يُعَد مفهوم «اللغة» — بوصفها مدخلًا لتكوين نسق شامل — ومفهوم «التاريخ» — بوصفه
إطارًا
للفعل الإنساني — من أهم المفاهيم التي زوَّدنا بها هذا القرنُ والقرن الماضي كذلك. ذلك
أنَّ
المفهومَين قد كشفَا عن خصوبة فائقة اضطرَّت معها الأبحاثُ الفلسفية أن تنهل — ولو بقدر
— من
مَعِينهما الفيَّاض، حتى إنَّ واحدًا
١ من أحدث التيارات الفلسفية قد انتهَت صياغتُه بدءًا من مجموعة أبحاث في ميدان
اللغة. وذلك لأن اللغة — بوصفها فعلًا ارتبط أبدًا بنشاط الإنسان — تُحيل — ككلِّ فعل
— إلى ما
يتجاوزها ويتعدَّاها؛ فإنها تُظهر — شأن كلِّ فعل إنساني — من خلال نظامها والعلاقات
القائمة
بين عناصرها — والتي تخضع للتطور المتلاحق — نسقًا وبناءً شاملًا للوجود الإنساني. ولذا،
فإنها
— اللغة — ليست أبدًا نظامًا إشاريًّا مغلقًا لا يُحيل إلَّا إلى ذاته، كما يراها الفيلسوف
التحليلي،
٢ بل نظام مفتوح يُظهر نسقًا كليًّا قارًّا خلفه. وعلى ذلك، «فإن الدراسة اللغوية
تضعُنا في مواجهة وجود ديالكتيكي وشامل».
٣ وإذ تملك اللغةُ تلك القدرةَ على الإحالة إلى وجودٍ شاملٍ يتعدَّاها، فإن النظرة
العلمية لن تقنع — من اللغة — بمجرَّد المعنى الذي يُشير إليه اللفظُ اللغوي، والذي يتبدَّى
للذهن على نحوٍ مباشر، بل ينبغي — خلافًا لذلك — «أن نلتمسَ تحت الكلمات خطابًا أكثر
جوهرية»،
٤ أو — بعبارة الغزالي — «نلتمس الحقائق من الألفاظ».
٥ واللافت أنَّ هذا «الوجود الديالكتيكي الشامل»، أو هذا «الخطاب الجوهري» الذي
تضعُنا اللغةُ في مواجهته، لا يمكن أبدًا الالتقاءُ به بعيدًا عن اللغة؛ إذ إنه لا يظهر
البتَّة
بعيدًا عنها، بل لعلَّه بالأحرى لا يتكشَّف في نموِّه وتطوره إلا من خلال علاقته الجدلية
باللغة
ذاتها. وبالمثل يتكشَّف نموُّ النظام اللغوي ذاته وتطوُّره من خلال علاقته بهذا النسق
الشامل
القارِّ خلفه أبدًا. وهكذا، فإنَّ اللغة تُنتج المعنى، بالقدر ذاته الذي به يُنتج المعنى
اللغةَ. وذلك يكشف عن قصور نظرة «المدرسة العقلية»
٦ إلى معنى اللفظ اللغوي، وكأنه شيءٌ مخزون في الذهن أو العقل، فإن المعنى لا يقوم في
العقل أو الذهن فقط، ولكن في تلك المنطقة التي يلتقي فيها العقلُ بالبناء اللغوي ذاته.
ولذا،
فإنه من غير المجدي النظر إلى المعنى وكأنه شيءٌ مخزون في الذهن، يتم معه اللقاء خارج
البناء
اللغوي؛ ذلك أن اللفظ أو العلامة اللغوية هي عبارة عن اتحاد — بالمعنى الصوفي — ﻟ «صورة
صوتية»،
ألا وهي «الدال» (
Le Signifiant) ﺑ «تمثُّل ذهني» أو «تصور»،
ألا وهو «المدلول» (
Signifie).
٧ ومن هنا رأى «ميرلوبونتي» «أن اللغةَ كفعلٍ قصدي، ليست علامةً أو رمزًا لأحد
المعاني، بل هي تجسيدٌ وحلول للمعنى، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يهجر البناءَ اللغوي
ويعثر على
المعنى في مكان آخر، وذلك يؤدي بالباحث إلى أن يركِّز انتباهه على المعنى المحايث أو
الباطن في
البناء اللغوي».
٨
وقد بدَت هذه التوطئةُ في اللغويات الفلسفية ذاتَ أثرٍ بالغ في إسلاس قياد الباحث
من البدء؛
وأعني أنها وُجِّهت — من الوهلة الأولى — إلى رصد «الجوهري والضروري» القارِّ خلفَ كلِّ
«مباشر». ومن هنا لم يقنع الباحث، مثلًا، بالقول بأنَّ معنى لفظ «النبي» هو «المنبئ»،
من نبأ أو
نبا، أو بالقول بأنَّ معنى لفظ «الرسول» هو «المُرسَل» من رسل؛ ذلك المعنى المعجمي الفقير
الذي
يتبدَّى أمام الذهن مباشرة، بل آثرَ تركيزَ الانتباه على «المعنى المحايث، أو الباطن
في البناء
اللغوي». ذلك المعنى الذي لا تقوله الكلماتُ على نحوٍ مباشر، ولكن لا يمكن الوصول إليه
بعيدًا
عنها. فقد ظهر أنَّ «اللفظ» يُحيل إلى «الفكر» إلى حدٍّ يمكن معه — من خلال التحليلات
اللغوية —
فهمُ طبيعة الأنساق النظرية المختلفة بصدد النبوة، وتفسير اختلافها، بل والكشف أيضًا
عن طبيعة
ودور النبوة ذاتها.
بيد أن ثمة ملاحظةً جوهرية أخرى ينبغي ألَّا تفوتَ، وهي أنه إذا كانت الدراسة اللغوية
تضع
المرءَ في مواجهة النسق أو الوجود الشامل الجوهري، فإن المنحدر الخطر يتمثَّل في التوقُّف
عند
مجردِ إدراك هذا النسق الشامل والانحصار داخله، بحيث ينتهي الأمرُ إلى صورية كاملة تؤدي
إلى
النظر إلى هذا النسق أو «الهيكل البنياني على أنه يمثِّل «شيئًا»، ولا يمثِّل تكوينًا
معينًا
خاضعًا لفعل ما».
٩ وهكذا يئول مفهوم النسق — وهو الخطوة التي لا غنى عنها لالتماس العلم وبنائه — إلى
ضربٍ من ضروب الميتافيزيقا المعادية للعلم، ويبدو أن ذلك تناقضٌ لن يفكَّه غيرُ الالتجاء
إلى
مفهوم «التاريخ» الذي يكشف الآليات والشروط الإنسانية التي تتحكَّم في عملية تكوُّن النسق.
وإذن، فإن «التاريخ» هو عامل الانتقال من صورية النسق إلى إظهار الفاعلية الإنسانية التي
تَحْكمه. وهكذا تُصنع الدراسة اللغوية في مواجهة «نسق شامل» يطرح التاريخ «تحليلًا تكوينيًّا»
له، فينتقل به من «تجريد» الميتافيزيقا إلى «إنسانية» العلم. ومن هنا، فقط، وجب الانتقال
من
بحثِ ما تَعْنيه النبوة إلى بحث تاريخها؛ أو الانتقال في هذا الباب من «الفصل الأول»
— حيث معنى
النبوة — إلى «الفصل الثاني» — حيث تاريخها.