الفصل الرابع

(عيادة الدكتور إبراهيم أنيقة غاية الأناقة، حسن واقف في وسط العيادة ينظف أثاثها في فرح وهمة ويغني في ابتهاج شديد، يُدَقُّ جرس الباب.)

حسن : أعوذ بالله! ميعاد العيادة لم يبدأ يا عالم، أبعدوا عنا الزبائن يا عالم، هل خلا البلد من الدكاترة، الأمر لله.

(يخرج حسن ويعود بعد لحظة ومعه مجدي.)

حسن : أهلًا سعادة البك المحامي.
مجدي : أهلًا بك يا حسن. أين الدكتور؟
حسن : ميعاده بعد نصف ساعة.
مجدي : طيب، أكلمه في التليفون.
حسن : أمرك يا سعادة البك.
مجدي (يضرب التليفون) : ألو. إبراهيم. أنا يا سيدي. أنا الخطيب مع وقف التنفيذ. أهلًا بك. عندي أخبار مدهشة. لا. في التليفون غير ممكن. غير ممكن طبعًا. تحية؟ تحية ستأتي حالًا. ننتظرك؟ طبعًا، بسرعة، سلام.

(يضع السماعة. يدخل حسن)

حسن : قهوة يا سعادة البك الدكتور، أحسن بُنٍّ.
مجدي : طيب يا عم حسن، لا بأس.

(يضرب جرس الباب، يذهب حسن يفتحه فتدخل تحية.)

حسن : أهلًا بالهانم، أهلًا وسهلًا.
تحية : أهلًا بك يا حسن. والنبي فنجان قهوة.
حسن : حالًا.
تحية : هيه، كلمت إبراهيم يا مجدي؟
مجدي : طبعًا.
تحية : وعرف؟
مجدي : فَضَّلت أنتظر حتى يأتيَ.
تحية : طيب، ننزل نشتري بعض الحاجات ونرجع.
مجدي : أنت عصبية جدًّا، القهوة على النار، والدكتور على نار أخرى وفي غمضة عين سيكون معنا.
تحية : والله يا مجدي أنا محتارة، كيف أشكرك؟
مجدي : رجعنا للكلام القديم. يا سيدتي العزيزة والله أنا الكسبان.
تحية : سنتان الآن وأنت تمثل على الناس؛ على أبي وأمي بل أنت تمثل عليَّ وعلى نفسك.
مجدي : هواية. أنا أحب التمثيل؟
تحية : جائز ولكن أتعس الناس الذي يمثل على نفسه.
مجدي : أنا أولًا لم أعترف أنني أمثل. ولكن افرضي، ما البأس؟ أنا أمثل السعادة، والسعادة غالبًا في أولها تمثيل ثم يتهيأ للإنسان أن التمثيل حقيقة، ثم، يصبح سعيدًا حقيقةً بغير تمثيل.
تحية : أنت يا مسكين لا تمثل السعادة؛ أنت تمثل على نفسك تمثل على قلبك، تدعي أنه تخلُّصٌ من حبي وهو كل يوم يصرخ بأعلى صوته أنك كاذب وأنه لا يزال على حبه القديم ولكنك بتمثيلك تخرسه حتى يخرس، وتدَّعي السعادة …
مجدي (مقاطعًا) : حتى أسعد، وأي ضرر في ذلك؟! إن صراخ قلبي صحيح حقيقة هو يصرح ويصرخ كثيرًا، إلا أنه في هذه الشهور الأخيرة أصيب المسكين بضجة فأصبح صوته الذي كان عاليًا مرتفعًا، ضعيفًا خافتًا، لا أسمعه إلا إذا كنت وحدي، وأسمعه حين أسمعه مستعطفًا بعد أن كان آمرًا، وهكذا أحسست أنني تغلبت عليه.
تحية : يا صديقي الكبير.
مجدي : طبعًا كبير. ولا يمكن لواحد كبير مثلي أن يسمح لقلب، مجرد قلب في حجم قبضة اليد أن يتغلب عليَّ.
تحية : أخاف يا مجدي أن أكون سببت لك من المتاعب أكبر مما كنت تنتظر.
مجدي : أقول الحق. إنني في أول الأمر لاقيت من هذه القبضة المسماة بالقلب متاعب كثيرةً جدًّا، ولكن حين رأيت الدكتور إبراهيم يبني مجده ويقيم مستقبله، وحين أحسست به يشقى ليسعد بك، ويبحث ليُهديَ إليك اسمًا ضخمًا، وحين تخيلت ذلك البيت الذي سيضم الحب، والمجد، وحين تبينت السعادة التي ستكون ضمن محتويات هذا البيت، حين رأيت هذه جميعه وأحسست به وجدت نفسي أبني حياةً، أنشئ مستقبلًا، ليس فقط لك ولإبراهيم، بل لأولادكم وأولاد أولادكم، أنا هذا الإنسان الصغير أنشئ لكم الحاضر والمستقبل، أنا أقيم سعادةً وحبًّا ومجدًا وحياةً داخل الحياة … أنا؟ الحق يا تحية وجدت متاعبي قليلةً جدًّا، ووجدت مكافأتي كبيرةً جدًّا.
تحية (تبكي من الفرح) : صحيح يا مجدي؟ صحيح؟ مكافأتك كبيرة … كبيرة جدًّا، مكافأتك السعادة.
مجدي : شُفتِ. الحمد لله.
تحية : الحمد لله. عرفت طريقك إلى السعادة.
مجدي : ومعظم الناس لا يعرفون كيف يسعدون، ويترقبون الفرص للشقاء، حتى إذا أصبحوا أشقياء قالوا الحظ، القدر.
تحية : ضعاف.
مجدي : ضعاف.
حسن : القهوة، واحد سكر على الريحة، واحد سكر زيادة.

