الفصل الأول

المنظر الأول

(منزل حمدي بك العباسي، غرفة الصالون تجلس بها تحية ومعها ابنة خالتها سناء. الأثاث منسق في ذوق جميل وهو أنيق ولكن ليس بالغ الأناقة. الوقت صباحًا. تحية مضطربة بعض الشيء وقريبتها تحدثها.)

سناء : وتمَّت الخِطبة!
تحية : صحيح؟
سناء : وحياتك.
تحية : حب كبير؟
سناء : جدًّا. تصوري خطبها يوم الخميس الفائت، ويريد أن يتزوج بعد شهر!
تحية : يا سلام! وفيمَ كل هذه السرعة؟
سناء : الحب يا حبيبتي.
تحية : هيه يا سناء. أحيانًا الحب يمنع من الزواج!
سناء : كلام فارغ. الحب يعمل المستحيل.
تحية : صحيح يعمل المستحيل، ولكنني لا أراه يعمل الغنى أبدًا. يظهر يا سناء أن الغنى أكثر من المستحيل!
سناء : من قال؟ الغنى نتيجة طبيعية للاجتهاد، والاجتهاد نتيجة طبيعية للحب.
تحية : أنت غلطانة يا سناء.
سناء : أنت الغلطانة.
تحية : تقصدين خطبتي؟
سناء : طبعًا أقصد خطبتك، أنت مخطوبة من سنتين!
تحية : أبي يمنع إبراهيم من التوظف بالحكومة.
سناء : وما له؟!
تحية : والله يا سناء أنا عارفة كل الظروف المحيطة بي وبإبراهيم، وأعرف أنه لو اجتهد لا بد أن يصل.
سناء : وساكتة؟!
تحية : وساكتة يا سناء. إبراهيم يعتقد أنه لن ينجح إلا إذا توظف.

(تدخل أم تحية إجلال هانم وهي سيدة وقورة ذكية.)

إجلال : ماذا جرى يا بنات؟ الكلام طال بينكم.
تحية : والله يا أمي الكلام جر بعضه.
إجلال : وسناء ما ذنبها تقعد بين أربعة جدران؟ انزلي يا بنتي للجنينة.
سناء : أبدًا. والله هنا هواء والجو لطيف.
إجلال : على كيفك. يا ترى العجائز لها مكان هنا؟
سناء : أهلًا وسهلًا، أنت الخير والبركة.
إجلال (وهي تقعد) : إبراهيم يجيء اليوم يا ترى؟
تحية : أظن يا أمي.
إجلال : شاب طيب وابن حلال.
سناء : صحيح يا خالتي، لكن ابن حلال ليست كافيةً.
إجلال (متعجبة) : ليست كافيةً؟!
سناء : طبعًا. وما لنا نحن إذا كان ابن حلال أو لا، ما دام لا يتكلم في الخطبة التي عفنت.
إجلال : سبحان الله يا بنتي، كل إنسان له ظروفه.
سناء : وظروفنا نحن يا خالتي؟! أليست لنا ظروف نحن أيضًا؟
إجلال : لا أفهم ما تقصدين.
سناء : أقصد شابًّا يخطب أختي ويسكت بعد الخطبة سنتين، ومَن الخطيبة؟ تحية؟! فتاة كل شاب يتمناها، طيب يتركها هو اليوم، ولا أقول غدًا، بل اليوم يسعى لها ألف خطيب.
تحية (في غضب) : لا، لا يا سناء، إلا أن يتركني. هي المسألة زواج؟ لا يا حبيبتي، ليس هذا الكلام، إلا أن يتركني أنا لو كنت أريد هذا ما تأخر.
سناء : فاهمة، فاهمة. حب.
تحية : طبعًا. وما العيب؟ لو لم يكن الحب لما قَبِلتُ الخطبة.
إجلال : الله! بنت. هكذا أمامي؟!
تحية : أنت عارفة قبل الكل أن حبي لإبراهيم هو وحده الذي نعتمد عليه في حياتنا.
سناء : يا حبيبتي، أين هي حياتك هذه؟ كل كلامي من أجل حياتك هذه، أريدها، أريد أن أرى بيتك، حياتك، أولادك.
تحية : لا، لا يا سناء، المسألة زادت. هذا شيء وهذا شيء. إنه تأخر، أو معذور، مسألة أخرى غير أني أترك خطيبي.
سناء : كيفك.
تحية : طبعًا كيفي.
سناء : والله لولا أني منتظرة أخي مجدي لزعلت وتركتك.
تحية : يا سلام! كل هذا لأني أحب خطيبي؟
سناء : على كيفك.
تحية : عارفة. قلتِها الآن.

(يدخل مجدي وهو شاب أنيق وسيم فيسمع آخر النقاش.)

