سابعًا: أسماء الأعلام
-
(١)
كان أول من دوَّن تاريخ الحكماء عن طريق أسماء الأعلام هو إسحاق بن حنين (٢٩٨ﻫ) في «تاريخ الأطباء والفلاسفة».١ وهو نص قصير دخل في معظم كُتب تاريخ الفلسفة التالية.٢ لا يُهم الترتيب الزماني؛ فالمُعاصرة خارج الزمان، مثل تتلمُذ خالد بن يزيد على يحيى النحوي الذي عاش في الإسكندرية قبل ظهور الإسلام بقرن.والمصدر الرئيس لإسحاق هو يحيى النحوي، لأنه أجود التواريخ وأصحُّ الآراء. وهو المُحبُّ للتعب، إذا درس شيئًا استقصاه وأوفاه. أول الأطباء أسقليبيوس وآخرهم جَالينُوس، وزاد إسحاق الفلاسفة المُعاصرين للأطباء ليكون أتمَّ وأشمل.٣ نسخَه إسحاق وصحَّحه، وأكمل ما بدأه، وحوله من عمل تقريبيٍّ ظنِّيٍّ إلى عمل يقيني تاريخي.وتشغله قضية البداية. أول من اشتغل بالطب ردًّا على مناظرة بين أبي العباس بن فراس وابن العباس بن شمعون عن أقدم الأطباء، أبقراط أو مَن سبقوه بحضرة الوزير. وهي سبب تأليف الكتاب بناءً على أمر الوزير. وتدوين التاريخ صعب خاصَّةً لو كان البعيد، وليس في مُتناول كل المؤرِّخين. وكل مؤرخ يتناول حسب ما وقع إليه أو ما سمِع عنه. أمَّا المؤرخ الفيلسوف فهو الأقدر على التاريخ. فطلَب الوزير من إسحاق كتابة تاريخٍ صغير يحلُّ فيه المسألة. وكان ذلك حوالي ٢٩٠ﻫ. ويذكُر الأطباء بناءً على الكُتب المدوَّنة والأحاديث المشهورة من العلماء الثقات.٤ويخضع التصنيف لقِسمة عقلية تُطابق الواقع التاريخي حلًّا لقضية البداية والخلاف حولها. فالأجسام إمَّا مُحدَثة، وبالتالي يكون الطبُّ حادثًا عند قوم، وإمَّا قديمة وبالتالي يكون الطب قديمًا عند قومٍ آخرين. وقد يكون الطبُّ مع حدوث الإنسان مُصاحبًا له، أو يكون بعد حدوثه فيكون تاليًا له. فإذا كان بعدَ حدوث الإنسان فإمَّا أن يكون إلهامًا أو كسْبًا. فإذا كان إلهامًا فإنه قد يكون رؤية أو تجربة. وإذا كان كسبًا فإمَّا أن يكون قد نشأ في مصر ودواء الراسن أو عند هرمس الذي استخرج الصنائع والفلسفة ومنها الطب أو عند أهل فولس الذين استخرجوا الأدوية القابلة التي عالجتِ امرأة الملك أو من أهل موسيا وأفروجيا الذين عالجوا الأمراض بالألحان وأول من عرفوا الزَّمْر، فشفاء النفس شفاءٌ للبدن، أو من سحَرة فارس أو من الهند أو من الصقالبة.٥ والتقسيم الفرعي كلُّه في الحادث، ولا ينقسِم القول بقِدَم الطبِّ لأنَّ القديم لا ينقسم. وتظهر أهمية المنهج في الطب في القول بالاكتساب، بالقياس أم بالتجربة. ويجمع إسحاق بين الاثنَين، فكلٌّ منهما مُكمل للآخر، وهو رأي أفلاطون الطبيب الذي أحرق الكتُب التي تقول برأيٍ واحد! ثم قوَّى أبقراط القياس والتجربة معًا. ثم أتى أطباء بين بُقراط وجَالينُوس وحوَّلوا الطب إلى حِيَل، وأفسدوه وأخرجوه عن القياس والتجربة حتى أتى جَالينُوس وقضى على هذه الحِيَل وأحرق كتُبَها. ويذكُر إسحاق ثمانية أطباء منذ وقت ظهور الطب في جزيرة فو: أسقليبيوس الأوَّل الذي استخرج الطبَّ ثم غوروس ثم مينس ثم برمانيدس ثم أفلاطون الطبيب ثم أسقليبيوس الثاني ثم أبقراط ثم جَالينُوس الذي ختم الطب. وبطبيعة الحال لم يعرف يحيى بن عدي إلَّا الأطباء اليونان، ولم يكن قد ظهر حكماء الإسلام بعد. ولكن يُضيف إسحاق الأطباء الإسكندرانيين وهُم شُرَّاح جَالينُوس. فتاريخ الطب يبدأ باليونان وينتهي باليونان. ويتمُّ حساب السنين بين هؤلاء الأطباء الثمانية بالآلاف، وتنتهي إلى المئات، مما يدلُّ على خللٍ في حساب التواريخ، وأنَّ المقصد ليس هو الترتيب الزماني، بل الترتيب الذهني. كما يجعل إسحاق حوالي ثمانية قرون منذ جَالينُوس حتى وقت المُناظرة في القرن الثالث الهجري، وهو تاريخ صحيح، فقد عاصر جَالينُوس المسيح.٦
-
(٢)
