الفصل الأول

بين العِلم والتعالُم

حُجرة اللغة الصينية

التظاهر بالعلم «فن» من أقبح الفنون وأشأمِها فألًا وأنقعِها سُمًّا.

للفيلسوف الأمريكي جون سيرل John Searle  تجربة فكرية thought experiment تُعرف باسم «حجرة اللغة الصينية»، دفع بها لأول مرة على صفحات مجلة العلوم السلوكية وعلوم المخ عام ١٩٨٠م، فحظيتْ بشهرة واسعة، وأثارت وما تزال جدلًا عريضًا في الأوساط الفلسفية والعلمية المَعنية بفلسفة العقل والعلوم المعرفية والذكاء الصناعي. أراد سيرل من تجربته أن يُقوِّض دعوى «الذكاء الصناعي الفائق» strong AI التي تقول بأن الحواسيب الجيدة البرمجة لدَيها فهم أو حالات معرفية، وأن برامجها يُمكن أن تساعدنا في تفسير المعرفة البشرية.

(١) تجارب الفكر Thought Experiments

«التجربة الفكرية» هي تجربةٌ تتمُّ بالكامل في الذهن، وتتعامل مع مواقف لن تُفحَص في المُختبَر، وتفترض أحيانًا مواقف لا يُمكن أن تُفحَص ولا يُمكن أن تحدُث في الطبيعة. وتُعتبَر تجارب الفكر أداةً علمية وفلسفية حقيقية. وإذا كنَّا في التجربة العادية نُحدِث بالفعل مسلسلًا من الأحداث، فنحن في تجربة الفكر مدعوُّون إلى تخيُّل مسلسل. وبوسعنا عندئذٍ أن نتبيَّن أن نتيجةً ما سوف تترتَّب أو أنَّ وصفًا مُعينًا هو وصفٌ ملائم، أو أن عجزنا عن وصف الموقف يحمِل في ذاته نتائج مُعينة.

ومن أشهر تجارب الفكر في التاريخ تجربة «الكهف» لأفلاطون، التي يُلقي فيها ظلالًا من الشكِّ على معرفتِنا الحسِّيَّة بالأشياء والأحداث، وتجربة ديكارت عن «الشيطان الخبيث» malin genie الذي يعبث بعقولنا ويُرينا الباطل حقًّا، وتجربة ابن سينا عن «الإنسان المُعلَّق في الفضاء» لإثبات وجود النفس وجوهريَّتها وبالتالي خلودها، وتجارب فكرٍ شهيرةٌ أخرى لجون لوك وجاليليو وهربرت سبنسر وشرودنجر وأينشتين/بودلسكي/روزن. وقد كانت تجارب الفكر — وما تزال — تُستخدَم على نطاقٍ واسع وبنجاح كبير، وقد لعبت دورًا عظيمًا في تقدُّم الفيزياء. ولعلَّ النظرية النسبية قد قامت بتمامها في الفكر قبل أن تُزكِّيها التجربة ويؤيدها الواقع، فردَّت للفكر مكانته وأعادت «الموضوعية» إلى نِصابها الصحيح.

(٢) تجربة سيرل

تُعدُّ تجربة جون سيرل ردَّ فعلٍ لإحدى نظريات العقل (الذهن) هي نظرية التمثيل the Representational Theory of Mind، وهي النظرية القائلة بأن الذهن يتعامل مع رموز أشبَهَ ما تكون بالتعليمات instructions في برنامج آلة من الآلات، وأن هذه الرموز هي تمثيلات لجوانب من العالم، وبذلك تُصوِّر العقل في صورة آلةٍ سيمانتية (دلالية) عبارة عن جهاز يعمل وفقًا لمبادئ صورية formal ونظمية (تراكيبية) syntactic محْضة ولكن بطريقةٍ تحترِم المعاني ولا تُخالفها. ويعني ذلك على وجه التقريب أن العمليات الذهنية، رغم أنها تَعمى عن معاني الرموز التي تتناولها، فإن تناوُلها لا يفترِق بحالٍ عن تناوُل من امتلك فهمًا لهذه الرموز؛ فأنت حين تُصدِر أمرًا مكتوبًا أو منطوقًا لحاسوبك بأن يطبع وثيقةً ما، فإن الحاسوب لا يقوم بتفسير المُدخَل input في خطوةٍ أولى ثُمَّ يعمل بعد ذلك بناءً على فهمه لذلك التفسير، إنما الوجه الصحيح لما يجري هو أن الآليات التي تُعالِج process الأمر الذي قُمت بإصداره لا تكترِث البتَّة بمعناه، إلا أن الجهاز مُبرمَج بطريقةٍ من شأنها أن تجعل النظم (التركيب) syntax يعكس الدلالة (المعاني) semantics: إنه يعمل بالضبط «كما لو» كان يفهم أمرك.

