعية، وعلوم الباطن. علوم اللغة
أولًا. والكتابة تسبق النطق، والتدوين يسبق الشفاه،
والوجود العيني هو الحقيقي والذهني هو المجازي كما هو
الحال عند ابن النديم. وعلوم الأذهان تشمل المنطق والجدل،
وعلوم الأعيان تشمل العلم الإلهي والطبيعي (ولكلٍّ منهما
فروع) والهندسة والبيئة والعدد والموسيقى. فالله والطبيعة
من علوم الأعيان مع الرباعي الرياضي. والحكمة العملية تشمل
الثلاثي المعروف: الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. والعلوم
الشرعية هي العلوم النقلية التقليدية، القرآن والحديث
والتفسير والفقه وأصول الفقه مع أن أصول الفقه من العلوم
النقلية العقلية وباستبعاد السيرة. وعلوم الباطن مثل
«إحياء علوم الدين» للغزالي تضم العبادات والعادات،
والمهلكات والمنجيات. فكل علمين متقابلان. الخط واللفظ،
الأذهان والأعيان، الشرع والباطن؛ أي التنزيل والتأويل،
النظر والذوق، الظاهر والباطن، الجوارح والقلب. ونظرًا
لأهمية العلم والوعي به، فإن هناك مقدمة عامة عن فضيلة
العلم، وشرائط التعلم، وشرائط العلم، والنظر والتصفية.
ولفظ الدوحة لفظ صوفي. والحقيقة يمكن تصنيف الدوحات السبع
كلها في طريقين؛ الأول تحصيل النظر، والثاني ثمرة العمل،
ولكن يظل للعمل الأولوية على النظر كمًّا.
٢٥ ويوجد عدم تناسق بين الطرفين، الطرف الأول
دوحات ست، والثاني دوحة واحدة في المجلد الثالث كله. كما
لا يوجد تناسق في الدوحة السادسة عن الفروع إذ إنها تضم
المجلد الثاني كله.
ومن حيث الكم يطغى التقابل بين العلوم الشرعية وعلوم
الباطن، بحيث يعادلان خمسة أضعاف العلوم الخمسة السابقة.
وهو تقابل أصيل غير دخيل، في الموروث وليس في الوافد.
٢٦ كما أن العلمين الأولين، الخطي واللفظي من
علوم اللغة، وهو أيضًا من الموروث حتى قبل الإسلام. لا
يظهر الوافد إذن إلا في التقابل الثاني بين علوم الأذهان
(المنطق والجدل) وعلوم الأعيان (الإلهي والطبيعي، والرباعي
الرياضي)، وربما في ثلاثي الحكمة العملية التي هي بين
الموروث والوافد.
وقد يبدو التصنيف بناءً على تحليل العلم من اللفظ إلى
المعنى أو من المعنى إلى اللفظ، من الخط إلى الذهن، ومن
الذهن إلى العين. كما يبدو أحيانًا ابتداءً من الصلة بين
العقل والنقل. فالعلوم الاعتقادية مثلًا متعلقة بالنقل
(القراءات، رواية الحديث) أو بفهم المنقول (التفسير ودراية
الحديث) أو تقريره وتشييده بالأدلة، الآراء في علم أصول
الدين أو الأفعال في علم أصول الفقه أو استخراج الأحكام
المستنبطة (علم الفقه).
٢٧ وقد يكون التصنيف بناءً على أن العلوم قسمان؛
معاملة ومكاشفة، أفقية ورأسية.
ويحتوي «مفتاح السعادة» على ٣٢٢ علمًا، يأتي في مقدمتها
علم اللغة، ثم علم التواريخ، ثم علم الدواوين، ثم علم
المحاضر. وفي المرتبة الخامسة يأتي علم المنطق (الميزان).
وفي السادسة يأتي العلم الإلهي. وبعد ذلك يأتي علم النحو
وعلم الكيمياء، ثم علم العروض وعلم آداب الملوك، ثم علم
الطب ثم علم الجناس وعلم البديع وعلم أدوات الخط. وواضح
امتداد علوم اللغة واختفاء علوم الحكمة.
٢٨ وتظل الأولوية لعلوم اللغة والأدب، حوالي مائة
وخمسين علمًا، في مقابل باقي العلوم كلها التي لا تتجاوز
المائة.
أمَّا بالنسبة لأسماء المصنفات، فمن مجموع ٢٠٦٥ مصنَّفًا
يأتي «الكشاف» للزمخشري في المقدمة، ثم «إحياء علوم الدين»
و«الطبقات الكبرى» للسبكي، و«الصحاح» في اللغة للجوهري، ثم
كتاب سيبويه، ثم «الشفاء» لابن سينا، مع «الإتقان»
للسيوطي، و«صبح الأعشى»، ثم «جواهر القرآن» للغزالي، ثم
«تهافت الفلاسفة». فواضح من هذه الأهمية أولوية علوم
التفسير والفقه واللغة والتصوف والأدب قبل أن تظهر الفلسفة
ممثلة في كتاب «الشفاء» ثم «التهافت»؛ أي نقد الفلسفة،
ووضع «جواهر القرآن» بدلًا عنها.
٢٩
وقد اعتمد الكتاب على مصادر مدونة؛ فقد بَعُد هذا العصر
عن المصدر الشفاهي إلا بالنسبة للمشايخ والتلاميذ. وبطبيعة
الحال يظهر القرآن وخاصةً الحديث كمصدر للتاريخ.
٣٠ ثم تظهر بعض الأعمال الرئيسية؛ أي المصادر
بلغة العصر مثل «الإحياء» للغزالي، «مناهج البلغاء» لحازم
القرطاجني، «عوارف المعارف» للسهروردي. كما تظهر بعض
المراجع من كتب التاريخ السابقة مثل «وفيات الأعيان» لابن
خلكان، «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة. «تاريخ الإسلام»
للذهبي، «طبقات الشافعية» للإسنوي، و«أخبار الحكماء» للقفطي.
٣١ والقرآن والحديث مصدران رئيسيان كما هو الحال
في المقدمات الأربعة الأولى. كما يتدخل التوراة والإنجيل
كمصدرين مكملين نظرًا لوحدة المصدر في الكتب المقدسة.
٣٢
ويتم أحيانًا التحقق من صدق الروايات المستعملة كمصادر.
٣٣ وتتنوع المصادر، فمثلًا في بيان فضيلة العلم
والتعليم يتم الاعتماد على الآيات والأخبار والآثار ودلائل
يقتضيها العقل السليم.
٣٤ وبعض العلوم قسمة أو تسمية تدل على وعي علمي
بالتصنيف مثل علم الوضع،
٣٥ وكما استعمل الشاطبي من قبل «أحكام الوضع».
كما تدل بعض أقسامه على حالة العصر وحاجاته مثل الجنس كما
هو الحال في العصور المتأخرة مثل كتاب النساء وعلم الغنج
مع الرقص والموسيقى والآلات.
٣٦ ويدل هذا التصنيف للعلوم على وعي علمي تاريخي
وليس مجرد إحصاء كمي؛ فالتصنيف خبرة علمية معاشة.
٣٧ كما يبدو الوعي التاريخي في الإحساس بالفرق
بين المتقدمين والمتأخرين.
ويقع المؤلف في الاستطراد نظرًا لخروجه عن الموضوع بقصد
إعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات حوله، فيذكِّر به، ويحيل
إلى السابق، ويعترف بالإطناب.
