أوَّلًا: قراءة التاريخ

وتعني القراءة تأويل التاريخ وإعادة صياغته، وصبَّ حضارة الوافد داخل حضارة الموروث، إدخال ثقافة الآخر في ثقافة الأنا؛ من أجل تجاوز ثنائية الثقافة، وتحقيقًا لوحدة الحضارة البشرية في بدايتها ومسارها. ليست القراءة مجرَّد وجهة نظر في المقروء من منظور الأنا. والتاريخ نفسه به قدْر من القراءة تقلُّ في بداية التدوين وفي عصوره المتقدمة وفي أنواعه الأدبية الأولى، وتزيد في نهايات التدوين وفي عصوره المُتأخِّرة، وفي الأقوال والحِكم والأمثال كنوع أدبي. وتتفاوت القراءة من تدوينٍ لآخر، فالبعض أقرب إلى التاريخ منه إلى القراءة، مثل ابن أبي أصيبعة، والبعض الآخر أقرب إلى القراءة منه إلى التاريخ مثل الشهرزوري. وهذا هو الفرق بين المؤرخ والفيلسوف، بين الراصد والرائي، بين المُحصي والمُدرِك. وتتفاوت القراءة بين الموضوعات. أكثرهم قراءة هرمس وأفلاطون وأرسطو وجَالينُوس وبقراط، وأقلهم قراءة إقليدس. كلما كان الموضوع أقرب إلى الدين زادت القراءة، وكلما ابتعد عن الدين قلَّت القراءة. ربما لصعوبة تأويل بعض الموضوعات الوافدة داخل الموروث مثل تحويل النار إلى نظرية في الخلق.١ ولكن الغريب هو عصيان أرسطو على التأويل والأسلمة عنه الشهرزوري، كبير المُؤوِّلين، الفيلسوف الذي يؤرِّخ للفلسفة.

والصلة بين التاريخ والقراءة مثل الصلة بين التاريخ والتأريخ، بين الموضوعي والذاتي في تدوين التاريخ، بين التاريخ كنصوصٍ منقولة والتاريخ كقراءة للنصوص؛ ولذلك يصعُب الفصل بين التاريخ والقراءة والتمييز بينهما في الدرجة لا في النوع. فلا يُوجَد تاريخ بلا حدٍّ أدنى من القراءة ولو رؤية المؤرخ وهدفه، ولا تُوجَد قراءة بلا حدٍّ أدنى للتاريخ، للنَّواة الأولى التي تنسج حولها القراءة.

القراءة هي وضع الوافد في إطار الموروث، وحمله عليه، وتفسيره من خلاله، وإعادة بنائه فيه. الوافد هو المادة والموروث هو الصورة. وهي منطقة التفاعُل التي تحدُث فيها ظاهرة التشكُّل الكاذب. فاللوجوس عند اليونان هو النطق أو القول عند العرب.٢ تعني القراءة اتخاذ الموروث كإطارٍ مرجعي للوافد. فهو تاريخ إسلامي مُقنَّع، إعادة عرْض الموروث بلغة الوافد، وإعادة ترجمة الوافد بلغة الموروث من أجل إلغاء المسافة بين الاثنين تجاوزًا لثنائية مصادر المعرفة إلى المعرفة الموحَّدة.٣ فقد صنف أفليمون كتاب الفراسة، وهو عِلم عربي قديم قبل الإسلام وبعدَه. وقصُّ هيوميروس على لسان الحيوانات أصبح جزءًا من الأدب العربي،٤ تعني القراءة إلغاء مراحل التاريخ والمسافة الزمنية بين الحضارات، ضمَّ اليونان إلى المسلمين، والفلسفة إلى الدين، والأسطورة إلى التاريخ. تعني القراءة بيان اتفاق الحكمة الوافدة مع النبوَّة الموروثة، واتفاق الحكماء مع الأنبياء، فالحكمة من النبوَّة، والنبوَّة من الحِكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. ويبدأ ابن فاتك كتابه بأقوال الأنبياء قبل أقوال الحُكماء، وبالتالي وحدة الحضارات البشرية بالرغم من تنوُّعها، لا فرْق بين شرقٍ وغرب، شمال وجنوب. وإذا كان التاريخ قد تم عرضُه عن طريق وصْف كتُب التاريخ وتصنيفها في أنواعٍ أدبية مُستقلة عن التاريخ، وتطوَّر النوع الأدبي تاريخيًّا جمعًا بين البِنية والتاريخ، فإنَّ القراءة تكون طبقًا للموضوعات عبر كتُب التاريخ. وقد يكون سبب تأليف كتُب التاريخ هو أنَّ صناعة الطب من أشرف الصنائع المذكورة في الكتُب الإلهية والأوامر الشرعية، يفرضها العقل والنقل، الطبيعة والوحي، وتوحيدًا بين علم الأبدان وعلم الأديان. وإذا كان الخبر واللذَّة مَطلبَين للحكماء فإنهما لا يتمَّان إلَّا بالصحة، لذَّة الدنيا، وخير الآخرة.٥
والقراءة تعني أيضًا ردَّ الوافد إلى أسس الموروث؛ أي العقل والطبيعة. ولو تعارَض مع هذين الأساسَين لرُفض. فالوحي نوعان: وحي صاعد عقلي طبيعي عند اليونان، وروحي عقلي طبيعي نازل عند الأنبياء. وهذا هو معنى حلم المأمون والحُسن والقبح العقليَّين اللذَين يجمعان أرسطو والإسلام.٦ وهناك حكمة خالدة تجمع كلَّ حِكَم الشعوب، المعاني على مذهب أرسطوطاليس، والألفاظ اقتداءً بالجاحظ، والنَّظم بطريقة البحتري.٧ كل الفلسفة تيار واحد، وافد أو موروث، أفلاطون أو أرسطو، يهودي نصراني أو مسلم. وهي الفلسفة الإشراقية في مراحل تجلِّياتها،٨ وهناك إحساس بتقدُّم الزمان عند المؤرخين والحديث عن القدماء والمُحدثين.٩ ومع هذا الإحساس بالتاريخ وبالتقدُّم هناك فلسفة واحدة هي الفلسفة الخالدة، عبَّر عنها جميع القدَماء والمُحدَثين، كل منهم كشَف عن جانبٍ منها هي فلسفة الأخلاق أو فلسفة الروح أو فلسفة الإشراق. وهي فلسفة مُضادة لفلسفة اللذَّة والجسد، لا فرْق فيها بين يوناني وفارسي وهندي وبابلي وسرياني وعربي ويهودي أو نصراني أو إسلامي، مُترجِم أو مؤلِّف، قديم أو حديث.

