الفصل الأول

النبوة والنبي … دراسة لغوية

«في الكلمة وحدها … في اللغة وحدها تصبح الأشياء وتكون.»١
هيدجر

أولًا

(١) النبي … اللفظة العربية

تكاد تتفق جميعُ المصادر اللغوية والكلامية على أنَّ لفظ «النبي» فيه — من حيث الاشتقاق اللغوي — احتمالان؛ «الأول» أن يكون اللفظُ مشتقًّا من النبأ وهو الخبر، فهو المنبئ، وقد سُمِّي به لإنبائه عن الله تعالى، فهو حينئذٍ فعيلٌ بمعنى فاعل مهموز اللام.٢ وقال ابن برِّي: صوابه أن يُقال فعيل بمعنى مُفعِل، مثل نذير بمعنى مُنذِر.٣ كما يصح فيه معنى المفعول لأنَّ الله هو الذي يُنبئه.٤ ولفظ «النبي» في اللغة مهموز، ويحتمل أن تكون همزتُه قد سقطَت،٥ أو أنها أُبدلت ياءً،٦ أو أنهم تركوا همزَه كالذارية والخابية،٧ أو أن يُخفف ويُدغم،٨ ومعروف أن الإبدال والإدغام لغةٌ فاشية عند العرب.٩ وجمع لفظ «النبي» نُبَّاء، ويقول الجوهري إنه يجمع «أنبياء»؛ لأن الهمز لما أُبدل وأُلزم الإبدال جُمع جمْعَ ما أصلُ لامه حرفُ العلة؛ كعدو جمعه أعداء.١٠ أما الاحتمال «الثاني» فهو أن يكون أصلُ لفظ «النبي» غيرَ الهمز، فهو مأخوذ من «النَّبْوة أو النباوة»، وهي الارتفاع عن الأرض،١١ يقال: تَنبَّى فلان، إذا ارتفع وعلا، وهو فعيل من النَّبْوة بمعنى مفعول، والجمع أنبياء، وحينئذٍ يكون معناه الذي يُشرف على سائر الخلق، والرفيع المنزلة عند الله.١٢ فلفظة «النبي» تُفيد الرفعة، «ولا يقع فيها تخصيصٌ من جهة اللغة؛ لأنها تُستعمل في كلِّ رفعة، و«لكنها» صارت في الشريعة والتعارف مستعملةً في رفعة مخصوصة، حيث لم يُجوِّز السمعُ حصولَها إلا للرسول».١٣
وقد تباين موقفُ المتكلمين من هذين الاحتمالَين، فأجمع الأشاعرة — اتساقًا مع نسقٍ شامل ينتظم بناءَهم النظري — على تأكيد اشتقاقِ لفظِ «النبي» من النبأ، أي الخبر؛ إذ «النبي» — عندهم — هو المُنبئ واشتقاقه من النبأ.١٤ وقد غالى «الجويني» في تأكيد ذلك الاشتقاق حين أطلق على «النبوة» اسمَ «النبوءة»،١٥ باعتبار أن النبيَّ هو المُنبئ من النبأ. ولا يعني ذلك — بالطبع — أن الأشاعرة قد منعوا البتة الاحتمالَ الثاني للاشتقاق من «النباوة». إذ الأمر غير ذلك تمامًا، وجلُّ ما في الأمر، أنَّ الأشاعرة قد تبنَّوا الاشتقاق الأول — من النبأ — لأنه يتَّسق ورؤيتهم الشاملة للنبوة، أو النسق القار خلف الاستخدام اللغوي، ولا يتضح ذلك إلا في مواجهة المعتزلة الذين لم يوافق غالبيَّتُهم — خضوعًا لمقتضياتِ نسقٍ مغاير — على ردِّ لفظ «النبي» إلى «النبأ»، فإنهم قد أوقفوا ردَّ لفظ «النبي» إلى النبأ على شرط همزها؛ «فأما إذا هُمزت فهي مأخوذة من الإنباء والإخبار والإعلام».١٦ ولمَّا كان «النبيُّ قد أنكر الهمز بالرغم من جوازه لغةً؛ إذ لا شبهة في هذه القراءة، أعني بالهمز؛ لأنها ظاهرة كظهور القراءة من غير همز … فاعلم أنَّ لفظة «النبي» تُفيد الرفعة، وهي مأخوذة من النبوة أو النباوة».١٧
وقد ترك هذا التباين — المتعلِّق بالاشتقاق اللغوي — أثرَه على موقفِ كلِّ فريق منهما من التعريف الاصطلاحي للنبوة. ذلك أنه يمكن — قياسًا على التباين اللغوي بين الفريقين — التمييزُ بين تعريفَين اصطلاحيَّين للنبوة، «الأول» يرى فيها «هبة واصطفاءً»، والآخر يرى فيها «رفعة وارتقاءً».١٨ وقد ذهب كلُّ فريق إلى تبنِّي رؤية اصطلاحية للنبوة تتَّسق ورؤيته اللغوية لها، أو العكس. فانحاز الأشاعرةُ — اتِّساقًا مع ردِّهم لفظةَ «النبي» لغةً إلى النبأ والخبر — إلى تعريف النبوة اصطلاحًا بأنها «موهبة من الله تعالى ونعمة منه إلى عبده، وهي قول الله تعالى لمن اصطفاه من عباده: أرسلناك وبعثناك وبلِّغ عنَّا.»١٩ إنها هبة من الله، وليست معنًى يعود إلى ذات النبي ولا إلى عرَض من أعراضه، استحقَّها بكسبه وعمله.٢٠ ذلك أنه لا يُشترط في الإرسال شرطٌ من الأحوال المكتسبة بالرياضات.٢١ وكأنَّ النبوة حين تكون «إنباءً وإخبارًا» لا يقتضي الأمر أكثر من أن يصطفي الله من عباده مَن يشاء، ويُرسله بهذا الخبر، فإن جوهرها — أي النبوة — «قول» وليس «فعلًا»؛ وذلك لكونها «ترجع إلى قول الله تعالى لمن يصطفيه «أنت رسولي»؛ ولا تئول إلى صفات الأفعال».٢٢ والنبوة، إذ تكون — في الاصطلاح — مجرد «قول»، فإنه لا بدَّ من ردِّها — في اللغة — إلى الإنباء والإخبار. وأمَّا إذا كانت النبوة — على العكس — «صفة لفعل»، فإن ردَّها لغةً إلى الإنباء والإخبار، يقوِّض الاتساق المنطقي بين ضربَي المعنى «اللغوي والاصطلاحي»، فينقطع بينهما التواصل ويختلُّ الانتقال. وهنا يتبدَّى الخلاف٢٣ بين الأشاعرة والمعتزلة الذين نظروا — أعني المعتزلة — إلى النبوة على أنها تُمثِّل — في الاصطلاح — «صفة لفعل»؛ ولذا فإنها — لغةً — تكون «رفعةً وارتقاءً»، لا «هبةً واصطفاءً». إنها «رفعة مخصوصة يستحقها الرسول إذا قَبِل الرسالة وتكفَّل بأدائها والصبر على عوارضها».٢٤ وهكذا أكَّد عبَّاد بن سليمان المعتزلي أنَّ النبوة هي «جزاء على عمل»،٢٥ وناصره — في ذلك — الجبائي، وإن كان قد خفَّف بعضَ الشيء من تطرُّفه، بقوله: «إنَّ النبوة ثوابٌ على عمل ونتيجة لمجاهدة واصطفاء الله لأنبيائه، واختصاصه إياهم بالنبوة.» وهو بهذا يلتقي مع الفلاسفة،٢٦ ولكن يُضيف — متفقًا مع أهل السنَّة — أن النبوة يجوز أيضًا أن تكون ابتداءً، وقد أخذ المعتزلةُ المتأخرون بهذا التوفيق.٢٧ وإذ جعل المعتزلة النبوة — في الاصطلاح — «صفة لفعل»، وجزاءً على عمل، بحيث تأدَّوا إلى أنها «رفعة مخصوصة» يستحقها الرسول لفعل مخصوص، فقد لَزِمهم الأخذُ بمفهوم لغوي يتَّسق ومنحاهم الاصطلاحي؛ ولذلك وقفوا مع رد لفظة «النبي» — لغة — إلى «النبوة والنباوة» بمعنى الارتفاع؛ وذلك كي تُفيدَ اللفظة «الرفعة والارتقاء» — في اللغة والاصطلاح معًا — وبشكل يُصبح معه الانتقال بينهما غيرَ مضطرب أو مختل.
وإذن، فقد بان أن مسألةَ تعريف النبوة تُظهر نوعًا من الإحالة المتبادلة بين اللغة والاصطلاح، بحيث يُحيل «تحليل لغوي» معين إلى تبنِّي «مفهوم اصطلاحي» بعينه، والعكس أيضًا. وليس من شكٍّ في أنَّ هذه «الإحالة المتبادلة» بين اللغة والاصطلاح، ليست مجردَ عملٍ أحرزَته الصدفة وأظهره الحظُّ، بل إنها — بالأحرى — عملٌ يجد تفسيرَه ومغزاه في إطار انتمائه إلى نسق شامل — أو كلية متجانسة — من التصورات، التي تؤلِّف مضمونَ علم الكلام. وبعبارة أخرى، لا تنفك هذه الإحالة بين «تحليل لغوي» وبين «مفهوم اصطلاحي» عن الإشكالية الأساسية في علم الكلام؛ أعني إشكالية العلاقة والحدود القائمة بين دوائر الوجود (الله – والعالم – والإنسان). تلك الإشكالية التي لا يمكن البتة تفسير التباين بين الأنساق النظرية داخل العلم نفسه إلا بَدْءًا منها.٢٨
والحقُّ أنَّ التباين حول تعريف النبوة لغةً واصطلاحًا — وبالتالي ما بينهما من إحالة — يكتسب دلالتَه الجوهرية، لا من ذاته، بل من التباين بين الأنساق القارَّة خلف الاستخدام اللغوي. فالأشاعرة — اتِّساقًا مع بنائهم النظري الذي يقوم على سيادة «المطلقات الإلهية» — قد ردُّوا النبوة — اصطلاحًا — إلى اصطفاء يرجع إلى إرادة الله وقدرته المطلقة، ودونما نظرٍ لفعلٍ من الإنسان. فبدَا الفعلُ الإلهي — من ثَم — بلا مبرِّر أو غرض، وانتفت عنه الحكمة والغائية، وتُرك نهبًا للعبث والعشوائية.٢٩ فإنه ليس «لما يقدر عليه «الله» كل ولا غاية».٣٠ وهكذا ينتهي نسق «المطلقات» الأشعري إلى تقويض «المطلق» نفسه؛ وذلك بوسم فعلِه بالعبث والخلو من الحكمة والغاية. وبالرغم مما ينطوي عليه هذا القول من مفارقة يعكسها التناقض بين ما قصد إليه الأشاعرة، وبين ما انتهَوا إليه بالفعل، فإنَّ ذلك ليس بالغريب على نسق نظري قام على تصوُّرٍ أحاديٍّ مغلق ﻟ «الذات الإلهية»، وبشكلٍ بدَت معه وكأنها تفعل في خلاء أو في عالم لا قوام له على الأقل، فجاء فعلُها خِلْوًا من المنطق والحكمة، لأنه لا يتحدَّد ولا يرتبط بشيء البتة. ومن هنا فإنه يبدو، وكأن إنكار العالم — كبُعد يلعب دورًا في قصور الذات الإلهية — يجعل من هذه الذات مجردَ وجود بلا مضمون.٣١ وقد تنبَّه المعتزلة لذلك فيما يبدو، وهكذا اجتهدوا في إدراك «الذات الإلهية» من خلال وساطة «العالم والإنسان»، وانتهَوا — من ذلك — إلى بلورة مفهوم «الحد»، وعلاقة الجدل بين دوائر الوجود٣٢ «الله – والعالم – والإنسان». واتساقًا مع هذا الإدراك الذي قام عليه النسق الاعتزالي، لم يردَّ المعتزلة النبوَّة إلى اصطفاء تقوم به إرادةٌ إلهية، لا يُبررها شيء خارجها، بل اكتشفوا «حدًّا» يفسِّر هذا الاصطفاء، حين ردوه إلى عمل واستعداد سابق تكون «النبوة» ثوابًا عليه. وهكذا النبوة — عندهم — «صفة لفعل» أو «جزاءً على عمل». وبذلك نأَوا بالفعل الإلهي عن العشوائية. فبدا وكأن اكتشافهم ﻟ «الفاعلية الإنسانية» كمدخل لفهم «الفعل الإلهي» يُعَد بمثابة كشفٍ عن غائية الفعل الإلهي وحكمته. وليس من شك في أن هذه النتيجة تتفق وبنية نسق أدركَ «الذات الإلهية»، لا مباشرة، بل بتوسط «العالم»، فبدَت هذه الذات ذاتًا تُفعل في عالمٍ له قوامُه ووجوده؛ ولذا جاء فعلُها مرتبطًا بشيء ومبررًا بغائية ما.٣٣

وإذا كان «المفهوم الاصطلاحي» للنبوة يرتبط — كما وضح — بنسقٍ أشمل من التصورات يكمن خلفه، فإن «التعريف اللغوي» للنبوة لا ينفك — بالمثل — عن هذا النسق. وذلك هو ما يفسِّر الإحالة المتبادلة بينهما. ففي عالمٍ رأى الأشاعرة أنه لا يبدو فيه غير الله — بحيث تصبح «النبوة» فعلًا خالصًا من الله يتمثَّل في قوله — دونما مبرر — لواحدٍ من عباده «أرسلناك فبلِّغ عنَّا» — فإنَّ النبوة لغةً ترتدُّ إلى مجرَّد الإنباء والإخبار. أما في عالم رأى فيه المعتزلة فاعليةَ الإنسان تتجلَّى إلى جانب الفاعلية الإلهية — بحيث تصبح النبوة جزاءً «إلهيًّا» على فعل «إنساني» مخصوص — فإن النبوة لغةً ترتد إلى «النباوة» بمعنى الرفعة التي تفيد الخصوصية.

بات واضحًا — إذن — أنَّ تباين الردِّ اللغويِّ ﻟ «النبي» إلى «النبأ» عند الأشاعرة و«النباوة» عند المعتزلة، يتبدَّى عن تباين أعمق في التصوُّر المهيمن على البناء النظري لكلا الفريقين. إلا أنَّ البحث في دلالات الجذر اللغوي «نبأ – نبا» للنبأ والنباوة يتجاوز هذا التباين — هذا مع التجاهل المؤقَّت لحقيقة اختلاف الأبنية النظرية المهيمنة على هذا التباين — إلى الكشف عن مستوى أعمق من المعنى يُمسك باللفظتين معًا في وحدة. أي إن «المجال الدلالي»٣٤ يتجاوز التباين اللغوي الظاهر إلى الكشف عن وحدة خفية يُظهرها المعنى الأعمق.

