خاتمة

«إن منهجًا ما، وإن كان جديدًا، يمكن أن يكون بلا طائل، إن لم يُنتج شيئًا جديدًا.»

لوي ألتوسير١

الحق أن «الجِدَّة» في الفلسفة لا تعني ألبتة خلقًا من عدم، بل — فقط — وضعًا جديدًا للقضايا القديمة. إذ تتسم قضايا الفلسفة — ورغم قِدَم وضعها — بضربٍ من ديمومة الحضور. ومن الخطأ أن يلتمس المرء من ذلك دليلًا على الطابع المطلق لتلك القضايا؛ إذ إنه — بالأحرى — دليلٌ على طابعها التاريخي المؤدي إلى أن الفلسفة وليدة عصرها، لا من حيث إنها تمثِّل «خلقًا» لمشكلات وقضايا جديدة، بل من حيث إنها تمثِّل «وضعًا» جديدًا لذات المشكلات والقضايا القديمة. ومن هنا، فإن قضايا الفلسفة تتعصَّى على أيَّ حلٍّ نهائي، وتبقى — فقط — عُرضةً لضروب من الحل التاريخي المتعدد الأوجه. وهنا فقط تكون «الجِدَّة» في الفلسفة. إنها تقوم، إذن، في إعادة طرح القضايا القديمة طرحًا جديدًا يستجيب للاهتمامات المستجدة، أو أنها تتمثل في بلورة «قراءة» جديدة لذات الموضوعات والقضايا القديمة. وعلى هذا التصور «للجِدَّة»، فإن المنهج المتداول في هذا البحث لن يكون بلا طائل. إذ الحق أنه ساهم مساهمةً فعالة في إعادةِ طرحِ بعضٍ من القضايا القديمة طرحًا جديدًا يستجيب لمقتضيات الوضع الراهن، وذلك عبرَ ضربٍ من «القراءة» الجديدة لتلك القضايا القديمة.

واللافت أن ثمة ملمحًا جوهريًّا تنطوي عليه هذه القراءة الجديدة. فعلى النقيض مما صار إليه «ألتوسير» في قراءته الجديدة للماركسية، بغيةَ إعادة بنائها في مواجهة مَن تصوَّرهم مبتذليها، وذلك بدءًا من رصد خطابها «الإبستمولوجي» بمعزل عن نطاقه «الأيديولوجي» من خلال ما يُسمى «بالقطيعة المعرفية»٢ — وقد كان ذلك بقصد إحراز المزيد من العلمية — فإن القراءة الجديدة في هذا البحث قصدَت إلى محاولة إعادة بناء العلم — علم الكلام — من خلال إحدى جزئياته — النبوة — وفي مواجهة مبتذليه أيضًا، ولكن بدءًا من رصد خطابه «الإبستمولوجي» خلال تلاحمه البنيوي مع مضمونه «الأيديولوجي»، وذلك — أيضًا — بقصد إحراز المزيد من العلمية.٣ إذ الحق أنه إذا كان رصد «الخطاب الإبستمولوجي» بمعزل عن «الخطاب الأيديولوجي» لم يتكشَّف في إطار العقل الأوروبي لظروف خاصة،٤ عن أية طبيعة سلبية، فإنه — في المقابل — يتكشف في إطار العقل العربي عن طابع سلبي محض يتمثل خاصة فيما يمكن أن يُسمى ﺑ «أطلقة الفكر» (To absolute the thaught)؛ وأعني التعامل مع «الفكر» منبت الصلة عن جذره التاريخي. ويكشف هذا الطابع السلبي للعقل العربي عن نفسه في ظاهرتَين تتعلقان معًا بالممارسة النظرية لهذا العقل؛٥ أولاهما: تتجلَّى في تعامله مع «تراث الذات»، والأخرى: تتجلَّى في تعامله مع «معاصرة الآخر». فالنظرة إلى «تراث الذات» لم تتجاوز كونه «سلطة مطلقة» غير قابلة للتجاوز بحال، ومن هنا فإنه لا سبيل لشيء إلا الاجترار الدائم لهذا التراث؛ وذلك بقصد تكراره وإعادة إنتاجه.٦ ومن جهة أخرى، فإن نظرة هذا العقل إلى «معاصرة الآخر» لم تتجاوز — بدورها — كون هذه «المعاصرة» تمثِّل سلطة مطلقة لا تقبل التجاوز أيضًا، ومن هنا فإن من الحتم احتذاءَها بوصفها — هي لا غير — النموذج الوحيد الممكن لأي تقدم. وهكذا تتكشف الظاهرتان، أو النظرتان — رغم تباينهما الظاهر — عن ذات الثابت البنيوي المتكرر للعقل العربي؛ وأعني به النزوع الدائم إلى «أطلقة الفكر» وتحويله إلى سلطة مطلقة خارج إطار الزمان والمكان.٧ وبينما تتكشف هذه «السلطة» — حين تكون تراثًا للذات — عن «سلبية» العقل وعجزه، فإنها تتكشف — حين تكون معاصرة الآخر — عن «تبعيَّته»٨ ويأسه. وفي كل الأحوال، فإن لا تاريخيته تتبدَّى بالأساس.