مجدي : أعوذ بالله! كلما رأيتكما سمعت الخناق.
تحية : أهلًا، أهلًا بالكاتب الكبير والمحامي الشهير والأديب …
مجدي (في تصنع العظمة) : أعرف كل ألقابي يا سيدتي، فلا تتعبي نفسك في ذكرها.
إجلال : بسم الله الرحمن الرحيم! ما له يتلكم وكأنه لويس الحادي عشر؟!
مجدي : وما له لويس الحادي عشر أو حتى السادس عشر؟
تحية : لا، ربنا يحفظك من السادس عشر يابن خالتي.
مجدي : يا ستي، ربنا يحفظنا منك أولًا.
تحية : الله! بذمتك أنا عملت لك حاجةً؟
مجدي : لا، ولكن الاستقبال لم يكن يبعث على الاطمئنان.
إجلال : عجيبة! لم يكن ينقصها إلا أن تنحنيَ وتتقدم خطوةً إلى الأمام وأخرى إلى الوراء وتقبل الأرض!
مجدي : يا خالتي، تحية لا تتقدم لي بألقابي هذه إلا لتتبعها بإغاظتي.
تحية : لا والله. قرأت لك كتابك الأخير وأُعجبت به حقًّا، أعجبت به فعلًا، ثم قرأت مقالك في الجريدة، ثم قرأت نقدًا لكتابك كله مديح لك وللكتاب، فالحقيقة أنني انتظرت حتى أراك؛ لأقدم إعجابي.
مجدي : صحيح أعجبك؟
تحية : صحيح والله.
مجدي (في تعاظم مرة أخرى) : أعرف، أعرف، الكل معجب به، فلماذا لا تُعجبين؟ ومن أنت حتى لا تُعجبي به؟!
تحية : أنا غلطانة، كان يجب أن أقول الحق إذن.
مجدي (مقاطعًا) : في عرضك، إن الله لغني عن حقك هذا، الكذب أحسن، واظبي على الكذب.
إجلال : يا أخي شغلتني عن ضيوف عمك.
سناء : ضيوف عمي؟
إجلال : عندنا اليوم أصدقاء عمك سيتناولون الغداء معه.
سناء : طيب، وماذا ستفعلين؟
إجلال : ماذا سأفعل؟ أقف في المطبخ وأشرف، (تقوم) على فكرة يا مجدي أنت وسناء، الغداء عندنا اليوم.
مجدي : من غير دعوة يا خالتي، من غير دعوة. وهل يعقل أن نترك وليمةً بحالها؟
سناء : عظيم، أنا سأعمل بأكلي وأشرف معك يا خالتي.

(تخرج إجلال وسناء ويبقى بالمسرح مجدي وتحية.)