(٢) المجال الدلالي للفظة «النبي»

يكشف البحث في دلالات الجذر اللغوي للفظة «النبي»، وهو «نبأ – نبا»، عمَّا ينطوي عليه هذا الجذر من عنصر حركي يصعب إنكاره. إذ تُشير كلُّ دلالات هذا الجذر تقريبًا إلى حركةٍ تحدث وانتقال يتمُّ؛ «فنبا الشيء» — مثلًا — تعني ارتفع وتجافَى وتباعد، «وليس هناك ارتفاعٌ وتباعدٌ دونما حركة»، ونبأ – ينبأ؛ أي خرج من أرض إلى أخرى. ونابأ القوم؛ أي تباعد عنهم. والنبأ هو الخبر؛ لأنه يأتي من مكان إلى مكان آخر. والنبي هو الخارج من مكان إلى مكان،٣٥ ويقال: نبأت البذرة؛ أي صارت نباتًا … إلخ. وليس من شكٍّ أن عنصرًا حركيًّا يبدو ظاهرًا في معاني «الخروج والارتفاع والتباعد والصيرورة»، وهي كلُّها دلالات الجذر المشار إليه. وبما أن «النبوة» أيضًا لفظٌ مشتق من هذا الجذر، فلا بد أنها تنطوي — من حيث انتماؤها إلى نفس المجال الدلالي — على هذا الجوهر الحركي.٣٦ ولما كانت أيُّ «حركة» تكشف عن انتقالٍ من حالة إلى أخرى، فإن النبوة — بوصفها «حركة» — تكون بمثابةِ كشفٍ عن انتقالِ الوجود الإنساني من حالة — استنفد فيها قدرتَه على الحياة الحقة — إلى حالة أخرى تنبثق عن أشكالٍ أكثرَ تطورًا وحياة. وهذه النقلة التي حققَتها النبوة في الوجود لا تتم إلا في الزمان، فإنه لا حركة إلا في زمان، وهكذا تُحيلنا الطبيعة الحركية للنبوة إلى طبيعتها الزمانية. ولكن أي نوع من الزمان هذا الذي يُشكِّل جزءًا من طبيعة النبوة؟ أيكون زمانًا مطلقًا يتَّفق وطبيعة الألوهية التي تجود بالنبوة؟ أم أنه زمان نسبي يتَّفق وطبيعة البشر الذين تُصبح النبوة دونهم خطابًا لا معنى له؟ إن إجابةً تتبنَّى أيًّا منهما تمثِّل مأزقًا حرجًا؛ لأنه لو كان الزمان الماثل في طبيعة النبوة زمانًا مطلقًا لكانت النبوة — تبعًا لذلك — ظاهرة لا نهائية مطلقة. وهو قول يتعارض مع حقيقة تناهي النبوة، إلى جانب أنه يتجاهل الأبعاد التاريخية والاجتماعية التي تعكسها النبوة. أما إن كان هذا الزمان زمانًا نسبيًّا إنسانيًّا، فلا بد من أن يتبع ذلك القول بأن النبوة ظاهرة جزئية نسبية. وإلى جانب ما ينطوي عليه ذلك من تشكيك في مصدرها، فإنها لو كانت كذلك حقًّا، لكانت ظاهرةً لا معقولة نتجَت عن ضربٍ من ضروب الصدفة والحظ؛ لأنها تفتقر — والحال كذلك — إلى الكلي الذي يعقلها ويفسرها «والفكر ينشد باستمرار شيئًا ثابتًا ودائمًا، متعينًا بذاته، ويتحكَّم في الجزئيات، ويُعَد هذا الكليُّ، الذي لا تستطيع الحواسُّ أن تُدركَه، هو الجانب الماهوي والحقيقي، أما الجزئي فهو العابر اللامعقول».٣٧ وهكذا بانَ أن الزمان الماثل في طبيعة النبوة ليس بالمطلق أو النسبي. ولذا، فإننا أمام إحدى نهايتَين:
إما إنكار الطابع الزماني للنبوة، أو البحث عن نوع آخر من الزمان يتجاوز كلًّا من النسبي والمطلق. ولما كان إنكار الطابع الزماني للنبوة أمرًا متعذرًا لأنه إنكار لوجود النبوة ذاتها، فإنَّ علينا البحث عن زمان يتجاوز قصورَ «النسبي والمطلق»، ولن يتيسر ذلك إلا بصهرهما معًا. والحق أن ذلك هو ما تصنعه النبوةُ فعلًا حين تصهر المطلق والنسبي في هُوية واحدة.٣٨ ومن هنا «تنشطر إلى شطرين وتُصبح مزدوجة فيكون لها داخلٌ وخارج أو قوة وتبدِّيها».٣٩ ولذا، فإن النبوة — عند ابن عربي — «وجهٌ من وجوه الحقيقة الإلهية الكامنة في «الأزل» تتجلَّى دوريًّا على الأرض في صورةِ نبيٍّ «حينًا بعد حين» حتى كان تجلِّيها الأكمل في الحقيقة المحمدية».٤٠ إنها قوة في «الأزل» — دلالة على بُعدٍ مطلق — تتجلَّى «حينًا بعد حين» — دلالة على بُعدٍ نسبي — وذلك يؤكد جدليةَ النسبي والمطلق أو الداخل والخارج في قلب النبوة. فالنبوة — من حيث هي داخل أو قوة كامنة في الأزل — تنطوي على بُعدٍ زماني مطلق يتمثل في نوعٍ من العلم الأبدي يَرِثه العلماء عن الأنبياء دون انقطاع، فهي الصيرورة الأبدية للعلم حتى لَتُشبه مياه النهر التي علَّمنا هيراقليطس أنها تتجدَّد أبدًا، أو أنها الشمس التي تتجدَّد كلَّ يوم.٤١ ويتأكد هذا البُعد المطلق من النبوة من حيث إنها حقيقة كلية لها تجلِّياتها الدورية، التي هي بمثابة صور وأشكال تاريخية للوعي بالعالم تندُّ عن التفسير في غياب هذا الكلي. وبهذا تكون النبوة — رغم تجلِّياتها الدورية الجزئية — حقيقةً كلية تكمن خلف هذه التجلِّيات. وبتعبير آخر، تُظهر النبوةُ انحلالَ التناقض بين الكلي والجزئي. ويمكن القول بأنَّ هذا المطلق الكامن في جوف النبوة يندرج في إطار ما يمكن تسميته «بميتافيزيقا النبوة» التي أفاض في دراستها فلاسفةُ الإسلام المتصوفة خاصة، وذلك بتأكيدهم على الحقيقة الباطنية المطلقة للنبي محمد «الذي جرَت سنَّتُه على أن يتصوَّر في كل زمان بصورة أكملهم (أكمل البشر) ليُعليَ شأنَهم ويُقيمَ مَيَلانَهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم».٤٢ «فالتصوف — بوجه عام — يظهر متعاليًا فوق نطاقِ صورِ الوحي العملية؛ إذ إنه نزوعٌ نحو الوحي بمعناه المطلق — ذلك الوحي الذي يكمن خلف صِوَره العملية — وهو أيضًا (أي التصوف) يقلل من قيمة مدونات (Records) الوحي، لا من أجل أن يحلَّ وحيُه الخاص محلَّها — فإنه لا يفعل ذلك من منظور النقد العقلي — بل ليعثرَ على الوحي الباطني وراء كلِّ صور الوحي العملية».٤٣
ومن ناحية أخرى، تنطوي النبوةُ من حيث هي خارج أو تجلِّيات دورية تظهر حينًا بعد حين على بُعد زماني نسبي، وذلك من حيث إنها ترتبط ببناء تاريخي واجتماعي معيَّن، بشكل يكون معه الوجودُ الإنساني المتعين في مظهره الاجتماعي والتاريخي موضوعًا لها. وهذا البُعد النسبي الكامن في النبوة — وهو الذي يُفسر النسخ في الشرائع والنبوات — يُشكِّل ما يمكن أن نُطلق عليه «أنثروبولوجيا النبوة»، وهو الميدان الذي اهتمَّ بدراسته علماءُ الكلام، خاصة المعتزلة؛ إذ إن «الله يُتعبد بحسب المصالح، فإذا عُلم أن الصلاح في بعض الأوقات خلاف ما تقدم، تُعبِّدَ بحسبه (أي بحسب الصلاح المخالف لصلاح سابق)، كما يفعل الأفعال بحسب المصالح».٤٤
وهكذا تمثِّل النبوة لحظةَ انحلال التعارض بين النسبي والمطلق وانصهارهما في هُويَّة واحدة. ولذا فهي تُظهر توحُّدًا في المقاصد بين الله والإنسان وتعبِّر عن اتِّفاق القصد الإلهي الذي يُمثله الوحي مع حركة الروح الإنساني الشاملة، وبعبارة أخرى: تمثل النبوة لحظة يكون فيها القصد الإنساني مضمونًا لقصد إلهي. وبهذا يتجلَّى الدَّور الذي تقوم به النبوة في الكشف عن النزوع الإنساني لتجاوز ذاته في لحظة تاريخية معينة، بوصفه أيضًا نزوعًا إلهيًّا يهدف إلى نفس الغاية. وكأن النبوَّة تؤكِّد أن ما يريده البشر يتَّفق ومقاصد الله.٤٥
وإذ تتضمن النبوةُ عنصرًا حركيًّا يكاد أن يكونَ جوهرًا لها، فإن «الثبات» — والحال كذلك — يكون نقيضًا لها. ولهذا، فإنَّ كلَّ فكر ينحو بالنبوة أو بالوحي منحًى «ثباتيًّا» من خلال تحويلهما إلى عقائد وأبنية نظرية فارغة المحتوى، يُعَد فكرًا قاصرًا يناقض روحَ النبوة وجوهرها الحركي. وإذا كان هناك مَن تحوَّلوا بفكرة «ختام الوحي وانقطاع النبوة» إلى محاولة «تثبيت» ما هو قائم فكرًا وواقعًا؛٤٦ ممَّا أظهر تناقضًا حادًّا بين جوهر النبوة «الحركي» من جهة، وبين «سكونية» التثبيت الذي ترتب على انقطاعها من جهة أخرى. فإن النبيَّ الذي أشار إلى انقطاع الوحي وختام النبوة، هو نفسه الذي أشار إلى استمرارية الطابع الحركي للنبوة من خلال الدَّور الذي يقوم به العلماء (الذين هم ورثة الأنبياء)، فهم الذين ستكتسب — من خلالهم — النبوة عبر التاريخ جِدَّة لا تنتهي.٤٧ وإذن، فإنَّ النبوة تنقطع «وحيًا»، ولكنها تدوم «عِلمًا»؛ بمعنى أن انتهاء النبوة يعني بدْءَ العلم. ومن هنا فقط يُفهم القول: «إنَّ مولد الإسلام — من حيث هو إشارة إلى ختام النبوة — كان مولدًا للعقل.»٤٨ فالأنبياء هم سفراء الله إلى خلقه، يعبِّرون عن المعاني ويفهمونها الناسَ بلغات مختلفة، لكلِّ أمة ما تعرفها على قدر أفهامها، فإذا مضى الأنبياء لسبيلهم، خلفهم العلماء والحكماء وقاموا مقامهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويُعلِّمون الناس الطريق.٤٩ وهكذا يرثُ العلماء والحكماء النبوة؛ لأن «العالم ما خلا قط عن الحكمة وعن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات».٥٠ وهذه النبوة التي يمثِّلها العلماء والحكماء هي «النبوة بوصفها علمًا أبديًّا يشعُّ نورُه باستمرار على الأرض، سواء ظهرَت في شخص معين أو ظلَّت كامنةً عند الله؛ فالنبوة — بهذا المعنى — لا نهائية أو لا خاتمة لها».٥١ وخلاصة القول إن النبوة تنطوي — تبعًا لانتمائها إلى مجال دلالي معين — على ما يجعل منها باعثًا للحركة والصيرورة في العالم؛ ولذلك فإنَّ كلَّ فكر يعمل على تكريس السكون في ميدان النظر أو العمل ينتهي — دون شك — إلى خيانة روح النبوة وجوهرها.

(٣) تطور دلالة لفظة «النبي»

يعني لفظ «النبي» — ضمن ما يعني — «الطريق». فالنبيُّ هو «الطريق الواضح الخارج من مكان إلى آخر».٥٢ وقد ظلَّ هذا المعنى قاصرًا على الاستخدام في معاجم اللغة فقط إلى أن ظهر في كتب علم الكلام في مرحلة متأخرة؛ حيث قيل إن لفظ النبي — بالمعنى الديني — «مأخوذ من «النبي» وهو الطريق؛ لأنه وسيلة إلى الله».٥٣ وحيث إن «تطوُّر الدلالة من عصر إلى عصر يعتبر صدًى لتحوُّل اجتماعي خارج حقل اللغة»،٥٤ فإنَّ علينا — فيما يبدو — أن نبحث عن تفسير لتطور دلالة لفظ النبي في قلب الواقع الحي لا خارجه. ولعل أول ما يكشف عنه التاريخ أن اصطلاح «الطريق إلى الله» هو من ابتداع الصوفية. ولذا يبدو أنه يتعذر تمامًا تفسير اكتساب لفظ «النبي» في كتب علم الكلام لمعنى «الطريق» إلا بردِّه إلى تأثير صوفي هائل لم يتمكن علماء الكلام من مدافعته، فحاولوا استدماج مفاهيمه الأساسية في البناء الكلامي.٥٥ فقد مثَّل التصوف — الفلسفي خاصة — خطرًا داهمًا على التصورات التقليدية لجلِّ المفاهيم المركزية في الإسلام، ومنها مفهوم النبوة. وقد كان ذلك بدْءًا من القرن الرابع الهجري؛ حيث جاوزت الحركة الصوفية مفهوم النبوة التقليدي عند المتكلمين، وذلك بانفتاحها المباشر على اللامتناهي؛ ذلك الانفتاح الذي ترتب عليه محاولة صياغة علاقة جديدة مباشرة بين الله والإنسان تُوازي علاقة النبوة — هذا إن لم تتجاوزها — ومن جهة أخرى، فقد بلور مَن يسمَّون ﺑ «الصوفية الطرائقية» مفهوم «الطريق» الذي ينبغي أن يسلكَه المريد إلى الله. وقد بالغوا في تأكيد ضرورة سلوك هذا الطريق من خلال «الولي أو القطب»، حتى لقد اعتبروا «الولي» طريقًا «للمريد» إلى «الله».٥٦ وقد بلغ الأمر — أحيانًا — حدَّ تفضيل «الولي» على «النبي». وهكذا أصبح الربطُ الصوفي للطريق إلى الله «بالولي» يمثِّل خطرًا محدقًا على النبوة. ومن هنا بادر علماء الكلام — انطلاقًا من دَور تاريخي يتمثل في الدفاع عن العقيدة، كما تصوروها — إلى سحبِ مفهومِ «الطريق إلى الله» عن «الولي»، عندما رأوا فيه خطرًا على النبوة، معتبرين «النبي» فقط، هو «الطريق إلى الله». فبدَا وكأنَّ تطور دلالة لفظ «النبي» يعكس التطور التاريخي للنسق الكلامي بأَسْره.

وإذن، فقد ظهر أنَّ لفظ «النبي» لفظٌ دال؛ إن من حيث اشتقاقه اللغوي، أو انتماؤه لمجال دلالي بعينه، أو من حيث تطور دلالته ومعناه. فقد لوحظ أنه يكشف — في كل الأحوال — عن نسق من التصورات المتكاملة التي يتعذَّر البتة تكشُّفها بعيدًا عنه. وأخيرًا، يبقى السؤال عمَّا إذا كان الانتقال من لفظ «النبي» إلى لفظ «الرسول» يتبدَّى عن ذات الكلية من التصورات أم لا.

(٤) من «النبي» إلى «الرسول»

