خاتمة
«إن منهجًا ما، وإن كان جديدًا، يمكن أن يكون بلا طائل، إن لم يُنتج شيئًا جديدًا.»
الحق أن «الجِدَّة» في الفلسفة لا تعني ألبتة خلقًا من عدم، بل — فقط — وضعًا جديدًا للقضايا القديمة. إذ تتسم قضايا الفلسفة — ورغم قِدَم وضعها — بضربٍ من ديمومة الحضور. ومن الخطأ أن يلتمس المرء من ذلك دليلًا على الطابع المطلق لتلك القضايا؛ إذ إنه — بالأحرى — دليلٌ على طابعها التاريخي المؤدي إلى أن الفلسفة وليدة عصرها، لا من حيث إنها تمثِّل «خلقًا» لمشكلات وقضايا جديدة، بل من حيث إنها تمثِّل «وضعًا» جديدًا لذات المشكلات والقضايا القديمة. ومن هنا، فإن قضايا الفلسفة تتعصَّى على أيَّ حلٍّ نهائي، وتبقى — فقط — عُرضةً لضروب من الحل التاريخي المتعدد الأوجه. وهنا فقط تكون «الجِدَّة» في الفلسفة. إنها تقوم، إذن، في إعادة طرح القضايا القديمة طرحًا جديدًا يستجيب للاهتمامات المستجدة، أو أنها تتمثل في بلورة «قراءة» جديدة لذات الموضوعات والقضايا القديمة. وعلى هذا التصور «للجِدَّة»، فإن المنهج المتداول في هذا البحث لن يكون بلا طائل. إذ الحق أنه ساهم مساهمةً فعالة في إعادةِ طرحِ بعضٍ من القضايا القديمة طرحًا جديدًا يستجيب لمقتضيات الوضع الراهن، وذلك عبرَ ضربٍ من «القراءة» الجديدة لتلك القضايا القديمة.
وأما رصد «الإبستمولوجي» خلال تضافره البنيوي مع «الأيديولوجي»، فإنه قد تكشَّف — عبر هذا البحث — عن كون الفكر، حتى في أقصى درجات تجريده، إنما يُعَد، لا سلطة مطلقة خارج التاريخ، وإنما انعكاسًا واعيًا لعلاقة الإنسان بعالمه. وإذن، فإنه ذو طابع تاريخي وإنساني معًا، ومن هنا فإن قابليته للتجاوز ليست ممكنةً فقط، بل إنها لازمة. ومن حسن الطالع أن هذا الإجراء المنهجي يتأدَّى — تبعًا لذلك — إلى قهر الطابع السلبي للعقل العربي، وذلك من حيث إن «تراث الذات» و«معاصرة الآخر» يستحيلان من كونهما سلطات مطلقة خارج الزمان والمكان، ليس لهذا العقل بإزائها إلا التبعية والخضوع إلى كونهما مجردَ لحظات ينبغي استدماجها — من خلال الفاعلية الخلاقة للعقل — في «حاضر الذات»، الذي هو نقطة البدء لأي تفكير حق.
وقد يتبدَّى هذا الإجراء المنهجي، عند قراءة الأنساق الكلامية، عن أن كافة الصياغات العقائدية (شيعية، أشعرية، معتزلية … إلخ) يتعذر فهمها، على نحو حقيقي، بمعزل عن إطار أيديولوجي معيَّن. ومن المثير أن تصوُّرًا بلغ الغايةَ في التجريد؛ أعني تصور «الله»، يُفلت أيضًا من هذا المصير. فإن تباين تصور «الله» — منزهًا عن الصفات أو موصوفًا بها إلى حدٍّ ما أو إلى حدِّ التجسيم — لا يجد تفسيره إلا في الانتماء إلى إطار أيديولوجي معين؛ فإذ يرتبط التنزيه المعتزلي بأيديولوجيا أدنى إلى أن تكون «ليبرالية»، إن جاز هذا التعبير المعاصر، فإن الوصف الأشعري يرتبط بأيديولوجيا أدنى إلى أن تكون «تسلُّطية»، وأمَّا التجسيم عند بعض الشيعة الغلاة فإنه يرتبط — جوهريًّا — بأيديولوجيا هيمنة الإمام. وهكذا بدا وكأن الله، حقًّا، مرآة العصر تعكس ما يعانيه الإنسان، أو حتى ما يريده على قول هيجل.
وبدوره، فإن مفهوم «النبوة» قد تباينَت صياغته في كافة الأنساق الكلامية بدءًا من تباين الرؤى الأيديولوجية المهيمنة على هذه الأنساق لا شك. فإن تبدَّت الأيديولوجيا الأشعرية أدنى إلى أن تكون «تسلطية»، لا مكان فيها إلا لهيمنة المطلق «إلهًا في المجرد وحاكمًا في المتعين»، فإن النبوة باتت — تبعًا لذلك — لا تُفهم إلا على نحو مطلق؛ أي بوصفها تتعلق «بالإلهي» فقط، ودون أدنى اعتبار «للإنساني». وعلى النقيض، فإن اعتبار «الإنساني» في النبوة قد ارتبط عند المعتزلة بهيمنة أيديولوجيا أدنى إلى أن تكون ليبرالية. وإذن، فإن مجمل الصياغات العقائدية يستحيل فهمها حقًّا — من حيث هي أبنية إبستمولوجية — إلا خلال تضافرها البنيوي مع إطاراتها الأيديولوجية. وعلى هذا، فإنَّ هذه الصياغات تُعَد — مهما تجرَّدَت — ذات طابع تاريخي وإنساني معًا، ومن هنا فإن قابليتها للتجاوز ليست أبدًا موضعَ إنكار. وهكذا، فإنَّ لكل «عصر» الحقَّ في أن تكون له قراءته، بل وصياغته لمجمل التصورات العقائدية، ما دامت مقاصدُه الأساسية لم تتحقق من خلال قراءات أو صياغات قديمة.