(٣) حجرة (صندوق) اللغة الصينية Chinese Room (Box)

ولكن هل هذا هو كلُّ ما هنالك في عملية الفهم؟

يقول جون سيرل بإصرار وحسم: كلَّا، ويهيب بك أن تتخيَّل أنك تقعُد في حجرةٍ ضيقة بلا نوافذ، وعند قدميك سلةٌ كبيرة تحتوي على كمٍّ ضخم من الأحرُف الصينية البلاستيكية، وإن تكُن على جهلٍ تام بما تكونه هذه الأشياء؛ فأنت تجهَل الصينية، وكل ما بمقدورك أن تُحدِس به هو أن هذه الوحدات بالسلَّة، ربما تكون زخارف من البلاستيك أُعدَّت لتصميمٍ تجريدي: خربشات. تخيَّل الآن أنك، من خلال شقٍّ بالجِدار تستقبِل كلَّ حينٍ دفعةً من الأحرُف الصينية، ورغم أن هذه الأحرف لا تعني شيئًا بالنسبة لك فأنت مُزوَّد بدليلٍ إرشادي طوع يدَك (مكتوب بلُغتِك الأم) يُرشِدك — إذا ما شهِدْتَ تتابُعًا بعينِه من الخربشات البلاستيكية يأتي من خلال الشق — بأن عليك أن تُقدِّم تتابُعًا مُعيَّنًا آخر من مخزونك بالسلة، مُعتمدًا في تمييز الخربشات على الشكل المحض. وتخيَّل أنك قد تمرَّستَ بذلك وصِرتَ ماهرًا فيه بل صِرْتَ مع الوقت ضليعًا في هذه العملية تحفَظُ عن ظهر قلبٍ دليلًا إرشاديًّا ضخمًا، وتُقدِّم تتابُعًا من الخربشات ردًّا على كلِّ تتابُعٍ يُقدَّم إليك، وتؤدِّي ذلك للتوِّ واللحظة، وبشكلٍ يكاد يكون تلقائيًّا.

تخيَّل الآن أن هناك خارجَ الحجرة مجموعة من العلماء الصينيين، لست تدري بوجودهم على الإطلاق، وأنهم يدفعون إلى غُرفتك بأرتالٍ من الخربشات هي عبارة عن أسئلةٍ باللُّغة الصينية، وأنت تردُّ بأرتالٍ من الخربشات تبلُغ أن تكون إجاباتٍ عن هذه الأسئلة. مثال ذلك أن أحدَهم قدَّم سلسلة من الرموز تعني بالصينية «من هو فيلسوفك المُفضَّل؟» فقدمتَ بدورك، مُسترشدًا بالدليل الضخم، سلسلةً من الرموز تعني باللغة الصينية (وإن كنتَ تجهل ذلك) «فيلسوفي المُفضَّل هو دونالد دافيدسون، وإن أكن أيضًا معجبًا بمارتن بيوبر أيما إعجاب.» إنك بغَير شكٍّ ستُثير دهشةَ المُتحدِّث وستبدو للعلماء الصينيين كما لو كنتَ تعرِف الصينية، ولكنك في الحقيقة لا تفهم الصينية، إنك تسلُك «كما لو كنت» تفهم، إنك تسلُك مثل آل سيمانتية وتملك كلَّ ما يُمكِن للذكاء الصناعي أن يضَعَه فيك عن طريق أحد البرامج الكمبيوترية، ولكنك لا تفقَهُ من الصينية حرفًا، ومَبلَغُك أنك تُقلِّد الناطق بالصينية.