وأما رصد «الإبستمولوجي» خلال تضافره البنيوي مع «الأيديولوجي»، فإنه قد تكشَّف — عبر هذا البحث — عن كون الفكر، حتى في أقصى درجات تجريده، إنما يُعَد، لا سلطة مطلقة خارج التاريخ، وإنما انعكاسًا واعيًا لعلاقة الإنسان بعالمه. وإذن، فإنه ذو طابع تاريخي وإنساني معًا، ومن هنا فإن قابليته للتجاوز ليست ممكنةً فقط، بل إنها لازمة. ومن حسن الطالع أن هذا الإجراء المنهجي يتأدَّى — تبعًا لذلك — إلى قهر الطابع السلبي للعقل العربي، وذلك من حيث إن «تراث الذات» و«معاصرة الآخر» يستحيلان من كونهما سلطات مطلقة خارج الزمان والمكان، ليس لهذا العقل بإزائها إلا التبعية والخضوع إلى كونهما مجردَ لحظات ينبغي استدماجها — من خلال الفاعلية الخلاقة للعقل — في «حاضر الذات»، الذي هو نقطة البدء لأي تفكير حق.

وقد يتبدَّى هذا الإجراء المنهجي، عند قراءة الأنساق الكلامية، عن أن كافة الصياغات العقائدية (شيعية، أشعرية، معتزلية … إلخ) يتعذر فهمها، على نحو حقيقي، بمعزل عن إطار أيديولوجي معيَّن. ومن المثير أن تصوُّرًا بلغ الغايةَ في التجريد؛ أعني تصور «الله»، يُفلت أيضًا من هذا المصير. فإن تباين تصور «الله» — منزهًا عن الصفات أو موصوفًا بها إلى حدٍّ ما أو إلى حدِّ التجسيم — لا يجد تفسيره إلا في الانتماء إلى إطار أيديولوجي معين؛ فإذ يرتبط التنزيه المعتزلي بأيديولوجيا أدنى إلى أن تكون «ليبرالية»، إن جاز هذا التعبير المعاصر، فإن الوصف الأشعري يرتبط بأيديولوجيا أدنى إلى أن تكون «تسلُّطية»، وأمَّا التجسيم عند بعض الشيعة الغلاة فإنه يرتبط — جوهريًّا — بأيديولوجيا هيمنة الإمام. وهكذا بدا وكأن الله، حقًّا، مرآة العصر تعكس ما يعانيه الإنسان، أو حتى ما يريده على قول هيجل.