(ويضع فنجانًا أمام كلٍّ من الضيفين، وفي أثناء ذلك يدخل الدكتور إبراهيم مبتهجًا.)

إبراهيم (شديد الابتهاج شديد اللهفة لمعرفة الأخبار) : أهلًا … أهلًا بخطيبتي وخطيب خطيبتي.
تحية : يا أخي تأخرت.
إبراهيم : أسعفوني بالأخبار.
تحية : لا وحياتك. لا بد من العمولة أولًا.
إبراهيم : أنا في عرضك.
تحية : زبون جديد، عمولته أولًا.
إبراهيم : لا، أنا في عرض من يبعد عني الزبائن الآن.
مجدي : حتى ولو كان الزبون هو حمدي بك؟!
إبراهيم (مندهشًا) : حمدي بك العباسي؟!
مجدي : العباسي!
إبراهيم : أبو تحية؟
مجدي : سبحان الله يا أخي! لا، أبو الشوارب؟
إبراهيم : يعني عرف؟
مجدي : لا، عرف هذه، ستكون هنا!
إبراهيم : يعني؟
مجدي : يعني قمنا بواجبنا. فقم أنت بواجبك.
إبراهيم : كيف؟
مجدي : الدكاترة كلهم أجمعوا على أنك أنت المختص في مرض حمدي بك، وكلهم أخبروا حمدي بك بهذا.
إبراهيم : بالذمة صحيح؟!
تحية : كان الدكتور منهم ينتهي من الكشف، ويقف في منتهى الأدب قائلًا: يا حمدي بك أنا آسف جدًّا، الوحيد المختص في مرضك هو الدكتور إبراهيم محسن، سعادتك تعرفه؟ إن كنت لا تعرفه أكتب له، هو شاب طيب جدًّا.
مجدي : فينفجر حمدي بك صائحًا: خلاص لم يبقَ في البلد غير سي الدكتور إبراهيم؟ طيب، لن أراه.
تحية : ويُظهر الدكتور الغريب دهشته ويخرج، ويأتي دكتور آخر. ويتكرر نفس المشهد.
مجدي : إلا أن المسألة زادت والآن هو مناه يشوفك ولكن مخه التركي ما زال يمنعه.
تحية : فاقترحتُ أنا.
مجدي : أنتِ؟
تحية : يا أخي فوت.
مجدي : نهايته. اقترحتْ، اقترحتْ هي يا سيدي أن نرفع لافتتك من على الباب ونأتيَ به ويفاجأ بك داخل العيادة، سنجعله يدفع الأجر مثل كل الزبائن.
إبراهيم (في غاية الفرح) : عبقرية، عبقرية والله. يا حسن، يا حسن اسمي المكتوب على الباب.
حسن : ما له؟
إبراهيم : ينشال، ينشال حالًا.
حسن : ينشال؟!
إبراهيم : ينشال.
حسن (ساخرًا) : وأحط اسمي؟
إبراهيم : لا، ينشال هو ولا تنحط أنت.

(حسن يخرج مندهشًا.)

