الفصل السادس عشر

الخاتمة

أُصيب هيرمينج إصابة قاتلة، وحمله ميزون وتوركيت اللذان نجحا في تحرير نفسَيهما إلى أحد المهاجع، وكان بالفعل في النزع الأخير من الموت، وشغل البحَّاران نفسيهما بنوكيه الذي لم يكن جُرْحه خَطِرًا لحسن الحظ.

إلا أن فاجعةً أكبر نزلت بلويس كورنبوت؛ فوالده لم يَعُد يُظهِر أي إشارات تدل على وجوده على قيد الحياة. هل مات قلقًا على ابنه الذي وقع في قبضة الأعداء؟ هل استسلم في ظل هذه الأحداث العصيبة؟ لم يتمكنوا من معرفة السبب. على أية حال، لقد رحل عن الحياة البحَّارُ العجوز المسكين الذي كسره المرض.

انتاب الحزن واليأس لويس وماري من جرَّاء هذه المصيبة غير المتوقعة، وجثيا بجوار الفِراش ينتحبان أثناء الصلاة على روح جون كورنبوت، وتركهما بينيلون وميزون وتوركيت وحدهما في القمرة، وذهبوا إلى سطح السفينة. حُملت أجساد الدببة الثلاثة إلى مقدمة السفينة، وقرَّر بينيلون الاحتفاظ بفرائها؛ فهي ذات فائدة كبيرة، لكنه لم يفكِّر لحظة في تناول لحومها، إضافة إلى ذلك، فإن عدد الأشخاص اللازم إطعامهم الآن قد انخفض كثيرًا. وسرعان ما انضمت جثة هيرمينج إلى جثث فازلينج وأوبيك وجوكي التي قد أُلقيت في حفرة حفروها على الساحل؛ لقد مات هذا النرويجي أثناء الليل دون توبة أو ندم، وهو يُرغي ويُزبد.

أصلح البحَّارة الثلاثة الخيمة التي أضحت تسمح بسقوط الثلج على سطح السفينة نظرًا لتمزُّقها من عدة مواضع، وازداد انخفاض درجة الحرارة، واستمرت على هذا النحو حتى عودة الشمس التي لم تظهر في الأفق إلا بحلول الثامن من يناير.

دُفن جون كورنبوت على الساحل؛ لقد ترك موطنه بحثًا عن ابنه ومات في هذا المكان الرهيب! وحفر البحَّارة قبره على تبَّة، ووضعوا عليه صليبًا خشبيًّا بسيطًا.

ومنذ ذلك اليوم مرَّ لويس كورنبوت ورفاقه بمِحَنٍ أخرى كثيرة، لكن الليمون الذي وجدوه أعاد إليهم صحتهم.

تمكَّن جيرفيك وجرادلان ونوكيه من النهوض من فراشهم بعد أسبوعين من هذه الأحداث الرهيبة، وتمكَّنوا من ممارسة بعض النشاط.

وسرعان ما أصبح صيد الطرائد أكثر سهولة وأصبحت ثماره أكثر وفرة؛ إذ عادت الطيور المائية بأعداد كبيرة. وكانوا في أغلب الأحيان يصطادون نوعًا من البط البري كان يمثل لهم طعامًا ممتازًا، ولم يأسف الصيادون إلا على خسارة الكلبين اللذين فُقدا في مهمة استطلاع حالة الحقول الجليدية على بُعد خمسة وعشرين ميلًا جهة الجنوب.

اتسم شهر فبراير بالعواصف العنيفة والأمطار الثلجية الغزيرة، وظلت درجة الحرارة المنخفضة عند خمس وعشرين درجة تحت الصفر، لكنهم لم يعانوا مقارنةً بالمحن السابقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن رؤية الشمس ترتفع أكثر وأكثر في الأُفُق أدخلت البهجة في نفوسهم؛ إذ كانت مؤشرًا على نهاية معاناتهم. وأشفقت السماء عليهم؛ إذ حل الدفء في هذه السنة أبكر من المعتاد. وظهرت الغربان في مارس وأخذت تحوم حول السفينة. واصطاد لويس كورنبوت بعض طيور الكُركيِّ التي كانت تهيم في تلك المناطق النائية متجهة صوب الشمال. ورأوا أيضًا أسرابًا من الطيور البرية في الجنوب.

كانت عودة الطيور دليلًا على تراجع البرودة، لكن لم يكن من الآمن الاعتماد على ذلك؛ لأنه مع تغيُّر الرياح أو مع بزوع القمر الجديد أو اكتمال القمر تنخفض الحرارة فجأة، ويضطر البحَّارة إلى اللجوء إلى الاحتياطات البالغة الحذر لحماية أنفسهم منها. لقد استخدموا السور كله، وكل الحواجز، وجزءًا كبيرًا من حجرة قيادة السفينة حطبًا. وقد حان الوقت الآن لانقضاء الشتاء. ولحسن الحظ فإن متوسط درجة الحرارة في مارس لم يتخطَّ ست عشرة درجة تحت الصفر. وشغلت ماري نفسها بإعداد ملابسَ جديدةٍ للفصل المقبل من السنة.

وبعد الاعتدال الربيعي، ظلت الشمس تلوح في الأفق باستمرار، وبدأت أشهر النهار الدائم الثمانية. وسرعان ما بدأ ضوء الشمس المستمر، والحرارة المتزايدة رغم ضعفها النسبي، يؤثِّران في الجليد.