والسؤال الآن: هل أسلمة التاريخ تتمُّ من مؤرخين إشراقيين فحسب، أم أنها منهج تدوين الحضارة لتاريخها بصرْف النظر عن المؤرخين، وأن الخلاف بين المؤرخين في الدرجة لا في النوع، بين الأقل مثل تواريخ أسماء الأعلام والأكثر مثل الشهرزوري، بين المؤرخين والفلاسفة؟ قد يكون للمؤرخ صاحب المذهب قدرة على تجاوز التاريخ إلى القراءة لأنه صاحب موقفٍ مثل الشهرزوري. ولمَّا كان بعض المؤرخين من الشيعة فإن تواريخهم أتتْ أقربَ إلى القراءة والتأويل منها إلى التاريخ السردي. لذلك قسَّم الشهرزوري «نزهة الأرواح» إلى قسمَين أو روايتَين؛ أوَّلًا التاريخ الموضوعي، وثانيًا القراءة والتأويل.

وللمؤرِّخين قراءتهم الإشراقية للفلسفة اليونانية، لا فرق في ذلك بين أفلاطون وأرسطو، كما يفعل طاش كبري زاده. فأرسطو بالرغم من عقلانيته إلا أنَّ التصوُّف غالب عليه في حياته الخاصة. وقد فضَّل أرسطو التدوين بعد أن كان مضنونًا به على غير أهله. والفلسفة للخاصة والصفوة في الحكم ولأبناء السلاطين. واستعمل الرمز للتخفِّي. ووضع المنطق آلة العلوم. الفلسفة مُتوارثة وكأنها نِحلة صوفية.١٠
وتبدَّلت أحوال الفلسفة عبر العصور من حلم المأمون بترجمة كتُب أرسطو إلى فتاوى ابن الصلاح في تكفير الفلاسفة، من شراء كتُب القدماء بالذهب وزنًا إلى رفضها هبةً وعطاءً، لا فرق بين كتُب اليونان وفارس والهند. ويشارك البيروني في هذه الرؤية الفقهية المتراجِعة في الهجوم على ابن المُقفَّع واتهامه بالزندقة والتشكُّك في الواحد الأوَّل من جهة التعديل والتجوير والمَيل إلى الوثنية والتعاطف مع ماني والالتفات حوله ومقالاته أقرب إلى التمويه والجهالات في هيئة العام.١١
وقد تكون البواعث على القراءة، التعبير عن الموروث بصيغة الوافد، وتقديم الوافد بلُغة الموروث إذا كانت تصوُّرات الوافد تبدو مُعارضة لتصوُّرات الموروث أو مُعطيات الموروث التقليدية مُعارضة لقوالب الوافد الحديثة. وقد تكون إحدى آليات التخفِّي، الخَوف من عرْض الأفكار الوثنية الخالصة في بيئةٍ دينية. ومِنْ ثَمَّ تتمُّ أسلمَتُها أوَّلًا حتى يُمكن قَبولها والتعامُل معها. وقد يكون الهدَف من أنصار اليونان الترويج للوافد باستعمال آليات الموروث، والتعبير عن سقراط وأفلاطون وأرسطو بلغة القرآن والحديث حتى يتمَّ قبوله وابتلاعه. فالموروث إحدى قنوات ابتلاع الوافد، الطُّعم الذي تقبل به الثقافة التقليدية الثقافات الوافدة. وقد يكون الدافع هو نقد الاتجاهات المحافظة في الداخل واستعمال الوافد أداةً لتطوير الداخل. وهو وافدٌ قريب من الموروث وليس بعيدًا عنه. لذلك تتمُّ أسلمته أوَّلًا حتى يُصبح سهْلَ الازدراد. وقد يكون الدافع على القراءة التحوُّل من الفلسفة النظرية إلى الفلسفة العملية، وهو ما يتَّفِق مع مسار الحضارة الإسلامية حيث يقلُّ التاريخ وتكثُر القراءة في تطوُّر علوم الحكمة.١٢