وكما انفصلت المُصنفات والعلوم إلى مُدوَّناتٍ مستقلة، انفصلت أسماء الأعلام في مدوناتٍ مستقلة مثل قواميس الأعلام المُعاصِرة. مثال ذلك «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (٤٦٤ﻫ).٧ وهو مختصر الزوزني «المُنتخبات المُلتقطات»، وأحيانًا يُسَمَّى تاريخ الحكماء. ولأول مرة تُوضَع الهمزة فوق الألف، وهي تفرِقة في الفكر العربي الحديث لإيجاد لفظَين للتاريخ الموضوعي والثاني للتأريخ الذاتي أو الوعي بالتاريخ.٨ وهناك روايات للكتاب مثل رواية أبي سليمان السجستاني. والسؤال: كيف تمَّ الاختصار وما مقاييسه؟ولأول مرة يتمُّ تصنيف الأعلام طبقًا للحروف الأبجدية دون تصوُّر حضاري أو علمي أو تاريخي زماني، كما هو الحال في القواميس الحديثة مثل الزركلي. وقد ظهر هذا التصنيف الأبجدي ابتداءً من القرن السابع بعد اكتمال التجربة الفلسفية في التاريخ وضعف البُعد الحضاري الأوَّل. مما قد يدفع البعض إلى اعتبار القفطي ورَّاقًا مثل ابن النديم أكثر منه حكيمًا. والترتيب الأبجدي داخل كل حرف غير موجود. فهذا من صُنع العصور الحديثة، ولو أنَّ القدماء جعلوه في معاجم اللغة. وقد يبدأ الموروث قبل الوافد ممَّا يدلُّ على أنه حتى في أسماء الأعلام لا يمكن جعلها مجرَّد ثبْت، بل هناك أجنحة حضارية. فإذا اختفَت هذه الأجنحة الحضارية المُتضمَّنة ظهرتْ أسماء الأعلام خالية من أي دلالة.٩وسبب التأليف، ربما بهذه الطريقة هو اختلاف علماء الأُمم في أول من تكلَّم في الحِكمة وأركانها النظرية مثل الرياضة والمنطق والطبيعيَّات والإلهيَّات، والعملية مثل الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. فقد ادَّعت كل فرقةٍ أنه كان من عندها، وهو ليس الأوَّل على الحقيقة. ربما تصنيف الحكماء طبقًا لأسماء الأعلام يُخفِّف من هذه الحدَّة الشوفينية القومية بلُغة العصر. كما أنَّ القافية أي الأبجدية تجعله سهلَ التناوُل. لذلك اتَّسم الأسلوب بالموضوعية والهدوء والاقتصار وعدَم الخروج على الموضوع أو الجدال.١٠ وقد يكون السبب هو جمع أشهر الحكماء من كلِّ قبيلٍ وأمة قديمًا وحديثًا إلى زمان المؤلِّف مع كلِّ قولٍ انفرد به أو كتاب أو حكمة نُسِبت إليه بصرْف النظر عن التحقُّق من صِدق الرواية من أجل تجاوز الجهل بالتاريخ، ومعرفة القدماء، اعتبارًا بما مضى. فالتاريخ عبارة وقصص كما هو الحال في قصص الأنبياء، «لمَّا لم يكن للتاريخ محلُّ ذكر». عرض الحكمة الخالدة في شخص إدريس نبيِّ الحكماء أو حكيم الأنبياء لِبيان اتِّفاق الحكمة والشريعة رمزًا، ثوابًا عند الله. وأحيانًا يكون اسم العلَم اسمًا واحدًا مثل أفلاطون، أفريطون، أريباسيوس، أليطراؤس. وأحيانًا يكون مع لقبه للتمييز بينَه وبين آخرين مُشاركين في نفس الاسم مثل أفلاطون الطبيب. وأحيانًا يُميِّز اللقب، الدين أو الطائفة، مثل النصرانية واليهودية والمجوسية والحرانية والكلدانية.١١ لذلك لا يُهمُّ الترتيب الزماني. فالفلسفة خارج الزمان، ويمكن أن يتعاصَر فيلسوفان فِكريًّا وليس زمانيًّا، مثل تعاصُر أقليمون وسقراط.وقد تتكرَّر أسماء كثيرة مُتشابهة من حيث الاسم الأوَّل. ولا يُميِّز بينها إلَّا اللقب، لا فرق بين موروث ووافد.١٢ وقد يحتاج الأمر إلى تصنيف للألقاب والكُنى. الاتفاق في الحروف الأبجدية عرَض خالص لا دلالة علمية أو حضارية له. وليست كل الأسماء بذات دلالة. الكثير منها مجرَّد أخبار.ويبدو حضور المشرق العربي أكثر من حضور المغرِب العربي، ممَّا يدلُّ أيضًا على استحالة مجرَّد ثبْت بالأعلام. ويُخطئ من يظنُّ أنها مجرد تاريخ وأخبار دون أن يحاول معرفة الدلالة العلمية والحضارية من بين الأعلام.١٣ وقد لا يكفي الاسم الأوَّل بمفرده للتعرُّف على العلَم. ربما كان مشهورًا في عصره بهذا الاسم، ولم يعُد كذلك في العصور التالية.١٤والألقاب الشائعة هي المكان ثُم المهنة ثم القوم ثم الصِّفة أو السِّمة المُميزة كالحكيم، ثُم الدين، اليهودية والنصرانية، والترتيب الزماني، الأوَّل والثاني والثالث، ثم صفات النفس وصفات البدَن، والنَّسَب، والدرَجة من العِلم، التلميذ أو الأستاذ. وتتراوَح المهنة بين الحِرفة بمعنى الصَّنعة والعلم. ومعظمهم من العلماء مع الحكماء. وكان للطبِّ والفلَك أي الطبيعيَّات والرياضيات الأولوية على باقي العلوم.١٥وكما هو الحال في رسْم الشخصيَّات عند السِّجستاني والبيهقي ترسُم أيضًا شخصيات الأعلام في عناصر رئيسية:
- (١)
الاسم واللقب والنَّسَب والنسبة. ويذكر الاسم مباشرةً أو بالنسبة إلى الأب والابن، مع النَّسب مثل أبقراط من نسْل أسقليبيوس. أفلاطون شريف النَّسب مع أسرته وربما أقربائه. وكُنيته ولقبه ومهنته مثل البخاري والطبيب، والحكيم والفيلسوف على التبادُل. وأحيانًا يذكر اشتقاق الاسم مثل أرسطوطاليس تام الفضيلة، والقوم الذي ينتسِب إليه، يوناني، رومي، كلداني، حراني.