٣٨ وفي نفس الوقت يتم الإغراق في الإيمانيات؛
فالله أعلم بالصواب والموفِّق للرشاد والمستعان.
٣٩
والشعر أيضًا كما هو الحال في المؤلفات المتأخرة مصدر من
مصادر التاريخ. وهو ثقافة العرب الأولى قبل الإسلام وبعده
في العصور المتأخرة.
تعطي الشواهد الشعرية على أهمية العلم عامةً والعلم
المنقول خاصةً بالرغم من التعامل مع العلوم بمنطق المدح
والذم. ويُعبر بالشعر عن أهمية علوم القرآن.
٤٠ وتكثر الشواهد الشعرية في عديد من الموضوعات.
٤١ وأحيانًا تأتي الشواهد الشعرية للمبالغات، مثل
معجزات العلماء أو التشنيع على المعتزلة.
٤٢
وبعد عرض العلوم تُعرض المؤلفات أولًا والمؤلفين من خلال
المؤلفات ثانيًا؛ فالعلم هو الوحدة الأولى، والمصنفات
الوحدة الثانية، والمصنفون الوحدة الثالثة على شكل هرمي،
مع حرصٍ على الترتيب الزماني بغية وصف النصوص الأولى قبل
شروحها وملخصاتها. فالأعمال هي وحدة التحليل قبل أن تتحول
إلى أقوال. تبدأ السيرة بالعمل ثم بالمؤلف، ثم تأتي أعماله
بلغاتها المختلفة.
وأحيانًا أخرى يأتي المؤلف بعد العلم ثم المؤلفات بعد
المؤلفين، مع حرصٍ على التوالي الزماني نظرًا لعلاقة
المريدين بالمشايخ وطبقًا لمفهوم الطبقات حسب الأهمية
العلمية وليس الترتيب الزماني؛ فالعلماء لهم أنساب مما يدل
على التواصل بين الأجيال.
وعيب هذه الطريقة دخول المؤلف تحت أكثر من علم، فقه
وتاريخ، فالشخصية متعددة الجوانب. وقد يُوصف جسم المؤلف
نحيفًا أم بدينًا، قصير القامة أم مديدًا، كما هو الحال في
وصف الطبري.
٤٣ وأحيانًا تُذكر الأعلام دون مصنفاتهم إعلانًا
عن نوع جديد من التدوين، وهي الأعمال دون المصنفات.
والغاية من تدوين العلوم غاية عملية وليست غاية نظرية،
لذلك تُذكر الفوائد الدينية للعلوم. ليس القصد مجرد وضع
العلوم في نسق كلي كما كان الحال عند المؤرخين والفلاسفة
الأوائل، بل مجرد تحقيق منافع عملية لعصر متأخر يغلب عليه
التدهور والانحطاط. ومن الأفضل في كلتا الحالتين تصنيف
الأسماء في مجموعات أقل من أجل التعرف على المدارس الفكرية
التي تعبِّر عن بنية العلم. وقد كانت المصنفات في القرنين
الأول والثاني شفاهًا في الغالب، ثم تحولت إلى مدونات في
القرنين الثالث والرابع على الأقل فيما يتعلق بعلوم
القرآن. وبدأ التراكم الفلسفي في الظهور في الشروح
والهوامش والتخريجات على النصوص الأولى داخل الموروث وليس
فقط مع الوافد، بل وتتم ثلاثة أنواع من الشروح: الكبير
والوسط والصغير، البسيط والوسيط والوجيز قبل ابن رشد
بالرغم من أن الشرح خطوة إلى الأمام والتلخيص خطوة إلى
الوراء. الشرح امتداد والتلخيص انقباض. وفي علم رواية
الحديث، البداية بالتأليف وليس بالمؤلف، بالطريقة الأولى
وليس بالطريقة الثانية. وفي حالة المؤلفين تُذكر بعض
التواريخ للميلاد أو الوفاة أو للحوادث الكبرى أو على
العموم في أوائل القرن أو وسطه أو نهايته. ومعظمهم معمرون.
٤٤
ومن الموروث تتصدر مؤلفات الغزالي ثم الرازي ثم ابن سينا
ثم الفارابي ثم ابن حيان وابن الهيثم ثم الطوسي ثم ابن
النفيس. ولا يذكر من مؤلفات ابن رشد والبيروني ومسكويه
وابن باجة وابن طفيل وأبو بكر الرازي إلا مؤلفًا واحدًا
لكلٍّ منهم.
٤٥
أمَّا من حيث أسماء الأعلام فيتصدر الشافعي، ثم ابن
عباس، ثم علي بن أبي طالب، ثم أبو حنيفة، ثم السيوطي، ثم
أحمد بن حنبل، ثم عمر بن الخطاب، ثم مالك، ثم شمس الدين
الذهبي. ولا يظهر أي فيلسوف إلا في المرتبة العاشرة مع أبي
بكر. ويأتي الغزالي في المرتبة الثالثة عشرة، والتوحيدي في
السابعة عشرة، وابن سينا في المرتبة السابعة والعشرين،
والفارابي في المرتبة الثامنة والثلاثين، والكندي في
المرتبة الواحدة والأربعين، وحنين بن إسحاق في المرتبة
الثالثة والأربعين، وابن البيطار وابن حزم وابن خلدون في
المرتبة الأخيرة الرابعة والأربعين. أمَّا ابن رشد فلا ذكر
له تقريبًا مما يفسِّر انحسار الفلاسفة عن العلوم وتواري الفلاسفة.
٤٦ وقد يكون ابن رشد قد توارى فعليًّا داخل
العالم الإسلامي بعد محنته في الأندلس وسيطرة الدولة
العثمانية على مظاهر الحياة العلمية في البلاد. ثم حيا
السلطان معركة «التهافت» و«تهافت التهافت» تعيد لابن رشد
صورته وحضوره. إنما غاب من كتب التدوين ربما لأنه أسطورة
خلقها الرشديون اللاتين وعداء الكنيسة له، وربما لأثره على
نشأة العصور الحديثة في الغرب، وربما من صنع المغاربة
وقريبًا لابن خلدون تحت وهْم الخصوصية والقطيعة.
وتذكر محنة الفلاسفة والمتكلمين مثل عضد الدين الإيجي
الذي مات مسجونًا، واتهام مؤيد الدين الطغرائي وقتله حسدًا
وخوفًا من فضله، وقتل المقتدر لابن المعتز، وقتل الباخزري
في مجلس أنس.
٤٧ وقد تكون المحنة وجودية بمرض أو موت طبيعي.
٤٨ وقد يظهر ذلك في رنة حزن وأسًى في أسلوب
المؤلف «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون»، و«لا حول ولا قوة
إلا بالله». والحديث عن الغزالي هو أطول الأحاديث مع
إعطائه لقب المناضل عن الدين مع بيانٍ لأساتذته
الإسماعيليين بالرغم من كتابته «فضائح البطنية»، وحدوث
رؤية له، واقتباس نص من «المنقذ من الضلال»، لوصف سيرة
حياته الذاتية.
٤٩ مع أنه منذ بدأ تأليف «الإحياء» بدأ الرد
عليه.