مجدي : قولي لي، لماذا زعَّلت سناء؟
تحية : عبيطة.
مجدي : سناء؟! لا، جايز فيها العيوب كلها، إلا أنها عبيطة، والظاهر — والله أعلم — أن غيرها هو العبيط.
تحية : إلى من تقصد يا سي مجدي؟ ماذا جرى؟ أنت وأختك اليوم …
مجدي (مقاطعًا) : يا ستي أنت حرة، لا أنا ولا أختي. أين الدكتور؟
تحية : إبراهيم؟ أظنه سيكون في العيادة بعد قليل. لماذا؟
مجدي : تذكرته فقط.
تحية : لا، لا بد من سبب.
مجدي : نعم، ألف سبب. إن لم تكلميه أنت، تكلمت أنا.
تحية : تكلمت؟ تكلمت فيمَ؟
مجدي : في خطبتك.
تحية : في خطبتي؟!
مجدي : نعم.
تحية : ماذا تقصد؟
مجدي : أعني إذا لم يكمل الزواج، وسريعًا، فسأخطبك أنا.
تحية : مجدي!
مجدي (مازحًا) : وما له يا ستي، وإلا بالله كيف يمكن أن أجعله يحس بطول المدة، إلا إذا هددته هذا التهديد؟
تحية : لعله يعلم بطول هذه المدة أكثر منك ومني!
مجدي : والله إن كانت الأمور تؤخذ بالظواهر، وهذا هو الغالب لأن الخافيَ لا يعلمه إلا الله؛ فالظواهر كلها ليست في مصلحة الدكتور.
تحية : والله يا مجدي هو شاب طيب ومخلص، لكن ظروفه كلها تعسة.
مجدي : أنا لا أعرف شيئًا اسمه ظروف، كلنا نقابل في حياتنا الظروف السيئة، ولكن ما الحياة إن لم نلقَ هذه الظروف ونتغلب عليها؟ هذه الحياة لنا، نحن سادتها، نحن من نتحكم فيها، ولا يمكن مطلقًا أن نتركها تتحكم فينا.
تحية : أنت تسرق من نفسك يا أستاذ مجدي، هذا الكلام في كتابك الأخير، ألم أقل لك إنني قرأته؟
مجدي : لا والله يا تحية، هذه هي الحقيقة.
تحية : نحن نتحكم في الحياة؟
مجدي : نعم، نحن، الإنسان. لقد خُلِقَت الحياة له، فهو من يتحكم فيها.
تحية : فلماذا لا نتحكم في جنسنا؟ لماذا خُلِقتُ امرأةً ولم أكن رجلًا؟! ولماذا اسمي تحية؟! كيف عَرَفَت الحياة أني أحب هذا الاسم؟ ولماذا سأموت يوم تشاء الحياة؟ ولعلها تختار تمامًا الوقت الذي أريد أن أحيا فيه.
مجدي : يا حبيبتي، هذه ليست الحياة، إنها تمهيدات الحياة؛ الولادة تمهيد للحياة، والموت نهاية لها، نحن غير مخيرين في المقدمات أو النهايات، وإلا فتصوري بربك لو أن الأمر عُرِضَ عليك قبل ولادتك فرأيت أن تكوني رجلًا، ثم اختار هذا الطريق مِن بعدك كل الإناث؟! أي حياة سنلقاها إذن؟ إن الحياة لن تمكث إلا بمقدار حياة هؤلاء الرجال. على أنه لو كان الأمر كذلك، واختارت أمك أن تكون رجلًا، لما وُلِدتِ أنت، ولتعطلت حركة الحياة نهائيًّا، فجنس واحد لا يكفي. أما اسمك فاسألي عنه أمك وأباك، فهما من اختارا وهما إنسان، وأنا أتكلم عن الإنسان ككل، لا أقصدك أنت وأنا فقط. أما موتك فإنه لا بد أن يكون رغم أنفك، وإلا لو كان الأمر اختيارًا لما تُركَت الحياة أبدًا، ومَن ذلك الذي يترك حياةً هو واثق منها إلى حياة أخرى لا يعرف عنها شيئًا؟ تصوري لو أن الناس لم يموتوا من عهد جدنا آدم وستنا حواء؛ كانت الحياة تصبح مصيبةً كبرى، وأين هذه الأرض التي تحتمل كل هؤلاء؟ ومن أين يأكلون؟
تحية : إذن فنحن لسنا سادة الحياة كما تقول!
مجدي : بل نحن سادتها. إنما الحياة هي هذه الفترة الواقعة بين الولادة والموت، بل الحياة الحقيقية هي التي تبدأ مع الإدراك وتنتهي معه، فترة الإدراك هي الحياة، وهذه الحياة هي التي نتحكم فيها، أما منذ الولادة حتى الإدراك، فإن أبوينا وأهلينا هم من يتحكمون فينا، وأظنك توافقين على أنهم آدميون.
تحية : أستغفر الله العظيم!
مجدي : أستغفره من كل ذنب. ولكن ماذا قلتُ؟
تحية : تزعم أننا نتحكم في الدنيا ولا تستغفر ربك؟!
مجدي : إن ما أقوله هو غاية الإيمان. وهل يعقل أن يكون الأمر غير ذلك؟
تحية : كيف؟
مجدي : تصوري لو أنك قلت لخادمك: اكسر هذا الكوب، ثم كسره. أتراك تعاقبينه بعد ذلك؟
تحية : لا طبعًا.
مجدي : فإذا كنت أيها الإنسان الحقير في عدلك تدركين ذلك، فكيف بالله مصدر العدالة؟ كيف يمكن أن يكتب عليَّ أن أشرب الخمر ثم يعاقبني على شرب الخمر؟ لا بد أني مخير في أفعالي وإلا لما أوقع الله عليَّ الجزاء.
تحية : الله! مجدي أتكلمني عن الاختيار، ماذا؟ أتراك أصبحت فيلسوفًا أيضًا؟ هذا ما كان ينقصك.
مجدي : جزاك الله. القضية تنتظرني وأنت لا تسكتين.
تحية : أنا التي لا أسكت؟ طيب اذهب، ولكن انتظر …
مجدي : ماذا؟
تحية : سأذهب معك.
مجدي : إلى المحكمة؟
تحية : إلى إبراهيم.
مجدي (مصدومًا) : لا! اذهبي أنت في سيارة أجرة، أنا لا أطيق.
تحية : لا تطيق؟! لا تطيق ماذا؟
مجدي : لا أطيق انتظارك حتى تلبسي. القضية يا هانم، القضية. السلام عليكم.

(يخرج وتجلس تحية سارحةً بعض الوقت حتى تدخل سناء.)

سناء : الله! ماذا جرى؟ أين مجدي؟
تحية : ذهب إلى المحكمة؟
سناء : صحيح، هو قال إنه سيستطيع أن يهرب ساعةً من المحكمة ثم يعود.
تحية (سارحة) : صحيح؟
سناء (في نفس النغمة) : صحيح.
تحية : سناء، أخوك عبقري!
سناء : أعرف. وكان يجب أن تعرفي هذا من زمن بعيد.
تحية : لو عرف كم هداني إلى أشياء في هذه الدقائق.
سناء : هداك الله إلى الصراط المستقيم؟
تحية : نعم، إلى الصراط المستقيم في حياتي. سناء، أنا خارجة.
سناء : إلى أين؟
تحية : إلى إبراهيم.
سناء (في يأس) : إبراهيم!
(ستار)

المنظر الثاني

(المنظر غرفة طبيب غاية في الحقارة، بها سرير كشف خلف «برافان» قديم به قماش رخيص ومكتب قديم متهالك، الغرفة ذات باب واحد. التمورجي ينظف الحجرة في تراخٍ شديد وكسل.)

التمورجي : والله الشعراء أحيانًا لهم كلام حكم، العطار، العطار، آه العطار لا يفسد ما أصلحه الدهر. طيب ماذا تعمل الريشة أو الممسحة في هذه المكسرات؟

(يدق جرس الباب.)

التمورجي : أهلًا. والله زمان.

(يخرج ويغيب لحظةً ويعود مرةً أخرى.)