إبراهيم : هل هناك أوامر أخرى؟
مجدي : لا يا دكتور يا حلَّال المشاكل.
إبراهيم : ماذا تقصد؟
مجدي : أقصد أنك أنت الذي كنت تطلب إلى الدكاترة أن يقولوا هذا.
إبراهيم (ضاحكًا) : تحية كانت تقول لي اسم الدكتور المقترح، وبالصدفة كانوا جميعًا أصدقائي، والحقيقة أيضًا أنني فعلًا المختص، وكلهم يعرفون هذا.
تحية : وطبعًا كنت تشرح لهم الظروف؟
إبراهيم : كلهم يعرفون الآن أنني أهرب من الزبائن.
مجدي : طيب. هيا يا تحية.
تحية : نعم لنحضر لك المريض.
مجدي : إلى اللقاء يا دكتور.
إبراهيم : إلى اللقاء يا دكتور.

(يخرجان ويخلع إبراهيم الجاكتة ويلبس المعطف الأبيض ويدق الجرس ويدخل حسن.)

إبراهيم : الأول.
حسن : حاضر. وأحضر لك قهوةً؟
إبراهيم : عظيم، وأسرع.

(يخرج حسن وبعد قليل يدخل طهستان.)

إبراهيم (في ترحيب شديد) : أهلًا يا سيد طه. والله زمان.
طه (في أدب شديد واحترام) : أكرمك الله يا دكتور.
إبراهيم : شرفت يا سيد طه، أهلًا أهلًا. أين أنت يا رجل؟
طه : في الدنيا يا دكتور.
إبراهيم : وكيف حالها وإياك يا سيد طه؟
طه : الحمد لله. هي من جهة المال ما زالت كما هي، المغفلون كثيرون والحمد لله.
إبراهيم : هيه؟ وهل عندك عرض جديد في هذه المرة؟
طه (في استخذاء) : أنا آسف يا دكتور، أنت انتصرت عليَّ. اسمك يملأ الدنيا والحمد لله.
إبراهيم : الحمد لله. آمنت به وبالقوة التي وهبها للإنسان فنجحت.
طه : الحمد لله يا دكتور.
إبراهيم : المهم هذه الزيارة لسبب، أم تذكرت؟
طه : والله يا دكتور إن أردت الحق فهي لسبب.
إبراهيم : خيرًا؟
طه : مرض.
إبراهيم : كفى الله الشر.
طه : ترددت كثيرًا قبل أن أجيء إليك، ولكن كل الناس، قالوا لا شفاء إلا على يديك.
إبراهيم : ولماذا ترددت؟
طه : لا أريد أن أرى هزيمتي في انتصارك.
إبراهيم : يا أخي وما الضرر؟ خلاف في الرأي، هذا كل ما في الأمر. وأؤكد لك أن أغلب الناس يميلون إلى رأيك أنت.

(يدخل حسن.)

حسن : يا دكتور، يا دكتور الست تحية.
إبراهيم : جاءت؟
حسن : نعم! هي ومعها رجل كبير.
إبراهيم : عظيم، عظيم، (يلتفت إلى طه) يا سيد طه، هل يمكنك أن تنتظرني نصف ساعة …؟
طه : ساعتين.
إبراهيم : ألف شكر.

(يخرج طه.)

إبراهيم (لحسن) : أدخلهم وأسرع، (يخرج حسن) أخيرًا شرَّفت يا حمدي بك، أخيرًا.

(لا يبقى بالمسرح غير مجدي وتحية.)