- (٢)
الحياة، الميلاد والوفاة، والسيرة الشخصية وسِماته وخصائصه مِثل الذكاء والتعليم والأساتذة، والعصر والنُّظم السياسية التي عاش فيها العلَم مدى اتِّصاله بالملوك والأمراء. يذكر الميلاد والوفاء أو سنةً مُهمة في حياته وربما قبره وما نُقش عليه لتخليد ذكراه مثل أفلاطون، وحياته ونوادرها، وصورة العلَم في قومه مثل صورة أفلاطون وسيرته وأعماله وليست فقط نظرياته وآراؤه، وأساتذته وتلاميذه وأصحابه مثل أرسطو مُعلم الإسكندر وتلميذ أفلاطون، وابن سينا تلميذ الفارابي، ونقله عنه وتعلُّمه على يديه. والزمان الذي عاش فيه، الحقيقي أو الأسطوري مثل زمان الطوفان. ويذكر تاريخ الميلاد والوفاة للمسلمين وليس لليونان لسهولة الأوَّل وصعوبة الثاني.
- (٣)
مرتبته في العلم واتجاهه ومدرسته وأسلوبه وأهم اكتشافاته ومصادره. فأرسطن فيلسوف طبيعي. وأرسطو أول من رتَّب المنطق، والفزاري أول من قام بالإعراب. وإبراهيم قويري عبارته كانت غلِقة. وأحمد بن محمد بن كثير الفرغاني له حوار على كتاب بأعذَبِ لفظٍ وأبيَنِ عبارة، وإخوان الصفا واستعمالهم الرمز. وأهميته في عصره أنه كان مُتصدرًا في وقته مثل أوديمس، وأفاد أهل زمانه مثل أرمينس. وأيامليخس فيلسوف معروف في وقته، أو أولوية في الزمان مثل أبولونيوس أقدم من إقليدس.
- (٤)
المؤلفات والأعمال والمُصنَّفات مثل الترجمات والشروح وتصنيفها مثل تصنيف كتب أرسطو إلى كلية وجزئية وإحصاء علومه إلى آلة مثل المنطق، وعِلم نظري وعِلم عمَلي. أمَّا أفلاطون فلا تُوجد له مؤلَّفات لأنها لم تُترجَم. والمؤلفات خطوة نحو الأقوال مثل عرْض ابن بطلان من خلال نصوصه ويُسهب أحيانًا في ذِكر مُؤلَّفات بعض الأعلام، فحياته هي مُصنَّفاته مثل ثابت بن قرة وجَالينُوس والرازي الطبيب وفخر الدين الرازي ويحيى بن عدي ويعقوب بن إسحاق بن الصباح.