التمورجي : فُرِجت؛ جاء أول زبون، أول زبون، لا هو مضطر ولا هو مصاب في حادثة تحت العيادة، ولا هو صديق فقير، زبون، زبون خالص، زبون فقط بدون تعليق. (يدق جرس الباب مرةً أخرى ويغيب لحظةً ويعود) زبون آخر! زبون … (لا يكمل الكلمة لأن جرس الباب يدق) لا، الجرس تعب، الشغل كثر مرةً واحدةً، وهو من زمان لا يشتغل، لا يمكن طبعًا أن يكون زبون ثالث، أما لو كان؛ فإني سأترك الباب مفتوحًا. (يخرج ويعود) ماذا جرى؟ أيكون الدكتور اشتهر؟ ولكن في يوم واحد يشتهر؟ أيكون ارتكب حادثةً، والجرايد نشرت اسمه؟ متى ارتكب الحادثة؟ لقد كان هنا حتى الساعة الواحدة ظهرًا، يا عالم، ماذا جرى؟! (ينظر من الباب) زبون رابع، خامس، سادس، سا… الدكتور … الدكتور … الدﮐ…

(يدخل الدكتور؛ شاب في مقتبل العمر يلبس حلةً قديمةً يحاول جُهده أن تظهر نظيفةً ما دام لا يمكن أن تظهر أنيقةً.)

الدكتور (لا يلتفت إلى رقص التمورجي) : من هؤلاء؟
التمورجي : زبائن.
الدكتور (مندهشًا) : من؟!
التمورجي : زبائن، زبائن، والله زبائن. لا هم أصدقاء ولا هم مصابون تحت العيادة، ولا هم جيران، زبائن، زبائن.
الدكتور : وماذا جاء بهم؟
التمورجي : ربنا.
الدكتور : كل هؤلاء؟
التمورجي : كلهم. هيه نبتدئ يا دكتور؟
الدكتور : نبتدئ.
التمورجي (يفتح الباب في زهو) : الأول. أنت، تفضل.

(يدخل الزبون ويكون الدكتور قد جلس إلى مكتبه بعد أن يكون قد أعد الكرسي أمام المكتب في احتفاء كبير.)

الدكتور : أهلًا، تفضل (يشير إلى الكرسي).
الزبون : زاد فضلك يا دكتور.
الدكتور : نعم؟ خير.
الزبون : والله يا دكتور لو كان خيرًا ما جئت لك.
الدكتور (يغتصب ضحكةً) : إن شاء الله خير.
الزبون : يا دكتور أنا عيان.
الدكتور : طيب. أنا لا أنتظر أن تكون صاحب قضية!
الزبون : المرض لازمني سنتين.
الدكتور : عظيم. وما المرض؟
الزبون : المرض؟
الدكتور : نعم. المرض!
الزبون : لا بد أن تعرف المرض؟
الدكتور : طبعًا.
الزبون : أنا متزوج من عشر سنوات، ومنذ سنتين (يسكت).
الدكتور : أقول المرض!
الزبون : المرض … المرض … لقد قلت لك المرض … متزوج … و… مريض.
الدكتور : آه، فهمت، طيب، تفضل.
الزبون : أين أتفضل؟ هل شفيت؟
الدكتور : شفيت! كيف تشفى؟ إننا لم نعمل شيئًا.
الزبون : إذن فأتفضل إلى أين؟ هنا، عظيم.
الدكتور : لا، تفضل على سرير الكشف.
الزبون : ماذا؟ سرير ماذا؟ هل أنت أيضًا لك سرير كشف؟ مصيبة!
الدكتور : طبعًا، لي سرير كشف.
الزبون : آه، جائز. إنها أول مرة أجيء إلى دكتور مثلك.
الدكتور : لا، أنت أعصابك منهارة.
الزبون : يا سلام! أنا عارف هذا من أول دكتور.
الدكتور : طيب، نَم.
الزبون (مندهشًا) : وأنام أيضًا؟!
الدكتور : طبعًا!
الزبون : نمنا.
الدكتور : اخلع البنطلون.
الزبون : البنطلون؟! لا، أنت لست الدكتور، لا بد أنك دكتور نصاب مثل كل الدكاترة الذين شفتهم! لا يا سيدي حكاية خلع البنطلونات غلط أكيد!
الدكتور : غلط؟! كيف أكشف عليك وأنت تلبس البنطلون؟!
الزبون : ولماذا تكشف؟!
الدكتور : وهل يمكن العلاج إلا بالكشف؟!
الزبون : العلاج؟ أنت من إياهم إذن. يقولون دكتور منوم مغناطيسي وتقول علاج. أنت منوم أو دكتور؟
الدكتور : منوم؟! أنا منوم؟!
الزبون : طبعًا. وهل كنت أجيء لك إلا وأنت منوم؟ أنا تركت الدكاترة من زمان بعيد، أنا أنهيتهم، أنهيتهم، فاهم، أنهيتهم على آخرهم.
الدكتور : أي دكتور كنت تريده؟
الزبون (يخرج جريدة من جيبه) : هذا، هذا الدكتور.
الدكتور (يقرأ) : يعلن الدكتور طهستان المنوم المغناطيسي المشهور أنه نقل عيادته إلى شارع معروف رقم ١٢، وكل من يريد زيارته فليشرِّف في هذا العنوان، الأشخاص والأشياء الضائعة و…
الزبون : أليس هذا شارع معروف؟
الدكتور : لا، هذا شارع الشيخ معروف. ولكن أين طهستان من إبراهيم؟!
الزبون : وكيف أعرف؟ أنت لا تعلق اسمك على بابك؟
الدكتور : ولكني أُعلِّقه على باب العمارة!
الزبون : أنا سألت: الدكتور موجود؟ قالوا سيأتي، فدخلت. أما لافتتك على الباب فلم أقرأها؛ لأني لم أنتظر أن يكون الدكتور قد علق لافتةً وهو لم ينقل إلا اليوم.
الدكتور : وهل تنوي حقًّا الذهاب إلى الدكتور طهستان؟
الزبون : أنوي؟ لقد نويت فعلًا وجئت وسأذهب إليه في معروف والحاج معروف أو غير معروف، أنا ذاهب له على أي حال.
الدكتور : أمرنا لله، مع السلامة.
الزبون : سلامة؟! سلامة من؟ هات الخمسين قرشًا.
الدكتور : آه صحيح. يا حسن، يا حسن.
حسن : نعم يا دكتور.
الدكتور : هل أخذت خمسين قرشًا من الأفندي؟
حسن : طبعًا، لماذا لا آخذ؟! أليست عيادةً لها مصاريف؟!
الدكتور : لا تطول، هات الخمسين قرشًا.
حسن : أمرك، تفضل.
الدكتور : تفضل يا أستاذ.
الزبون : مع الشكر يا أخ. سلام عليكم.
الدكتور (يجلس متهالكًا على الكرسي) : وعليك السلام، (ينظر إلى حسن) رد إلى الزبائن ما دفعوه.
حسن : لماذا يا دكتور؟! ترفض الرزق يا دكتور؟!
الدكتور : اسمع الكلام يا حسن.
حسن : أمرك يا دكتور (يخرج حسن).
الدكتور : أيها القدر، أيها القدر …