وواضح أن جغرافية الفكر الإسلامي كلها من الموروث،
وتتصدر العراق بغداد والبصرة والموصل والكوفة، ثم الشام
دمشق وحلب وبيت المقدس، ثم الحجاز مكة والمدينة وبدر، ثم
مصر القاهرة، ثم آسيا خراسان ونيسابور وأصبهان وسمرقند
وبخارى والري وخوارزم وهراة وبلخ. ولا يكاد يذكر من
جغرافية الوافد شيئًا. فالحضارة كلها تنبع من البيئة
الإسلامية، مدنها ومدارس تعليمها.
٥٠
ويبدو أيضًا ضعف الجناح الشرقي؛ فلم تُذكر الهند والصين
إلا نادرًا. فيُحكى أن أهل الصين والروم في زمان قديم
تباهوا في صناعة النقش، كما أتى علم خواص الإقليم من
الهند. ووُجد في بلاد الهند، طبقًا للخيال الشعبي، حجر
منقوش عليه بالعبرية. وقد اختلفت طرق الهند في علم السحر
بين تصفية النفس كما هو واضح في كتاب «مرآة المعاني في
إدراك العلم الإنساني»، وعن طريق النبط ثم عمل عزائم في
أوقات مناسبة كما هو واضح من كتاب ابن وحشية.
٥١ ومن مصادر الموروث وتاريخه القديم تُذكر أيضًا
طريقة العبرانيين والقبط والعرب في السحر، وذكر أسماء
مجهولة المعاني كأنها أقسام وعزائم يزعمون أنهم يسخِّرون
بها ملائكة قاهرة للجن.
٥٢
أمَّا بالنسبة للكلام فقد لعن الله اليهود والنصارى
والمجوس والقدرية والخوارج والروافض والزناة وآكلي الربا والظَّلَمة.
٥٣ كما ينقد الاعتزال لأن أفعال الله مخلوقة له،
ومكتسبة للعباد، ومرادة له، ومتفضل عليها بالحق. وله تكليف
ما لا يُطاق، وله إيهام البريء، ولا تجب عليه رعاية
الأصلح، فلا واجب إلا بالشرع. وبالرغم من الصلة الوثيقة
بين الفقه والاعتزال، إلا أنه يتم الهجوم على الاعتزال في
عرضٍ تاريخي غير موضوعي لعلم الكلام.
٥٤ ويتهم الاعتزال ظلمًا. التفسير الاعتزالي تهمة
مثل «الكشاف» للزمخشري بالرغم من الاعتراف بأنه «معتزلي
قوي في مذهبه مفتخر به».
والمنطق جزء من الكلام وليس من الفلسفة؛ لأن الفلسفة
مخالفة للشرع، أكثرها الإلهي والطبيعي وكل الرياضي، فلا
مانع منه مثل الحساب إلا أن يستدرج إلى مانع، وهو نفس موقف الغزالي.
٥٥ والكلام داخل تاريخ الفقه. الفقه هو العلم
الشامل كما كانت الحكمة في الأيام الخوالي. يُرد الكلام
إلى الفقه. ورئيس أهل السنة في الكلام رجلان، أحدهما حنفي
والآخر شافعي. والفقه علم نقلي خالص؛ ومن ثمَّ يُنقد صلة
الفقه بالاعتزال خاصةً وكل فقه الفِرَق عامة، فقه المعتزلة
والخوارج والشيعة.
٥٦
ويضيع الموروث العقلي خاصةً الموروث الفلسفي وسط الموروث
النقلي خاصةً القرآن والحديث والفقه. وتكاد تغيب الفلسفة
كليةً إلا من الهجوم عليها وتكفيرها، متكلمين وفلاسفة.
الفلسفة ضد الارتقاء إلى أعلى لأنها ضياع الإيمان،
وبالتالي تدفع إلى الاتجاه إلى أسفل. والحكمة تمويه،
اخترعها الفارابي وابن سينا وجمَّلها الطوسي. وقد سموا
أنفسهم حكماء الإسلام وهم أعداء الله والأنبياء والرسل،
تخالف الشرع. كلها دراسة ترهات وضلال، فهي مذمومة. وقد
حرَّمها ابن الصلاح في فتاويه في العصر السابق.
٥٧ الفلاسفة محرفون للشريعة عن مواضعها، لا
يحفظون القرآن ولا الحديث،
يتجملون بالشريعة خوفًا
من المسلمين، ولا يعتقدون بالشرع، ويهدمون قواعد الشرع
وينقضونها، فالحذر منهم. ويُحرم الاشتغال بالحكمة. فالحكمة
ضارة بالمسلمين واليهود والنصارى. شرط الفلسفة عدم مخالفة
الشريعة وعدم مزج الفلاسفة بكلام العلماء، فالمتكلم هو
العالم والمقياس. والفلسفة بعد ابن رشد كلها شروح على
المتقدمين. ولا يكاد يُذكر ابن خلدون.
ويغرق الموروث في التصوف، وتكثر الأدعية والشحاذة، وما
يسميه إقبال فلسفة السؤال، ومعظمها أدعية فردية لمكاسب
شخصية، ولا تعبِّر عن مصالح الأمة وهمومها وقضاياها
الكبرى. بل إن أدعية الرسول مشابهة لأدعية الصوفية مثل
أدعية الصحابة. وتكثر لدرجة أنها تبتلع أسماء المؤلفات
والمؤلفين، وهما الغاية من التدوين. أصبح الخضر بديلًا عن
ابن رشد، والدعاء يتناقض مع الإيمان والقضاء والقدر. فإذا
كان كل شيء مقدرًا مسبقًا فما فائدة الدعاء؟ وقد كان هذا
هو حال العصر، الدولة العثمانية والدفاع عن مصر ضد
الاحتلال الفرنسي بقراءة البخاري في نفس الوقت الذي كان
الغرب فيه يفكر ويعمل ويجد. وينتهي العلم ويصب في الدين،
وينتهي الانفتاح الحضاري ويبدأ الانغلاق على الذات. ويرث
الآخر مسار التاريخ بعد أن خرج منه الأنا. وتُكبل الحياة
بالدعوات كما هو الحال في الاتجاهات التقليدية حتى لا يكاد
يخلو فعل من دعاء حتى ولو كان الجماع. ويتحدث الرسول
للصوفية ويظهر لهم في مناماتهم تأكيدًا لشرعية العلم.
والصوفية كلهم شافعية نظرًا للرابطة الجوهرية بين التصوف
والأشعرية منذ الغزالي. ويرتبط التصوف بالشعر، فكلاهما
إبداع وجداني، عود إلى الروح العربية بعد انتهاء الإبداع
الحضاري في العلوم العقلية والطبيعية.
٥٨ والتصوف ليس مجرد علم، بل هو طريق ومنهج
وأسلوب حياة ونظرة كلية للعالم. فالشعائر لها جوانب صوفية.
والاستعداد ليوم الجمعة يوم الخميس مساء مجاز. وفقه الوجود
مسبوق في «قوت القلوب». ويتجاوز التصوف العلاقة التجارية
مع الله في الثواب والعقاب وعدد الحسنات المضافة، والسيئات
المخصومة، والتحول من مكان الصلاة إلى زمانها.
٥٩
وعلوم القرآن معظمها مستمد من أبواب علوم القرآن
التقليدية ولا جديد فيها، كل جزأين فيه علم حتى لقد تصل
الأبواب في السيوطي والزركشي إلى مئات العلوم، وضياع أهم
موضوعين «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» اللذين يبينان
ارتباط الوحي بالمكان والزمان في زحمة باقي العلوم. وتبين
أمثال القرآن، كما تبين أحاديث الرسول تطابقها مع جمهرة
أمثال العرب.