وبدوره، فإن مفهوم «النبوة» قد تباينَت صياغته في كافة الأنساق الكلامية بدءًا من تباين الرؤى الأيديولوجية المهيمنة على هذه الأنساق لا شك. فإن تبدَّت الأيديولوجيا الأشعرية أدنى إلى أن تكون «تسلطية»، لا مكان فيها إلا لهيمنة المطلق «إلهًا في المجرد وحاكمًا في المتعين»، فإن النبوة باتت — تبعًا لذلك — لا تُفهم إلا على نحو مطلق؛ أي بوصفها تتعلق «بالإلهي» فقط، ودون أدنى اعتبار «للإنساني». وعلى النقيض، فإن اعتبار «الإنساني» في النبوة قد ارتبط عند المعتزلة بهيمنة أيديولوجيا أدنى إلى أن تكون ليبرالية. وإذن، فإن مجمل الصياغات العقائدية يستحيل فهمها حقًّا — من حيث هي أبنية إبستمولوجية — إلا خلال تضافرها البنيوي مع إطاراتها الأيديولوجية. وعلى هذا، فإنَّ هذه الصياغات تُعَد — مهما تجرَّدَت — ذات طابع تاريخي وإنساني معًا، ومن هنا فإن قابليتها للتجاوز ليست أبدًا موضعَ إنكار. وهكذا، فإنَّ لكل «عصر» الحقَّ في أن تكون له قراءته، بل وصياغته لمجمل التصورات العقائدية، ما دامت مقاصدُه الأساسية لم تتحقق من خلال قراءات أو صياغات قديمة.