هكذا يُفنِّد سيرل نظرية التمثيل القائمة على فكرة أن العقل آلة سيمانتية وأن العمليات الذهنية عبارة عن تناوُلٍ صُوري لرموزٍ غير مُفسَّرة. غير أن التجربة تُثبِت أن العقل أكثرَ من ذلك. إنَّ الإنسان الآلي أو جهاز الحاسوب يخدعُنا بسلوكٍ مُبرمَج، ويُوهِمنا بأنه ذكي وبأنَّ لدَيه عقلًا، بينما هو في الحقيقة دون ذلك، وقصاراه أنه يتظاهر بالذكاء ويُقلِّد الفهم.

(٤) نقد تجربة سيرل

تعرَّضَت تجربة سيرل لانتقاداتٍ عنيفة من جانب أنصار نظرية التمثيل وغيرهم، أهمُّها أن سيرل قد ارتكب «مُصادرةً على المطلوب» begging the question حين افترض أنه لا يُوجَد في حجرة اللغة الصينية أي فهْم للصينية، ويعود ذلك إلى أن التجربة تدعونا إلى التركيز على مُكوِّنٍ واحد من مكوِّنات النظام لا على النظام ككل، وهذا المكون الواحد هو «أنت»، جالسًا على كُرسيك تفرز الأحرف التي تملأ السلة وتجهل الصينية جهلًا تامًّا. ولكن حقيقة الأمر أنه بينما تجهل أنت الصينية فإن النَّسَق الكلي، الذي تُعدُّ أنت جزءًا منه، يفهم الصينية! هذا النسق الذي يشملك كما يشمل السلَّة والأحرُف والدليل الإرشادي.
وفي صياغةٍ أحدث لحجَّة حجرة اللغة الصينية يقول سيرل في مقالٍ له مُلحًّا على المغزى الرئيسي لتجربته: «إن غاية القصَّة هي أن تُذكِّرنا بحقيقةٍ تصوُّرية ما نفتأ نعرِفها على الدَّوام، وهي أنَّ هناك فرقًا بين تناوُل العناصر التراكيبية للُّغات وبين الفهم الفعلي للُغة على مستوى سيمانتي (دلالي). إن الشيء الذي يفتقِده الذكاء الصناعي في تقليده للسلوك المعرفي هو ذلك التمييز بين النظم (التركيب) والمعاني (الدلالة)؛ فحين نفهم لغةً ما فهمًا حقيقيًّا فنحن نمتلك إذ ذاك شيئًا ما يتجاوَزُ المستوى الصُّوري أو النُّظمي؛ نمتلك الدلالة semantics. ونحن لا نقوم بمجرَّد رصِّ رموز صورية غير مُفسَّرة، بل نعرف فعلًا ما تعنيه.»

(٥) الجانب الصائب من تجربة سيرل

حين عرضتُ بغير قليلٍ من التفصيل لتجربة سيرل، لم يكن يعنيني موقعها من فلسفة العقل، بل مُتضمَّناتها في صميم حياتنا. وحين قلتُ إنها استُهدِفتْ للنقد لم يكن يعنيني وجهُها المغلوط، بل وجهها الصائب. إن في تجرية سيرل جانبًا يبقى صائبًا على الدَّوام وشديدَ الأهمية حتى في نظر مُنتقديه. ونحن نجتزئ هنا بهذا الجانب الذي لا يُمكن أن يجحَدَه أحدٌ سواء كان مُتفِّقًا مع سيرل في مُجمَل مذهبه أو لم يكن. إنه صائب في توكيده على أن تجربته تُظهِرنا على أن شيئًا ما أو شخصًا ما يُمكن أن يبدو ذكيًّا وهو غير ذكي، ويبدو فاهمًا وهو لا يفهم، ويبدو مُحاورًا وهو لا يُحاور. ونحن في حياتنا الخاصة كثيرًا ما نتظاهر بسماتٍ أو قدراتٍ ذهنية لا نمتلِكها في واقع الأمر، ونسلُك «كما لو» كنَّا نعرِف ونحن لا نعرف؛ فالسلوك الظاهر قد يُخفي الجهل ويُواري الأميَّة الصميمة وراء قناعٍ صفيق.