٦٠ والقرآن يحيل إلى العلم ويدفع إليه. كما
يتوجَّه نحو القراءة والتدوين عن طريق القسم بالقلم.
٦١ وبالرغم من قلة القرآن والحديث في الدوحات
لأنها بنيات عقلية ثم إحصائية يتم الاستشهاد بالقرآن في
علم الفراسة وفي علم النحو والاستقامة والاعوجاج، وعلم
الاهتداء بالبراري والقفار، وعلم الفأل، وعلم الهيئة،
وكذلك علم العدد، وعلم خواص الأعداد التامة والمتباعدة،
وعلم السياسة وآداب الوزارة.
٦٢ ويستعمل الأسلوب القرآني الحر كنموذج للأسلوب
العربي. ويتم اكتشاف منهج السؤال والجواب في صياغة الآيات.
الواقع يسأل والوحي يجيب مؤيِّدًا إجابات الواقع ومختارًا
بينها أو مكمِّلًا لبعضها. وقد تحول القرآن في العصور
المتأخرة من موضوع للعلم إلى أحجية وطلسمات للشفاء، وإلى
وثنية ورقية خطية مرئية، وتقبيله مثل الحجر الأسود، زينة
للعرف ومحلى بالذهب والفضة والقطيفة الحمراء في صندوق مرصع
بالجواهر:
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ.
٦٣
وتُعطى تفصيلات عديدة بحيث تختفي بنية العلم وغايته
ويصبح غير قابل للاستعمال. وبالرغم من ترقيم بعض قواعد
التفسير إلا أنها لم تتحول إلى منهج عام. ومعظمها قواعد
لغوية نحوية، وكأن التفسير مجرد علم يتعلق باللغة، وكأن
اللغة عالم مستقل بذاته لا صلة لها بالعالم، ولا شأن لها
بالأهواء والرغبات عند المفسر ولا بالمصالح الجماعية
للطبقات الاجتماعية. لذلك تتداخل علوم القرآن مع علوم
النحو وعلم أصول الفقه في المبادئ اللغوية، وكأن الغاية هي
مجرد بيان البلاغة في القرآن والحديث إلى حد الوقوع في
الدور، تفسير القرآن باللغة، وتفسير اللغة بالقرآن. وأكثر
الشواهد القرآنية في التفسير والتأويل، وجه الحاجة إلى
التفسير، شروط المفسر وآدابه، غرائب التفسير.
٦٤
وتُعرض مناهج التفسير لأن التفسير مرتبط بالعلوم. فهناك
التفسير النحوي، همه الإعراب (الزجاج، الواحدي، أبو حيان)،
وهم التفسير الإخباري القصصي الإخبار عمن سلف صحيحًا كانت
الرواية أم باطلة (الثعلبي). والتفسير الفقهي يستنبط
الأحكام الفقهية والأدلة على المخالفين (القرطبي).
والتفسير العقلي مملوء بأقوال الحكماء والفلاسفة لدرجة
الخروج على الآيات، به كل شيء إلا التفسير (الرازي)،
والتفسير الابتداعي يقوم على تحريف الآيات وتسويتها على
المذاهب الفاسدة. والتفسير الإلحادي هو تفسير الصوفية
والشيعة (أبو طالب المكي، الكرماني، محمود بن حمزة).
والتفسير الصوفي ليس تفسيرًا اعتمادًا على ابن الصلاح
وفتاويه (السلمي، ابن عطاء الله). ويُسهب في تفصيل تفسير
الرازي لأهميته.
٦٥
وللمفسر شروط: مطابقة المفسر، تجنب ألفاظ الحكاية عن
الله، التحرز من إطلاق الزائد على بعض الحروف، التحرز من
إطلاق لفظ التكرار. وله علوم ضرورية: اللغة، النحو،
التصريف، الاشتقاق، المعاني، البيان، البديع، القراءات،
أصول الدين، أصول الفقه، أسباب النزول، القصص، الناسخ
والمنسوخ، الفقه، الأحاديث المبنية لتفسير المجمل والمبين،
علم الموهبة اعتمادًا على حديث «من عمل بما علم ورثه الله
علم ما لا يعلم». وهي علوم تجمع بين اللغة والقرآن والحديث
والفقه والتاريخ.
٦٦
وعلم التفسير على أقسام: إمَّا سر لله أو سر للنبي أو ما
أعلنه النبي للناس. وهو إمَّا بالسمع وإمَّا بالعقل سواء
اتُّفق عليه كاستنباط الأحكام أو اختُلف في جوازه مثل
تأويل المتشابه. وما عدا ذلك فهو التفسير بالرأي من غير
حصول علوم التفسير أو تفسير المتشابه الذي لا يعلم تأويله
إلا الله، أو التفسير المقرر للمذهب الفاسد عندما يكون
المذهب أصلًا والتفسير فرعًا، أو تفسير مراد الله على
القطع من غير دليل، أو التفسير بالاستحسان والهوى. وأين
مناهج التفسير السياسي، مناهج التفسير ومصالح الأمة التي
فيها يصبح التفسير جزءًا من المعارك الاجتماعية؟
٦٧
ومع ذلك تدخل الإسرائيليات كمادة متاحة لتفسير قصص
الأنبياء ما دام التفسير تاريخيًّا، وما دامت الإسرائيليات
متاحة في الثقافة في شبه الجزيرة العربية. ويبدو القرآن
مجرد عقائد، إلهيات ونبوات ومعاد وقضاء وقدر كما هو الحال
عند الرازي، لا شأن له بالسلوك الفردي والجماعي. وقد يؤدي
ذلك إلى نوع من إباحية السلوك ما دامت العقائد منفصلة عنه،
لها عالمها المستقل المنفصل عن السلوك في العالم أو إلى
نوع من الاستسلام للقدر العام للوح القضاء والقدر المحتوي
على ما كان وما يكون كليًّا وجزئيًّا. ولم يتم تطوير «علم
الجفر والحدثان»، وهي إحدى صور فلسفات التاريخ القديمة
وعلم الأدوار والأكوار. وقد تم التوسع قليلًا في مفهوم
الوحي. ويكلم جبريل غير النبي أو يسمعه مثل ابن عباس.
٦٨ كما يمكن تطوير استقلال العالم عن السلطان فلا
يدخل إليه حتى لا يقع في الغواية وتبرير ظلمه، ويُستبعد ما
يُقال عن الأدب مع السلاطين.
٦٩
ويُؤخذ علم الحديث باعتباره نموذجًا للتدوين الصحيح من
حيث دقة الرواية؛ فقد جمع أبو داود ٥٠٠٠٠ حديث، تقلصت إلى
٤٠٠٠٠، ثم إلى ٨٠٠٠، ثم إلى أربعة آلاف حديث.
٧٠ وتُؤيد الأشعرية كمذهب رسمي بأحاديث مروية في
فضائل الأشعري وكأن الرسول يتنبأ بالغيب؛ فقد ظهر الرسول
له في المنام وطالب بنصرة المذاهب المروية عنه، فإنها
الحق. ويمده الله بمدد من عنده تمنعه من الخطأ، فروى
«الإمامة من قريش»، «قدِّموا قريشًا ولا تتقدموا عليها».
٧١ وقد تتمثل شجاعة القدماء في فصل السند عن
المتن في الحديث، ويتم استعمال الأحاديث غير الموقوفة على
السند إبقاءً للمتن.
