تمهيد

إذا كان البناء الإنساني العام للنبوة قد تكشَّف عن أصلها «العياني»، فإنه يبدو وكأنَّ بناءها العقائدي الخاص لا يتكشف إلا عن مظهرها «المجرد». فبينما النبوة — في الأول — «حوار» بين «الإلهي» و«الإنساني»، فإنها تبدو — في الثاني — خطابًا «إلهيًّا» غاب شرطه الإنساني في الأغلب. ويتفق ذلك بالطبع، مع الطبيعة الخاصة لأي علم عقائد — ثيولوجيا — Theology. إذ تبدو المهمة الأصيلة لأي علم عقائد ماثلة في «اختزال» العياني، و«رؤية» العلم بأسره من خلال المجرد، أي الله، فقط. وهكذا يبدو العلم، في جوهره، تضحية «بالعياني» في سبيل «المجرد»، ومن هنا، فإنه يتكشف فيما يتعلق بالنبوة عن «المظهر المجرد»، دون «الأصل العياني».

ومن حسن الحظ أن ذلك كله هو ما يتبدَّى للوهلة الأولى فقط؛ ذلك أن نظرة أعمق تكشف عن أن «العلم» لا ينفصل — حتى في أقصى درجات تجريده — عن أصوله العينية مطلقًا، وأن أكثر عناصر العلم تجريدًا وصورية، ترتبط بمقاصد متعينة يتعذر فهمها دونها. فإنه يتعذر — مثلًا — عزل التصور الأشعري لله أو غيره، عن مجمل النشاط الاجتماعي والتاريخي آنذاك. وإذن فإن العقائدي أو المجرد لا يقوم بعيدًا عن الإنساني أو العياني. وإن نسيان «العياني» أو اختزاله — في العلم — يرتبط، في التحليل الأخير بطبيعة العلم الخاصة — وهي طبيعة تصورية مجردة — من جهة، وبطبيعة التحولات التاريخية من جهة أخرى. وعلى هذا، فإنه يمكن رصد كيفية تحول «العياني» إلى «بنية مجردة»، بضرب من التحليل التاريخي والمعرفي في آنٍ معًا. وذلك هو مقصد هذا الباب.

وقد اختص الفصل الأول — نشأة البحث الاعتقادي في النبوة — بالتحليل التاريخي؛ أعني رصد كيفية تحول «العياني» إلى «المجرد» تاريخيًّا. إن نقطة البدء — من هذا التحليل — هي «الوقائع»، وكيفية تحولها — بسبب من التاريخ، لا رغمًا عنه — إلى أبنية نظرية مجردة. وقد أظهر التحليل من البدء، أن التنظير في العلم بأسره، وليس النبوة فقط، قد ابتدأ من «واقعة تاريخية» تتمثل في الخلاف حول الحكم السياسي أو الإمامة. ثم عن هذا الخلاف تفرعت كافة مسائل العلم — حتى أكثرها تجريدًا — واستوت. وبالرغم من أن هذا الاستواء والتجريد قد حدث بفضل التاريخ، لا رغمًا عنه، إلا أنه قد تطور — فيما بعد — استنادًا إلى آليات داخلية خاصة.

وأما التحليل المعرفي Cognitive، فقد اختصَّ به الفصلان الثاني والثالث، من هذا الباب. ويمضي هذا النوع من التحليل في درب معاكس للأول. ذلك أن نقطة البدء فيه هي «الأفكار» وكيفية ردِّها إلى «الوقائع»، لا ردًّا «آليًّا» تكون فيه الأفكار مجرَّد مرآة عاكسة للوقائع، بل ردًّا «جدليًّا» تحتفظ معه الأفكار بحياتها الباطنية وإمكانيات تطورها الخاص. ويهدف هذا التحليل إلى رصد «الأفكار»، لا في تناثرِها وتشتُّتِها الذي يتعارض — لا شك — مع وحدة الواقع الذي ترتدُّ إليه، بل في حالة من التآلف الباطني والتلاحم الذي تكون معه كلية متجانسة من التصورات، تتكشف — بضرب آخر من التحليل — عن بنية مجردة أو مبدأ شارح ينتظم الأفكار جميعًا في نسق واحد، ويتولَّى تفسير كل العمليات الحادثة داخل النسق. وقد اختص الفصل الثاني برصد بنية النسق الأشعري، وتفسيرها بالواقع، بينما اختصَّ الفصل الثالث — من هذا الباب — برصد بنية النسق المعتزلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