ولا يُوجد نسَق كمِّي واحد لاستيفاء هذه العناصر الأربعة. فقد يطول أحدُها على حساب الآخر مثل إطالة حياة جبرئيل بن بختيشوع، ونوادره وحكايته وسيرته الشخصية على حساب مؤلَّفاته. ونفس الحال على جبرئيل ابنه. ولا تُعرَض أفكار ونظريات جورجيس بن بختيشوع. ويتمُّ تفصيل السلوك الشخصي لأبي معشر البلخي، فقد كان مُدمنًا للخمر.١٦ وفي السيرة تُذكر محنة الفيلسوف مثل سَجن إبراهيم بن هلال بن إبراهيم واتهامه بأنه كلْب كافر صابي يُحمى به في نار جهنم.١٧ كما قتل أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي تلميذ الكندي لإفشائه سرَّ المُعتضد. كما قُتل يحيى بن سهل المُنجِّم والمنجم الخارجي.ومصادر القفطي التواريخ والأخبار، والقصص، وكُتب التفسير. ولا فرْق في التواريخ والأخبار بين الموروث والوافد، بين الشهرستاني وابن جلجل ويحيى النحوي وابن النديم وأبو سليمان السجستاني وموسى بن شاكر وأبو الحسن العشري وصاعد والتوحيدي والمسعودي ويوسف بن الحكم وابن بطلان وهلال بن الحسن وبين جَالينُوس وبقراط وأفلاطون.١٨ وقد تكون الرواية مزدوجة تجمَع بين الموروث والوافد. أمَّا روايات الموروث عن الموروث أو الوافد عن الوافد فهي أقرَبُ إلى السَّنَد في عِلم الحديث. والاعتماد الأكثر على ابن النديم في «الفهرست» فهو الأقرب ذِكرًا (١٢) ثم ابن جلجل (٦) في مقابل مرةٍ واحدة لكل مصدر موروث. وبالنسبة للوافد فإنَّ الاعتماد أكثر على جَالينُوس فهو الأكثر ذكرًا (٤) في مقابل مرة واحدة لكل مصدر وافد. وأحيانًا يُذكر اسم المصدر مع صاحبه مثل ذِكر موسى بن شاكر في أول كتاب المخطوطات، وجَالينُوس في كتابه في الحثِّ على الطب وفي مقالته الأولى إلى غلوقون، وفي حيلة البرء، وأفلاطون في النواميس. وأحيانًا يتحدَّد موضع الكتاب في الصدر مثل صدْر كتاب حيلة البرء لجَالينُوس. وأحيانًا يُوصف المؤلف ومكانه مثل السجستاني نزيل بغداد.١٩ وقد تكون المصادر مباشرة بالاطلاع على الرسائل والكتُب مثل الاطلاع على رسالة إبراهيم بن سنان بن ثابت في ذِكر ما صنَّفه، واطِّلاعه على كتاب المخطوطات لمُوسى بن شاكر.٢٠ويتمُّ التحقُّق بالعقل من صِدق الروايات والاعتماد على الإجماع ومعرفة المُخبرين حتى لا يقع المؤرخ فيما وقعتْ فيه النصارى.٢١ وهناك مصادر شفاهية عن طريق الرواية المباشرة. وقد تكون هناك مصادر مجهولة يُشير إليها القفطي. ولا يُوجد اعتماد على القرآن أو الحديث كمصادر للتاريخ باستثناء حديثٍ واحد في ابن أبي رُقية صاحب «الأنباء في أسماء الحُكماء» عندما رفض الرسول مُعالجة الطبيب قائلًا: «أنت طبيب والرفيق الله.»٢٢ هذا بالإضافة إلى العبارات الإيمانية التي تتخلَّل الكتاب بعد البسملة والحمدلة. فالله أعلم، وهو أعلم بالحقيقة، وهو المُستعان والمُوفِّق والمؤيد، بيده المشيئة وله الحمد. فالتعبير عن الله بلغة الفلاسفة أنه خالق الكل، وعالم ما قلَّ وجل، وواهِب العقل.٢٣وكان الشِّعر أيضًا من المصادر، فالشعر مصدر التاريخ، وقد يكون للاستشهاد به والعِظة على نادرة في حياة الحكيم. وهي نفس وظيفة الوحي بعد ذلك كمصدرٍ للتاريخ وعِظة للمؤمنين. ولم يقتصر الشِّعر على الشعراء، فهناك شِعر الفلاسفة مثل ثابت بن قرة وجرجيس وعلي الطبيب وعمر الخيام وابن بطلان والمظفر بن أحمد الطبيب وأبي البركات البغدادي وابن سينا. فلا فرق بين الفلسفة والشعر والعِلم. وقد يُقال الشِّعر في الفلاسفة مدحًا أو ذمًّا. فقد يكون الفيلسوف شاعرًا، وقد يكون هو موضوع الشعر. وقد يكون الشعر في العِلم وصفًا وهندسةً مثل الشِّعر في الأسطرلاب، حتى تحوَّل الشعر في العصور المُتأخرة إلى نوع أدبي يؤلَّف فيه الفِقه والمنطق والعروض والنحو.٢٤وقد لا يدلُّ التفاوُت الكمي في أسماء الأعلام أو في حجم كل علَم على أهمية أكثر أو أقل بقدْر ما يدلُّ على توافُر المعلومات أو نُدرتها أو على مقاييس الاختيار والتفضيل للمؤرِّخ نفسه. كما قد تدلُّ على مدى أهمية المؤلف في عصره وليس على مَمرِّ العصور. فكم من الأعلام كانت مُهمة في عصرها ولم تستمر. وكم من الأعلام لم تكن معروفة في عصرها ثم عُرفت بعد ذلك في التاريخ. بعض الأسماء نَكِرات الآن وربما كانت مشهورةً في عصرها. فمثلًا أين ابن رشد الطبيب الفيلسوف الفقيه المُتكلم الشارح لأرسطو؟ ألم يُعرف في المشرق؟ هل هو أسطورة من صُنع الرشدية اللاتينية والمغاربة والفكر العربي المُعاصر؟ وهل المؤرِّخون سينَوِيُّون، من أنصار ابن سينا والإشراق لأفرادهم مكانة كبيرة له، أم أنَّ هذه هي صورته في التاريخ؟ وتتكرَّر نفس النوادر النمَطية الخاصة بالتعرُّف على أحوال النفس بمظاهرها البدنية، الحبُّ بالنَّبض، وكما هو الحال في عِلم الفراسة.٢٥ويتصدَّر الموروث الوافد إذ يبلغ ما يربو على ثلاثة أضعاف.٢٦ ومن مجموع أسماء الأعلام المذكورة لا يزيد أسماء الأعلام اليونانية عن الربع. ويتصدَّر أرسطو الوافد والموروث معًا في المرتبة الأولى، ثم يتصدَّر الموروث في المراتِب الثانية والثالثة والرابعة والخامسة. ثم يظهر الموروث مع أفلاطون في المرتبة السادسة، ثم إخوان الصفا مع أسقليبيوس في المرتبة التاسعة، ثم سنان وأبو الحسن بن سنان مع بُقراط في المرتبة الثالثة عشرة، ثم ابن الهيثم وصالح والفارابي ويحيى النحوي ويحيى بن عدي وبنو موسى بن شاكر مع إقليدس وبطليموس وهرمس الثالث في المرتبة الخامسة عشرة.٢٧ ويحدُث تراكم داخلي في الموروث بشرْح نصوصه.٢٨وكانت الثقافات والدِّيانات المُجاورة جزءًا من الحضارة الإسلامية وامتدادًا للموروث عبر التاريخ والجغرافيا. كان الصابئة والكلدانيُّون جزءًا من الأمة، وكذلك الهنود والفرس والمصريون والربانيُّون، وهم على دِياناتهم ولُغاتهم وثقافتهم. كانت مراكز الثقافة بين بغداد وبصرة والكوفة. ولعلَّ البصرة كانت مركز النُّحاة والمُتكلمين والفلاسفة والمعتزلة جمعًا بين العلم والعقل. لذلك تُسَمَّى الشريعة الإسلامية، الملَّة الإسلامية أو الإسلام. وتتصدَّر الثقافة الهندية على الفارسية للأعلام مثل محمد بن إبراهيم الفزاري صاحب الثقافة الهندية، والخوارزمي العالِم بالسند هند بعد أن أقام ببلاد الهند وليس البيروني وحدَه. وكان لأحمد بن عمر الكرابيسي معرفة بحساب الهند. ودخلها يوسف بن يحيى. وتدخل أفريقيا مُتأخرًا في الإطار الحضاري الإسلامي مثل علي الطبيب الأفريقي، ولو أنه كان مُرتزِقًا بالطب. وتوضع الثقافة اليونانية في إطار الثقافات القديمة في الهند وفارس ومصر وعند الكلدانيين والروم والعرب والعبرانيين.٢٩ ويُضمُّ الوافد على الموروث دون أي استعلاءٍ حضاري من طرفٍ على آخر. ولا يذكر دين الفيلسوف لأنَّ الحضارة وحَّدَت بين الطوائف والمِلل. لذلك تم وضْع غير المسلمين، البابليين والحرانيين (الصابئة)، واليهود والنصارى مع المُسلمين. ومن أعمال الموروث شرْح الوافد. فلا يُوجَد حكيم إلَّا وشرح الوافد وإلَّا كان مُتكلمًا أصوليًّا صوفيًّا.ويتصدَّر أرسطو الوافد ثم يأتي أفلاطون في المرتبة السادسة ثم جَالينُوس وسقراط في المرتبتَين السابعة والثامنة، ثم أسقليبيوس في المرتبة التاسعة، ثم أبقراط في المرتبة الثالثة عشرة، ثم إقليدس في المرتبة الخامسة عشرة.٣٠ ويعرض أعمال أرسطو كتابًا كتابًا مع شُرَّاحه العرَب مثل يحيى النحوي واليونان مثل أيامليخس، أراسيس، أرمينس، أوديموس.٣١ بل يتمُّ تحليل مقالة مقالة في الكتُب الطبيعية. وأحيانًا تُذكَر مجرَّد معلومات بلا دلالة مثل مقالات أنكساجوراس المنقولة في مدارس التعليم. ولا فرْق بين اليونان والرومان. فالفيلسوف اليوناني هو الفيلسوف الرومي. فالرومي تجمع بين الصفتَين دون تمييز بين اليونانية واللاتينية. ربما كانت لُغة اليونان هي السائدة حتى عند الرومان مثل مدرسة الإسكندرية.وأحيانًا يُوضع الوافد في مجموعاتٍ تُمثل مدارس فكرية مثل الحكماء الخمسة: أنبادقليس، فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، بصرْف النظر عن الترتيب الزماني. ويتمُّ الحديث عن سقراط داخل أفلاطون فكلاهما ينتسبان إلى مدرسةٍ واحدة. ويكون الحكماء عناصر مُتعددة داخل المذهب الواحد. فأرسطو الطبيعي أكمل أفلاطون الرياضي. بينما مال سقراط بالمدرسة نحو النفس مُنتقلًا من الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الخلقية. ويضع القفطي الفلسفة اليونانية في إطار لُغتهم وبيئتهم وتاريخهم.٣٢ - (١)
-
(٣)