٧٢ ويبدو صدق المتن حينئذٍ في صدق التجربة
البشرية التي وراءها والتي يرتكز عليها. كما يدل الحديث
القدسي على صعوبة الفصل بين كلام الله وكلام البشر بوجود
كلام متوسط بين الاثنين. وأحيانًا يستعمل الحديث على نحو
مرسل دون تنصيص كجزء من الخطاب الحر، كما هو الحال في
استعمال الآيات. الحديث هو روح الوحي والعقل البديهي
والطبيعة الخيرة والواقع المعاش. وحسن صوت النبي جزء من
دعوته؛ فالسمع أقرب إلى القلب من العقل. لذلك يتداخل علما
التفسير والقراءة.
٧٣ وقد تحول علم الحديث كما تحول علم القرآن إلى
وثنية بتقديس كتب الحديث واستعمالها؛ فالانكباب على كتاب
«الشفا بتعريف حقوق المصطفى» في أيام الوباء نافع ومفيد؛
بل إن الرسول نفسه يقوم بعمل أحجية
لتقوية الإيمان وشفاء
المرضى، حقيقة بدنية أم إيحاءً نفسيًّا، هذا هو السؤال.
ليست وظيفة الأحاديث الإخبار بالغيبيات؛ بل بيان العمليات.
فالحديث لا يعطي أصلًا جديدًا، ولكن يبين طرق التطبيق،
ويعطي بعض التفصيلات الجزئية. ويعتمد علما القرآن والحديث
على بعضهما البعض، إثبات القرآن بالحديث، وإثبات الحديث
بالقرآن، إثبات فضل السنة بالقرآن وإثبات فضل القرآن
بالسنة مما يوقع في الدور أو تحصيل الحاصل.
٧٤ بل إن كثيرًا من جوانب الفقه القديم يمكن
تغييرها، مثل ملازمة المسجد حتى العصر، وهو ما يناقض
القرآن بالانتشار في الأرض بعد أداء الصلاة.
٧٥ ويُسهب في عرض الفقه القديم. وتتكرر المادة
الفقهية لدخولها في أكثر من علم. ويطول عرض أبي حنيفة. ولم
يأخذ أي من الحكماء نفس المساحة التي أخذها الشافعي (ص١١).
وهو علم نقلي خالص لم يقع الاجتهاد فيه؛ ومن ثمَّ تغيب عنه
الأسس النظرية. ولا يعرض إلا للشافعية والحنفية وكأنه لا
يوجد فقهاء مالكية وحنابلة، المصلحة والظاهر ونوادر الأئمة
هي نوع من التحايل الفقهي. ويُعرض فقه باقي الأئمة مثل فقه
محمد بن الحسن الشيباني في مذهب مستقل.
ويغرق الموروث في الفقه، فقه الأشكال والرسوم وموت
الحياة والغسل والكفن وإخراج الفرح والتزين إلى دائرة المحرمات.
٧٦ والصلاة صلاة المودِّع وليست صلاة الفرح. ولا
يُؤخذ من القرآن إلا آيات الحزن دون الفرح، ولا يُؤخذ من
الحديث إلا أحاديث البكاء والحزن. وكلها عادات عربية، سُنة
عادة وليست سُنة عبادة مثل إطالة اللحى، أو من أجل التمايز
مع الطوائف الأخرى مثل خضاب الكفار، اللحية والسواد.
والسؤال الآن: ما فائدة هذه العلوم كلها وقد انقضى عصرها
وقَدُمت عادتُها وتغيرت العصور والأزمان من مرحلة تاريخية
أولى إلى مرحلة تاريخية ثانية، من النصر إلى الهزيمة، ومن
الفتح إلى الاحتلال، ومن مركز العالم إلى هامشه؟ لقد
استقرت هذه العلوم وانتهى عصرها والغاية من وضعها مثل
القراءات بالرغم من وجود أصوات جديدة لدى المسلمين في
أفريقيا وآسيا وأوروبا. هناك إحساس عند طاش كبري زاده
بدورات التاريخ، حتى ولو كانت مرتبطة بالأشخاص.
٧٧ وهو فقه
مفعم بالتصوف، فالعلم هو الفقه والتصوف؛ فأبو حنيفة صاحب
مقامات وعلى اتصال بعالم الباطن. ورأى الشافعي الرسول في
النوم، ووضع النبي من فيه على لسانه وفمه وشفته: «امشِ
بارك الله فيك» من أجل تأكيد سلطة الشافعي. وقد كان لدى
المؤرخين إحساس تاريخي بالعصر والزمان. واستمرار العلوم
النقلية في التاريخ بعد الاختفاء التدريجي للعلوم العقلية
يدل على نفَسِها الطويل، وأنها هي المخزون النفسي المستمر
عبر التاريخ. بينما لا تنشأ العلوم العقلية إلا في لحظات
الازدهار الحضاري.
٧٨
أمَّا الوافد الغربي فقد بدأ يتوارى أيضًا بحيث لم يَعُد
له وجود إلا بصيصًا من ضوء في ليلٍ بهيم، فأصبح لا يمثل
إلا نصف في المائة (٠٫٥٪) من مجموع أسماء الأعلام. ومع ذلك
يأتي أرسطو في المقدمة ثم الإسكندر ثم إقليدس ثم أرشميدس
وسقراط، ثم بطليموس وأبقراط الحكيم، ثم أرمانوس وأقليمون
وإيرن ومنوفلس وزينون وفيثاغورس وفيلن. حتى هرمس الذي كانت
له الصدارة أولًا نموذجًا للقاء الحضاري بين مصر واليونان
وبابل والأنبياء أصبح في الدرجة الأخيرة.
٧٩
أمَّا من حيث المصنفات فلم يَعُد الوافد يمثل أكثر من ١٪
من مجموعة المصنفات، سبعة عشر مصنفًا، مع شرح واحد لأحدها.
ويأتي في الصدارة السماع الطبيعي وكتاب النفس وكتاب
نيقوماخوس لأرسطو، ثم المجسطي، وتسطيح الكرة لبطليموس،
وعلم المناظر والهندسة لإقليدس، ثم طيماوس لأفلاطون الذي
يُعزى إلى أرسطو نظرًا لسيادة صورة أرسطو، وإيساغوجي
وتدبير المنزل لبروش وديسقوريدس وكتاب علم جر الأثقال
لإيرن، وأكر ساوذوسيوس، وأكر مالاناوس، وكتاب بروشن في
تدبير المنزل، وكتاب الفراسة لأقليمون، وكتاب هروشيش
اللاتيني الوحيد. كما بيَّن أفلاطون الإلهي خواص الأعداد
المتحابة والمتباغضة.
٨٠ أمَّا من حيث الأماكن فقليلة للغاية لا تتعدى
ستة أسماء لا تتكرر،
خمسة من اليونان: اليونان وأثينس وأثينا وفرغاموس وغلس،
واسم واحد من الوافد الشرقي بابل.
وتصبح صورة اليونان تلك الحضارة التي تمارس السحر مثل
الهند، عن طريق تسخير روحانية الأفلاك والكواكب كما هو
واضح في كتاب الوقوفات للكواكب.
٨١ ويكثر الوافد في الدوحة الثانية في العلوم
الباحثة عما في الأذهان من المعقولات، وتشمل علمين؛ الأول
علوم آلية تعصم من الخطأ في الكسب، وهو علم المنطق أو علم
الميزان. والثاني علوم تعصم عن الخطأ في المناظرة والدرس
وتشمل آداب الدرس والنظر والجدل والخلاف.