ويبدو أن هذا الداء قد استفحلَ عندنا حتى أصبح التظاهُر بالعِلم فنًّا قائمًا بذاته، وبرنامجًا حاسوبيًّا يُعلِّمك من غير مُعلِّمٍ كيف تتشدَّق وتتعالَم وتختلِب الجهل بظاهر المعرفة. ونحن نُصادِف ذلك في صورته الكاريكاتورية لدى زُمرةٍ من كُتَّابنا الأُميِّين، أي الذين لا يقرءون، غير أنهم يكتُبون! فكيف كان ذلك؟ … بالحجرة الصينية! إن كُتَّابنا الأميِّين لا يكتبون حقًّا بل يتقمَّصون شخصية الكُتَّاب الحقيقيين ويَلُوكون رطانتَهم وأساليبهم، ويُقلِّدون ما يتصوَّرون أنه حال الكتابة وما تُشبِهُ أن تكون، ولا يتورَّعون عن نقل فقراتٍ برمَّتها من بطون الكتُب لا صِلة لها بموضوعهم فيتمحَّلون لها الصِّلة، ويزجُّون بها زجًّا ويُقحِمونها إقحامًا؛ ليُموِّهوا بها على هزالهم وفقْر مادَّتهم، ويتعمَّدون إقحام أسماء مذاهب «كبيرة» وأسماء أعلام جهيرة حتى يُوهِموا القارئ أنهم يُلِمُّون بهذه المذاهب ويعرفون هؤلاء الأعلام. ودأبهم في ذلك أن يمَسُّوا الأفكار الكُبرى مسًّا خارجيًّا لا يتجاوَز القُشور، وألَّا يُوغِلوا في العُمق شبرًا واحدًا حتى لا يُفتَضَح أمرهم وينكشِف جهلهم بما يتحدَّثون عنه، وأن يتشبَّثوا دائمًا بعلامات التنصيص والفقرات المُقتبسة يَرتُقونها معًا كمَرْقَعة الدراويش، فلا يفرُغ القارئ الأخضر من قراءتهم إلَّا وقد وقَرَ في ظنِّه أن هذا الدَّعِيَّ أو ذاك لا بدَّ أن يكون حبرًا باقِعةً لا همَّ له إلا العِلم ولا شُغل له إلا التحصيل. ولا يدري أن صاحِبَنا الكاتب جَهولٌ أميٌّ لا يقرأ ولا يعرِف، ولكنها بركة الحجرة الصينية.