انفردَت المصادر الأشعرية بالتمييز بين النبي والرسول؛ وذلك «لما دلَّ ظاهر الكتاب على الفرق بينهما، حيث قال عزَّ من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ (الحج: ٥٢)، ويشهد به الحديث أيضًا».٥٧ ويبدو أن ثمة مجالًا آخر يُبرز الفرق بينهما، هو مجال «اللغة». ولكن اللغة لا في ظاهرها، بل من حيث تتكشف عن شيء يتجاوزها. فإن «المجال الدلالي»، وهو إحدى الأدوات الحديثة التي تُعين على الكشف عن بناء يتجاوز ظاهر اللغة، يؤكد قدرًا من التمايز بين النبي والرسول. فقد لاح أن لفظ «النبي» يرتدُّ إلى جذر لغوي، كشف التحليل الدلالي عمَّا ينطوي عليه من عنصر حركي واضح.٥٨ وقد كشف التحليل ذاتُه، عن أن لفظ «الرسول» يرتدُّ إلى جذر لغوي — رَسَلَ — لا يتبدَّى خلف دلالاته إلا البطء والتؤدة.٥٩ وهكذا يتكشف التحليل الدلالي عن مجالَين متمايزَين للنبي والرسول. ففي حين تظهر النبوة عبر انتمائها لمجال دلالي معين إحساسًا بالتجاوز والحركة الدائمة، فإن «الرسالة» تعكس من خلال انتمائها لمجال دلالي آخر إحساسًا مغايرًا بالبطء والتؤدة تدنو معه من أن تكون سكونًا.٦٠ فبدَا وكأن «الرسالة والنبوة» ينكشفان من خلال الانتماء لمجالَين دلاليَّين متغايرَين عن جدل الثابت والمتحول.٦١ ولعلَّ التفاوت بين «حركية النبوة» وبين «إبطاء الرسالة» يتَّفق والدَّور المنوط بكلٍّ من النبي والرسول. ففي حين «يُبعث النبي لتقرير شرع سابق وإصلاحه، فإن الرسول يأتي بشرع جديد يدعو الناس إليه».٦٢ «فالرسل هم هذا النوع من الأنبياء الذين يؤدي عملهم إلى إقامة دين جديد».٦٣ وهكذا يتبلور دَور الأنبياء في إصلاح الدين القائم وتطهيره مما لَحِقه عبر التاريخ من شوائب؛ هذا الدَّور الذي قام به أنبياء بني إسرائيل، ورأى النبي محمد علماء أمته أهلًا للقيام به. وإذ يقتضي هذا الدَّور تكرارًا ومداومة؛ لأن عثرات البشر لا تنقضي، فإن النبوة صارَت حركةً دائمة أو سيلانًا، زاد معه عددُ الأنبياء أو العلماء. بينما يتمثَّل دَور «الرسل» في إحداث التغييرات الشاملة في التاريخ؛ وذلك من خلال شرع جديد ينتقل بالبشر من طور ديني إلى طور آخر، يناسب وضعًا بشريًّا جديدًا. ويقتضي هذا الدَّور — استيفاءً لبواعث هذا التغيير الشامل — ألَّا يتحققَ إلَّا خلال فترات زمنية طويلة. ولهذا تتَّسم «الرسالة» بضرب من التؤدة والانبثاق البطيء يفسِّر قلة عدد الرسل، مقارنًا بعدد الأنبياء. وباستعارة لغة العصر، يصح القول: إن الأنبياء روَّاد إصلاح يتم في إطار ما هو قائم، في حين أن الرسل محدِثو ثورات تستحدث وضعًا جديدًا. وقد ذكروا فروقًا أخرى بين النبي والرسول، منها «أنَّ من نبَّأه الله بخبر السماء، إن أمره أن يُبلغ غيره فهو نبي-رسول، وإن لم يأمره أن يُبلغ غيره فهو نبي وليس برسول».٦٤ واللافت أن هذا التمييز يعتمد على إشارة القرآن إلى كثيرين أوحى الله إليهم دون أن يُشيرَ إلى تعاليم نشروها بين الناس، وكأن ثمة وحيًا خاصًّا يقتصر على تعاليم خاصة بالموحى إليه وحده،٦٥ وثمة — في المقابل — وحيٌ عامٌّ يُعَد كتمانُه نقصًا. وهكذا تكون النبوةُ وحيًا خاصًّا، يكوِّن النبيُّ معه وعيًا فرديًّا مغلقًا على ذاته، أو وعيًا ينعكس على ذاته فقط، في حين تكون الرسالة وحيًا عامًّا يجعل من الرسول وعيًا ينعكس على الآخر.٦٦
وإذ يقتصر دَور النبيِّ على مجرد إصلاحِ شرعٍ سابق، كما أنه قد يُوحَى إليه دون أن يكون مأمورًا بتبليغ هذا الوحي للآخرين، فإنه لا يشترط فيه أن يكون حاملًا لكتاب، في حين «قد يُشترط في الرسول الكتاب».٦٧ وإذ تؤكد التجربة الدينية للبشر أن الديانات لا تقوم إلا على «الكتب»، فإن النبي — وهو غير الحامل لكتاب — يتَّصف بمحدودية الدَّور التاريخي الذي يقتصر على مجرد الإنذار والهداية في إطار ما هو قائم. وكأن دوره — إذن — لا يتخطَّى أسوارَ عصره. وذلك في حين يمنح «الكتاب» دورَ الرسول حظًّا أوفر من الديمومة التاريخية؛ لأنه دور المؤسِّس لديانةٍ تتخطَّى — في الأغلب — حدودَ عصرها. ويبدو أن «الكتاب» هو الذي يهب الرسول الحق في أن يكون على رأس أمة، في حين يكتفي الأنبياء بأن يكونوا مجرد هداة منذرين لقومهم.٦٨ وهكذا يتجلَّى عِظَم الدَّور التاريخي للرسول في مقابل محدودية دَور النبي.
والحق أن هذه التمايزات لا تعني نوعًا من الفصل المطلق بين النبوة والرسالة. فإن كلَّ ما تعنيه فقط هو أن العلاقة بينهما — أي النبوة والرسالة — تتَّسم بضرب من التوتر. فالرسالة تمثِّل — من ناحية — تجاوزًا للنبوة، إلا أنها تستبقيها في جوفها في الآن نفسه، بصورة تكون معها «الرسالة» بناءً يشتمل على النبوة ذاتها. ولهذا «فإن الرسول أعمُّ من النبي».٦٩ ولكن الرسالة، من ناحية أخرى، لن تكون إلا مجردَ لحظة عليا في النبوة ذاتها، وبشكل تكون معه الرسالة جزءًا من النبوة. ولهذا «فالرسول أخص من النبي؛ فكلُّ رسول نبي، وليس كلُّ نبي رسولًا».٧٠ وهكذا ينشأ التوترُ بين الرسالة، بوصفها بناءً يشتمل على النبوة كجزءٍ من بنائه، وبين الرسالة، بوصفها مجردَ لحظة — وإن كانت عليا — من لحظات النبوة. ويبدو لو أن الأشاعرة قد قاموا بتفجير التوتر بين النبوة والرسالة على هذا النحو، لكانوا قد تمكنوا من قهرِه من خلال الجدل القائم بينهما. ولكنَّ اقتصارَهم على تناول المسألة في إطار العلاقة القائمة بين النبي والرسول من حيث العموم، والخصوص، تأدَّى بهم إلى استبعاد الجانب الحي من «التوتر» محتفظين منه بالجانب «الصوري» فقط. وهكذا اتَّسم قهرُهم للتوتر بطابعٍ صوري، أدَّى بهم إلى إلغاءِ أحدِ أضلاع التوتر كلية. فهم يرَون «أن الرسالة أعمُّ من جهة نفسها، و«لذا» فالنبوة جزءٌ من الرسالة، «ولكن» الرسالة أخص من جهة أهلها».٧١ وهكذا احتفظ الأشاعرة من التوتر بضلعه القائل: «إن النبوة جزء من الرسالة»، وألغَوا ضلعَه القائل: «إن الرسالةَ ذاتَها مجردُ لحظة عليا أو جزء من النبوة». فبدا وكأنه قد عزَّ على الأشاعرة الاحتفاظ بلحظة واحدة من التوتر الحي داخل النسق بأَسْره.٧٢

وإذن فقد انتهى الأشاعرة إلى تمييز بين النبيِّ وبين الرسول، كان ضروريًّا لإظهار الاتساق بين عناصر النسق الأشعري. فإن تبنِّيَهم ردَّ النبوة — لغةً — إلى «النبأ» قد دفعهم إلى التمييز بين نبأٍ أو وحيٍ خاصٍّ يقتصر على شخصِ الموحى إليه فقط، وبين نبأٍ أو وحيٍ عامٍّ يتعدَّى شخصَ الموحَى إليه إلى «ضبط قوى التاريخ وتوجيهها نحو بناءِ عالمٍ جديد». ويبدو أن ذلك قد فرض ضرورةَ التمييز بين «متلقٍّ» للنبأ أو الوحي الخاص (وهو النبي)، وبين «متلقٍّ» للنبأ، أو الوحي العام (وهو الرسول)، وعلى هذا فإن التمييزَ الأشعريَّ بين النبيِّ وبين الرسول، يبدو وقد انتظمه الموقفُ الخاص من النبوة لغةً. واللافت أن هذا «الانتظام» لا يجد تفسيره إلا في نسق أشمل من التصورات المتجانسة المعبِّرة عن جوهر الرؤية الأشعرية للعالم في لحظة محددة.

وإذا كان الطابعُ المهيمن على النسق الأشعري قد انعكس بوضوح على تعريف الأشاعرة «للرسول» وتمييزهم بينه وبين النبي، إلى حدٍّ صارَت معه رؤيتُهم الخاصة للرسول ليست غيرَ ضرورة من ضرورات النسق، فإنه يبدو بالمثل أن الطابع المهيمن على النسق الاعتزالي٧٣ — الذي يجعل من المتعذر فهْم أيِّ شيء في صورته المباشرة، ولكن من خلال علاقاته بشيء آخر باعتبار أن الشيءَ لا يكتسب هُويَّتَه الحقة إلا في مواجهة الآخر٧٤ قد انعكس على تعريف المعتزلة للرسول وإنكارهم للتمييز بينه وبين النبي. فهم قد كشفوا عن الدور الذي يلعبه «الآخر» في تحديد المعنى اللغوي للفظ «الرسول» إلى حدٍّ بات يتعذر معه فهمُ لفظِ «الرسول» بعيدًا عن «الآخر». فإن لفظ «الرسول» لفظٌ من الألفاظ المتعدية «المتضايفة»، أي لا بدَّ من أن يكون هناك مُرسِل ومُرسَل إليه،٧٥ وكأن اللفظ بذاته يُحيل إلى «الآخر» الذي يُصبح مصدرَ تحديد له؛ «فالرسول» لا يُفهم إلا في علاقة، أو هو وجود يتكشَّف عن علاقة بين وجودين. وهكذا لن تكون «الرسالة» خطابًا منفردًا يُردِّد أصداء صوت الله وحده، وإنما ستكون «خطابًا» يكشف عن «الله» في علاقة مع «الإنسان» باعتبارهما يدخلان معًا في تحديد معنى الرسالة.٧٦
ولقد بدَا للمعتزلة أن لفظة «الرسول» لا تكشف من خلال التحليل اللغوي إلا عن أحدِ عناصرِ البناء أو النسق، وهو فعل الإرسال الواقع من الله فقط، دونما نظر لفعل من الإنسان — وهو العنصر الآخر في النسق — في هذا المجال. «فإن لفظة «الرسول» مأخوذة من إرسال المُرسِل له … ولا يعتبر في هذا الوصف وقوعُ فعل من الرسول؛ وإنما المعتبر في ذلك بالإرسال الواقع من المُرسِل».٧٧ وقد لاح أن هذا القولَ يمثِّل انحرافًا عن جوهر بناء أو نسق يُعَد احتفاظه بالإلهي في جدل مع الإنساني من أهم مصادر تميُّزه. ولذلك اضطروا (المعتزلة) للبحث عن دَور للإنسان في هذا المجال، خصوصًا حين أدركوا أن ردَّ لفظة «الرسول» إلى مجرد إرسال المُرسِل (الله)، دونما نظر لفعل يقع من المُرسَل (الإنسان) يؤدي إلى مفارقة غريبة «يصحُّ معها أن يُرسل المُرسِل (الله أو أي شخص آخر) مَن غاب عنه غيبةً بعيدة، بل يجوز أن يُرسل مَن لم يُخلق أو فاقد العلم».٧٨ حيث يتوقف الأمر على فعل المُرسِل فقط دون أيِّ اعتبار آخر. وبعبارة أخرى، فإن رد «الرسالة» إلى مجردِ فعلِ المُرسِل فقط يؤدي إلى إلغاء الرسالة ذاتها. وقد أدرك المعتزلةُ أنه لا يتعذر الإفلات من هذه المفارقة إلا بإثبات دَور للإنسان أو المُرسَل؛ إذ «إن الرسالة، التي لها يُوصف «الله» بأنه مُرسِل لغيره، لا تكون رسالة بأن يُتكلم بها فقط، وإنما تكون رسالة إذا حُمِّلها الرسول. ولا يكون مُحمَّلًا له الرسالة إلا بأن يعلمها الرسول، ويميِّزها من غيره، فيصير بحيث يمكن أن يُؤدِّيَها إلى غيره، ولا يكون كذلك مع الغيبةِ وفَقْد العلم ولا قبل أن يُخلق؛ لأن ذلك يستحيل».٧٩ وهكذا ينتفي عن الرسالة كونُها كذلك، إذا لم يعلمها الرسول ويقبلها. ولذا أضافوا إلى «إرسال» المُرسِل «قَبول» المُرسَل ليصبح الرسول كذلك، وذلك بمعنى أن لفظ «الرسول» مأخوذٌ من الإرسال «وهو فعل إلهي» والقبول «وهو فعل إنساني» معًا. وحيث إن اللغة لا تُفيد ذلك مباشرة؛ فقد ذهب المعتزلة إلى أن «قبول الرسالة» إنما يُفيد من وصف «الرسول» بأنه كذلك من جهة العرف وليس من جهة اللغة؛ «فالقبول إنما يدخل في ذلك من جهة التعارف لا من جهة اللغة».٨٠ فكأنهم بذلك قد لجئوا إلى خبرة العرف، حين لم تُسعفهم تخريجاتُ اللغة، فأظهروا بذلك أن اللغةَ ليست بناءً جامدًا مغلقًا، بل نظامًا يقبل الإضافات والتحويرات التي نشأَت من التجربة الإنسانية المشتركة.٨١ وأظهروا — من ناحية أخرى — أنه إذا كانت النبوة — بوصفها، حسب ما رأوا — ثوابًا «إلهيًّا» على فعل «إنساني» مخصوص — تعكس التوازن القائم بين الإلهي والإنساني — فإن هذا التوازن الفذَّ ظلَّ يُهيمن أيضًا على تحليلهم للفظ «الرسول» وذلك حين ردُّوه إلى «إرسال إلهي»، و«قَبول إنساني». وهكذا ظلَّ النسق الشامل قابضًا على جزئياته.
ويبدو أن هذه الهُوية المشتركة بين النبوة والرسالة — التي كشفَت عنها تحليلاتُ المعتزلة — هي التي أدَّت بهم إلى معارضةِ التمييز بين النبي والرسول؛ حيث لم يلاحظوا «فرقًا بينهما إلا من جهة اللغة، بينما لا فرق بينهما من جهة الاصطلاح».٨٢ وإذا كان الأشاعرة قد استندوا في التمييز بين النبي والرسول على قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ (الحج: ٥٢)، فقد لاحظ المعتزلة أن «الفكرة الموجودة وراء آيات القرآن — فيما يتعلق بهذا التمييز — ليست دائمًا واضحة»،٨٣ يؤكد ذلك أن النصَّ السابق «لا يدل على ما ذكروه (أي الأشاعرة) من تمييز بين النبي والرسول؛ لأن مجرد الفصل لا يدلُّ على اختلاف الجنسين. ألَا ترى أنه تعالى قد فصل بين النبي محمد وغيره من الأنبياء، ولم يدلَّ بذلك على أنه من غير الأنبياء».٨٤ فبدَا وكأن المعتزلة لم يجدوا في النص السابق، ولا في أية نصوص أخرى، ما يؤكِّد — بلغة المنطق الحديث — «الفصل القوي» بين النبي والرسول. وكان كلُّ ما وجدوه بين الكلمتين مجردَ نوع من «التكافؤ المنطقي» جعلهما «يثبتان معًا ويزولان معًا، حتى إنه لو ثبت أحدهما ونُفي الآخر لتناقضَ الكلام»،٨٥ ولا شك في أنه لا يمكن تفسير هذا التكافؤ بين الكلمتين إلا من خلال هُويتهما المشتركة التي تجعل التمييز بينهما عسيرًا.
ويبدو أن المعتزلة لم يقنعوا بما قدَّمته هذه التحليلات من تأكيد على رفض التمييز بين النبي والرسول؛ وذلك لأنهم بحثوا عن نصوص من القرآن تؤكِّد ما يذهبون إليه في مواجهة الأشاعرة، فأثبتوا «أنه تعالى خاطب محمدًا مرة بالنبي وبالرسول مرة أخرى»٨٦ ولذا لا يعقل التمييز بينهما وهما يرتبطان بجهة واحدة.
وقد ارتبط إنكارُ المعتزلة للتمييز بين النبي والرسول بموقفهم من تعريف «النبوة»، تمامًا كما ارتبط التمييز الأشعري بينهما بموقف الأشاعرة من تعريف النبوة أيضًا. فإن «قول شيوخ المعتزلة عن النبوة إنها جزاء على عمل»٨٧ أو إنها «منزلة رفيعة» تُستحق على «فعل مخصوص»، يؤدي — وهذا أمر هام — إلى أن النبوة نفسها ليست فعلًا، وإنما هي تتويج لفعل. ولذا، فإن ضرورات النظر تُحتم البحث عن ذلك «الفعل أو العمل» الذي تكون النبوة جزاءً عليه أو تتويجًا له.٨٨ وهذا بالضبط ما فعلوه، فأدركوا «أن «ذلك الفعل» الذي تُستحق به هذه المنزلة لا يكون إلا فعلًا مخصوصًا يقع من الرسول … أو «أنه» الطاعات الكثيرة التي لا تجتمع في هذه الأعمار. وإذا كان هذا الثاني متعذِّرًا لم يبقَ إلا الوجه الأول؛ لأنه، إذا قَبِل الرسالة وتكفَّل بأدائها والصبر على عوارضها، استحقَّ هذه المنزلة».٨٩ أي إن قَبول الرسالة وتحمُّل أمانة أدائها والصبر على ذلك هو ذلك «الفعل المخصوص» الذي يستحق عليه الرسولُ منزلةَ النبوة الرفيعة. ذلك «أنه لا يكون رسولًا لله إلا وقد يختص بأوصاف تقتضي المدح فيه والتعظيم، وإن كانت هذه اللفظة (الرسالة) لا تُفيده»،٩٠ «فالرسالة ليست بمدح ولا ثواب».٩١ ولذا كان من الضروري إضافة لفظة «النبي» إلى «الرسول»؛ «لأنها موضوعة للرفعة فهي تُفيد المدح بظاهرها».٩٢ وبعبارة أخرى، فإن لفظة «رسول» تُفيد المدح «بمعناها»، ولفظة «نبي» تُفيده «بظاهرها»، وهما يُضافان إلى شخص واحد من بابِ جمعِ كلٍّ من المدح المعنوي والمدح الظاهري له. وهكذا يثبت أن اللَّفظتَين لا تتمايزان لأنهما تتعلقان بجهة واحدة أو بشخص واحد تكون «النبوة» منزلة يستحقها جزاء أدائه «الرسالة».

وهكذا وضعَتنا «المسألة اللغوية» في مواجهة أنساق نظرية عُليا تُفسِّرها وتحكم حركتها، بحيث ثبت أنَّ التباين اللغوي بين كلٍّ من الأشاعرة والمعتزلة بصدد النبوة، إنما يرجع إلى تباين أعمق بين الفريقين يتعلَّق بالتصورات التي أقاموا عليها النسقَ النظري كلَّه. إذ وضح من خلال استكشاف هذه الأنساق، أن علم الكلام قد توتَّر أساسًا بين نسقَين متمايزَين عكَسَ كلٌّ منهما تصورًا مختلفًا عن العلم وأصل بنائه. ولقد تبدَّى مفهوم «النسق» عن ثراء وخصوبة جمَّة، حين ساعد على لمِّ شتاتِ كثيرٍ من الأفكار التي كانت تبدو مبعثرةً لا رابطَ بينها. كما أنه يساعد — إضافةً إلى ذلك — على تفسيرِ كثيرٍ من التصورات التي تتحكَّم في وَعْينا المعاصر بالعالم، وذلك من خلال ردِّها إلى أنساق كلية يصبح تحليلُها وتفسيرها بمثابةِ توطئة لنقدِ الوعي المعاصر (بالمعنى الكانطي للنقد) وفهمِ حدوده. وكأننا بتحليل النسق لا نفعل أكثرَ من تحليل وَعْينا، ومن هنا ينبثقُ المعنى الحيُّ والمتجدد لعلم الكلام الذي يُصبح بذلك علمًا معاصرًا أبدًا، وذلك مثلما كان التاريخ — من حيث إنه تحليلٌ لوضعنا المعاصر — معاصرًا أبدًا عند كروتشه.