ويستمرُّ تدوين التاريخ بطريقة أسماء الأعلام في «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» لابن خلِّكان (٦٨١ﻫ)، وكما يدلُّ عليه العنوان،٣٣ أي ذكر المشاهير بصرْف النظر عن أنواعهم وإعطاء أنباءٍ عنهم. فقد تحوَّلت الفلسفة إلى فلاسفة، وتاه الفلاسفة وسْط الأعلام ومشاهير الرجال، الخلفاء والملوك والأمراء والقُوَّاد والأدباء. ودخل الفلاسفة حتى ابن سينا ضِمن مشاهير الرجال، مجرَّد أخبار وروايات شفاهية أو مُدوَّنة. انتهت الحكمة لصالح التاريخ. كما يصعُب معرفة أسماء الحكماء غير المشهورين وسط المشاهير الغُرِّ المَيامين. لذلك كثُرت ألقاب الملك، الحاجب، المؤرخ، الكاتب، القاضي، المُتكلم، الشاعر، قائد الأعِنَّة في أفريقيا، أمير الجيوش، الغازي، إمام الحرَمين، الورَّاق. وقلَّت ألقاب الحكيم، الفيلسوف. والأَولى أن تغيب المؤلَّفات والأقوال ما دامت الغاية هي إعطاء أنباء أبناء هذا الزمان. وقد لا يُذكَر الباحث لشخصه بل لعلاقته بآخَر. ومن يُذكر لشخصه تكون صفحاته مُتَّصلة. وتكشِف كل التراجم عن صورة الثقافة في الوعي الجماعي الذي يُمثله وعيُ المؤرخ. وكلهم من الرجال، ولا أحدَ منهم من النساء بلغة العصر.والترتيب الأبجدي لأسماء الأعلام ترتيب عرضي. ومع ذلك لا يخلو من بعض الدلالات مثل الترتيب الزماني الذي يكشف عن الطبقات كما هو الحال في الحوليَّات بالرغم من غياب البِنية للفِرَق والمذاهب، وبالرغم من غياب التفاعُل بين الموروث والوافد ومناطق الإبداع الحضارية. لذلك كان فهرس الأعلام أكبر الفهارس ثم القوافي مما يدلُّ على أهمية الشعر، ثم الكتب المذكورة في المدن ممَّا يدلُّ على أهمية المصادر، والأماكن مما يكشف عن البيئة الجغرافية، والتراجم مما يدل على أهمية الأسماء المذكورة، والجماعات والقبائل والطوائف مما يدل على أهمية الانتساب القبلي، وأخيرًا الألفاظ المضبوطة مما يدل على قِدَم التاريخ.٣٤فبالنسبة للتراجِم يتَّضح تصدُّر الموروث على الوافد على الإطلاق لدرجة أن الوافد ليس له ذكر. يتصدَّر صلاح الدين الأيوبي مما يدلُّ على أهمية الحروب الصليبية ثم أبو يوسف الصفار الخارجي مما يدلُّ على أهمية الخوارج وقوادهم والتفاوُت في الأهمية بين صلاح الدين الذي يُمثِّل ثلاثة أضعاف والصغار ثم يوسف بن تاشفين ويحيى بن أكثم ممَّا يُبين أهمية الدُّعاة والحُكام والصوفية ثُم جعفر البرمكي ثم الحلَّاج في المرتبة السادسة مما يدلُّ على حضور التصوُّف في الوعي التاريخي. ولا يظهر فيلسوف مثل ابن سينا إلا في المرتبة السادسة عشرة، بعدَه الرازي الفيلسوف والفارابي، ثم الغزالي، ثم ثابت بن قرة وخالد بن يزيد وابن باجة، ثم حنين بن إسحاق. في حين يَغيب الكندي وابن طفيل وابن رشد. ويأتي أبو حنيفة في المرتبة الحادية عشرة، والسهروردي في المرتبة السابعة عشرة قبل ابن سينا.٣٥ فابن سينا هو الترجمة السادسة والتسعون في الأهمية مع اثنين وأربعين ترجمة أخرى. ولا يختلف وضع المُتكلمين والفقهاء والصوفية عن وضع الفلاسفة. ولا يُعادل ابن سينا في مرتبته إلا ابن حزم والشاعر المُتنبي.٣٦فمن مجموع ٨٥٥ شخصية لم يحظَ الفلاسفة إلا بعَشرٍ منها؛ أي ما يعادل أقل من ١٪. ويغلب الشعر على الأخبار والعُلماء والفقهاء، وكأنَّ الشعر هو ما تبقَّى من الكل، عودًا إلى ثقافة ما قبل الإسلام. حتى ابن زهر الطبيب شاعر. الفقهاء والقواد والأمراء والملوك والخلفاء والوزراء والصحابة الأوائل هم أبناء الزمان، وليس الفلاسفة، بما في ذلك نغم جارية المأمون. والغزالي هو الذي ما زال مُسيطرًا من الأيام الخوالي وحاضرًا في الوعي الجمعي.٣٧وبالنسبة للأعلام من مجموع ٤٣٦٩ عَلمًا لا يُمثل الوافد إلا ثلاثة أعلام: أرسطو وإقليدس وأغسطس القيصر؛ أي أقل من ٠٫٠١٪. يتصدر الموروث الوافد على الإطلاق لدرجة غياب الوافد كليَّةً تقريبًا ممَّا يدلُّ على الانغلاق على التراث، وعدَم وجود آخَر حديث بديل عن الآخر القديم. يظلُّ صلاح الدين هو الذي يتصدر بعد الرسول نظرًا لهزِّ الحروب الصليبية الوجدان التاريخي. ويظهر الشافعي في المرتبة السادسة مما يدلُّ على سيطرة الشافعي. والمُتنبي في المرتبة الحادية عشرة، وأبو حنيفة في السادسة والعشرين، والغزالي في الخامسة والأربعين، والرازي الفيلسوف في الخامسة والستِّين، وابن سينا في السابعة والستِّين، وابن باجة في الثالثة والسبعين، وإسحاق بن حنين في الخامسة والسبعين، ومتَّى بن يونس في السادسة والسبعين، وابن رشد وابن طُفيل في المرتبة السابعة والسبعين والأخيرة. لم يظهر ابن رُشد إلا مرةً واحدة بمناسبة شخصية عبد المؤمن، مُلحقًا بالحاكم، صاحب المغرب. وذُكر ابن طفيل أيضًا مرة واحدة في نفس المناسبة.٣٨
فالأولوية للمؤرخين والملوك والكتَّاب والخُلفاء والحكام والشعراء واللغويين والفقهاء والأئمة والأصوليين. وتكفي الدلالات وليستِ الإحصائيَّات الكاملة.