٨٢ وتظهر الثقافة اليونانية عن بُعد، بعد انقضاء
سبعمائة عام كما نتكلم نحن الآن عن ابن خلدون وابن تيمية.
يظل الحديث عن الوافد اليوناني قليلًا.
٨٣ ثم بعد ذلك تمثل الموروث له عند ابن سينا
والفارابي.
ويستعمل الوافد للاستشهاد به على بعض الموضوعات؛ فهو
وسيلة وليست غاية، دليل على موضوع وليس الموضوع ذاته، مثل
الاستشهاد بأفلاطون على أهمية العلم. كما يستعمل الوافد
كرواية تخبر عن شيء وتنقل خبرًا، مثل الاعتماد في شرائط
المتعلم ووظائفه على رواية زينون عن أرسطو عن أفلاطون عن
سقراط أسوة بالسند في علم الحديث.
٨٤ وأحيانًا يكون الوافد مجرد تاريخ وخبر بلا
دلالة أو توظيف، بقايا معلومات قديمة بلا علم مثل الإشارة
إلى كتاب أرسطوطاليس باعتباره من الكتب الناقصة في العلم
الطبيعي، وإلى أبقراط الحكيم باعتباره أول من دوَّن الطب.
ولا يوجد أعلم بعد أرسطو في العلم الطبيعي من أبقراط
وجالينوس، وذكر علم الفراسة لأقليمون، وعلم المرايا
المحرقة لدنوفلس، وعلم جر الأثقال وبرهان إيرن، وكتاب
المساحة لإقليدس وعلم المناظر مختصر لكتاب إقليدس، وكتاب
المجسطي لبطليموس. ومن الكتب النافعة علم الأكر المتحركة،
أكر مالاناوس، وأكر ساوذوسيوس. ومن الكتب القديمة كتاب
تسطيح الكرة لبطليموس، وكتاب بروش في علم تدبير المنزل.
٨٥ وهي كلها كتب نافعة في علومها دون أي عرض نظري
لأهميتها من حيث هي علم. وهي مجرد تطبيقات عملية لعلوم لا
تهم أسسها النظرية. وتذكر بعض كتب الموروث الشارحة للوافد
مثل تحرير خواجة نصير الدين الطوسي لكتاب إقليدس.
٨٦
(٣) تصنيف العلوم
وإذا كان تقسيم العلوم قد بدأ عند ابن النديم بأولوية
علوم العرب قبل الإسلام، اللغة والشعر على علومهم بعد
الإسلام، فإن القرن السابع شاهد طغيان ذلك حتى أصبح
اللغويون وحدهم هم العلماء.
-
(أ)
حدث ذلك في «مفتاح العلوم» للسكاكي (٦٢٦ﻫ)؛
٨٧ إذ تنقسم العلوم إلى ثلاثة أقسام:
الصرف، والنحو، والمعاني والبيان (البديع،
الاستدلال، العروض، القافية).
٨٨ وكلها علوم اللغة والشعر، علوم
العرب ونهاية علوم العجم، الموروث ونهاية
الوافد، الجاهلية الأولى ونهاية علوم الحضارة
العقلية والنقلية والعقلية النقلية. تعود
الحضارة إذن إلى أصلها الأول الذي خرجت منه،
اللغة والشعر، والذي حاول الوحي وراثتهما
وتطويرهما إلى علوم إنسانية. ويأتي علم
الأصوات في مقدمة علوم اللغة كما هو الحال في
اللسانيات الحديثة في الغرب مع الإحالة إلى
أئمة اللغة ابن جني وسيبويه والخليل.
ويظهر القرآن باعتباره الميدان التطبيقي
لعلم اللغة. شعار الكتاب آية:
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
فالقرآن لغة عربية مكتوبة بلغة العرب. وإذا
كان فيه شواذ، فالشواذ في اللغة والعروض.
القرآن حجة لغوية على غيره. لا يُصحح القرآن
طبقًا لقواعد اللغة، بل تُصحح اللغة طبقًا
للغة القرآن. القرآن والشعر شواهد لغوية. وخير
تفسير للقرآن هو التفسير اللغوي. وكأن الإنسان
في حاجة إلى كل هذه القواعد اللغوية لفهم
القرآن، وكأن العلم علم مستقل بذاته مثل عالم
الخطاب في علم تحليل الخطاب في الغرب المعاصر.
٨٩ ويظل القرآن نموذج الشعر العربي
وأوزانه. والآيات القرآنية على أوزان الشعر
العربي وقوافيه.
٩٠ فالقرآن لغة وشعر طبقًا لقواعد
اللغة وبحور الشعر. وتذكر الآيات القرآنية
بالمئات كشواهد خاصة في علم المعاني والبيان
في مقابل حديثين نبويين. كما تكثر العبارات
الإيمانية التي يرد فيها العلم البشري كله إلى
العلم الإلهي.
٩١
ولم يبقَ من الوافد الذي يتراءى عن بُعد من
ذكريات الماضي البعيد إلا أسلمة جالينوس مرة
واحدة؛ فقد كان ماهرًا في الطب، وختم القرآن
في التراويح سنة. ويشير إلى كتاب «الجواهر»
وإلى «صوان الحكم» دون تحديد السجستاني أو البيهقي.
٩٢ لا يعني ذلك أن السكاكي عالم لغة
قدير فحسب؛ بل له دلالة حضارية أعمق في تطور
العلوم وتصورها وتدوين التاريخ.
-
(ب)
وكما وضعت علوم اللغة والشعر حدًّا للعلوم
العقلية بل والنقلية، سطت العلوم النقلية على
العقلية في «مفيد العلوم ومبيد الهموم»
للخوارزمي المتأخر. والفلسفة في الحالتين هي
الخاسرة. وبصرْف النظر عن المؤلف، وهل الكتاب
منحول عليه أم لا، وبصرْف النظر عن مكانه
مغربيًّا أو شاميًّا، فإن النص دال على عصره
المتأخر، خاصةً بحديثه عن الإفرنج.
٩٣
ولا يوجد تصور لتقسيم العلوم إلا من رصد
اثنين وثلاثين كتابًا دون ترقيم مما يدل على
غياب النسق، معظمها موضوعات فقهية داخل علم الفقه.
٩٤ ويمكن تجميع هذه الكتب في عدة
علوم طبقًا للأهمية الكمية: الفقه، والكلام
والتصوف، والتاريخ والطبيعيات، والحديث.