(يدخل حسن فرحًا.)

حسن : يا دكتور، الزبائن يرفضون، يتوسلون إليك يا دكتور أن تقابلهم.
الدكتور : اخرج إليهم يا حسن.
حسن : أُحضِرهم؟
الدكتور : اخرج إليهم وسأكلمهم من هنا.
حسن : أمرك يا دكتور.

(يخرج حسن.)

الدكتور (يفتح الباب بينه وبين الزبائن) : يا حضرات، أنا الدكتور إبراهيم محسن، طبيب باطني. إن كنتم تريدون الدكتور طهستان فهو في شارع الشيخ معروف.

(يرى الزبائن ينصرفون واحدًا بعد الآخر.)

(يقفل الدكتور الباب ويتهالك على الكرسي.)

(يدخل حسن.)

حسن : انصرفوا جميعًا يا دكتور!
الدكتور : لم يبقَ أحد؟
حسن : بل بقيَ.
الدكتور : زبون؟
حسن : والله يا دكتور، الله أعلم.
الدكتور : الله أعلم بكل شيء. ولكن أنت ألا تعرفه؟ أهو زبون؟
حسن : ومن أين أدري؟ لقد كنت أحسب كل هؤلاء زبائن!
الدكتور : إنهم زبائن نعم يا حسن، ولكن فقط زبائن لشخص آخر، (ساخرًا) لدكتور آخر.
حسن : أُحضِره يا دكتور؟
الدكتور : أَحضِره يا حسن.
حسن (يفتح الباب) : تفضل يا معلم.

(يدخل شخص يلبس ملابس بلديةً.)

الدكتور : من؟ المعلم حسنين؟!
المعلم : أنا يا دكتور.
الدكتور : خير يا معلم؟ أنا آسف تأخرت عليك هذا الشهر.
المعلم : الحقيقة يا بني أنا كنت أريد …
الدكتور : تريد ماذا يا معلم؟
المعلم : أريد أن تكشف عليَّ.
الدكتور : أكشف عليك؟! لماذا يا معلم؟ كفى الله الشر.
المعلم : الحقيقة يا بني … الحقيقة …
الدكتور : الحقيقة أنك رجل طيب.
المعلم : أشكرك يا دكتور، لكن والنبي تكشف عليَّ يا دكتور.
الدكتور : لا يا معلم. عمي سيأتي من البلد اليوم، وأظن أنه سيحضر لي القرشين بعدما باع القطن.
المعلم : وما شأني يا دكتور بالقطن وعمك؟! المهم أنك تكشف عليَّ.
الدكتور : أنت تريدني أن أكشف عليك حتى لا تكون العيادة خاليةً، أليس كذلك يا معلم؟
المعلم : لا حول الله يا بني! أنت دكتور وأنا عيان، وظيفتك أن تكشف عليَّ، اكشف يا دكتور.
الدكتور : أمرك يا معلم، ممَ تشكو؟
المعلم : أشكو، أشكو، أشكو من صداع، نعم، صداع شديد ومغص، نعم مغص شديد.
الدكتور : طيب يا معلم، قم إلى السرير.
المعلم : أمرك يا بني.

(يدخلان خلف البرافان.)

الدكتور : نَفَس يا معلم، اثنِ رجليك، ظهرك. يا معلم، عظيم.

(يخرج الدكتور.)