ثانيًا: النبي … اللفظة الأجنبية

  • (١) اللفظة العبرية: يبدو أن لفظة nabi «النبي» قادرةٌ في العبرية أيضًا على إحالتنا إلى ما يتعدَّاها، أو مَنْحنا، على الأقل، فهمًا أفضل لمسألة النبوة، بحيث يصبح القول بأنه «لا يمكن فهمُ النبوة على أحسن وجه إلا من خلال البدء بتحليل لفظة nabi (نبي)»٩٣ قولًا لا يجانب الحقيقة. فإن تاريخ اللفظة وتطوُّر دلالتها يتجلَّى عن بناءٍ كامل من الأفكار والحقائق التي يتعذَّر في غيابها النفاذُ إلى طبيعةِ النبوة اليهودية، وذلك إلى الحد الذي أصبح معه مجردُ ظهور اللفظة دالًّا إلى حدٍّ كبير؛ فبالرغم من أن لفظة nabi لم تُستخدم بصورتها على الأقل في نصٍّ أقدم من العهد القديم،٩٤ إلا أن ظهورَها في العبرية يكشف عن قبائل استغرقَتها نزعةٌ حسية فجَّة، حتى إنه عندما بدأ الربُّ وحْيَه إليهم، بحثوا عن لفظٍ يُطلقونه على ذلك الذي ينقل إليهم وحْيَ الرب، وحين لم يجدوا في لغتهم المتداولة ما يصلح لذلك، اضطروا للاستعارة والاقتراض من اللغات الأخرى المجاورة. وهكذا ظهرت لفظة nabi العبرية، وهي تدين بأصل وجودها إلى لغات القبائل والشعوب المجاورة.٩٥ ويبدو أن هذا الأصلَ المستعار قد أكسب اللفظةَ nabi قدرًا من المرونة والقابلية على اكتساب المعنى المتجدد؛ لأنها لم ترتبط بنظام اشتقاقي أصيل تقيَّد بالنظام المعجمي الذي تتطور اللغةُ تبعًا له. ولذا كان تطوُّرها غيرَ مقيَّد، بحيث كان المعنى الذي تَعْنيه لفظةُ nabi يرتبط بالدَّور الذي يؤدِّيه النبي. ولا شك أنه دَور متطور، بمعنى أن أيَّ تغيُّر في هذا الدور كان يعني تغيُّرًا في طبيعة النبوة ومعناها. وقد أدَّى هذا الارتباطُ إلى التصاق اللفظة «بطابع وظيفي»٩٦Functional من حيث المبدأ، بحيث لم تكن تحمل أدنى إشارة إلى وجود أو عدم وجود أيِّ «هبات خاصة» يتمتَّع بها النبي. وهذا هو المعنى الأقدم الذي التصق باللفظة، والذي يكشف عن النبيِّ بوصفه فاعلًا (active) «أي مبلغًا ورسولًا»، وليس بوصفه منفعلًا (passive) «أي مجرد متلقٍّ للرسالة Recipient of Vocatian».٩٧ وبالرغم من أنه يتعذر تمامًا — من الناحية الفعلية — الفصلُ بين «البُعد الإيجابي» — أو النبي بوصفه كيانًا فاعلًا — وبين «البُعد السلبي» — أو النبي بوصفه كيانًا منفعلًا — لأنهما بُعدان متكاملان غير منفصلين ينبغي إدراكهما في وحدتهما الحيَّة التي يحققها جدلُ السالب والموجب، إلا أن النبوة اليهودية قد تبلورَت — إلى حدٍّ كبير — حول المدلول الإيجابي للفظة nabi. بمعنى أن مفهوم «الدَّور» الذي يؤدِّيه النبيُّ هو الأهم في تقرير كونه نبيًّا.٩٨
    فقد استُخدمَت لفظة Nabi لأوَّل مرة — تبعًا للعهد القديم — في عصر إبراهيم الذي استحق أن يُلقَّب «نبيًّا» «لدَوره» كشفيع وواسطة بين الله والإنسان.٩٩ وكذلك استحق موسى اللقبَ نفسه «للدَّور» الذي قام به في التوسُّط بين الرب والشعب أثناء حادثة سيناء.١٠٠ وهكذا تبلورَت لفظةُ nabi بدءًا من «الدور» الذي يؤديه النبي، وهو يتمثَّل أساسًا في التوسط بين الله والبشر، أو «التحدث باسم الله إلى البشر»١٠١ أو العكس. فاللفظة العبرية تعني — لغويًّا — الناطق بلسان جماعة أو إله، أكثر ممَّا تعني المتنبِّئ أو الكاهن. «فلم يكن يُقصد بلفظة nabi ذلك الرجل الذي يُخبر عن الحوادث المستقبلة، بل هو الذي يتحدث بالنيابة عن آخر، وهذا هو المعنى اللغوي للفظة nabi العبرية.»١٠٢ وبعبارة أخرى، لا تعني اللفظة العبرية nabi أكثر من أن النبيَّ يُعَد فمًا للرب من ناحية، وفمًا للشعب من ناحية أخرى، فهو — إذن — مجردُ مُبلِّغ ينوب عن أحدهما عند الآخر، دون أيِّ إشارة إلى مقدرة على التنبؤ بالمستقبل أو التكهُّن بالغيب. وقد ذهب أحدُ الباحثين — تبعًا لذلك — إلى القول بأن «الترجمة العادية للفظة nabi العبرية إلى لفظة Prophet الإنجليزية تُعَد ترجمةً مضللة؛ لأن النبي (حسب اللفظة العبرية) لا يتنبأ بالأحداث المستقبلة (وذلك ما تُشير إليه اللفظة الإنجليزية). بل هو — أي النبي — مَن ينطق كلمة يهوا وحكمه على الأحداث الجارية».١٠٣ يلاحظ إذن أن ما ينطق به النبيُّ يتعلق — حسب المفهوم العبري — «بالأحداث الجارية» وليس «بالأحداث المستقبلة». ولكن ذلك كان — فيما يبدو — ما تَعْنيه اللفظة في استخداماتها الأولى فقط، فإن ثمة تطورًا قد أدَّى إلى إكسابِ اللفظة دلالةً أوسع بعد ذلك، «حيث أصبحَت تُطلق بعد عصر صموئيل على ذلك الشخص الذي كان يُطلق عليه قبل ذلك «الرائي» (Seer, Hazeh, Ro’lh).١٠٤ (وهو — أي الرائي — شخصٌ قادر على التنبؤ والرؤيا بالطبع). فإنه «سابقًا في إسرائيل، هكذا كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله، هلمَّ نذهب إلى الرائي؛ لأنَّ النبي اليوم كان يُدعى سابقًا الرائي».١٠٥ فالنصُّ يُفيد أن الذي أصبح يُسمى اليوم «نبيًّا» كان بالأمس رائيًا، وذلك يعني أن النبيَّ قد أصبح يقوم ﺑ «الدور» الذي كان يقوم به الرائي قبل ذلك والمتمثل أساسًا في الرؤيا.١٠٦ وليس من شك في أن تطور دلالة اللفظة nabi يكشف — كما سبق أن لاحظنا في تطور دلالة لفظة «نبي» العربية — عن تطورات أعمق حدثَت خارج اللغة ذاتها. يؤكد ذلك أن المفاهيم الرؤيوية أو المسيانية (Messianic) — التي لعبَت دورًا هامًّا في تطوير النبوة اليهودية ذاتها، والتحوُّل بها من نبوة «إخبار» إلى نبوة «رؤيا» — قد تبلورَت بدءًا من تغيرات طرأَت على الوجود اليهودي نفسه. فقد انبثق مفهوم «الرؤيا» (Messiah)، للمرة الأولى في عصر داود الذي مسحه صموئيل النبي ملكًا على إسرائيل — وذلك بعد مقتل شاءول ملك إسرائيل الذي هزمه الفلسطينيون هزيمةً مُرَّة انتهَت بالسيطرة على مدن إسرائيل١٠٧ وبعد أن ضرب داود رقابَ الفلسطينيِّين وردَّهم عن مدن إسرائيل تنبَّأ صموئيل لحكمه أن يدومَ إلى نهاية التاريخ، كما تنبَّأ له بالسيادة على الشعوب الأجنبية.١٠٨
    وهكذا أصبح الأنبياء يتنبَّئون بالأحداث المستقبلة، بعد أن كانوا لا ينطقون إلا بحكم «يهوا» على الأحداث الجارية. ولقد تبلورَت المفاهيمُ المسيانية بحسم أثناء عصر النفي اليهودي إلى بابل؛ حيث بلور اليهود بدءًا من قسوة المنفى «فلسفةً في الأمل» قامت أساسًا على «الرؤيا» والتنبُّؤ بالمخلِّص الذي يقود شعبَه عبر مسالك الخلاص. ومن هنا اتَّسمت نبوةُ عصر النفي بطابع تنبُّئٍّ خالص، «فحفلَت الأسفار المقدسة بنبوءات كثيرة مستوحاة من أماني الشعب وآلامه تأسيةً له وسلوانًا وتنفيسًا عن ألمه المكبوت».١٠٩ فقد اعتمد الأنبياء في بناء ثقة الشعب اليائس على التنبؤ بتدخل الربِّ لكي يخلصَ شعبه من منفاه ويعود به إلى أرض صهيون، «وتُمثِّل نبوةُ حزقيال طبعَ نبوة النفي إذ تتضمَّن بشرى الخلاص والعودة إلى البلاد ومشروع بناء المعبد المهدَّم».١١٠ وليس أدل على الأثر الذي أحدثَته فترةُ النفي في النبوة اليهودية من «أن الجزء الثاني من سفر إشعيا (المعروف بتثنية إشعيا) — والذي كُتب بعد النفي — يتميز عن الجزء الأول من ذات السفر — الذي كُتب قبل النفي — بما ينطوي عليه من تنبؤات بقدوم المسيح أصبحت فيما بعد أهمَّ نصوص العهد القديم التي سِيقَت دليلًا على أن الأنبياء قد تنبَّئوا بمجيء المسيح عيسى».١١١
    وهكذا أيضًا، وضعَنا البحثُ اللغوي — المتعلِّق بلفظة nabi العبرية — في مواجهة نسقٍ نظري متكامل يطوِّر آلياته الداخلية، بدءًا من مفهوم «الدور أو الوظيفة»، الذي يبدو مهيمنًا على كلِّ تطور في طبيعة النبوة اليهودية. وقد أظهر هذا المفهومُ خصوبةً فائقة «في إعادة بناء اللاهوت اليهودي»، وتُمثِّل كتاباتُ: هيشيل، ومارتن بوبر، وموردخاي كابلان، وروزنز فايج — أهم المنظِّرين اليهود المعاصرين — نماذجَ دالة على ذلك.
    صعوبات الاشتقاق: حَظيَ البحث في المصدر الذي يمكن أن تُردَّ إليه لفظة nabi العبرية بقدر كبير من الغموض والاضطراب؛ وذلك لأن «الصورة الأساسية للفعل الذي يرتبط بلفظة nabi غير موجود في اللغة العبرية».١١٢ ولذا يكاد الباحثون أن يُجمعوا على أن «اللفظة العبرية nabi ذات أصل لغوي غامض وموضع شك»،١١٣ ولكنهم انتهَوا مع ذلك إلى أنها قد تكون لفظةً دخيلة على العبرية، أو أنها ترتبط على الأقل بأصول غير عبرية. وبالرغم من هذا الاضطراب، فإن الباحثين قد حصروا المصادر الممكنة للفظة العبرية nabi في مصدرَين أساسيَّين؛ الأول: أكادي-آشوري، والثاني: عربي. إذ يذهب فريقٌ من الباحثين إلى «أن لفظة nabiu العبرية ترتبط بالفعل الآشوري nabiu (نابيو)، ويعني يدعو أو يُعلِّم أو يأمر»،١١٤ أو «أنها ترتبط بالكلمة الآشورية nebo نيبو — وهي تعني المتكلم نيابةً عن الله الذي يمتلك وسائل التعبير المتاحة للبشر»،١١٥ أو «أنها ترتبط بالفعل الآشوري nabiu (نابو)، ويعني يُسمي Ta name»،١١٦ ويقال أيضًا إنها ترتبط بالفعل الآشوري NI، ويعني to cary off؛ أي ينقل شيئًا بقوته الخارقة، «فيكون النبي، بذلك، هو الشخص الذي ينقل بقوته الخارقة شيئًا من طور إلى آخر»، ولكن يبدو أن الاستخدامَ الآشوري لهذا الفعل لا يُقدِّم ولو أضعف دليل يؤكد ذلك التخريج».١١٧ وثَمة مَن يؤكد أن اللفظة العبرية nabi ترجع إلى أصل واحد هي والفعل الأكادي nabiu، ويعني: يدعو أو يُعلن.١١٨ واللافت هنا أن الآراء تتفق على أن اللفظة العبرية مشتقةٌ من مصدر يحمل معنى «الدعوة والإعلام والتعليم»، وهو أمرٌ له دلالتُه الكبيرة في فهمِ مضمون النبوة.١١٩ ولكن، بالرغم من هذا الاتفاق فإن ثَمة مَن يردُّ لفظة nabi العبرية إلى صيغة آشورية انفعالية naba، وتعني to bubble up أو to fall in transports؛ أي «يتحمس ويتهيج وينتشي».١٢٠ بل إن ثمة مَن يرى أن الجذر الأصلي (الذي اشتُقَّت منه لفظة nabi) كان يعني الجنون والخبل (insanity)؛ ولذا فإن لفظة nabi تعني أصلًا ذلك الشخص الذي تستحوذ عليه قوةٌ خارقة فيغدو ممسوسًا فيها. وإضافة إلى اشتقاق لفظة nabi فإن ثَمة نماذجَ معينةً من سلوك الأنبياء تَرِد كشاهدٍ يدعم هذه النظرية؛ إذ كان يفترض أن لفظة nabi تُشير إلى شخص تتدفق أحاديثُه من فمه بصوتٍ عالٍ وهائج ومصحوب بأنفاس عميقة.١٢١ ومع أن هذه النظرية تُفسِّر وجهةَ نظرٍ١٢٢ تتمثَّل في وسم النبوة اليهودية بسمةٍ انفعالية وجدانية، إلا أنها تُعاني من أوجُهِ ضعفِ عدَّة، منها «أنها تعزل الفعل naba عن أصوله السامية Semitic (التي تحمل معانيَ الدعوة والإعلان، وليس الحماس والهياج)، إلى جانبِ أنها تتجاهل فروقًا صوتية بين الفعلَين اللذَين يمكن أن نردَّ إليهما لفظة nabi، ومن ناحية أخرى فإنه إذا كانت لفظة nabi تعني «التحمس والهياج»، فإن النبيَّ لن يكونَ مُلامًا على حماسه وهياجه»،١٢٣ وبالتالي ضياع رسالته خلال غيبوبة النشوة.١٢٤
    وثمة فريقٌ آخر من الباحثين يذهب إلى «أن اللفظة العبرية nabi مشتقة من الفعل naba الذي يرتبط بالفعل العربي «نبأ» بمعنى «أعلن».»١٢٥ وثمة مَن يربط اللفظة العبرية nabi «بنفس الفعل العربي المشار إليه «نبأ»، ولكن باعتبار أن هذا الفعل يعني مَن يتحدث مؤيدًا بسلطة؛ ولذا يكون النبي هو المتحدث الرسمي (Speaker authorized)».١٢٦ ولكن بعض الباحثين يرى أن ذلك استنتاجٌ متعسِّف، «لأن الفعل العربي لا يدل على مَن يتكلم أو يتحدث (to Speak)، بل يدل على مَن يخبر (to inform) أو من يُعلن (to announce)».١٢٧ وبغضِّ النظر عن معنى الفعل العربي الذي تَرِد إليه لفظةُ nabi، فإن هناك مَن يؤكد — بناءً على الربط بين الفعل العربي واللفظة العبرية — على «أن منطقة شبه الجزيرة العربية هي أصل النبوة».١٢٨
    وعلى أي حال، فإن الأمر المؤكَّد هو أن لفظة nabi العبرية تُعَد لفظة مقترضة من لغة مجاورة (أكادية، أو آشورية، أو عربية). وبالرغم من أن هذه الملاحظة تؤكِّد ظاهرةً عامة تتعلَّق بالتفاعل الحي بين الحضارات المختلفة، إلا أن لها — هنا — أهمية خاصة تتعلَّق بالتقليل من صحة الادعاء بخصوصية ونقاء (Purity) الحضارة اليهودية التي تنظر لنفسها على أنها بنيةٌ حضارية مغلقة تندُّ عن التفاعل مع أيِّ أبنية حضارية أخرى؛ إذ تؤكِّد ملاحظتُنا — على عكس هذا الادعاء — أن النسق الحضاري اليهودي، كغيره، لم ينهض بعيدًا عن جدليات التفاعل الخلَّاق بين الحضارات المختلفة.١٢٩
  • (٢) اللفظة الإغريقية: ظهر أثناء نقل التوراة إلى اللغة الإغريقية — وهي العملية المعروفة بالترجمة السبعينية — أن لفظة ΠeoφyTys هي أفضل لفظة ملائمة لترجمة اللفظة العبرية nabi.١٣٠ وهذه اللفظة مكوَّنة من مقطعين؛ الأول: Πeo، ويعني «الإلمام المسبق بشيءٍ آتٍ أو وشيك الوقوع»، والمقطع الثاني φyTys، ويعني المتكلم (Speaker)، وهو مشتق من الفعل الإغريقي avai، ويعني يتكلم (To Speak).١٣١ وهكذا تُشير اللفظةُ في الإغريقية القديمة إلى شخص ينطق بالنبوءة ويُفسرها، وكان يُعتقد أنه لا ينطق، آنئذٍ، بأفكاره الخاصة، بل بوحيٍ من الخارج.١٣٢ فالنبي، إذن، ليس مجردَ ناطق أو مبلِّغ للنبوءة، ولكنه مفسِّرٌ وشارح لها أيضًا.١٣٣ ولذا، فإن الكاهنة الهائجة Frantic بیثیا Pythia، كاهنة معبد دلفي، لم تكن تُدعَى «نبية» (Prophetess)، بل يُدعى كذلك حراس معبدها المقدس الذين كانوا يُصورون صراخها الهائج في ردود يمكن فهمها بوضوح،١٣٤ إذ «إن الربَّ الذي تقوم معجزته في معبد دلفي لا يُفصح ولا يُخفي ولكنه يُلمِّح».١٣٥ ومن هنا، فإن كلماتِ بيثيا كانت غامضةً، بوجه عام؛ ممَّا جعلها في حاجة إلى تفسير واضح اللغة والمعنى، وذلك ما كان يقوم به خدمُ المعبد الذين سُمُّوا — لذلك — أنبياء.١٣٦ وبذا يكون تفسير النبوءة، وليس مجرد النطق بها، هو الأهم في تقرير كون الشخص نبيًّا عند الإغريق.١٣٧