(٦) علم اللغة، الحاسوب، البرامج

ينقسِم علم اللغة العام Linguistics إلى ثلاثة أقسام كُبرى: عِلم نُظم الجملة (التراكيبية) Syntactics ويدرُس علاقات العلامات اللُّغوية ببعضها البعض، وعِلم دلالة الألفاظ (المعاني) Semantics ويدرُس علاقة العلامات اللغوية بالواقِع الخارج عن اللغة extralinguistic، والتداولية Pragmatics وتدرُس علاقة العلامات اللغوية بمُستخدِميها من بني الإنسان.
إن علم النظم هو الذي يعنينا في هذا المقام. وقد قُلنا إنه يضطلع بدراسة علاقة العلامات اللغوية (الكلمات، التعبيرات، الجُمل) بعضها ببعض، فلكل لغة تراكيبها الخاصة؛ أي لكلِّ لُغة مجموعة من قواعد التضامِّ combination rules التي تُحدِّد كيف تجتمِع كلمات من مُختلِف الفصائل النحوية وتتجاوَر معًا، ويشمل عِلم النُّظم أيضًا كلَّ تلك الملامِح الصُّورية لِلُغةٍ ما، والتي يُمكن أن تخضع للدراسة بمعزلٍ عن المعنى. ويُعدُّ التوكيد على النُّظم شيئًا وثيق الصِّلة بتلك البرامج البحثية — سواء في علم المنطق أو اللغة أو الحاسوب — التي تُحاول أن تكتشِف مقدار الحساب computation (أو «التفكير» بتعبير اللغة العادية) الذي يُمكن أن يُجرى بدون الرجوع إلى المعنى. فإذا أمكنَنا صياغة قواعد لتناوُل الرموز قائمة على شكل الرمز أو أية خصائص أخرى، فمن المُمكن أن تأخُذ هذه القواعد صورة الحسابات الرمزية algorithms أي قواعد يؤدِّي اتباعُها إلى نتيجةٍ صحيحة فريدة لا ثانيَ لها، أو مجموعة من التعليمات المُتدرِّجة، إذا ما اتبعت خطوةً خطوة على الوجه الصحيح أدَّت دائمًا وأبدًا إلى إجابة مُحدَّدة أو حلٍّ دقيق. إن أنظمة الحساب الرمزي، بعبارةٍ أخرى، هي مناهج مضمونة لا تُخفِق بأية حال (foolproof). فالعمليات الحسابية الأساسية من جمعٍ وطرح وضرب وقسمة هي من هذا الصنف. وحيث إن تطبيق الحساب الرمزي لا يتطلَّب إبداعًا أو حكمًا، فليس من المُستغرَب أن تكون هذه المناهج هي بعَينها التي يُمكن أن يُبرمَج الحاسوب لكي يُؤدِّيها. ومن الواضح أن آلة الجيب الحاسبة تفعل الكثير من ذلك في نِطاقٍ من العمليات الحسابية؛ إن شكل الإشارات المُدخلة هو الذي يُحدِّد شكلَ الإشارات المُخرَجة دون أي ذِكر لما تعنيه الإشارات المدخلة (أي بمعزِلٍ عن علم دلالة الألفاظ).
هذا على وجه التقريب هو ما يجري بالحجرة الصينية … صيغة من البرامج الحاسوبية. فالبرنامج الحاسُوبي هو مجموعة من القواعد (أو التعليمات أو الأحكام) يُغذَّى بها الكمبيوتر بغرض تأدية عملية مُعينة. تتَّصِف هذه القواعد بأنها صورية محض لا حُكم لها إلا على العلاقات القائمة بين عناصرها الداخلية syntax ولا تكترِث بعلاقة هذه العناصر بالعالم الكائن خارج البرنامج semantics. وبوُسعنا أن نقول، بمُصطلحٍ فلسفي تقني، إن برنامج الحاسوب يتَّسِم بنوعٍ خاص من «الأناوحدية» solipsism؛ فهو مُنغلِق على حالِه ساقط في بئر ذاته لا يعنيه أي شيء خارج عنها، بل لا يعرِف ولا يدري بهذا الشيء.

لعلَّ شيئًا قريبًا من هذا هو ما كان يعيق الكثير من برامج إعادة التأهيل المعرفي لمرضى الفِصام، والتي كانت تقوم على تدريب المريض بشكلٍ فرديٍّ على أداء مهمَّةٍ معرفية مُحددة؛ فكثيرًا ما كان الباحثون يُصابون بالإحباط إذ يكتشفون أنَّ تَمرُّس المريض بأداء مهمَّةٍ معرفية مُعينة من خلال تدريبٍ حصري مُحدَّد لا تضمن لهذه المهارة أن تَعمَّ لتشمل مهامَّ أخرى شبيهة، فانتهى بعض الباحثين إلى أن أفضل عَون يُمكن تقديمه لتحسين الأداء المعرفي للمريض هو تطوير برامج تدريب من الواقع الحقيقي أو شبيهة بالواقع الحقيقي.

(٧) تعليمنا والحجرة الصينية

منذ عقودٍ خلت تُفرِّخ مدارسنا وجامعاتنا ملايين من الخريجين، من بينهم مئات بل ألوف تُنبئ درجاتهم بنبوغٍ استثنائي (مائة بالمائة، تقلُّ قليلًا أو تزيد قليلًا!)