والقراءة شيءٌ والتوفيق شيء آخر؛ القراءة فِعل أصيل يتمُّ فيه التعبير عن الوافد من خلال مقولات الموروث والتعبير عن الموروث من خلال مقولات الوافد، كعملٍ طبيعي تلقائي في حالة ازدواج الثقافة وثنائية مصادر المعرفة. بل إنَّ الصَّمت عن المصادر يكون عن قصدٍ من أجل إعطاء القول استقلاله. وبالرغم من أنَّ التاريخ من عمل المؤرخ، إلا أنه يُعبر عن وعيٍ تاريخي جَمعي، عن الوعي التاريخي الحضاري من خلال وعي المؤرخ. لذلك لا يهمُّ صِدق أو كذِب الروايات أو الحقائق التاريخية المَرويَّة خارج وعي المؤرخ؛ أي الوعي الجمعي. فذلك عمل المُوثِّق وليس عمل الفيلسوف أو مؤرخ الأفكار. ليستِ القضية في البحث عن مصادر «أسلمة» حُكماء اليونان. فالأسلمة إعادة بناء فلسفي إبداعي من المؤرِّخ وثقافته الموروثة وتوظيفها من أجل احتواء الوافد. لا يُوجَد مصدر مُدوَّن استمدَّ منه المؤرخ روايته من أجل إضافتها على نصوص الوافد، بل قرأ الوافد من خلال روح الموروث التي تُكوِّن الثقافة العامة للمؤرخ. وكما تبلُغ القراءة ذُروتَها عند الفيلسوف المؤرخ مثل حكيم الإشراق الشهرزوري كذلك تبلُغ ذروتها في كُتب الأقوال والحِكَم والأمثال لأنه يسهُل تأويلها دون تحويلٍ للتاريخ إلى أسطورة، والسيرة إلى خيال كما هو الحال في «مُختار الحِكَم ومحاسن الكلم». وتأتي القراءة بطريقةٍ طبيعية للوافد والتعبير عنه وكأنه مثَلٌ عربي دون إحساسٍ بالأسلوب المُترجَم عند المترجِم الأوَّل أو عند الفيلسوف الثاني مثل المُبشِّر بن فاتك دون أن يتطلب ذلك من الفيلسوف معرفة اللغة اليونانية.

ليس الهدف من قراءة التاريخ المُطابقة بين التاريخ والواقع، بين الرواية والمَروي. فالرواية تدوين من خلال رؤية المُؤرِّخ. كلَّما قلَّت المسافة بين الراوي والمروي كانت الرواية أقربَ إلى التاريخ دون مُطابقة. وكلما بعُدَت المسافة بين الراوي والمروي كانت الرواية أقربَ إلى القراءة. وما زال الاستشراق الغربي والعربي في إطار المُطابقة الأولى بحثًا عن التاريخ، إمَّا لسيادة النزعة التاريخية للقرْن الماضي عند الاستشراق الغربي، أو لغياب الرؤية عند الاستشراق العربي.