وإذا كانت القابلية للتجاوز تستحيل تمامًا دون الإقرار بالمضمون التاريخي والإنساني — ولو عبر محاولة إلغائه٩ — لكل قراءة أو صياغة قديمة، فإن ذلك يعني أن إجلاء «التاريخي» و«الإنساني» — وغيابهما يمثِّل جوهر الأزمة الحضارية الراهنة — إنما يتحقق بالكشف عن المضمون الحقيقي لكل قراءة أو صياغة تراثية سابقة. وهكذا تتأكَّد مفارقة «التجديد» في أنه يكون انبثاقًا من أعمق أعماق «القديم»، وذلك مع التأكيد على أنه لا يكون من القديم «تكرارًا أو اجترارًا»، بل «استيعابًا واستدماجًا» له في اللحظة الراهنة، التي هي البداية الحقة لكل تفكير أصيل. وأخيرًا، فإنَّ الضرورة تقتضي أن أحذِّر مع هيجل من أن هذه «القضايا التي أسوقها ينبغي ألَّا يُنظرَ إليها على أنها آرائي الخاصة عن الموضوع»،١٠ بل إنه الموضوع — بالأحرى — يعرض نفسه عبر «شخص» عاناه وكابده.
١  لوي ألتوسير، مونتسكيو … السياسة والتاريخ، ترجمة نادر ذكري، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٨١م، ص٤١.
٢  يشير مفهوم «القطيعة المعرفية» على العموم إلى ضرب من الانقطاع عن الوضع السابق لإشكالية ما؛ توطئةً لتناولها في إطار جديد أو ضمن سياق معرفي آخر. وفي الخطاب الألتوسيري، فإن هذا المفهوم يشير إلى الانتقال — في إطار الماركسية — من حقل «الأيديولوجيا» من حيث هي مقال فلسفي أنثروبولوجي غير علمي إلى حقل «العلم» — أو الإبستمولوجيا — من حيث هو دراسة نظرية تقوم على مفاهيم علمية دقيقة وصارمة. وقد أفاد ألتوسير من هذا المفهوم — الذي استفاده منه «باشلار» — في إعادة بناء الماركسية كنظرية علمية صارمة، وذلك في معارضة «جارودي» الذي كان يعوِّل على ماركسية ذات نزعة إنسانية — أي أيديولوجية حسب ألتوسير — تتصالح مع الوجودية والكاثوليكية.
٣  وليس في الأمر مفارقةٌ كما قد يلوح للوهلة الأولى؛ إذ بينما يمثل مشروع «ألتوسير» نوعًا من الاحتجاج على طغيان الأيديولوجي على الإبستمولوجي في الخطاب الماركسي الراهن، فإن مشروع هذا المبحث يمثِّل — بدوره — نوعًا من الاحتجاج على طغيان الإبستمولوجي على الأيديولوجي في تناول مسائل العلم، علم الكلام. وإذن، فإن الجوهري في المشروعين واحد، وأعني به الاحتجاج على غياب عنصر ما يستحيل دونه بلوغ العلمية، ومن هنا كان السعي المشترك بينهما — رغم تناقض أطروحاتهما — إلى إحراز المزيد من العلمية.
٤  تتمثل هذه الظروف في إحراز هذا العقل وعيًا تاريخيًّا متقدمًا.
٥  إذا كان هذا الطابع السلبي للعقل العربي قد ارتبط — جوهريًّا —بعزل الخطاب الإبستمولوجي في الفكر العربي عن نطاقه الأيديولوجي؛ فالحق أنه لا يمكن ردُّ هذا العزل إلى نقطة بداية هذا الفكر الأولى، التي هي النص أو «القرآن». إذ القرآن، كبناء معرفي إبستمولوجي لم يتكون أبدًا بمعزل عن الإطار التاريخي والاجتماعي الحاضر آنذاك؛ أي الإطار الأيديولوجي. وإذن، فإن هذا العزل لا يجد تفسيره، فيما يبدو، إلا في ضرب من القمع السياسي الذي اتكأ على «إبستمولوجيا» متسلطة حاول تكريسها من حيث هي كذلك، أعني من حيث هي بناء مطلق غير قابل للتجاوز، وذلك بعزلها عن نطاقها الأيديولوجي.
٦  تؤسس تلك «النظرة» — على نحو صريح — الأيديولوجيا المهيمنة على رؤية التيار الإسلامي السلفي في مصر وغيرها. إذ الحق أن حلم التكرار أو العودة لفردوس السلف المفقود لم يزَل — على فرض إمكانه — هو المهيمن بقوة على مجمل الأدبيات السلفية. ورغم أنَّ كثيرين يجتهدون في التاريخ لانبثاق هذا الاتجاه في القرن العشرين، بازدياد فاعلية تيارات التغريب من جهة، وانكسار المشاريع النهضوية القومية من جهة أخرى، فإنه يبدو أن النهج التفكيري — المؤسس لهذا الاتجاه — يُعَد أساسًا إحدى ظواهر الممارسة النظرية السلبية للعقل العربي، التي تتجاوز — زمنيًّا — القرن العشرين بكثير. وعلى هذا، فإن النهج التفكيري — المؤسِّس للفكر السلفي — يُعد، بالأحرى، أصلًا لا نتيجة لانكسار الأمة وانهيار مشروعها القومي للنهضة. وإذن، فإن التيارات السلفية ليست غير تجسيد «للداء»، لا نتيجة له.
٧  ومن هنا يمكن الحديث عن سلفيتَين، لا سلفية واحدة؛ إحداهما ذات توجُّه «ماضوي»، والأخرى ذات توجُّه «عصري»، ولكنهما تتفقان معًا في غربتهما عن «الحاضر»، بل وتقصدان إلى نسخه أو مسخه، واحدة بالماضي، والأخرى بحاضر مستعار من الآخر. وإذن، فإنَّ المعاصرة، من حيث تبغي بمجرد إحلال لحظة في الزمان — بصرف النظر عن مضمونها — محلَّ أخرى، ليست أكثرَ من سلفية مقنعة.
٨  ليس أكثر من حديث السلفيِّين في مصر عن أخطار الغزو الثقافي. والحق أن ثمة غزوًا بالفعل، ولكنه لا يرتبط فقط بممارسة عدائية من الآخر، بل — والأهم — أنه يرتبط بهيمنة نهج تفكيري معين، يُعَد — وتلك مفارقة — النهجَ المؤسس للرؤية السلفية نفسها؛ وأعني من حيث هو نهج «لا تاريخي» في الحالَين.
٩  فإن الصياغة العقائدية الأشعرية تتكشَّف — رغم محاولة إلغاء التاريخي والإنساني فيها — عن مضمون تاريخي وإنساني؛ وذلك من حيث إن محاولة الإلغاء نفسها لا تُفهم إلا في حدود تاريخية وإنسانية.
١٠  هیجل، موسوعة العلوم الفلسفية، سبق ذكره، ص٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