    ويبدو أن لفظة ΠeoφyTys الإغريقية قد خضعَت لنوع من التطور اللغوي، «فقد كانت تُشير من الناحية الاشتقاقية إلى النطق بشيء وشيك الوقوع بمقتضى سياق الأحداث الجارية (Farthtelling)، وليس إلى التنبؤ والتكهُّن بالمستقبل «على غير أساس» (Foretelling). ولكن لأنَّ المقطع Πeo يدل على المتقدم في الزمان (Before in Time)، وكذلك لأن النبوءات (Prophecies) تتناول دائمًا الأحداث المستقبلة ومعرفة الأحداث قبل وقوعها (Foreknowledge) التي يسود الاعتقاد بأنها لا تتم في ظروف الإدراك العادي، فقد تطورت بسهولة الفكرة القائلة بأن التنبؤ والوجد الصوفي يُعَدان من العناصر الضرورية في النبوة. ولذا نظر فيلو (Philo) السكندري، في العصر الهلليني، إلى تفسير النبوءات (ذلك الذي كان العنصر الأهم في تقرير كون الشخص نبيًّا) على أنه دجل، بينما أظهر احترامًا فائقًا للمجذوب (ecstatic) الذي لا ينطق بشيء من عنده.»١٣٨ وهكذا، فإن لفظة ΠeoφyTys الإغريقية لم تكن تُشير، بحسب النشأة إلى التكهن والتنبؤ الغامض المجهول المصدر، بل إلى نوع من القراءة الواعية للمستقبل من خلال تفسير إشارات معينة، ولكنَّ ظروفًا خاصة نابعة من طبيعة اللفظة جعلَتها أقدر على الإحالة إلى معانٍ ومدلولات أوسع اقتضتها متغيرات حضارية معينة،١٣٩ وذلك ما يؤكد حيوية اللغة ومرونتها، أو يؤكد «أن في استطاعة اللغة، أن تعبِّر عن الأفكار المتعددة بواسطة تلك الطريقة الحصيفة القادرة التي تتمثل في تطويع الكلمات وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة. وبفضل هذه الوسيلة تكتسب الكلمات نفسها نوعًا من المرونة والطواعية، فتظل قابلة للاستعمالات الجديدة من غير أن تفقد معانيَها القديمة».١٤٠
  • (٣) اللفظة اللاتينية: كانت اللفظة الإغريقية ΠeoφyTys تُترجم، أولًا، إلى اللفظة اللاتينية Vates،١٤١ وهي لفظة كانت تُطلق على الشعراء، لكنها أصبحت موضعًا للاحتقار فيما بعد، ثم استردَّت قيمتَها مع فرجيل، كما أنها تُطلق — أيضًا — على المتنبِّئ والمعلِّم أو السيد الذي له اليد الطولى في أيِّ فن أو مهنة.١٤٢ وأول ما يتبادر إلى الذهن هو أن لفظة Vates، ترتبط بالتراث الوثني القديم الذي كان يوحِّد بين الشاعر والمتنبئ والمعلِّم، وذلك ما جعل التحول من هذه اللفظة إلى لفظة أخرى تلائم الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية أمرًا ضروريًّا. وبالفعل سرعان «ما تم نقل اللفظ الإغريقي ΠeoφyTys بصيغته الإغريقية تمامًا إلى لفظة لاتينية هي Propheta، وذلك في فترة ما بعد العصور الكلاسيكية، وكان ذلك يرجع إلى التأثيرات المسيحية القوية؛ ولذا كانت هذه اللفظة اللاتينية Propheta هي الشائعة في الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، ثم تسرَّبت هذه اللفظة من اللاتينية الكنسية إلى اللغات الرومانية والتيوتونية».١٤٣ واللافت في هذا التحول أنه قد تم بتأثير مسيحي؛ مما يعني أن التحول الروماني إلى المسيحية لم يكن فقط تحوُّلًا دينيًّا، بل أيضًا تحولًا حضاريًّا يتوجَّه من طورٍ وثنيٍّ إلى طور ديني. ومن الصعب كذلك، إغفال التشابه الكبير بين اللفظة الإغريقية ΠeoφyTys وبين اللفظة اللاتينية التي تم التحول إليها Propheta. فقد نُقلت اللفظة الإغريقية بصيغتها الكاملة إلى اللغة اللاتينية؛ وذلك يعني أن الحضارة الرومانية اللاتينية قد استسلمت تمامًا للاكتساح الثقافي الإغريقي والمسيحي، ويبدو ذلك واضحًا في تبنِّي الحضارة الأضعف لألفاظ الحضارة الأقوى وأفكارها،١٤٤ فإن «الدافع الذي يكمن وراء هذا الاقتراض اللغوي هو النزعة إلى التفوق والامتياز، ومعنى هذا أنه قبل الاقتراض لا بدَّ أن تكون الأمة التي يُراد الاقتراض من لغتها محسوبة في عداد الأمم التي يُنظر إليها بأنها جديرة بالتقليد في كل المجالات بوجه عام، أو في مجال معين على أقل تقدير».١٤٥
  • (٤) اللفظة الإنجليزية: بالرغم من «أن الاستخدامات الأولى للفظة الإنجليزية Prophet قد حكمها اشتقاقُ اللفظة من النصوص المقدسة»،١٤٦ إلا أن ذلك لم يقف حائلًا أمام الاستخدام الواسع والمتنوع الدلالة الذي عكسَته اللفظة فيما بعدُ. «فقد كانت اللفظة Prophet تعني، في الأصل، ذلك الشخص الذي يتكلم نيابةً عن الله أو عن أي إله آخر، وذلك بوصفه موحًى إليه وملهَمًا أو مفسِّرًا لإرادة الله. كما كانت اللفظة تُشير إلى شخص يعتقد أو يزعم أنه في منزلة معلِّم مُلهَم … ولكن اللفظة تُستخدم، في الوقت الحاضر، في كل المعاني القديمة، وفي معانٍ أخرى حديثة مشتقة منها»،١٤٧ وبذا أصبحت اللفظة Prophet تُطلق على «أي متحدث باسم جماعة أو حركة، أو على الشخص الذي يتنبأ بالأحداث المقبلة بأية طريقة»،١٤٨ كما أنها تُطلق على «المصلحين والقادة الاجتماعيِّين والسياسيِّين الدينيِّين. وإجمالًا، فإن كلَّ اتجاه جديد يتعارض مع ما هو تقليدي في الأدب والفن والسياسة وغيرها، يمكن أن يُطلق عليه، بهذا المعنى الواسع، أنه اتجاه نبوي (Prophetic)».١٤٩ وهكذا يبدو أن اللفظة الإنجليزية Prophet، لم تتوقف عن اكتساب المعاني والدلالات عبر التاريخ، بالرغم من الأصول المقدسة التي اشتقَّت منها، ويعكس ذلك قدرة كبيرة على نقل اللغة من مدارات المقدس إلى مستويات التاريخ.١٥٠
    هكذا أثبت النموذج اللغوي أنه يمثِّل مدخلًا حسنًا للكشف عن الأنساق الفكرية والحضارية القارَّة خلفه. فقد نجحت النماذج اللغوية التي درسناها في وضعنا أمام أنساق نظرية متكاملة، تتعدَّى النموذج اللغوي ذاته، ولكنها لا تظهر أبدًا بعيدًا عنه. تبدَّى ذلك من النظر في اللفظة العربية (النبي) التي أظهرت، مثلًا، من خلال انتمائها لمجال دلالي خاص عن نسق شامل للعلاقة التي تكشف عنها النبوة بين الإلهي من جهة وبين الإنساني من جهة أخرى. كما أظهر التباين، بين الأشاعرة والمعتزلة، المتعلق بالاشتقاق اللغوي للفظة ذاتها، عن تباين أعمق يتناول الأنساق النظرية المتكاملة لكلا الفريقين. وبالرغم من أن هذا التباين الأعمق، على مستوى الفكر، بين الفريقين لم يتيسر إدراكه جيدًا إلا من خلال البحث اللغوي، في حالتنا، إلا أنه لم يكن من الممكن أبدًا تفسير التباين المتعلق بالاشتقاق اللغوي بين الفريقين مع غياب إدراك واضح لهذا التباين الأعمق على مستوى الفكر بينهما. وفي حالة اللفظة العبرية nabi أظهر البحثُ اللغوي حقائقَ مهمة تتعلق بوضع النسق الحضاري اليهودي في التاريخ؛ فقد كشف التطور الدلالي للفظة، الذي ارتبط بمؤثرات حضارية أجنبية خضعَت لها اليهودية، وكذلك الصعوبات المتعلقة بأصل اللفظة العبرية واشتقاقها، عن مدى زيف النقاء والتميز الحضاري الذي يدَّعيه اليهود. وإذ يكشف التداول والاقتراض بين اللغات المختلفة عن نمط المواجهة السائدة بين الحضارات، فإن الحضارة الإغريقية تكشف عن وضعٍ متميز في هذا المجال؛ إذ حافظَت على هُويَّتها الحضارية الخاصة في مواجهة النسق الحضاري اليهودي، وذلك بترجمة اللفظة العبرية nabi إلى صيغة قومية تمامًا ΠeoφyTys، بينما اكتسحَت، من مركز الحضارة الأقوى، الحضارة الرومانية اللاتينية؛ حيث أجبرَتها على نقل اللفظة الإغريقية بصيغتها الكاملة إلى اللفظة اللاتينية Propheta، وهكذا كشف النموذج اللغوي، في كلِّ الحالات، عن نسقٍ فكري وحضاري أشمل يكمن خلفه، والحق أنه ما كان يتيسر أبدًا الكشف عن ذلك كلِّه إلا بالإفادة من الأبحاث اللغوية المعاصرة التي تُعامل اللغة على أنها بناءٌ يُحيل إلى وجود خلفه. يبقى أخيرًا أن الانحصار في هذه الأنساق التي يضعنا «البحث اللغوي» في مواجهتها قد يؤدي بنا إلى صورية شاملة، يصبح معها اللجوء إلى «البحث التاريخي» مطلبًا ضروريًّا.
١  نقلًا عن مارجوري جرين، هيدجر، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، بیروت، ١٩٧٣م، ص١١٠٠.
٢  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، طبعة كلكته، الهند، ١٨٩٢م، مجلد ٢، ص١٣٥٨.
٣  ابن منظور المصري، لسان العرب، المؤسسة العربية للتأليف والأنباء والنشر، القاهرة ١٩٦٦م، ج١، ص١٥٦.
٤  محمود الشرقاوي، الأنبياء في القرآن الكريم، دار الشعب، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٩.
٥  البغدادي، أصول الدين، استانبول، الطبعة الأولى، ١٩٢٨م، ص١٥٣.
٦  محمود الشرقاوي، الأنبياء في القرآن الكريم، ص٩.
٧  محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، ترتيب محمود خاطر، القاهرة ١٩٧٦م، ص٦٤٢.
٨  السيد السند، شرح المواقف (للإيجي)، طبعة بولاق، القاهرة ١٢٦٦ﻫ، ص٥٤٥.
٩  أحمد بن محمد الفيومي، المصباح المنير، تحقيق عبد العظيم الشناوي، دار المعارف بمصر، القاهرة، ١٩٧٧م، ص٥٩١.
١٠  ابن منظور المصري، لسان العرب، ج١، ص١٥٦.
١١  محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، ص٦٤٤.
١٢  أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٣٢٣ﻫ، ص١٩٨.
١٣  القاضي عبد الجبار الهمذاني، المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج١٥، التنبؤات والمعجزات، تحقيق محمود الخضيري؛ محمد محمود قاسم، القاهرة ١٩٦٥م، ص١٤–١٦. فالثابت أن لفظة «نبي» سواء كان اشتقاقُها من «النبأ»، أو من «النباوة» يحظر تمامًا حصولُها إلا للرسول، وبذلك يبدو أن اللفظة «نبي» قد تعرَّضت لما تتعرَّض له اللفظة أحيانًا من فرضِ قيودٍ دقيقة حول استعمالها، تبلغ حدَّ الحظر، إذا ما ارتبطَت بمسألة دينية؛ «فقد كان البدائي يفرض حظرًا تامًّا على الكلمة إذا ما اتَّصلت بالمقدس Totem، وهذه العادة ليست مقصورةً بحالٍ على المجتمعات البدائية، فهي معروفة في كلِّ البيئات وفي كل أنواع الحضارات بمستوياتها المختلفة، حيث انتشرَت في ديانات مختلفة، منها البرهمية واليهودية والإسلام والمسيحية؛ إذ فُرِض حظرُ الاستعمال هذا، على اللفظ اللاتيني Verbum — أي الكلمة — وذلك بمجرد اكتسابه صبغةً دينية في الفصل الافتتاحي من إنجيل القديس يوحنا: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا، ١: ١). بحيث لم يَعُد من المستطاع استعماله في معانٍ دنيوية. انظر: ستيفن أولمان، دور الكلمة في اللغة، سبق ذكره، ص١٧٤–١٧٧. وقد رأى المعتزلة في هذه العادة المتعارف عليها ما يُكرس الانفصال بين «الإلهي» من جهة، وبين «الإنساني» من جهة أخرى؛ وذلك حين أظهروا السرَّ في انصراف لفظ «الخالق» إلى الله سبحانه دون الإنسان، فقالوا إنَّ «العرف والتعارف» هو الذي قصَر هذا اللفظ على الذات الإلهية، كما قصر عليها لفظ «رب» حتى ينتفيَ الإيمان بربوبية سواه. ولما كان مرجع ذلك إلى «العرف والتعارف»، فإنه لا مانع — على الحقيقة — يمنع من وصفِ غيرِه سبحانه بالخلق. انظر: محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٧٢. فبدَا وكأن الانقسام بين الله والإنسان قد نشأ عن «العرف» بما هو خبرة إنسانية مشتركة، ولا وجود له على الحقيقة، وهذا ما تؤكده تجربةُ اللغة العذراء التي لم تُثقلها خبرةُ العرف بعد.
١٤  البغدادي، أصول الدين، ص١٥٣؛ الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٨؛ السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٥.
١٥  الجويني، الإرشاد، تحقيق محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٥٠م، ص٣٠٢.
١٦  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، ص١٤.
١٧  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، ص١٤، فإنه نقل عن «أبي هاشم الجبائي» أن أعرابيًّا نادى الرسول: «يا نبيء الله.» فقال له الرسول: «لست بنبيء الله، وإنما أنا نبي الله.»
١٨  أظهر كلٌّ من الفكر المسيحي والفكر اليهودي — في العصر الوسيط — وضعًا مشابهًا لهذا الوضع الثنائي لمسألة النبوة عند المتكلمين. بل وقد لاح قدرٌ من التماثل بين رؤيةِ كلٍّ منهما — بصدد هذه المسألة — والرؤية الاعتزالية؛ فقد تساءل القديس توما الأكويني عمَّا إذا كانت النبوة معرفة أم معجزة! وانتهى إلى أنها تقوم — أولًا — في المعرفة ثم المعجزة. انظر: ميخائيل ضومط، توما الأكويني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ١٩٥٦م، ص١١٥. أمَّا موسى بن ميمون — الذي يُعَد أحدَ جسور الوصل الحضاري بين الشرق والغرب — فقد انتهى بصدد المسألة ذاتها إلى آراء ثلاثة، تكاد أن تكون رجعًا وصدًى لمَا ساد الأوساط الفكرية الإسلامية. «الأول» هو رأيُ العوام الذين يعتقدون أن الله يختار مَن يشاء من الناس فيبعثه نبيًّا، ولا فرق بين أن يكون هذا الشخصُ حكيمًا أو جاهلًا، عجوزًا أو صغيرًا، و«الثاني» هو رأيُ الفلاسفة القائل بأنَّ النبوة مَلَكة إنسانية خالصة بلغَت أقصى كمالاتها، و«الثالث» — وهو ما يفضِّله ابن ميمون — يرى أن النبوة غير ممكنة دون تربية وتدريب؛ وبذلك توجد الإمكانية على التنبؤ التي تحوِّلها إرادة الله من القوة إلى الفعل. انظر:
M. Maimonides: The guide of the perplexed, trans by, M. Fridlander, New York, 1956 pp. 219-220.
١٩  أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٩.
٢٠  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ١٩٧١م، ص٣١٧.
٢١  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٥.
٢٢  الجويني، الإرشاد، ص٣٥٥.