ألوف/مائة بالمائة؛ إنها أرقام غريبة مُريبة أوسع ممَّا يَشي به الحال وأسخى ممَّا عهِدْناه من شِيَم الزمان. في الأمر لا بدَّ خُدعة، وربما كَيد واحتِيال.

أما أنَّ في الأمر خُدعة فهو أظهَرُ من أن نقِف عنده. ويبقى السؤال الجادُّ الحقيقي هو: كيف كان ذلك؟ وأحسبُ أن الجوابَ الآن قد أسفرَ وأبلَجَ وكاد يفقأ عينَ أوديب: «الحجرة الصينية»!

منذ عقودٍ خلت، ولأسبابٍ يضيق المُقام ببحثها، لم يكن الطالبُ عندنا يتعلَّم بل يُمتحَن! اختُزِل التعليم إلى امتحان، وأي امتحان؟ امتحان مُبسَّط مُباشِر يقوم على أسئلةٍ مُسبَقة عِيانية تَهيب بالتفكيرالتَّقارُبي convergent غير الإبداعي وتتطلَّب الأجوبة الحاضِرة الأُحادية. امتحان يُربِّي الذهن التجميعي النملي، ويُعزِّز الفِكر الخطِّي العقيم، ويغرِس الخُلق الاتِّباعي الذليل. وتحوَّل المرفق التعليمي بأسرِه إلى غرفة صينية كبيرة، يُبرمَج فيها عقل النشء على تقديم خربشات ردًّا على خربشات، وفقًا لمبادئ صورية نُظمية، واتِّباعًا لدليلٍ إرشادي من المُلخَّصات والمُبسَّطات والدروس الخصوصية ونماذج الأسئلة والأجوبة … إلخ. وكأنه تواطُؤٌ عام على تنصيب الجهل، وعلى وأد الإبداع وطمْس المُبدِعين وهم بعدُ براعِم، وكأنَّ العميد (د. طه حسين) كان يصرُخ في وادٍ عندما كتب يقول في «مُستقبل الثقافة في مصر» عام ١٩٣٧م مُحذِّرًا من هذا المآل الوبيل: «الأصل في الامتحان أنه وسيلةٌ لا غاية، وأنه مِقياس تعتمِد عليه الدولة لتُجيز للشابِّ أن ينتقِل من طَور إلى طَور من أطوار التعليم، وهو مُستعدٌّ لهذا الانتِقال استعدادًا صحيحًا أو مُقاربًا. هذا هو الأصل، ولكن أخلاقنا التعليمية جرَتْ على ما يُناقِض هذا أشدَّ المُناقَضة، ففهِمْنا الامتحان على أنه غايةٌ لا وسيلة، وأجرَيْنا أمور التعليم كلَّها على هذا الفَهْم الخاطئ السخيف، وأذعْنا ذلك في نفوس الصِّبية والشباب، وفي نفوس الأُسَر، حتى أصبح ذلك جُزءًا من عقليَّتِنا، وأصلًا من أصُول تصوُّرنا للأشياء وحُكمنا عليها، فالأسرة حين تُرسِل ابنها إلى المدرسة تُفكِّر في تعليمه من غير شك، ولكنها لا تفهَم هذا التعليم إلَّا مقرونًا بالامتحان الذي يدلُّ على انتِفاع الصبيِّ به ونجاحه فيه، وهي من أجل ذلك تعيش مُعلَّقة بآخِر العام، وبهذه الورقة التي ستأتيها من المدرسة أو من الوزارة لتُنبِئها بأنَّ الصبيَّ أو الفتى قد جاز الامتحان فنجح أو أخفق فيه.

ولا يكاد الصبيُّ يبلُغ المدرسة ويستقرُّ أيامًا حتى يشعُرَ بأنَّ أمامه غايةً يجِبُ أن يبلغها، وهي أن يؤدي الامتحان وينجح فيه.