الدكتور : ليس بك شيء يا معلم.
المعلم (وهو ما زال خلف البرافان) : ما هذا الكلام يا دكتور؟! أقول لك صداع ومغص، وتقول ليس بك شيء؟ يا بني اكتب لي دوا، الله يفتح عليك.
الدكتور : أمرك يا معلم (يكتب).
المعلم (يخرج حافظة نقوده) : أنا لي يا دكتور ستة وثلاثون قرشًا وأنت لك خمسون قرشًا، يكون الباقي لك أربعة عشر قرشًا ها هي.
الدكتور : يا معلم! هذا لا يصح، وهل يعقل أن آخذ منك؟!
المعلم : والله والله، إن أم أولادي حرام عليَّ إن لم تأخذ حقك.
الدكتور : يا معلم الناس لبعضهم.
المعلم : نعم لبعضهم.
الدكتور : طيب خذ نقودك.
المعلم : لا يا دكتور الحق حق، وأظن أيضًا أنك لا ترضى أن أطلِّق أم حسين، ولو أنها أصبحت عجوزًا (ويضحك).
الدكتور (وفي عينيه بعض الدموع) : أنت يا معلم حسنين يا جزار، أرق إنسان رأيته في حياتي.
المعلم : الله يبقيك، هذا من ظرفك يا دكتور. سلام عليكم.
الدكتور : وعليكم السلام يا معلم، مع السلامة.

(يخرج المعلم.)

الدكتور (لنفسه) : أيرضيك هذا أيها القدر؟ أيرضيك أن يتصدق عليَّ الجزار؟! الرجل لا يشكو شيئًا، ويجعلني أكشف عليه ليعطيَني أُجرة الكشف، راضٍ أنت أيها القدر؟! حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.

(يدخل حسن.)

حسن : يا دكتور، بالخارج رجل عظيم يسأل عنك.
الدكتور : عظيم؟!
حسن : عظيم جدًّا!
الدكتور : دعه يدخل.

(يدخل رجل يلبس الردنجوت ذو لحية كثة ويضع على رأسه عمامةً كبيرةً.)

الداخل : السلام عليكم.
الدكتور : وعليكم السلام. نعم.
الداخل : أنا الدكتور طهستان.
الدكتور : أهلًا وسهلًا، فرصة عظيمة يا سيد طه.
طهستان : أقول لك أنا الدكتور.
الدكتور : أهلًا يا سيد طه.
طهستان : يعني مصمم! على كل حال جئت لأشكرك.
الدكتور : علامَ؟
طهستان : على أنك أرسلت إليَّ الزبائن.
الدكتور : هذا واجب يا سيد طه.
طهستان : ومن أجل هذا جئت أقدم لك خدمةً.
الدكتور : خدمةً؟!
طهستان : نعم خدمة.
الدكتور : وما هي؟
طهستان : أنت ترسل إليَّ المرضى الذين تجدهم ضعاف الشخصية يمكن للتنويم أن يؤثر فيهم، وأنا أرسل لك المرضى الذين أجد بهم مرضًا حقيقيًّا، ما رأيك؟
الدكتور : عظيم.
طهستان : اتفقنا؟
الدكتور : اتفقنا. ولكن هناك مانعًا بسيطًا، اسمه الشرف.
طهستان : دع الشرف إذن ينفعك. لقد رأيتَ اليوم بنفسك كيف امتلأتْ عيادتك بزبائني، وحين قلتَ لهم إنك لست الدكتور طهستان انصرفوا جميعًا.
الدكتور : وهل معنى تأثيرك في المغفلين أن أتفق معك؟
طهستان : أنت تتفق مع سمسار، تقابُل منافع يا دكتور، أي عيب في هذا؟! أنت تخدمني وأنا أخدمك، والناس لبعضهم.
الدكتور : تقول لبعضهم؟! صحيح، ولكن للأسف أنت دجال.
طهستان : لا، دجال هذه لم أعرفها. ولكنني أعرف أنني أملك العمارة التي أسكن بها، وأنت لا تستطيع أن تدفع أجرة الشقة التي تسكنها.
الدكتور : وهل يغير هذا من الحقيقة؟
طهستان : الحقيقة هي ما تملك.
الدكتور : الحقيقة هي الواقع.
طهستان : والواقع أنني غني وأنت فقير.
الدكتور : والواقع أنني دكتور وأنت دجال.
طهستان : تعال نخرج معًا.
الدكتور : إلى أين؟
طهستان : إلى أي مكان يعجبك، إلى الشارع، إلى القهوة.
الدكتور : وما السبب؟
طهستان : لترى الحقيقة، لتعرف الواقع. إن النبي يقول: ألسنة الخلق أقلام الحق.
الدكتور : إن النبي يتكلم عن ألسنة الخلق البريئة من النفاق، البعيدة عن التزلف، مهما يمدحك الناس أمامك، فإنهم حين تنصرف عنهم سيقولون: دجال. أما أنا فمهما قالوا عن فقري فلن يستطيعوا إلا أن يقولوا من ورائي وأمامي، إنني دكتور تعلمت، واجتهدت ووصلت.
طهستان (يضحك ضحكةً ساخرةً عاليةً) : وصلت إلى أين يا دكتور؟ إلى أين وصلت؟ إلى عيادة في مكان كهذا؟ خالية إلا منك؟ وصلت يا دكتور؟ (يضحك) اللهم لا تجعل أحدًا يصل إلى ما وصلت إليه يا دكتور، أنت وصلت؟ فمن إذن الذي لم يصل؟ اسمع كلامي يا دكتور. الغنى، الشهرة.
الدكتور (في شبه تخاذل) : الغنى، الشهرة.
طهستان : إنها خدمة أريد أن أؤديها لك.
الدكتور : وماذا تريد مني؟
طهستان : لقد قلت لك.
الدكتور : ماذا تفعل إذا أرسلت أنت الزبائن ولم أرسلهم أنا؟
طهستان : يكون الدجال وفى بوعده، ويكون الشريف أخلف.
الدكتور : وما دخل الشرف، وكلانا يسرق؟
طهستان : نسرق؟! نحن نسرق؟!
الدكتور : طبعًا. إننا أكثر من لصوص، اللص يسرق المال أما نحن فنسرق الثقة، نسرق اعتقاد الناس فينا.
طهستان : ولماذا؟ أنت دكتور، وأنا أرسل لك مرضى.
الدكتور : هذا صحيح، ولكن هل أنا دكتور ماهر أو لا؟ هل تعرف هذا؟
طهستان : على كل حال أنت دكتور، فثقة الناس في محلها. أنا لا أرسلهم إلى محامٍ أو مهندس، إلى دكتور.
الدكتور : عظيم. وأنا؟
طهستان : دكتور.
الدكتور : أعرف. ولكن ما موقفي أنا حين أرسل الناس إليك؟
طهستان (تظهر عليه الحيرة) : أنت. أنت ترسلهم إلى منوم مشهور يا أخي.
الدكتور : على كل حال يا أخي طه، أنا أشكرك لنيتك الطيبة، ولكني لا أستطيع.
طهستان : الغنى، الشهرة.
الدكتور : أنت لا تعرف كم أنا محتاج لهذا الغنى، ولكني لا أستطيع.
طهستان : أنت حر. سلام عليكم.
الدكتور : وعليكم السلام.