أمَّا بالنسبة للوافد فلم يظهر إلا أرسطو في المرتبة الثانية والسبعين، وإقليدس في الخامسة والسبعين، وبطليموس وبُقراط وجَالينُوس في المرتبة الأخيرة، السابعة والسبعين. ولم يُذكر الوافد بمفرده، بل في علاقته بالموروث. فقد ذُكر أرسطو مع حنين بن إسحاق والرازي وابن العميد والفارابي وليس بمفرده. يتفوَّق عليه الرازي. يُضرَب به المثل في المنطق المِعياري وكمال العِلم وفي علم الحيوان الذي لا يُفرِّق بينه وبين الإنسان.٣٩ ويُضرَب المثل بإقليدس في كمال الهندسة.٤٠ وقد استطاع الفارابي حلَّ مسائله مع المجسطي. كما يُضرَب المثل ببطليموس وكتاب المجسطي في التعليم والشرح والاختراع. شرح البتاني أربع مقالات له. وهو واضع الأسطرلاب.٤١ وقد ذُكر أبقراط بمناسبة ثابت بن قرة وابنه ودراسته، وبمناسبة أمين الدولة بن التلميذ بُقراط عصره، وجَالينُوس زمانه أي نماذج علمية في التاريخ.٤٢ وقد أصبح اسم ذي القرنين من الموروث.٤٣وقد بدأ الإحساس بالغرب في هذا العصر المُتأخِّر. لذريق ملك الأندلس وأرطباس (قومس الأندلس) أثناء فتح الأندلس وأرمينياقس أثناء فتح أرمينيا، وأرناط البرنس أثناء الصليبيين. فقد قوى الإحساس بالغرب أثناء الحروب الصليبية والتعرُّف على الفرنجة، جفري الملك الفرنجي، ورجار الفرنجي. بسبب الحروب الصليبية بدأت صورة الغرب في كُتب التاريخ، كما ذكر قيصر أثناء الفتح الأوَّل.٤٤ ومن الجماعات الثمانية والأربعين يظهر الفرنجة في المرتبة السادسة، واليونان في المرتبة الأربعين.وبالنسبة للجماعات والقبائل والأمم والطوائف لا يكاد يظهر الفلاسفة إلا في المرتبة الرابعة والثلاثين من ثمانٍ وأربعين مرتبة. يأتي الشعراء في المقدمة عودًا إلى الثقافة العربية قبل الإسلام، ثم العلماء أي الدين، ثم الفقهاء على العموم قبل الشافعية على الخصوص، ثم الأنباء على العموم بعد الشعراء على الخصوص، ثم المُحدِّثون أي العلوم النقلية، ثم الصوفية ممَّا يُبين سيادة التصوُّف، ثم النُّحاة عودًا إلى علوم اللغة، ثم القضاة في النُّظم السياسية، ثم الكُتَّاب من أجل التدوين، ثم الحُفَّاظ لأهمية مناهج النقل، ثم المؤرخون، والشافعية والقُرَّاء تدوينًا للعلوم النقلية ثم المعتزلة والأطباء والحكماء والحنفية، ثم اليهود، ثم الخطباء والأئمة، ثم المُتكلمون ومعهم يظهر اليونان، ثم الفقهاء الشافعية، ثم بنو حنيفة والرُّواة والزُّهَّاد وفقهاء الشيعة، ثم الفلاسفة واللغويون والموحِّدون والنسَّابون، ثم الشراة وعلماء الأندلس والمالكية والمُغنُّون، ثم الباطنية والرافضة والمجوس، ثم الأشاعرة وحُفَّاظ الأندلس والحنابلة وأهل الظاهر وفقهاء نَيسابور، ثم أهل الرأي والجهمية ورواة الأخبار وعلماء حلب وعلماء الحجاز والمُتطبِّبون والمُتشيعون والمُبتدعة.٤٥ويبدو من الأماكن غلبة الموروث المُطلق على الوافد. فمن ستٍّ وخمسين مرتبة تظهر بلاد الروم في المرتبة الخامسة والأربعين، في حين أن بغداد ومصر والشام ودمشق والبصرة والعراق والموصل وحلب والكوفة ومكة والمدرسة النظامية والمدينة والأندلس والقاهرة والديار المصرية ونيسابور وفارس والمغرب وواسط وأصفهان وأفريقية ومَرو وإربل والإسكندرية وحمص ومراكش وقرطبة والقدس وبخارى وبلخ وخوارزم وسبتة؛ كل ذلك يأتي قبل بلاد الروم ممَّا يدلُّ على تواري الآخر كليةً لحساب الأنا.٤٦ ويتَّضح أن عواصم الثقافة العراق ومصر والشام. أمَّا الوافد الشرقي مثل الهند، فإنه يأتي في المرتبة السابعة والأربعين بعد بلاد الروم. كما تبدو أهمية المدرسة النظامية وباقي مدارس التعليم.كما تبدو الأولوية المُطلقة للموروث على الوافد في المصادر التي اعتمد عليها ابن خلِّكان ومُعظمها مصادر الكُتَّاب والأدباء والمؤرخين والشعراء والنسَّابين والنقاد، والنحويين والفقهاء.