٩٥ كما يُلاحَظ غلبة العلوم النقلية
وغلبة الفقه عليها، والحديث أقلها، وغلبة
التصوف والكلام على العلوم النقلية العقلية،
وغلبة الكلام على الفلسفة، وظهور الطبيعيات
وحدها، الطب والجغرافيا والتاريخ، دون منطق أو
إلهيات طبقًا للقسمة الثلاثية لعلوم الحكمة،
وغياب الوافد كليةً وكأنه لم تكن له الصدارة
قبل ذلك بعدة قرون. بل تغيرت بعض الأسماء
العقلية إلى إيمانية مثل موضوعات علم الكلام
دون تسميته مثل قواعد الدين الذي يشمل نظرية
العلم أساسًا، وكتاب أحكام النبوة الذي يتناول
موضوع النبوة، وكتاب الغرائب الذي يشمل بعض
أمور المعاد مثل العقل والروح والثواب
والعقاب، وكتاب الرد على الكفرة ويتناول
الفِرَق غير الإسلامية، وكتاب المناظرات الذي
يتكرر مرتين وهو أقرب إلى منهج الكلام، وكتاب
فتن آخر الزمان عن أشراط الساعة. يشمل علم
الكلام سبعة كتب تدور حول الله والرسول، وكما
هو الحال في علم العقائد المتأخر. وتظهر بعض
المسائل الأخلاقية التقليدية مثل آداب
الضيافة، ومقاومة الرذائل مثل الكذب والغيبة
والغضب والحسد والبخل والحرص والطمع والخيانة
والجشع والكبر والعجب والرياء ومذمة الخلق،
وبعض المسائل التقليدية مثل تحريم أواني الذهب
والفضة وكتاب الجهاد. أمَّا العقلاء فلهم
سلوتهم بالحوادث ومخاطبة النفس وتسلية النفس
لموت الأقارب وتسلية الله لعباده.
٩٦
والكتاب تجميع لا تأليف كما هو الحال في العصر العثماني،
عصر الشروح والملخصات والموسوعات، عصر التدوين الثاني بعد
أن توقف العقل عن الإبداع، وبدأت الذاكرة في التدوين. تغلب
عليه الحجج النقلية كما هو الحال في الحركة السلفية
المتأخرة؛ بل إنه مجرد مجموعة من الآيات والأحاديث
المتراصة بعضها فوق بعض، ولا تكاد تخلو صفحة واحدة منها.
هناك بقايا عقلانية تتراءى عن بُعد، من ذكريات عصور خلت،
مثل أن أول ما يُحجب عن المكلَّف النظر كما هو الحال في
علم أصول الدين، والبداية بسلطان العقل وحاكم الشرع،
ولكنها لا تصمد أمام طوفان الحجج النقلية. ويمكن معرفة
مناهج التفسير وكيفية استعمال الأدلة النقلية مثل:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ.
٩٧ كما أن الأحاديث المروية قد لا تكون صحيحة كما
هو الحال عن الصوفية، بدليل غياب السند والاكتفاء بعبارة
«وفي الخبر». كما يدل طول الحديث على انتحاله.
ويأتي النص الشعري مؤازرًا للنص الديني؛ فالشعر قبل
الإسلام يعادل الوحي بعده، ويقومان بنفس الوظيفة، المصدر
المركزي للمعرفة. لذلك نصح عمر بن الخطاب: «عليكم بشعر
جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم.» وتتوارى العلوم الإسلامية
العقلية، والعقلية النقلية، هذا الإبداع الحضاري لحساب
المركز الأول كما تفعل الحركة السلفية من أحمد بن حنبل حتى
محمد بن عبد الوهاب.
٩٨
وتغلب النزعة
الصوفية الأخلاقية على الكتاب. ويبدو ذلك من العنوان «مفيد
العلوم ومبيد الهموم»؛ فالخطاب موجَّه إلى الفرد والجماعة
والأمة لإصلاح الأخلاق، خطاب عملي وليس خطابًا نظريًّا،
ديني وليس علميًّا، باطني وليس عقليًّا. يتوجه الخطاب إلى
الذات وليس إلى الموضوع؛ لذلك تغلب عليه روح العجائب مع أن
العلم لا عجائب فيه، ليس فقط في باب واحد بل في الكتاب كله
بما في ذلك غرائب الفقه وعجائب البلدان، التاريخ والأرض
والمدن ببابل والحيوانات والبحار والأنهار والأحجار والقضاء.
٩٩ والشيطان هو الذي يعلم الدين مما يدل على
الخيال الأدبي. ويصوغ الخيال الإبداعي مناظرةً بين أهل
القبور وأهل القصور. وتُثبَت النبوات بالمعجزات وكلها من
صنع الخيال، في حين أن إثبات النبوة لا يحتاج إلى معجزات.
ويقوم الأولياء بالكرامات، وتتحول الرسالة إلى الرسول
والنبوة إلى النبي في مسار تشخيص للأفكار،
١٠٠ كما تبرز النساء باعتبارها إطارًا مرجعيًّا
لأشخاص كما هو الحال في عصور الانحلال.
١٠١ ولا يجدون في الرسول إلا مزاحه وأزواجه
ونكاحه، وآداب النكاح ومعاشرة النساء وصحبتهن وجواز العزل،
وشهوة الفرج، وأن كل
النساء يتساوون بالليل، وقدر ما تصبر المرأة بعيدًا عن
زوجها. وفي كتاب الباه تُعطى الوصفات والمراهيم لكثرة
الجماع وزيادة المني.
١٠٢ كان يمكن تطوير بعض الموضوعات القديمة فيما
يتعلق بالحقوق والشريعة. في رأي بعض المعاصرين تُعطى
الأولوية للواجبات على الحقوق، فالواجبات على العباد،
والحقوق لله أيضًا على العباد كما عبَّر محمد بن
عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد»
في مقابل «الواجبات العقلية» عند المعتزلة.
١٠٣
والتكفير هو الحكم الغالب على الكتاب للوافد والموروث
على السواء. وأكبر الكتب كمًّا هو كتاب «الرد على الكفرة»،
ويدعو إلى العصمة من البدع والكفر والطغيان، وأن يُغرِق
الله كتبهم بمياه الطوفان!
١٠٤ وأولهم الفلاسفة لجعلهم النبوة مكتسبة، وقولهم
بأنه لا يمكن عن طريق الرياضة وصفاء النفس الوصول إلى عالم
الروح، ومنه إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الغيب.
١٠٥ وبالإضافة إلى الفلاسفة الإشراقيين يتم تكفير
أيضًا الفلاسفة
الطبيعيين كما فعل الأفغاني من الوافد من الغرب والشرق ومن
الموروث على حد سواء.
١٠٦ الفلاسفة قوم من اليونانيين تحذلقوا في
المعقولات فتحيروا في الإلهيات، وبنوا مقالاتهم على التشهي
والدعاوى. ويدَّعون أنهم أحكم الخلق، ويدل مذهبهم على عكس
ذلك. كانوا يدعون إلى قطع النسل وكأنهم من الرهبان، واطلع
الله سراءهم فأغرق كتبهم بسيل عرمرم! اعتقدوا أن الآلهة
ثلاثة: المبدأ والعقل والنفس، وينفون الصفات، ويعتبرون
الحركة أزلية، وأصل العالم الهيولى، أزلي قديم، بسيط قبل
أن يعرض له التركيب، الفلاسفة كفار، واليونان في ضلال،
يقولون إن الثواب والعقاب للروح دون البدن، وهو مذهب السوفسطائيين.