(يخرج ويدخل حسن.)

حسن : يا دكتور.
الدكتور : خيرًا يا حسن.
حسن : ومن أين الخير؟ والله لو كان عندي ما تأخرت يا دكتور.
الدكتور : ما هو؟
حسن : الزبون، أقصد الخير.
الدكتور : ماذا تريد إذن؟
حسن : خطيبتك يا دكتور.
الدكتور : خطيبتي؟
حسن : خطيبتك.
الدكتور : دعها تدخل.
حسن : تفضلي يا ست هانم.

(تدخل تحية وقد بدا عليها التجهم.)

الدكتور : أهلًا تحية.
تحية : أهلًا إبراهيم.
الدكتور : ما لك يا تحية؟
تحية : لا شيء. ولكني كنت أستمع إلى حديث طويل.
الدكتور : عن؟
تحية : عنك.
الدكتور : عني أنا؟!
تحية : ليس عنك أنت بالذات، عن الإنسان عمومًا.
الدكتور : أهذا كل ما كان؟
تحية (في استخفاف) : نعم. ونقاش آخر مع صديقة.
الدكتور : وماذا قالت؟
تحية : كلام بنات، ماذا تنتظر من بنتين تتكلمان؟
الدكتور : أكاد أفهم.
تحية : ماذا؟
الدكتور : موضوع الكلام.
تحية : يا أخي اترك هذا. ماذا عملت أنت؟
الدكتور : فيمَ؟
تحية : ماذا عملت بعد خروجك أمس؟ لاحظت أنك كنت زعلان.
الدكتور : زعلان؟! لا، أبدًا.
تحية : لا، قل الحق.
الدكتور : والله يا تحية أنا فعلًا كنت زعلان، وما زلت.
تحية : خيرًا. جرى شيء؟
الدكتور : وماذا يمكن أن يجريَ أكثر من هذا؟
تحية : وما هو هذا؟
الدكتور : سنتان الآن، وأنا خاطبك، وأنت تنتظرين حتى أجمع المهر. ماذا سنفعل؟
تحية : أنا شخصيًّا لا مانع عندي أن أنتظر، ولكن أنت يجب أن تعمل.
الدكتور : المسألة ليست مسألة مهر فقط، وإنما مسألة حياتنا بعد الزواج. كيف سنعيش؟
تحية : الحمد لله، أبي غني وأعتقد أنه يستطيع …
الدكتور : أن يساعدنا؟
تحية : وما البأس؟
الدكتور : الله! الله! أنا أعيش عالةً على والدك؟! أترضين هذا يا تحية؟!
تحية : وماذا بيدنا يا إبراهيم؟
الدكتور : بيدنا أن نُقنِع أباك بمسألة.
تحية : الوظيفة؟
الدكتور : نعم.
تحية : لا تتعب نفسك، هذه مسألة أساسية.
الدكتور : يا عالم! يا ناس! طبيب يريد أن يعمل في قصر العيني طبيبًا، هل هذا عيب؟! هل هذا يضر بالشرف؟! هل هذا يسيء إلى السمعة؟! هناك بحث عظيم أقوم به بم أكون كسبت الشهرة.
تحية : أنت تعرف أنه يكره الوظيفة ويكره سيرتها.
الدكتور : ولكني أكره الفقر أيضًا، وأكره سيرته. ماذا يمكنني أن أفعل؟ حالة العيادة تزيدني ارتباكًا، أنا أخسر فيها ولا أكسب. حرام أن أتركك أكثر من هذا، أنا موقفي حرج جدًّا.
تحية : لا بد لنا أن نتغلب على كل شيء.
الدكتور : نعم ولكن، كيف؟
تحية : سوف يأتي الصبح بعد الليل.
الدكتور : لا بد أن تتحرك الأرض حتى يأتيَ الصبح.
تحية : لا يمكن أن نصل إلى ما نأمل ونحن هادئون مستريحون بغير سعي. اعمل.
الدكتور : أين؟ كيف؟
تحية : أنت سلبي خالص يا إبراهيم.
الدكتور : من أين يأتيني العمل؟ اسمعي يا تحية، أنا لا يمكن أن أرضى لنفسي هذا.
تحية : ماذا؟!
الدكتور : أن أحطم حياة الإنسان الوحيد الذي أحبه، لا يمكن أن أحطم حياتك، لا أستطيع أن أغشك، لا أَمَلَ مطلقًا، لا أمل، ولا معنى أبدًا أن تنتظري إنسانًا فاشلًا لا يستطيع أن يتحرر من فشله. لا يمكن.
تحية : أُحِسُّ في كلامك شيئًا غريبًا.
الدكتور : اسمعي يا تحية، يجب أن تعرفي أنه لا أمل من زواجنا وأنا على هذا الحال.
تحية : إنك بكلامك هذا تفسخ الخطوبة.
الدكتور : إنني بكلامي هذا أنقذ مستقبلك. أخاف أن يطول بنا الطريق إلى الزواج، وأنتِ لم ترتكبي جُرمًا حتى أجنيَ عليك أنتِ أيضًا، إن القدر وأباك يتعاونان على فشلي.
تحية : لا يا دكتور، هذا الكلام له معنًى آخر، وقد فهمته. إنك تفسخ الخطبة وإنني أقبل.
الدكتور : لا، أنا لم أفسخها بعد، ولكنني سأحاول.
تحية : إذن فأنا أفسخها يا دكتور (تخرج).
الدكتور (مُطرقًا) : أيها القدر، أيها القدر العنيد، أين أنت؟