حمدي (يرى إبراهيمَ فيغضب ويحاول الرجوع) : من؟ أنت؟ مؤامرة إذن؟ مؤامرة؟
تحية : لصحتك يا أبي، لصحتك.
حمدي : لا أريدها يا ستي.
إبراهيم : ما كل هذا الغضب يا عمي؟
حمدي : سبحان الله! ألا تعرف؟
إبراهيم : أعرف ماذا؟ أعرف أنك منعتني من الوظيفة، وخالفت رأيك والحمد لله نجحت ووصلت إلى المكانة التي أعتقد أنك تريدها لي.
حمدي (في ضعف وتردد) : ولكني … ولكني لم أكن أعرف أنني سأراك … ولكن (كأنما تنبه إلى شيء) أين مجدي؟ (ثم يقول لتحية) مجدي خطيبك، أليس هو من جاء بي إلى هنا؟ يتآمر معك؟! لا، لا تقولي إنه كان يتآمر معك.
تحية : ولمَ لا يا أبي؟
حمدي : خطيبك يتآمر معك، ليخطبك شخص آخر! من يصدق؟
تحية : والله لا أظن أن أحدًا يصدق، ولكنها الحقيقة على كل حال.
حمدي : أية حقيقة؟
تحية : الحقيقة أن مجدي كان يحجزني حتى يكون إبراهيم نفسه.
حمدي : فمجدي إذن لا يحبك؟
تحية (وقد بان التأثر على وجهها) : الله أعلم يا أبي، الله أعلم.
حمدي : لعب عيال، شغل صغار.
إبراهيم (ضاحكًا) : لاحظ يا عمي.
حمدي : عمى في عينك.
إبراهيم : أشكرك. ولكن لاحظ يا عمي أن الثورة العصبية مضرة بك.
حمدي : يا أخي ما شأنك؟
إبراهيم : ما شأني؟! إنه شأني أنا وحدي؛ أنا من اليوم طبيبك الخاص.
حمدي : طبيبي! ألماذا؟! لماذا؟!
إبراهيم : الخاص طبعًا، فأنا سأكون معك ليل نهار أراقبك دائمًا، وأمنعك من أكل معين، وأسمح لك بأكل معين.
حمدي : الله! الله! أتظن أنك تتزوجني أنا؟
إبراهيم : لا، ولكني سأكون ابنك.
حمدي : أمرك يا سيدي. تحكم يا سي إبراهيم. أمرك. يعملها الصغار وتصيب الكبار. (يقول وهو خارج) شغل عيال لعب صغار.

(يخرج.)

إبراهيم : مع السلامة يا عمي.
تحية (متخلفة) : تجيء الليلة على العشا.
إبراهيم (فرحًا) : طبعًا.
تحية : لا تتأخر.
إبراهيم : الله! ابتدينا.
تحية : لا تتأخر، سامع.
إبراهيم : حاضر، أمرك.

(تخرج تحية.)

إبراهيم : أشكرك أيها القدر، أشكرك أيها القدر، اسمح لي أن أراك لأشكرك.

(يظهر القدر.)

القدر : ماذا تريد؟
إبراهيم : ألم تعرف؟
القدر : لم أفهم.
إبراهيم : ألم تفهم أنني أريد أن أشكرك؟
القدر : والمناسبة؟!
إبراهيم : هذه السعادة، هذه السعادة كلها.
القدر : فأنت سعيد؟
إبراهيم (وقد تنبه في غمرة فرحه) : أي سعادة تقصد؟
القدر : السعادة الدائمة.
إبراهيم : وهل هناك سعادة دائمة؟ إنه لا سعادة بغير شقاء؛ إن لم أحس بالشقاء لا أحس بالسعادة.
القدر : وأنت ألم تحس بالشقاء؟
إبراهيم : بل أبدعت في الشقاء فنونًا. ولكني أقصد أنني حتى بعد أن نجحت، لا بد أن يغمر نفسي في كثير من الأحيان شعور بالشقاء، ثم ما يلبث وميض بالسعادة أن يشرق، كما أحس الآن، فإذا الدنيا كلها آمال تحققت، وآمال تزحم المستقبل في طريقها إلى التحقيق، والسعادة أمل تحقق، وأمل في سبيله إلى التحقيق.
القدر : عظيم. وماذا تريد مني؟
إبراهيم : أريد أن أشكرك.
القدر : وما شأني أنا؟
إبراهيم : إنه أنت.
القدر : بل أنت.
إبراهيم : ألم تنقذني من هذا الخمول الذي كنت أرزح فيه؟ إنه أنت من يستحق الشكر.
القدر : بل أنت الذي عملت وسعَيت، وإنهم إخوانك من الناس عاونك بعضهم، وحاربك بعضهم، وانتصرت، وإنه الإنسان دائمًا ولا شأن لي بك.
إبراهيم : فأنت على الأقل من نصحني.
القدر : إنها نصيحة قد تسمعها من أي إنسان وما كنت لتعمل بها، ولكن (ساخرًا) رأيتَ القدر ينصح فخُيِّلَ إليك أن مغاليق الغيب قد فُتِحَت وعملت.
إبراهيم : وأنت؟
القدر : أنا من؟
إبراهيم : أنت القدر.
القدر (منفجرًا في ضحكة ساخرة وهو يتقهقر نحو المكان الذي سيخرج منه) : أيها المسكين … أصدقت حقًّا أنني القدر؟
إبراهيم (ذاهلًا) : فمن أنت؟!
القدر : أنا أنت. أنا نفسك. تجسمت لك عند الشدة. إنه أنت أيها المسكين الجبار. إنه أنت الإنسان، الإنسان دائمًا.
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