١  أقلهم قراءة عند الشهرزوري هرقليطس (ص٩١)، أناليس (ص٩٤)، سقراط من أهل أثينا (ص٩٧)، أرسطاطاليس (ص٩٨)، زينون بن ثاوساوس (ص٢٦٣–٢٦٦)، آداب طاطو (ص٤٤٠-٤٤١)، باسيليوس (ص٤٤٠-٤٤١)، إقليدس (ص٤٤١-٤٤٢).
٢  السجستاني، ص٢٨١.
٣  طاش كبري زاده، ج١، ص٦٨-٦٩.
٤  وهو ما فعله مع الغرب من أجل إلغاء المسافة بين الموروث القديم والوافد الجديد، واستئناف علوم الحكمة في مسارها الحديث مع الغرب بعد أن كان المسار القديم مع اليونان.
٥  ابن أبي أصيبعة، ص٧.
٦  «قيل للحسن بن سهل: لِمَ تجعل كلام الأوائل حجَّة؟ فقال لأنه مرَّ على الأسماع قبلنا، فلو كان زللًا لَما تأدَّى مُستحسَنًا إلينا» (السجستاني، ص٧٨).
٧  السجستاني، ص١٥١-١٥٢.
٨  وهذا ما يفعله أيضًا كل المؤرِّخين الفلاسفة، أرسطو مع تاريخ الفلسفة اليونانية، وهيجل مع تاريخ الفلسفة كله.
٩  السجستاني، ص٢٧٨.
١٠  «إن أفلاطون الحكيم كان يُعلِّم بعضًا من تلاميذه بطريق التصفية، وإعمال الفكر الدائم في خباب القدس، وسُمُّوا بالإشراقيين؛ وبعضًا منهم بطريق البحث والنظر فسُمُّوا بالمشَّائين لتردُّدهم إلى مجلس أو لأخذهم الحكمة وقتَ مَشيِهِ إلى تعليم أولاد السلطان أو لتعليمهم وقت مشيِهِ في بستان كان له. وأمَّا في غير هذا الوقت فكان مُنقطعًا عن الناس. ورئيس الطائفة المشائين هو أرسطو الذي دوَّن الحكمة البحثية لأنَّ لحكماء قبل هذا كانوا لا يدوِّنون الحكمة صَونًا لها عن غير أهلها. والذي وقع فإنما شبه الألغاز والتعمية، وكانوا يكتُمونها كالكيمياء من العلوم الخفية، ولا يُعلمونها غير أبناء الحكماء والسلاطين، ويتوارثها كابرًا عن كابر. ولمَّا عرَض أرسطو تدوينه على أفلاطون غضِب عليه وقال: أتُريد أن تُفشي سرَّ الحكمة الذي كتبَه الحكماء؟ فقال: لكنِّي أودعتُ فيها مهاوي لا يَطَّلِع عليها إلا أهلها، فأجازه على ذلك، فجمع جميع أنواع الحكمة. ولهذا لُقِّب بالمعلم الأوَّل. ثم استخرج المنطق بقوَّة قريحته وجودة طبعه ليكون آلة لتحصيل العلوم الحِكمية وقدَّمه على سائر أقسام الحِكمة بكونه آلةً لها، والله أعلم بحقيقة الحال (طاش كبري زاده، ص٢٩٤).
١١  قال يحيى بن عدي الفيلسوف: رأيتُ شرح الإسكندر الحكيم لكتاب الطبيعة ولكتاب البرهان في المنطق في تَرِكة واحدٍ من الحُكماء، وأنَّ الشرحَين عُرضا عليَّ بمائة وعشرين دينارًا، فمضيتُ لتحصيل الدنانير وعدتُ فأصبتُ القوم قد باعوا الشرحَين في جملة كتُب أُخَر على رجل خراساني على ثلاثة آلاف دينار. وقال غير يحيى إنَّ هذه الكتُب التي أشار إليها كانت تُحمَل في الكُم. قال مؤرخ أخبار الحكماء: انظر إلى همَّتهم، والله لو حضرت هذه الكتُب في زماننا وعُرضت على مُدَّعي علمها ما أدَّوا فيها عُشر معشار ما ذكره. قلتُ وإلى الله المشتكى من زمانٍ كسدَت فيه بضائع العلوم وفسدت فيه صنائع الرسوم. وأقول والله الرقيب لو عُرِضت تلك الكتب على مُحصلي زماننا بلا شيءٍ بل بطريق الهِبة لا امتنان فيها ولا غرَض، لرغبوا عنها ولم يلتفتوا إليها، فضلًا عن الابتياع. نعم يرغبون في كُتُب الشعر والغزل ويغالونها في الأثمان، بل يكتبُونها ويحصلونها ولا يُفارقونها لا في الليل ولا في النهار. وأعلم أنَّ هذا الكلام من نفثة المصدور، فليعذُرني من رآه من الأصحاب ولا يُعاملني باللوم والعقاب، وأستغفر الله لنا ولكم عن الخطأ والخطل في القول والعقد والعمل، إنه عفو غفور» (طاش كبري زاده، ص٢٨٨-٢٨٩؛ البيروني، ص٢٢٠).
١٢  «هذا بعض ما حضرَنا من حكمتهم وحكاياتهم، فوائدها عظيمة لمن تدبَّر معانيها» (فقر الحكماء، ص٣٠١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