١٠٧ كما يكفِّر الباطنية والمعتزلة والخوارج من
الفِرَق الكلامية؛ فالباطنية ضالون ملاحدة جهال، والخوارج
ليسوا من أهل السنة لأنهم يحكمون بالكفر على من يخرج عمله
على الإيمان، والمؤلف نفسه يحكم بالكفر على المخالفين في
الرأي. والقدرية والأكراد إخوان الشياطين، والمعتزلة
يشنعون على أهل السنة أنهم يقولون إن النبي ليس نبيًّا في
قبره، ويقولون بالمنزلة بين المنزلتين. ويكفر البراهمة
ومعهم أبو العلاء المعري الذين يؤسسون الدين على العقل،
وينكرون النبوة، مع أن العقل أساس النقل. في حين أن
الفقهاء وضعوهم ضمن أهل الكتاب لأنهم يعرفون الخير ويقومون
بالأعمال الصالحة. ويعتمد على حديث الفرقة الناجية وهم أهل
السنة والأشاعرة، والهالكة وهم المتكلمون وعلى رأسهم
المعتزلة لنفيهم الصفات وغلاة المشبهة الذين يثبتونها،
والقدرية لإثباتهم خلق
الأفعال، والمجبرة لنفيها، والخوارج والنجارية والجهمية
والروافض والحرورية وكل الفِرَق الفرعية حتى تكتمل اثنتين
وسبعين فرقة طبقًا للحديث، وكأن التاريخ قد توقف في
الماضي، ولا توجد فرق أخرى في المستقبل حتى نهاية الزمان.
١٠٨
ولا يُذكر من الوافد إلا أفلاطون وسقراط وجالينوس
والإسكندر وأستاذه (دون ذكر أرسطو) وبطليموس.
١٠٩ كما تُذكر الفلسفة اليونانية والسوفسطائي.
ويُسمِّي أفلاطون الزنديق، ويعتبر أفكاره مزاعم، ويقول
بانطباع الجنين في الرحم.
١١٠ وسقراط وأفلاطون من الطبائعيين أئمة الكفر.
أصل العالم لديهما أربعة أشياء هي طبائع العالم، الحركة
والبرودة وهما فاعلتان، والرطوبة واليبوسة هما منفعلتان.
وقال بطليموس بأن الفلك بما فيه من سيارات قديمة أزلية وهي
مدبِّرات العالم.
١١١
ولا يُذكر من الموروث إلا ابن سينا والرازي ومعه أبو
العلاء المعري (وكان من البراهمة) بين الفلسفة والشعر.
ويُوضع ابن سينا مع الملاحدة والحسين بن الصباح والرازي
الزنديق. جعلوا للشريعة ظهرًا وبطنًا. وحرفوا المصاحف
وهدموا وقتلوا الذراري والصبيان، وشتموا الأنبياء، ونسخوا
الشرائع بالإمام.
١١٢ ويرى ابن سينا من شيعة أفلاطون (وليس أرسطو)
الدهري اليوناني. وقد قال بعض الملاحدة منهم إن العقول
متفاوتة، وكأن تفاوت العقول، وهو أمر مقرر في العقل
والشرع، مدعاة للإلحاد.
١١٣
وبعد تكفير كل الفلاسفة شرقًا وغربًا ومسلمين يعتمد
الخوارزمي المتأخر على الصحابة والفقهاء، خاصةً الشافعي
وأبا حنيفة، مع تفضيل الشافعي لأنه هو الذي جعل السنة
المصدر الرئيسي. فالقرآن معروف من السنة، والإجماع يقوم
على السنة، والسنة لها الأولوية على القياس حين التعارض.
وتتوحد الشافعية مع الأشعرية منذ القرن الخامس بفضل
الغزالي حتى الإصلاح الديني.
١١٤ حل الفقهاء والصحابة محل الفلاسفة والعلماء
الذين لا يكاد الكتاب يذكر أيًّا منهم. ويكثر من نوادر
الفقهاء بدلًا من نوادر الفلاسفة.
١١٥ وتخضع أدعية الصحابة مع أدعية الأنبياء
تقديسًا للماضي، وكأن قضاء الحاجات بالأدعية لا يشرع للكسل
ومضاد للعقل والشرع.
وينتهي الكتاب بفتن آخر الزمان وما يحدث فيه وأشراط
الساعة، وحوادث آخر الزمان، عندما يتمنى كل إنسان الموت،
ويكون الأخير هو الأشر. وتحدث الوقائع العظام وفتنة الخوارج.
١١٦ ويمتلأ الكتاب بالعبارات الإيمانية في أواخر
الكتب والفقرات. فالله أعلم، وهو أعلم بالصواب، وهو أعلم
وأحكم، وهو المستعان والموفق، والملهم كل شيء بإذنه
ومشيئته، والحمد لله أولًا وآخرًا.
١١٧
وكالعادة في هذه العصور المتأخرة يتم التوحيد بين الله
والسلطان. كما يظهر في أسلوب الكتاب الرغبة في التسلُّط
منذ البسملة والحمدلة للقاهر المعز له المذل، السلطان
الرافع الخافض، المقدر الواحد الذي يخضع له الجميع طاعةً
وإذعانًا ووضاعةً وتبعيةً.
١١٨ ويتم الدعاء للاثنين بنفس البنية الذهنية
والتوجه النفسي والدلالة السياسية. كما يتضمن الأسلوب
نصائح من علٍ تدل على التسلط والتوجه والإدانة وليس
تفكيرًا وتحليلًا. ويتحول التسلط الديني إلى تسلط سياسي،
والتسلط السياسي إلى تسلط اجتماعي اقتصادي. فإذا كان الغني
الشاكر أفضل من الفقير الصابر، إلا أن الفقير الصابر له
الجنة. وعلى المؤمن الرضا بقضاء الله وقدره.
١١٩ ويكشف تأويل الآيات عن البنية النفسية
الاجتماعية للقاهر والمقهور؛ بل إن الكتاب كما هي العادة
في العصور المتأخرة قد كُتب للسلطان. وما أكثر ما كُتب للسلطان!
١٢٠
وتُعقد مناظرة بين العقل والدولة تبين ميزة كلٍّ منهما،
واتهام كل منهما الآخر، ثم محاولة التوفيق بين الاثنين مما
يدل على أن هم المؤلف كان في تدوين العلوم؛ أي العقل،
والمحافظة على السلطة؛ أي الدولة. فالعقل يصوغ الخطاب
والدولة تمهِّد سبل العيش. العقل أساس الإسلام والدولة
مناط بقاء الدين والدنيا. العقل يأمر وينهى، والدولة تبقى
وتفنى. العقل حُجة الله، والدولة عطاء الله. العقل صاحب
الأنبياء، والدولة ذراع الأنبياء. دون العقل تكون البهيمة،
ودون الدولة يكون الموت. العقل مذكور في القرآن، والدولة
مذكورة أيضًا في القرآن:
كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ. ولا تعني دولة في الحقيقة دولة
بالمعنى الحديث، بل مجرد التداول بين أيدي طبقة الأغنياء.
ومع ذلك هناك اتهامات متبادلة بين العقل والدولة، بين سلطة
العلماء وسلطة الأمراء، بين الفيلسوف والمال بتعبير
القدماء. يتهم العقل الدولة بأنها حرمان وهموم وأحزان،
وتتهم الدولة العقل بأنه يعطي مجرد ثقافات حسنة. يتهم
العقل الدولة بأنها قدرة وجاه وتسلط، وتتهم الدولة العقل
بأنه لا يعطي إلا ثقافات نسبية. يتهم العقل الدولة بقبولها
مشاركة الكفار فيها، وتتهم الدولة العقل بأنها عقل فرعون.
وأخيرًا تتم المصالحة بينهما؛ فبدون العقل كدر الآخرة،
وبدون الدولة نكد الدنيا. فالعقل رباني، والدولة سماوية؛
ومن ثمَّ يحتاج الناس إلى العقل والدولة؛ أي إلى اجتماع
السلطة الدينية والسلطة السياسية في دولة الخلافة.
١٢١