٤٧ ولا يُوجد فيها نصٌّ فلسفي واحد. ويبدو فيها النقل دون الاعتماد على المشاهدة والرواية المباشرة وتفسير الأحداث.ومن المصادر يذكُر ابن خلِّكان أسماء كُتبٍ عديدة في المتن؛ ما يقرُب من الألفين.٤٨ في خمس عشرة مرتبة. ومن نصوص الفلاسفة لا يكاد يذكُر إلا خمسين منها؛ أي ما يزيد عن ٤٪ من مجموع الكتُب المذكورة. تأتي مؤلَّفات الغزالي في المُقدِّمة ثم الرازي الفيلسوف، ثم ابن سينا، ثم ابن حزم والتوحيدي ثم الرازي الطبيب وجابر بن حيان وخالد بن يزيد وابن الطبري وأبو البركات البغدادي.٤٩ وتغلب على مؤلفات الرازي الشروح على الداخل. ومن الوافد لا يُذكر إلا المنطق والنفس والسماع الطبيعي لأرسطو، وأيساغوجي، وحيلة البرء لجَالينُوس، وكتاب إقليدس، والمجسطي لبطليموس مع شرح البتاني لأربع مقالات له.٥٠ولا تُوجد عناصر ثابتة لرسم الشخصية عند ابن خلكان، ومع ذلك فبِمُقارنة الفلاسفة العشرة المذكورين: إسحاق بن حنين، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، والرازي الطبيب، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن باجة، والرازي وابن زهر الحفيد يمكن التعرُّف على العناصر الآتية:٥١- (١)
ذِكر الميلاد والوفاة والطالع والاسم والموطن والأسرة، والشهرة والرحلات والتعليم، والصِّلة بالأمراء والملوك وصورته في عصره.
- (٢)
السمات الشخصية البدنية أو النفسية. فابن سينا كان عبقريًّا، مُنكبًّا على العلم، مِزاجه الجماع، والمِحنة التي يمرُّ بها الفيلسوف مثل سجن ابن سينا، وموت ابن باجة بالسُّم في فاس.
- (٣)
ذكر التخصُّص مثل الطب، ولكن الغالب على البعض الشِّعر، مثل إسحاق بن حنين وابن باجة وابن زهر وابن سينا والرازي، وعلى البعض الآخر الفلسفة مثل ثابت بن قرة. والرازي فقيه أكثر من فيلسوف.
- (٤)
الأعمال والمصادر والأسلوب والعبارة؛ أي التأليف والمعرفة باللغات مثل الرازي ومعرفة اللسانَين العربي والأعجمي. مع الاستشهاد بأقوال تلاميذه وأقرانه.
- (٥)
التقييم النهائي مثل الحُكم على إسحاق بن حنين بأنه خالٍ من الأهمية العلمية والفلسفية، وابن زهر الأندلسي الحفيد شاعر وليس طبيبًا، والرازي فقيه أكثر من فيلسوف، والرازي يفُوق أرسطو وبطليموس عظمةً ويذكر من شِعره:
المرء ما دام حيًّا يُستهان بهويعظُم الرِّزء فيه حين يُفتقَدوالفارابي فهِم أرسطو. وابن باجة جمَع بين الشعر والفلسفة. ويروى عن خاقان القيسي في «قلائد العقيان» اتهامُه بالكفر في نصٍّ طويل به حيثيات التكفير: التعطيل، وانحلال العقيدة، ورفْض الكتاب، والقول بتدبير الكواكب، والسخرية من المعاد، وبالتالي إنكار الأديان.٥٢
- (١)
-
(٤)
وينهار هذا النوع الأدبي في تدوين تاريخ الفلسفة حتى العصر الحاضر في قواميس الأعلام مثل «الأعلام» لخير الدين الزركلي وغيرها؛ إذ يتوه الفلاسفة بين «تراجم أشهر الرجال من العرَب والمُستعربين والمُستشرقين». فيه كلُّ شيءٍ من الشرق والغرب، الماضي والحاضر، الأنا والآخر، مع ذكر المصدر المنقول عنه تاريخ الميلاد والوفاة أو الوفاة فحسْب. وتُذكَر الأعلام طبقًا للترتيب الأبجدي مع بيان كيفية تعريب الاسم في المقدمة. وكان مقياس الاختيار لهذه الأعلام السؤال عنهم، وهو الدافع على تأليف الكتاب. ويتحوَّل التدوين إلى مجرَّد أعلام بالأسماء وإعطاء معلومات مدرسية قاموسية صغيرة للمُبتدئين بلا رؤية أو قراءة أو تأويل.٥٣

ومثله أيضًا: ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة ١٩٦٦م. ولم نشأ تحليله لأن الغرض منه هو ذكر أسماء الرجال وكُناهم وأنسابهم والرُّواة وتصحيح كتابة الاسم، وليس به رؤية فلسفية.