وإذن فالصبيُّ منذ يدخل المدرسة مُوجَّه إلى الامتحان أكثرَ ممَّا هو مُوجَّه إلى العلم، مُهيَّأ للامتحان أكثرَ مِمَّا هو مُهيَّأ للحياة … وإذن فقد استحالتِ المدرسة إلى مصنع بغيض يُهيِّئ التلاميذ للامتحان ليس غير … وأظنُّك تُوافِقني على أنَّ هذا كلَّه شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، وأظنُّك تُوافِقني أيضًا على أن تصوُّر الامتحان على هذا النحو قلْبٌ للأوضاع، وجعل التعليم وسيلةً بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غايةً بعد أن كان وسيلة. وحسبُك بهذا فسادًا للتعليم، ولكن هذا لا يُفسِد التعليم وحدَه كما قلت، بل يُفسِد العقل والخُلق أيضًا. وما رأيك في الصبيِّ الذي ينشأ على اعتِبار الوسائل غاياتٍ والغاياتِ وسائل، فيفهَم الأشياء فهمًا مَقلوبًا ويحكُم على الأمور حُكمًا معكوسًا؟! ومن هنا لا ينبغي أن نُنكِر ما تراه من عناية شبابنا بالتَّافِه من الأمر وإكبارهم للسَّخيف وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور؛ لأنَّ هؤلاء الشباب ينشئون على العناية بالامتحان وهو تافِه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العِلم وهو لبُّ الحياة وخُلاصتها.

وليس الغشُّ هو الذي يُقترَف ويُضبَط أثناء الامتحان فحسب، بل هناك غشٌّ آخر لعلَّه أشدُّ من هذا خطرًا؛ غشٌّ خفيٌّ نُحِسُّه ولا نكاد ندلُّ عليه، ولعلَّ أخلاقَنا الدِّراسية أن تُبيحَه أحيانًا، غش يشترِك فيه المُعلِّمون والمُتعلِّمون حين يُهيِّئ المعلمون تلاميذهم تهيئةً خاصة لأداء الامتحان، وحين يقِفون بهم فيطيلون الوقوف عند هذا الجُزء أو ذاك من أجزاء البرنامج، وحين يُعيدون معهم المُقرَّر فيُلحُّون عليهم في استِذكار هذه المسألة أو تلك، وحين ينشرون لهم الكُتُب التي تشتَمِل على نماذج للأسئلة التي يُمكِن أن تعرِض في الامتحان.»

انتهى كلام العميد وأظنُّك الآن قد وقفتَ على السرِّ الذي يجعلك تُخاطب طالبًا من نوابغ هذا الزمان فيفجَعُك بذهنٍ سُوقيٍّ أمي، وعلى السرِّ الذي كان يجعل كِبار الأساتذة من جيل العمالقة يُصابون بخيبة أملٍ في طلَّابهم النوابغ بعدَ أن يتخرَّجوا ويتبوَّءوا مناصِبهم بهيئة التدريس؛ إذ يتكشَّف أن أكثرهم خلوٌ من أيِّ قُدرة بحثيَّة وعاطلٌ من أيةِ ملَكَةٍ إبداعية أصيلة؛ ذلك أن طالبهم النابغ كان يدرُس ويُمتحَن على طريقة الحجرة الصينية: تَوثين للامتحان، وبرمجة آلية، وتمرُّس بتقديم إجاباتٍ جاهزة عن أسئلةٍ جاهزة، وتعويل على الذاكرة المحض. فلمَّا أن خرج من الحجرة الصينية إلى العالم الحقيقيَّ تاركًا بالحجرة سلَّتَه ودليله الإرشادي تكشَّف أنه، ببساطة، لا يعرف شيئًا.

(٨) الألفية الثالثة

الألفان خيال منطقي، وحدٌّ اعتِسافي يفرِضه النظام العددي العشري.

وليس عام ألفين سوى امتداد طبيعي لِما قبله وتحصيل حاصل.

غير أن الخيال المنطقي الحسابي هو حقيقة نفسية أصيلة، وبعض النقاط الحسابية هي أيضًا نقاط توقُّفٍ إجباري لمُحاسبة النفس وتأمُّل الذات، ومواعيد للتحوُّل والتغيير مضروبة بين الطباع الراسِخة المُتحجِّرة والزمن المُتدفِّق السيَّال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