(يدخل شخص من جدار الغرفة ويقف صامتًا.)

أين أنت لأنتقم منك، أو لأسأل على الأقل لماذا تعاملني أنا دون سائر الناس هذه المعاملة الشائنة العنيفة؟ أيها القدر (يرفع رأسه) من …؟! من أنت؟!
الشخص : أنا القدر.
الدكتور : أتهزأ بي؟!
الشخص : بل هذه الحقيقة.
الدكتور : فهل القدر إنسان؟!
القدر : كان لا بد لي أن أتخذ هذا المظهر حتى تراني ولا تخاف.
الدكتور : فماذا تريد؟
القدر : أنا، لا أريد شيئًا. إنه أنت الذي تريد.
الدكتور : أنا؟!
القدر : نعم. ألم تقل أين أنت أيها القدر؟ لقد كنتُ شغوفًا بك لدرجة أنني ظهرت لك بمجرد طلبك لي.
الدكتور : فأنت تعلم إذن ما أردتك بشأنه.
القدر : إنك تريد أن تنتقم مني، وهذا ما لا يمكن أن تفعله. ثم أنت تنازلت قليلًا فأردت أن ترانيَ حتى تعرف لماذا.
الدكتور : نعم! لماذا؟ لماذا تفعل بي كل هذا؟ ولماذا اخترتني دون سائر الأطباء؟ دون سائر الآدميين حتى تجعلني في مثل هذه الحال؟
القدر : إنه أنت، الضعيف الخامل.
الدكتور : أنا خامل؟! ألم أكن الأول في كل سنين الانتقال في كلية الطب؟ ألم تكن أنت مَن أمرضني في امتحان السنة النهائية فنجحت بصعوبة؟
القدر : وماذا كان مرضك؟
الدكتور (في تردد) : ضعف أعصاب.
القدر (ساخرًا) : بمعنًى آخر تخاذل، خوفٌ، ضعف شخصية.
الدكتور : ألم تكن أنت وحدك من جعل أبي فقيرًا، لم يستطع أن يمدني بالمال؟
القدر : إن فقر أبيك شيء تَسأل عنه أجدادك حين تنشطوا في إنجاب الذرية واستناموا في نوال الرزق.
الدكتور : ومن سواك الذي جعل أبا خطيبتي يخرج من الحكومة ساخطًا عليها، فهو يأبى أن أدخلها، وجعل توظفي في الحكومة معناه فسخًا لخطبتي؟
القدر (ساخرًا) : كلاكما أحمق. هو أحمق في تصرفه، وأنت أحمق لأنك قبلت هذا التصرف.
الدكتور (في استخذاء) : وماذا ترى الآن؟
القدر : إنك وحدك الذي تستطيع أن تنقذ نفسك.
الدكتور : كيف؟!
القدر : انظر في أمر نفسك. حدد العراقيل التي تقف في سبيلك، واعمل.
الدكتور : ماذا أعمل؟
القدر : اعمل لنجاح نفسك.
الدكتور : خطيبتي، أبوها.

(القدر يبتسم.)

الدكتور : أعمل في الحكومة؟

(القدر يبتسم في رضًا.)

الدكتور : البحث الذي بدأتُه. إنقاذ الآلاف من الأمراض. الشهرة العلمية.
القدر : لا تكثر من الكلام ولكن اعمل.
الدكتور : آمال الشباب. أحلام المستقبل.
القدر (راضيًا وهو يختفي في الجدار) : حققها. واعمل.
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