٢٣  يكتسب الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة — بصدد تعريف النبوة — دلالتَه الأعمق من الخلاف بينهما حول التصور الأساسي لعلم الكلام. فقد انطلق الأشاعرة في بنائهم للعلم، من أن «الله» هو المفهوم الأساسي — أو الأوحد — الذي يتأسس حوله العلمُ بأكمله، فجاء العلم — بأسره — اجترارًا كاملًا لهذا المفهوم، حتى ليلوح أن العلم لا يقدِّم إلا تصورًا لعالَم ليس فيه إلا الله. ومن هنا أظهروا عجزًا بالغًا فيما يتعلَّق بإمكانية تصوُّر أيِّ جدل بين الله والإنسان، يمكن بناء العلم بدءًا منه. وقد كان هذا ما أمكن المعتزلة إدراكه، فنأَوا بالعلم عن أن يكون اجترارًا ﻟ «الله» فقط؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين، ومضَوا إلى أنَّ الإنسان هو مناط العقائد وغايتها، وهكذا أدركوا بنيةَ العلم في الجدل بين الإلهي والإنساني، وهذا التمايز في بنية العلم — عند الفريقين — يرجع إلى الدور المتميز الذي لعبَته التطوراتُ الاجتماعية في بناء العلم وتطوره. وهذا ما سنُشير إليه.
٢٤  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، ص١٦.
٢٥  الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٠م، ج٢، ص١٢٢.
٢٦  عارض الفلاسفةُ القولَ بأن النبوة هبة واصطفاء؛ لأنهم عدُّوها جزءًا من الأبستمولوجيا، فإنها «أكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة … «بحيث يمكن لأي إنسان» — كانت قوته المتخيلة قوية وكاملة جدًّا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسْرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة — أن تكون له نبوة بالأشياء الإلهية.» انظر: الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، طبعة محمد علي صبيح، القاهرة، بدون تاريخ، ص٦٨-٦٩. وبالرغم من أن قدرًا من الخلاف يظهر بين المعتزلة — الذين رفضوا القولَ بأنَّ النبوة «هبة واصطفاء»، بدءًا من تحليلاتهم لتعريف النبوة لغةً واصطلاحًا — وبين الفلاسفة — الذين أسَّسوا رفضهم للاصطفاء في النبوة على جدار أبستمولوجي — إلا أنه يبدو خلافًا ظاهريًّا فقط؛ حيث يكشف التحليل عن أنَّ الموقف من «الإنسان» كان أساسَ الرفض في الحالَين.
٢٧  إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية. منهج وتطبيق، دار المعارف بمصر، القاهرة، ١٩٧٦م، الطبعة الثالثة، ج١، ص١١٠.
٢٨  إن النسق الأشعري — مثلًا — يندُّ عن التفسير في غياب إدراك واضح لحقيقة انتفاء الحدود والعلاقة بين دوائر الوجود الثلاث (الله – والعالم – والإنسان) عند الأشاعرة. وكان ذلك بقصد إفساح المجال أمام سيادة «المطلقات الإلهية»، إلى الحدِّ الذي أصبح معه وجود «العالم والإنسان» وجودًا فارغًا هشًّا بلا قوام. فإن الوجود الحق ﻟ «الله» لا يظهر — في النسق الأشعري — إلا في عالم لا يفلت من قبضته، أو بالقياس إلى «إنسان» يبدو بإزائه كريشةٍ في مهبِّ الريح. وذلك في حين أدرك المعتزلة أن نزْع الموضوعية عن «العالم»، وحرمان «الإنسان» من الحرية، قد يحيط وجود «الله» ذاته بظلال الخطر. ولهذا مضَوا إلى أن الوجود الحق ﻟ «الله» لا يتكشَّف إلا في «عالم» يتَّصف بالضرورة والموضوعية، ويؤكد حرية «الإنسان» وفعاليته، حتى بدا وكأنَّ «العالم والإنسان» يعدَّان بمثابة مقدمة ضرورية لفهم «الذات الإلهية» نفسها حقًّا. وذلك ما يؤكِّده أصلَا التوحيد والعدل؛ ﻓ «الأول» تأكيد لموضوعية العالم وضرورة قوانينه في إطار الدفاع عن التنزيه المطلق للذات الإلهية. و«الثاني» دفاع عن حرية الإنسان وفعاليته في إطار الكشف عن عدل الله. ومن هنا تبلور مفهوم «الحد والعلاقة» بين دوائر الوجود الذي يلعب دورًا هامًّا في صياغة النسق الاعتزالي.
وهكذا أدرك المعتزلة «الله» — لا بإدراك مباشر كما فعل الأشاعرة — ولكن من خلال وساطة «العالم والإنسان»، فكشفوا بذلك عن قناعة — وإن كانت لا واعية — مؤدَّاها أن المعرفة المباشرة تُعَد من أكثر صِوَر المعرفة فقرًا وتجريدًا؛ لأنها «تجعل أي مضمون يندرج تحتها أحادي الجانب». انظر: هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، ١٩٨٣م، ص٢٠٥. في حين يمثِّل التوسُّط إثراءً هائلًا للمضمون؛ لأنه يعني: «أن نتَّخذ من شيء نقطةَ بداية نسير منها إلى شيء آخر، بحيث يكون وجودُ هذا الشيء «الثاني» متوقفًا أو معتمدًا على وصولنا إليه من خلال شيء آخر متميِّز عنه.» انظر: المصدر السابق، ص٦٦. ولهذا، «فإنَّ المعرفة المباشرة بالله لا تسير أبعدَ من القول بأنَّ الله موجود، أما أن تقول لنا ما هو، فذلك فعلٌ من أفعال الإدراك يتطلَّب توسطًا». انظر: المصدر السابق، ص٢٠٥. وهكذا «نجد أنَّ معرفة الله، هي في طابعها الحق تتضمَّن توسطًا». انظر: المصدر السابق، ص٦٦، ويبدو أنَّ ذلك هو ما أدركه المعتزلة بالضبط.
٢٩  ولكن يبدو أن الأشاعرة قد أدركوا أن عدمَ تبرير الاصطفاء الإلهي للنبي، بشيء غير إرادة الله المطلقة، ينتهي إلى مأزق يتمثَّل في القول بعشوائية الفعل الإلهي وخلوِّه من الحكمة، فذهبوا إلى أن «الأقل قبولًا عند العقل أن يُقال إن هذه الهبة من الله (هبة النبوة) يمكن أن يتعرَّض لها أيُّ مخلوق اتفق؛ إذ لا بد لهذا المخلوق من مران وحسن إعداد.» انظر: طه الدسوقي، نظرية النبوة في الإسلام، القاهرة، ١٩٨١م، ص٧. ولكنهم — مع ذلك — أصروا، تمشيًا مع ردِّ كلِّ شيء إلى الله، على ردِّ ذلك المران وحسن الإعداد إلى فعلٍ من الله، لا من الإنسان، فانتَهوا إلى حيث بدءوا. إذ يبقى السؤال: لماذا يختص الله بعنايته وحسن إعداده أفرادًا دون غيرهم يُؤهلهم لتلقِّي هبة النبوة؟
٣٠  الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج١، ص٢٢٤.
٣١  أشرنا — فيما سبق — إلى ما قاله «هيجل» من أن المعرفة المباشرة بالله — دون توسُّط — لا تسير أبعد من القول بأن الله موجود فقط. انظر حاشية «٢٨» من هذا الفصل.
٣٢  المقصود من ذلك أن كلَّ دائرة من الثلاث لا تتحدد ولا تكتسب هُويَّتَها الحقَّة إلا من خلال علاقتها بالدائرتَين الأخريَين، فالإنسان — مثلًا — لا يكتسب هُويَّتَه إلا في مواجهة «الله والعالم». وقد أدرك «الله» نفسه، أنه لا يُعرف حقًّا إلا من خلال وساطة ما. هذا ما أكَّده الحديث القدسي القائل: «كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني.» وهكذا يتحدَّد كلُّ طرف عبر الآخر. ولعلَّ أهم ما يترتب على القول بعلاقة الجدل هذه بين دوائر الوجود، هو رفض النظر إلى وجود «العالم والإنسان»، على أنه وجود عابر أو عارض؛ وذلك بعد أن أصبح هذا الوجود «العالم والإنسان» مدخلًا للكشف عن وجود الله ذاته. وبهذا اكتسب قدرًا من الضرورة يتوازى مع الدَّور الذي يلعبه في الكشف عن وجود الله، الذي هو ضروري بالطبع.
٣٣  لعل من المفارقات العجيبة أن الدفاع عن «الله» من خلال الإنكار التام لكلٍّ من «العالم والإنسان» قد انتهى بالأشاعرة إلى عشوائية مطلقة جعلَت الوجود الإلهي ذاته مهدَّدًا بالإنكار بعد أن أفرغَته من كلِّ مضمون. في حين أنَّ الدفاع عن «العالم» واتخاذه مدخلًا لفهم «الوجود الإلهي»، قد انتهى بالمعتزلة إلى الكشف عن المضمون الحقيقي للذات الإلهية. وكأن مَن فقدوا «العالم» لا يمكن أن يبلغوا عتباتِ «الله»، وهذا هو جوهر الدرس الاعتزالي. وما أحوجنا إليه!
٣٤  يُقصد بالمجال الدلالي تنظيم المادة المعجمية في إطار «مجموعات من الوحدات الدالة التي تتشابك عناصرُها ويحدِّد بعضُها البعض الآخر وتكتسب قيمةَ مَن وضعها داخل الكل الذي يسمى بالمجال الدلالي، ويعتمد هذا المجال على علاقات التداعي والتقابل والتشابه التي تتجاوز بكثير علاقاتِ التضاد والترادف المطروقة عادة في المعاجم، وتتمثل أهمية المجال الدلالي في الكشف عن قواعد الأبنية الثقافية.» انظر: صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٨م، ص١٩٣.
٣٥  ابن منظور، لسان العرب، ج١، ص١٥٧؛ وأيضًا: قاموس المنجد في اللغة والأعلام، بيروت، دون تاريخ، ص٨٧٤؛ وأيضًا: محمد الرازي، مختار الصحاح، ص٦٤٤؛ وأيضًا: أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٨.
٣٦  قد يكون ذلك هو ما قصده السير هاملتون جب وهو بصدد المقارنة بين حركة التاريخ الإسلامي وحركة التاريخ الأوروبي؛ فكلاهما — على حد قوله — قام على أنقاض الإمبراطورية الرومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكنَّ بينهما فرقًا أصيلًا. فبينما خرجَت أوروبا على نحوٍ متدرج لا شعوري وبعد عدة قرون من الفوضى الناجمة عن غزوات البرابرة، انبثق الإسلامُ انبثاقًا مفاجئًا في بلاد العرب، وأقام بسرعة تكاد تعزُّ على التصديق في أقل من قرن من الزمن إمبراطوريةً جديدة في غربي آسيا وشواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية والغربية. انظر: هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة إحسان عباس «وآخرون»، بيروت، ١٩٦٤م، ص٤. وهكذا أظهرَت المقارنةُ الجوهرَ الحركي للنبوة الذي انعكس على المجتمع.
٣٧  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ص٩٣.
٣٨  يميز «صموئيل هولدهايم ١٨٠٦–١٨٨٠م» رائد اليهودية الإصلاحية بين جانبَين في نبوة العهد القديم؛ أحدهما مطلق ومقدس، والآخر نسبي وتاريخي. انظر: عبد الوهاب محمد المسيري، موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٤٥٢.
٣٩  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ص٩٣.
٤٠  حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج٢، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨١م، الطبعة الرابعة، ص٢٧٩؛ وانظر أيضًا: القاشاني، شرح فصوص الحكم، مكتبة الحلبي، القاهرة، ١٩٦٦م، الطبعة الثانية، فص «٢٧»، ص٣٢٦-٣٢٧.
٤١  هيراقليطس، جدل الحب والحرب، ترجمة وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة، ١٩٨٠م، شذرات ٦، ٩١، ص٩٤–٩٦.
٤٢  عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، مكتبة الحلبي، القاهرة ١٩٨١م، الطبعة الرابعة، ج٢، ص٧٥.
٤٣  Paul Tillich: What is Religion, New York, 1973. p. 107.
٤٤  القاضي عبد الجبار، المختصر في أصول الدين، ضمن رسائل العدل والتوحيد، ج١، تحقيق محمد عمارة، القاهرة، ١٩٧١م، ص٢٤١.
٤٥  إذا كان هوسرل قد حاول القضاء على «الصورية» و«المادية» في الفكر الأوروبي من خلال «التحليل القصدي» للشعور، الذي رأى فيه بناءً مكونًا من قالب noése ومضمون naeme، تقوم بينهما رؤية مزدوجة موجهة من أحدهما إلى الآخر، فإنه يمكن بالمثل القضاء على «الصورية» و«المادية» في الوحي بتحليله تحليلًا قصديًّا يكشف عن «قالبه» و«مضمونه» والعلاقة المزدوجة بينهما. والحق أن فكرة «المقاصد» تعتبر من أهم مفاهيم علم أصول الفقه، وقد جعلها «الشاطبي» في كتابه «الموافقات» أساسًا لبناء العلم، فتمكَّن بواسطتها من تجاوز الاختلاف بين المذاهب الفقهية الناشئ عن سوءِ فهم مقاصد الشارع (الله)، أو عدم فهمها على الإطلاق. فهو يرى أنه في مقابل مقاصد الشارع، ثَمة مقاصد للإنسان، وأن مقاصد الإنسان هي نفسها مقاصد الشارع. فإنه ليس للشارع مقصدٌ من وضع الشريعة، وإنما قصدَ بها مصلحةَ الإنسان، وهذه المصلحة «الإنسانية» تتحقَّق بالمحافظة على مضمون الشرع «الإلهي». انظر: فهمي محمد علوان، فكرة المقاصد في علم أصول الفقه، ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ١٩٨٢م، ص٣٧–٤٧، وكذا:
Hassan Hanfi: Religious dialogue and revolution Cairo 1977, p. 19.
٤٦  يبدو أن الأبنية التي تبشِّر بمفهوم «الختام والاكتمال» تنتهي — نظريًّا وتاريخيًّا — إلى التوتر بين تيارَين متصارعَين: «الأول» يكتفي في رؤيته لأيِّ بناء نظري بتثبيته والاستغراق في الإطار الصوري الذي ينتظمه كاملًا، بشكلٍ يغدو معه هذا الاكتمالُ نهايةً مطلقة للبناء لا يمكن تجاوزها بحال. ولذا يقوم جهدُ الفكر في مجرد الاجترار الكامل لهذا البناء الصوري على المستوى المعرفي، بل ويصبح التاريخ كله اجترارًا له. و«الثاني» يركز أساسًا على ملاحظة أيِّ بناء نظري في حركته. ولذلك فهو يتم أصلًا بالكشف عن الآليات الداخلية التي تحكم التطور الباطني للبناء. ولذلك لا يمثِّل الاكتمال هنا نهايةً مطلقة، بل نهاية مؤقتة بإمكان الفكر أن يتجاوزَها إلى مستوى معرفي آخر. إذ يصبح الجهد الحقيقي للفكر، لا مجرد اجترار البناء، بل تمثِّل آلياته الداخلية من أجل إقامةِ بناءٍ مُوازٍ. ويبدو أن «الإسلام» لم يفلت من هذا المصير، فإن ثمة مَن ينظر إليه على أنه مجردُ بناء صوري نهائي مكتمل لا يخضع لآليات التجربة التاريخية، وثمة — في المقابل — مَن يركز في فهمه للإسلام على آلياته الداخلية التي يمكن من خلال تمثُّلِها الواعي، إعادة صياغة الحياة بجدة لا تتناهى. والحق أنه لم يكن الإسلام وحده الذي طاله هذا المصير، فقد حدث الانقسامُ ذاته في اليهودية بين «تيار أرثوذكسي» يمثله «سمسون هیرش ١٨٠٨–١٨٨٨م»، ويرى في الوحي نقطةَ ميتافيزيقية ثابتة؛ ولهذا فإن التوراة وحيٌ أزليٌّ خارج التاريخ. وقد ترتَّب على ذلك إنكار القدرة على إحداث أيِّ تغيير أو تطوير في الوضع الإنساني، بحجَّة أن عقل الإنسان ضعيف. وفي المقابل يوجد «تيار إصلاحي» يمثله «صموئيل هولدهايم ١٨٠٦–١٨٨٠م»، ويرى أن الوحي ليس مطلقًا خالصًا، بل هو مفهوم يعبِّر عن نفسه من خلال التاريخ. ولذلك فإنه لا يعني أكثر من أن الإنسان حاملٌ للعقل فيما يرى هرمان كوهن (١٨٤٢–١٩١٨م)، انظر: عبد الوهاب المسيري، موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٤٥١-٤٥٢. وكذلك:
R. Saltzer: Jewish people, Jewish thaught, Macmillan, New York, 1980, p. 733.