كان من الضروري اتخاذ احتياطات هائلة عند إخراج السفينة من طبقة الجليد الشاهقة المحيطة بها؛ ولذلك دُعمت السفينة بإحكام، وبدا من الأفضل الانتظار حتى تكسُّر الجليد، لكن الكتلة السفلى التي كانت مرتكزة على طبقة من الماء الذي أضحى دافئًا بالفعل انفصلت شيئًا فشيئًا، ونزلت معها السفينة تدريجيًّا. وفي وقت مبكر من أبريل كانت السفينة قد وصلت إلى مستواها الطبيعي.

جاء أبريل بوابل من الأمطار التي انتشرت أمواجًا فوق الحقل الجليدي مما عجَّل بتكسُّره على نحو أكبر. وارتفع الزئبق في الترمومتر مسجلًا عشر درجات تحت الصفر. وخلع بعض الرجال ملابسهم المصنوعة من جلد الفقمة، ولم يَعُد من الضروري إبقاء النار مشتعلة في الموقد ليلًا ونهارًا. أما مخزون الكحول الذي لم ينفد فاقتصر استخدامه على طهي الطعام.

وسرعان ما بدأ الجليد في التكسُّر بسرعة، وأصبح من الرعونة السير على الحقل الجليدي دون عصًا تختبر عُمقَ الممرَّات؛ فالشقوق ذات المسارات المتعرِّجة كانت في كل مكان. وسقط بعض البحَّارة في الماء ولم يمسسهم سوءٌ باستثناء الاستحمام في ماء شديد البرودة.

عادت الفقمات، وكانوا يصطادونها في أغلب الأحيان، وينتفعون بشحومها.

استعاد الطاقم صحته كاملة، واغتنموا الوقت في الصيد والتجهيز للمغادرة. كان لويس كورنبوت يفحص القنوات في أغلب الأوقات، وقرَّر بناءً على شكل الساحل الجنوبي أن يتخذ سبيلًا في ذلك الاتجاه. وكان تكسُّر الثلوج قد بدأ في كل مكان، وبدأ الثلج الطافي يتجه صوب أعالي البِحَار. وفي الخامس والعشرين من أبريل أصبحت السفينة في وضع الاستعداد، وأُخرجت الأشرعة من أغطيتها، ووُجد أنها محفوظة على نحو مثالي، وكان البحَّارة سعداء حقًّا برؤية الأشرعة ترفرف بفعل الرياح مرة أخرى. وتمايلت السفينة في الماء؛ إذ وصلت لخط الطفو الخاص بها، وعلى الرغم من أنها لم تمضِ قُدمًا بعدُ، فقد مكثت بهدوء وسلاسة في حالتها الطبيعية.

في مايو تسارع معدل ذوبان الجليد؛ فذاب الجليد الذي كان يغطي الساحل في كل مكان وكوَّن طينًا كثيفًا جعل الهبوط على الساحل شبه مستحيل، وأطلَّت على استحياء بعض نباتات الخلنج الصغيرة الوردية والبيضاء من فوق الجليد المتبقي، وبدت كما لو كانت تبتسم للحرارة القليلة التي تستقبلها. وأخيرًا ارتفع زئبق الترمومتر فوق الصفر.

على بُعد عشرين ميلًا كانت قِطَع الجليد المنفصلة تمامًا تطفو متجهة نحو المحيط الأطلنطي، وعلى الرغم من أن البحر حول السفينة لم يكن خاليًا تمامًا من الكتل الجليدية، فقد تفتحت قنواتٌ أراد لويس كورنبوت استغلالها.

في الحادي والعشرين من مايو، أبحر لويس أخيرًا من الخليج بعد زيارة وداعٍ لقبر والده. وغمرت الفرحة والحزن معًا قلوب البحَّارة الأوفياء؛ لأن المرء لا يغادر مكانًا دفن فيه صديقه دون أن يشعر بالحسرة. هبَّت الرياح من الشمال وساعدتهم على المغادرة. وكثيرًا ما اعترضت الضفاف الجليدية مسيرةَ السفينة، وكانوا يقطعونها بالمناشير، وكثيرًا ما واجهت السفينة الجبال الجليدية، وكان من الضروري تفجيرها بالبارود. وعلى مدار شهر كان الطريق محفوفًا بالأخطار التي جعلت السفينة على شفا الهلاك في بعض الأحيان، لكن أفراد الطاقم كانوا أشداء ومعتادين على هذه المِحَن الخَطِرة. وقام بينيلون وبيير نوكيه وتوركيت وفيديل ميزون بمهامَّ يقوم بها عشرة من البحَّارة، وكانت ابتسامات ماري تقطر بالعرفان لكلٍّ منهم.

وأخيرًا اجتازت السفينة «جون أردي» الجليدَ الموجود في نطاق جزيرة يان ماير. وفي الخامس والعشرين من يونيو تقريبًا قابلت سفنًا متجهة نحو الشمال لصيد الفقمة والحيتان. وفي ذلك الحين، كانت قد أبحرت من البحر القطبي منذ ما يقرب من شهر.

وفي السادس عشر من أغسطس أصبحت السفينة قبالة دنكيرك، وتلقَّت إشارة من مراقبي السواحل، واحتشد كل السكان عند المرفأ. وسرعان ما ارتمى بحارة السفينة في أحضان أصدقائهم، وصافح الكاهن العجوز لويس كورنبوت وماري بودٍّ أبويٍّ، وكان أول قداس ألقاه في اليوم التالي مخصصًا لطلب الراحة لروح جون كورنبوت، أما الثاني فكان لمباركة الحبيبين اللذين جمعت المحن بينهما منذ وقت طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