وكذلك، فإن الانقسام بين ما يسمَّى «دين المسيح» و«الدين المسيحي»، الذي ساد كتاباتِ التنويريِّين في القرن الثامن عشر، يعكس مثل هذا التوتر. انظر: لسنج، دين المسيح، ضمن مجموعة كتب أخرى للمؤلف، نشرها وعلَّق عليها حسن حنفي في: تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م، الطبعة الأولى، ص٢٩٨–٣٠٥.
٤٧  في حديث للنبي أنه قال: «إن الله سيبعث على رأس أمتي كلَّ مائة عام مَن يُجدِّد لها دينَها.» وقد تحوَّل هذا الحديث إلى صكٍّ للشرعية يرفعه كلُّ أولئك الذين يفكرون للمسلمين بوصفهم أقوامًا تعيش في التاريخ، لا خارجه.
٤٨  محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، القاهرة، ١٩٦٨م، ص١٤٤.
٤٩  أحمد محمد عوف، خفايا الطائفة البهائية، دار النهضة العربية، القاهرة، ١٩٧٢م، ص٢٦.
٥٠  السهرودي، حكمة الإشراق، طبعة طهران، ١٣١٣–١٣١٦ﻫ، ص٢.
٥١  أدونيس، الثابت والمتحول، دار العودة، بيروت، ١٩٧٤م، الطبعة الأولى، ج١، ص٢٧٤. ومن هنا يفترق التصور الشيعي للنبوة عن التصورات التقليدية لها؛ إذ يعتقد الشيعة في نبوة لا نهائية مطلقة هي نبع العلم الأبدي الذي يُورثه الأنبياء للعلماء — وهم الأئمة حسب المفهوم الشيعي — ولذا فإنهم يفرقون بين نبوة زمنية تاريخية انقطعَت بوفاة النبي وبين نبوة لا نهائية مطلقة. وقد استفاد منظِّرو الشيعة المعاصرون من هذا التمييز في بلورة فلسفة إيجابية، لا ترى في التاريخ انقطاعًا، بل تقدُّمًا دائمًا تقوده نبوةٌ لا تنقطع. بينما اقتصرت معظم التصورات التقليدية للنبوة على القول بانقطاع النبوة دون تفرقة بين جانب تاريخي ينقطع، وجانب لا نهائي مطلق لا ينقطع.
٥٢  الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مكتبة الحلبي، القاهرة، ١٩٥٢م، الطبعة الثانية، ج١، ص٣٠.
٥٣  لم نصادف ذلك المعنى إلا في المصنفات الكلامية المتأخرة بدءًا من القرن السابع الهجري، كما في «طوالع الأنوار» للبيضاوي ٦٨٥ﻫ، و«المواقف»، للإيجي ٧٥٦ﻫ، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي، المتوفَّى في القرن الحادي عشر الهجري. انظر مثلًا: الإيجي، المواقف، ص٥٤٥، وأبي الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٩.
٥٤  تمام حسان، اللغة العربية، معناها ومبناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٩م، ص٣٢٢.
٥٥  والحق أن علم الكلام قد تحوَّل في مرحلة متأخرة عن التطور الأصيل داخل حدوده الخاصة، إلى استدماج سائر الأبنية النظرية الموازية له؛ كما حدث مع «الفلسفة» التي انزعج متأخرو المتكلمين من أن «الكلام» لم يَعُد يتميز عنها. ويبدو أن الأمر نفسه قد حدث مع «التصوف» أيضًا. وليس من شك في أن ذلك إنما يعكس أزمة العلم الخاصة التي تمثَّلَت في عجزه عن ابتداع آليات داخلية خاصة تمنحه القدرة على التطور؛ وهي أزمة لا تنفك، بالطبع، عن أزمة الحضارة التي تحتويه. والحق أنها تعكس فقدان الهوية الحقة لكلٍّ من العلم والحضارة في آنٍ معًا.
٥٦  أوضح السير هاملتون جب خطورةَ «نظام الولي» بقوله: «إن ذلك النظام أخذ على المريدين العهدَ باتباع فرد واحد، والائتساء به أنَّى وجَّههم دون تردد، حتى في شئون إقامة الصلوات وغيرها من أركان الإسلام؛ ذلك أن البركة لا يمكن إحرازها إلا بالامتثال لتوجيهات «الولي»، والخلاص في الآخرة غير مضمون إلا بشفاعة «الولي» لمريديه الأوفياء، بل سَطَتْ خدمة الولي على حقيقة العبادة فاغتصبَتها». انظر: ﻫ. جب، دراسات في حضارة الإسلام، بيروت، ١٩٦٤م، ص٢٨٣. وهكذا امتشق «الولي» حُسامَ «النبي».
٥٧  روي عن النبي أنه سُئل عن عدد الأنبياء، فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر». انظر: مصلح الدين الكستلي، حاشية على شرح العقائد النسفية، القاهرة، ١٣١٠ﻫ، ص٣٥.
٥٨  انظر عن المجال الدلالي للفظ «نبي»، فقرة «٢» من هذا الفصل.
٥٩  «فالرسل» هو الرفق والتؤدة، يقال «ترسَّل» في قراءته؛ أي «اتَّأدَ»، وقولهم: افعل كذا وكذا على «رِسْلك»؛ أي: اتَّئدْ فيه، كما يقال على هنيَّتك. انظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط، طبعة الحلبي الثانية، القاهرة، ١٩٥٢م، ج٣، ص٣٩٥.
٦٠  ابتداء من هذا التمايز، يمكن تفسير التفاوت الهائل بين عدد الأنبياء الذي حدَّدَته بعضُ المصادر ﺑ «١٢٤» ألف نبي، وبين عدد الرسل الذي لم يتجاوز في أعلى التقديرات «٣١٥» رسولًا.
٦١  وذلك على معنى أنه في حين تكون «الرسالة» — بلغة الفلسفة المعاصرة — «لحظة واسعة» تتَّسم بقدر من الثبات، فإن النبوة تصبح «لحظة شارحة» تصير «الرسالة» من خلالها بناءً خاضعًا لتحولات مستمرة في التاريخ يناسب الوضعَ البشري المتجدد أبدًا. ولا شك في أن هذا التصور لا يصحُّ إلا بالتمييز في النبوة بين جانب ينقطع — لعلة النبوة بوصفها رسالة — وبين جانب آخر لا ينقطع، لعلة النبوة بوصفها علمًا.
٦٢  محمود الشرقاوي، الأنبياء في القرآن الكريم، ص١٠.
٦٣  Encyclopedia Britanica, Art Prophecy, vol. 15, U. S. A. 1976, p. 62.
٦٤  مجهول المؤلف، شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق ومراجعة جماعة من العلماء، بيروت، ١٣٩١م، ص١٠٣.
٦٥  وذلك كما كان في وحيِ أم عيسى وأم موسى مثلًا.
٦٦  يبدو أن «إقبال» قد استمد من هذه المسألة أساسًا للتمييز بين ضربَين من ضروب الوعي، مستمدَّين — شأنُهما شأنُ الوحي الخاص والوحي العام — من مصدر واحد. فإن كلًّا من «الوعي الصوفي» و«الوعي النبوي» مستمدٌّ — حسب إقبال — من مقام الشهود، ولكن «أولهما» — ويمكن تشبيهُه بنبيٍّ ذي وحيٍ خاص — لا تعني رجعتُه من مقام الشهود الشيءَ الكثير بالنسبة للبشر بصفة عامة. أما «ثانيهما» — ويمكن تشبيهُه برسول ذي وحيٍ عامٍّ — فإنَّ رجعتَه تكون رجعةً مبدعة. إذ يعود ليشقَّ طريقَه في موكب الزمان ابتغاءَ التحكُّم في ضبط قوى التاريخ وتوجيهها على نحوٍ يُنشئ به عالمًا من المُثُل العليا جديدًا. انظر: محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص١٤٢.
٦٧  سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية، القاهرة، ١٣١٠ﻫ، ص٣٦. وإن كان يبدو أن اشتراط الكتاب في الرسول ضعيف لأنه يخالف ما ورد في الحديث من زيادة عدد الرسل على عدد الكتب، لما رُوي عن أبي ذر — رضي الله عنه — أنه سأل رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة (١٠٤) كتب، منها على آدم عشر صُحُف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. انظر: مصلح الدين الكستلي، حاشية على شرح العقائد النسفية، ص٣٦؛ وأيضًا: التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج١، ص٥٨٤.
٦٨  فنسنك، دائرة المعارف الإسلامية، ج١٠، مادة رسول، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، ص٩٩.
٦٩  التهانوني، كشاف اصطلاحات الفنون، ج١، ص٥٨٤.
٧٠  مجهول المؤلف، شرح العقيدة الطحاوية، ص١٠٣؛ وأيضًا: البغدادي، أصول الدين، ص١٥٤.
٧١  المصدر السابق، ص١٠٣.
٧٢  ربما لأنه نسقٌ يقوم أساسًا على الاستبعاد والإلغاء دون الاستيعاب والإبقاء. فإنه يقوم على إلغاءِ طرفٍ لحساب الآخر، دون أدنى محاولة لاستيعابِ الأطراف جميعًا في إطارٍ يحتفظ لكل طرف بهُويته الحقة في مواجهة الطرف الآخر. ولعل ذلك يعكس، من طرف خفي، جوهرَ المأزق السياسي الذي نُواجهه الآن؛ نحن الذين صاغ وعْيَنا الأشاعرة، والذي يتمثل في الرغبة الدفينة في استبعاد الآخر ومصادرته دائمًا.
٧٣  إذا كان النسق الأشعري يقوم على الاستبعاد، فإن النسق الاعتزالي يقوم على الاستيعاب، استيعاب الأطراف جميعًا في وحدة، من خلال علاقة يتحدد فيها كلُّ طرف من خلال علاقته بالطرف الآخر. وهكذا توتر الفكر الكلامي بين «الاستبعاد» الأشعري و«الاستيعاب» الاعتزالي.
٧٤  انظر: حاشية «٣٢» من هذا الفصل.
٧٥  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، ١٩٦٥م، ص٥٦٧.
٧٦  يُعَد هذا التصور عن جدل العلاقة بين الله والإنسان من أهم العناصر التي أُعيد بدءًا منها بناء اللاهوت اليهودي المعاصر. كشف الفيلسوف اليهودي هرمان كوهن ١٨٤٢–١٩١٨م (وهو من أهم الكانطيِّين الجدد) عن مفهوم جديد يجمع بين الله والإنسان هو مفهوم التعالق أو الارتباط (Correlation)، ويعني أن كلًّا من الله (بوصفه وجودًا خالصًا) والعالم (بوصفه صيرورة) يرتبط بالآخر منطقيًّا؛ فالصيرورة (العالم) لا يمكن أن توجد إذا لم يكن هناك وجودٌ أزليٌّ يمنحها القوة والدلالة والوجود.
٧٧  لا يوجد دون صيرورة، بل إن وجود الله سيكون بلا معنى دون خلق. انظر:
Encyclopedia Judaica, vol. (5), Cecil Rathe (ed). Jerusalem 1972, p. 6.
وكذلك أقام «مارتن بوبر ١٨٧٨–١٩٦٥م» العلاقةَ بین الله والإنسان على أساسِ نسقِه المحوري عن الحوار بين الأنا والأنت I-than. وهو حوارٌ حقٌّ ما دامت أطرافُه متساوية، ولكنه يكون زائفًا حين يُصبح أحدُ الطرفين أقوى من الآخر، بحيث يحوِّل الطرف الآخر الذي يواجهه في الحوار إلى أداة أو موضوع يستغله ليُنقذ أخاه. انظر: Ibid., vol. (1), op. cit. p. 1431. وهكذا قامت بين الله والإنسان علاقةٌ متكافئة غدَت من أهم مصادر الحيوية في اللاهوت المعاصر؛ حيث أمكن بدءًا منها إعادة صياغة الوجدان اليهودي وتحويله من وجود خامل مستكين إلى وجود فعال غاية في التأثير.
٧٨  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، التنبؤات والمعجزات، ص٩.
٧٩  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، التنبؤات والمعجزات، ص٩.
٨٠  المصدر نفسه ص١٠.
٨١  إن المسألة اللغوية عند المعتزلة بعامة، وعند القاضي عبد الجبار بخاصة، تتطلَّب دراسةً مبتكرة في ضوء مناهج اللغويات المعاصرة يمكن من خلالها وضعُ النسق الاعتزالي كلِّه وضعًا جديدًا يتجاوز ما هو مألوف.
٨٢  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، طبعة عبد الكريم العثمان، القاهرة، ١٩٦٥م، ص٥٦٧.
٨٣  فنسنك، دائرة المعارف الإسلامية، ج١٠، مادة رسول، ص٩٩.
٨٤  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص٥٦٨.
٨٥  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص٥٦٨. وهذا السطر الأخير تلخيصٌ لقائمة صدق دالة التكافؤ في المنطق الحديث.
٨٦  الجرجاني، التعريفات، طبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ١٩٣٨م، ص٩٨.
٨٧  القاضي عبد الجبار، المغني، ج١٥، التنبؤات والمعجزات، ص١٦.
٨٨  ما أحوجنا إلى هذا الضرب من الفكر الذي يؤسِّس النبوة نفسها على «الفعل» وليس على «القول» كالحال عند الأشاعرة، ولعل ضروب النقد التي تُوجَّه للعقل العربي الآن لاستغراقه في دائرة «القول أو الترديد» وعزوفه عن «الفعل أو التجديد»، لَتكشف عن سيادة النموذج الأشعري الذي يبقى تجاوزُه مرتهنًا بإعادة بناء الاعتزال.
٨٩  المصدر السابق، ص١٦.
٩٠  المصدر السابق، ص١٣.
٩١  المصدر السابق، ص١٢.
٩٢  المصدر السابق، ص١٣.
٩٣  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10), (Art. Prophecy (Hebrew), By, E. Konig) New york, 1918, p. 384.
٩٤  لم تَرِد لفظةُ nabi «نبي» في النصوص والمدونات القديمة؛ إذ لا نُصادف اللفظة في أرقى وأفضل نصٍّ وصل إلى عصرنا من العصور القديمة، وهو مدونة حمورابي؛ فبرغم أن النص يستخدم لفظة Sibu وتعني الحكيم، ولفظة daionu وتعني القاضي، فإنه يخلو تمامًا من ذكرِ لفظة nabi وتعني النبي. انظر: Ibid., p. 384، ولا يعني ذلك أبدًا أن النبواتِ لم تكن معروفةً بين شعوب الشرق القديم قبل النبوة اليهودية، فذلك ما يخالف حقائقَ الواقع والتاريخ. إن كلَّ ما نعنيه فقط هو أن دور «النبي» لم يكن قد تبلور كدَورٍ مستقل يستحقُّ لفظًا خاصًّا، بل كان جزءًا من مهامِّ الكاهن أو الحكيم أو العرَّاف. ولعل حقيقةَ أن اللفظة العبرية nabi كانت مشتقًّا تطور عن «فعل» مستعار — وهذا ما سنُشير إليه فيما بعد تفصيلًا — وليست ترجمةً أو نقلًا «لاسم» بصورته الكاملة، إنما تؤكد — من ناحية — أن لفظة nabi، لم تكن معروفةً بصورتها العبرية قبل كتابة العهد القديم، كما أنها تؤكد — من ناحية أخرى — أن «الدور أو الوظيفة» التي اضطلع بها أولئك الذين أطلق عليهم العبرانيون لفظَ nabi، كان يقوم بها قديمًا أشخاصٌ آخرون تحت أسماء أخرى.
٩٥  ويعني ذلك — من ناحية — أن النبوة اليهودية لم تكن ظاهرةً فريدة في عصرها؛ إذ إنها دانَت ببعض وجودها إلى تأثيرات من الشعوب المجاورة. وبذا يصبح مفهوم التمييز أو النقاء اليهودي المطلق بلا سند في الحقيقة. ومن ناحية أخرى، فإنه يظهر القبائل العبرانية على قدر غير قليل من السذاجة والتخلُّف؛ ممَّا جعل منها جزءًا من المجال الذي تفعل فيه الحضارات المؤثرة آنذاك، وبعبارة أخرى: كان كيانها الحضاري هامشيًّا إلى جوار الحضارات السائدة حولها. ولعلها سخريات التاريخ التي جعلَت المشروع الحضاري اليهودي الذي تبلور — قديمًا وحديثًا — على هامش حضارات أخرى، يسعى لاحتوائنا حضاريًّا، وتحويلنا — وهو الذي كان أحدَ هوامشنا — إلى مجرد هامش له.
٩٦  ويبدو أنَّ هذا الطابع الوظيفي لم يتخلَّ أبدًا عن لفظة nabi. ولعله المسئول عن «الطابع المنفتح» للنبوة اليهودية الذي جعل منها بناءً مفتوحًا لا يكتمل أبدًا، بحيث أصبح في متناولِ كلِّ شخص يؤدي «وظيفة» أو يلعب «دورًا» في صياغة حياة الشعب اليهودي أن يصبح نبيًّا، ولا شك أن هذا الطابع المفتوح للنبوة اليهودية قد زوَّدها بالقدرة على صياغة الوجدان اليهودي وتوجيهه على الدوام، بشكل ظلَّت معه المفاهيمُ العقائدية الموجَّهَ الأولَ لحركة التاريخ اليهودي.
٩٧  Hastings (ed) Dictionary of the Bible, (Art. prophecy By R. Grant) New york, 1963. p. 802.
ولا بد من أن نُشير إلى أنَّ هذا التمييز العبري بين مدلول إيجابي active وبين مدلول سلبي passive للفظة nabi، يستدعي إلى الذهن مباشرةً الخلافَ بين تصوُّر الأشاعرة للنبوة — وهو تصورٌ سلبي جعل من النبي كيانًا يقتصر دورُه على مجرد تلقِّي الرسالة دونما فعل منه — وبين تصوُّر المعتزلة للنبوة، وهو تصوُّر إيجابي جعل من النبي كيانًا فاعلًا ليست «النبوة» غيرَ جزاء على عمل يقوم به.
٩٨  يلاحظ أن هذا التصور يقترب كثيرًا من التصور الاعتزالي الذي يرى في النبوة جزاءً على عمل يقوم به الأنبياء.
٩٩  Cecil Roth (ed): Encyclopedia Judaica, vol. (13), (Art. prophecy), Jerusalem 1972, p. 1152.
يقول الرب «يجب أن تُعيدَ زوجة الرجل (أي إبراهيم)؛ لأنه منذ أصبح نبيًّا سوف يتشفع لك لأجل إنقاذ حياتك» (التكوين، ٢٠: ٧).
١٠٠  جاء على لسان موسى: «وقفتُ بين الربِّ وبينكم في ذلك الوقت لأنقلَ كلمة الرب لكم» (التثنية، ٥: ٥)، وهكذا يبدو دورُه كوسيط.
١٠١  Bernard Cayne (ed): Encyclopedia Americana, vol. (22), (Art. Prophecy), U. S. A. 1980. p. 663.
١٠٢  سليم حسن، مصر القديمة، ج٩، مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة، ١٩٥٢م، ص٥٤٧.
١٠٣  R. Seltzer: Jewish People, Jewish thaught, op. cit. p. 79.
١٠٤  Walter Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art. Prophecy) U. S. A. 1960. p. 586.
١٠٥  صموئيل الأول، إصحاح ٩: آية ٩.
١٠٦  لعل حقيقة أن لفظة nabi العبرية كانت تطويرًا لفعلٍ مستعار من لغة أجنبية للدلالة على «دَور» يقوم به النبي، قد أكسب اللفظةَ قابليةً تبعًا لتطور «الدور» المتغير دائمًا. وذلك ما صبغ النظرة اليهودية إلى النبوة بصبغة وظيفية لم تُفارقها إلى الأبد. فالفكر اليهودي الحديث إنما يُبلور أهم مفاهيمه وتصوراته النظرية عن النبوة — بل عن سائر الأبنية العقائدية الأخرى — بدءًا من طبيعة الدور الذي تلعبه في حياة الجماعة. ومن هنا فإن مفهوم «الدور» يُعَد هو المفهوم الأساسي في بناء اللاهوت اليهودي المعاصر. وذلك حيث أظهر الفكرُ الديني اليهودي في القرنين التاسع عشر والعشرين نجاحًا بالغًا في النظر إلى التراث الديني اليهودي، لا على أنه نسقٌ مطلق يتعدَّى التاريخ، بل بوصفه إطارًا لخبرة تاريخية عاشَتها الجماعة وينبغي توظيفها لخدمة تطلُّعاتها الحاضرة.
١٠٧  صموئيل الأول، ٣١: ١–١٨.
١٠٨  Cécil Rath (ed): Encyclopedia Judaica, vol., (Art. Messiah) op. cit. p. 1408.
١٠٩  عبد السميع الهرَّاوي، الصهيونية بين الدين والسياسة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٧م، ص٣٥.
١١٠  محمد محمود أبو غدير، النبي حزقيال، حياته وسفره، ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة ١٩٧٩م، ص١١١.
١١١  برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ج٢، ترجمة زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٦٨م، ص١٩.
١١٢  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10) (Art. Hebrew prophecy By Konig) op. cit. p. 385.
١١٣  Walter Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art. Prophet), U. S. A. 1960. p. 586.
وكذلك Bernard S, Cayne (ed): Encyclopedia Americana, vol. (22), (Art, Prophecy). U. S. A 1980. p. 663.
١١٤  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10), (Art. Hebrew prophecy By Kanig) op. cit. p. 384.
١١٥  John Gray: Near Eastern Mythology, London, (Hamlyn), 1969.
١١٦  Walter yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18). (Art. Prophet) op. cit. p. 586.
١١٧  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10), (Art. Hebrew prophecy by Konig) op. cit. p. 381.
١١٨  C. Roth (ed): Encyclopedia Judaica, vol. (13), (Art. Prophecy) op. cit. p. 1152.
وكذلك J. Hastings (ed): Dictionary of the Bible, (Art. Prophecy) op. cit, p. 802.
١١٩  وذلك من حيث تضعُنا هذه الملاحظة أمام المصدر السامي (Semitic) الواحد، الذي تحكم في مضمون النبوة الإسلامية؛ وذلك من حيث إنها أيضًا «دعوة وبلاغ». وتبدو وحدةُ المصدر هذه أشدَّ جلاءً إذا ما لاحظنا أن ثمة تصورًا مغايرًا للنبوة ينهض في مواجهتها هو التصور الإغريقي، الذي انبثق من التصور الأوروبي بعد ذلك. إذ ينطوي التصور الإغريقي على دلالات تُخالف ما ينطوي عليه المصدر السامي Semitic من دلالات. فقد كان الجذر اليوناني القديم ΠeoφyTys يُشير، من ناحية، إلى التكهُّن والتنبُّؤ الذي يُمارسه العرَّافون والكهنة، ومن ناحية أخرى يُشير إلى تفسير إرادة الآلهة وتصويرها لعامة الناس في صور حسية يُمكنهم تصورها. وذلك ما يفتح البابَ أمام نوعٍ من التدخل الشخصي للنبيِّ في صياغة الرسالة الإلهية، باعتبار أن النبيَّ شخصٌ له وجهةُ نظرِه الخاصة، وليس مذياعًا. ويبدو أن نظرية مستويات النص الديني المتدرج من المعنى الظاهري الأبسط إلى معنى أعمق لا يُدركه إلا العقل — والتي مثَّلَت مخرجًا من إشكالية التعارض بين العقل والنقل أمام المشائين المسلمين وخاصة ابن رشد — قد استلهمَت — إلى حدٍّ ما — هذه النظرة الإغريقية للنبوة بوصفها تصويرًا للإرادة الإلهية في صور حسية رمزية يمكن تصورها. انظر في ذلك كله:
Walter Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art, Prophet) op. cit. p. 586 A. J. Heschel: The Prophets, vol. (2), New York, 1971. p. X 11.
زينب محمود الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٨٣م، ص١٢٦.
١٢٠  W. Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art. Prophet) op. cit. p. 586.
١٢١  A. J. Heschel: The Prophets, vol. (2), op. cit. p. 176.
١٢٢  ثمة تيارٌ مؤثِّر في الفكر اليهودي المعاصر يؤكِّد على الطبيعة الانفعالية للنبوة اليهودية. ويبدو وكأن هذا التيارَ يمثِّل أحدَ أجنحة ما يسمَّى بحركة البعث القومي اليهودي في العصر الحديث؛ حيث صبَّ هجومَه المباشر على حركة التنوير العقلي اليهودي — بريادة مندلسون — التي قلَّلَت، إلى حدٍّ كبير، من قيمة التقاليد النبوية اليهودية لصالحِ اتجاهٍ عقلاني يتبنَّى الدعوة إلى اندماج اليهود في أوطانهم التي يعيشون فيها. وبالفعل مثَّلَت هذه النزعاتُ الانفعالية في الفكر اليهودي المعاصر ظهيرًا نظريًّا قويًّا للتوجهات القومية المتعصبة التي كانت حركة التنوير العقلي اليهودي قد نجحَت في إخمادها تمامًا. ومن أهم ممثلي هذا التيار أبراهام كول (١٨٦٥–١٩٣٥م)، الذي رأى في النبوة ضربًا من الاتحاد الصوفي بالحضرة الإلهية، وكذلك أبراهام جوشاهيشيل (١٩٠٧–١٩٧٢م) الذي رأى في النبوة نوعًا من أنواع الجنون يربطها بالشعر. انظر في ذلك كله:
A. J. Heschel: The Prophets, vol. (2), op. cit. pp. 147-148, pp 175-176.
C. Roth (ed): Encyclopedia Judaica, vol. (13), (Art. Prophecy) op. cit. pp. 1180-1181.
محمد عبد الوهاب المسيري، موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، مادة «نبوة»، ص٣٩٥.
١٢٣  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10), (Art. Hebrew prophecy by Konig) op. cit. p. 384.
١٢٤  ميَّز محمد إقبال بين «الوعي الصوفي» و«الوعي النبوي» على أساس الأثر الذي يُخلفه كلا الضربَين من الوعي على بناء العالم الموضوعي؛ ففي الوقت الذي يتَّحد فيه مصدرهما معًا، فإن «الوعي الصوفي» ينسحب إلى داخل الذات مشيدًا معادلًا ذاتيًّا لعالم موضوعي «أُصيب فيه بخيبة أمل». وبذا يُصبح الحوار بين الله والصوفي حوارًا فرديًّا أنانيًّا لا يعني الشيءَ الكثير بالنسبة للبشر بصفة عامة، أما الوعي النبوي فإنه يعود إلى العالم عودةً مبدعة تَبْغي بناءَه من جديد. انظر: محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص١٤٢. ولعلَّ النفسية الفوارة للصوفي هي التي تقضي على أيِّ أثرٍ لوَعْيه في بناء العالم، في حين يرتبط بناءُ الوعي النبوي للعالم بحرص النبي على فهمِ دورِه وتحقيق رسالته والوعي بها دون أن يتلاشى هذا الوعيُ بفعل نفسية هائجة فوارة.
١٢٥  Ibid., vol. (10), p. 384.
وانظر أيضًا: W. Yust: Encyclopedia Britanica. vol. (18), (Art, Hebrew prophecy) by Konig. op. cit. p. 586.
١٢٦  J. Hastings (ed): Encyclopedia of ethics and religion, vol. (10), (Art. Hebrew prophecy By Konig) op. cit. p. 384.
وهذا هو أحدُ المعاني المحتملة للفظة nabi في العبرية الحديثة. انظر: يحزقيل قوجمان، قاموس عبري-عربي، بيروت، ١٩٧٠م، ص٨٦٥.
١٢٧  Ibid., vol. (10), p. 384.
١٢٨  وهذا الرأي يتعارض تمامًا مع ما أورده «هورفيتز» من أن لفظة «النبي» العربية هي التي تمَّت استعارتُها من اللغة العبرية. انظر:
J. Horovitz: Encyclopedia of Islam, vol. (3), Part 2. (Art. Nabi) Leiden, 1936 p. 802.
١٢٩  تأتي أهمية هذا التأكيد من أن الأساس النظري الذي قامت عليه الدولة اليهودية هو مفهوم النقاء اليهودي (العِرقي والحضاري). إذ إن الشعب النقي (عرقيًّا وحضاريًّا) لا بد له من دولة مستقلة عن الأغيار.
١٣٠  W. Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art. Prophecy) op. cit. p. 586.
١٣١  J. Murray (ed): A new english dictionary, on historical principles. (vol. VII), part II, (Art. Prophecy) Oxford, 1959, p. 1473.
١٣٢  W. Yust (ed): Encyclopedia Britanica, vol. (18), (Art. Prophecy) op. cit. p. 586.
١٣٣  من هنا يبرز التفاوت بين اللفظ العبري nabi الذي يعني الناطقَ والمبلِّغ فقط، وبين اللفظ الإغريقي ΠeopyTys الذي يعني، إضافةً للمعنى السابق، المفسِّر والشارح. وهذا التفاوت بين كلا اللفظَين يعني أن الحضارةَ الإغريقية قد استوعبَت اللفظ العبري nabi من خلال مكوناتها التراثية الخاصة، وليس من خلال ما يحمله اللفظ في وسطه الحضاري فقط من دلالات أصلية، بحيث لم ينتقل اللفظ العبري nabi بصيغته العبرية إلى الإغريقية: أي أنه لم «يؤغرق» — إن جاز التعبير — ولكنه تُرجم إلى مادة قومية رُوعيَ في صياغتها أن تكونَ على نمط النموذج الأجنبي.
١٣٤  Ibid., vol. (18), p. 586.
١٣٥  هيراقليطس، جدل الحب والحرب، ترجمة وتقديم وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة ١٩٨٠م، ص١٢٨.
١٣٦  B. Cayne (ed): Encyclopedia Americana, (vol, 22), (Art. Prophecy) op. cit. p. 663.
١٣٧  قد يكون ذلك انعكاسًا لكون النسق الفلسفي الإغريقي هو، أساسًا، نسق تفسيري، على معنى أن الهدف الإغريقي الأقصى كان تحويلَ العالم إلى نسق من الأفكار الواضحة.
١٣٨  W. Yust (ed): Encyclopedia Britanica, (vol. 18), (Art prophecy) op. cit. p. 586.
١٣٩  فقد بدأ الفكر الإغريقي ينصهر، في الاسكندرية، مع الفلسفات والديانات الشرقية، فما كان — تبعًا لذلك — إلا أن تخلى هذا الفكر عن وضوحه العقلي واستغرقه النزوع الشرقي نحو السرية والغموض، أو أنه تحول عن محاولة السيطرة على العالم من خلال تفسيره وعقلنته إلى محاولة التوحد مع الكون من خلال ممارسات أخلاقية وصوفية. ومن هنا تحوَّل النبي من مفسر وشارح للنبوءات إلى مجذوب لا يدري شيئًا عن مصدر معرفته.
١٤٠  ستيفن أولمان، دور الكلمة في اللغة، ص١١٥.
١٤١  J. Murray (ed): A new english dictionary, (Vol. VII), (Part II) (Art, prophecy) op. cite. p. 1473.
١٤٢  Charlton Lewis, Charles Short: A Latin dictionary, (Art. Vates), Oxford, 1879 p. 1960.
١٤٣  J. Murray (ed): A new english dictionary, (vol. VII, Part II), (Art, prophet) op. cite. p. 1473.
١٤٤  يعكس ذلك نمطًا من التفاعل بين الحضارات مغايرًا تمامًا لذلك الذي حكم المواجهة بين الحضارة الإغريقية وبين التراث الديني اليهودي؛ فقد أكَّدَت الحضارة الإغريقية على هُويتها الثقافية الخاصة وحافظَت عليها عبر استيعابِها وتمثُّلِها للتراث الديني اليهودي من خلال ألفاظها ومكوناتها الثقافية الخاصة، وذلك حيث تمَّت ترجمة اللفظة العبرية nabi إلى مادة قومية إغريقية ΠeoφyTys، ولم تُنقل بصيغتها العبرية إلى الإغريقية.
١٤٥  ستيفن أولمان، دور الكلمة في اللغة، ص١٤٦.
١٤٦  J. Murray (ed): A new english dictionary, (Vol. VII, Part II), (Art, prophet) op. cite. p. 1473.
١٤٧  Ibid., (Vol. VII, Part II), p. 1473.
١٤٨  N. Webster: Webster’s new twentieth century dictionary, (2nd edition) New york, 1968 p. 1443.
١٤٩  N. Webster: (ed): Encyclopedia Britanica, (Vol. 15), (Art, prophecy) U. S. A. 1976, p. 62.
١٥٠  يُعَد هذا النموذج اللغوي دالًّا إلى حدٍّ كبير؛ حيث يُجلي العنصرَ الجوهري في النسق الفكري الأوروبي، أعني قدرتَه على كشف الإنساني في قلب الإلهي، والتاريخي في جوف المقدس، فقد ارتبط الانبثاقُ الحضاري الأوروبي، منذ عصر النهضة، بقدرة الفكر الأوروبي على التحول من نسقٍ يتبلور حول الإلهي والمقدس (فلسفة العصر الوسيط)، إلى نسق آخر يتبنَّى الإنساني والتاريخي، لعل في تاريخ الفلسفة الأوروبية منذ ديكارت إلى الآن ما يؤكده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