الفصل الرابع

النبوة عند الأشاعرة

«إن وضع مبدأ يسلب الحرية الإنسانية قيمتَها على الإطلاق، يكون تعديًا على الحقوق المطلقة لله نفسه.»

كانط … «الدين في حدود العقل»١
تبدَّت «مناهضة النبوة» — فيما سبق — على أنها نوع من الاحتجاج Protest الزاعق على اغتراب الإنسان المادي والروحي في العالم. ذلك الاغتراب الذي ارتبط — عضويًّا — بتحوُّل الإسلام (الدين) إلى سلطة، كان مؤسفًا حقًّا ألَّا تحملَ بعضًا من تسامحِه مع «الآخر»،٢ بل مارست — وباسمه — ضروبًا شتى من العنف والتشدد. فبدا وكأن قهر الاغتراب وامتلاك الحرية مشروطٌ بزحزحة هذه السلطة ومناهضتها؛ ومن هنا كان إبطال النبوة ردًّا على الإسلام-السلطة، لا الإسلام-الدين.
ولقد كان لزامًا تفهُّم «الوضع التاريخي»، المتشدِّد الذي تأدَّى إلى تبلور هذا الضرب من الاغتراب، وبالتالي مناهضة النبوة. ذلك «الوضع» الذي يمثِّل هو ذاته — وتلك مفارقة — ضربًا من الانحراف والمناهضة لمقصد الدين الأصيل. وهكذا يكون الاغتراب قد نشأ عن وضع لا ديني، تبدَّى «قهره» ممكنًا فقط، عبر مناهضة ما هو ديني مطلقًا؛ أعني أن هذا الضرب من الاغتراب وقهره أيضًا قد انبثقَا عن مصدر واحد، يتمثل في «مناهضة الدين» أو الانحراف عن مقصده الأصيل على الأقل. ولهذا كان من المحتم على أيِّ تيار يستهدف بناء النبوة في مواجهة مناهضيها، أن يكشف عن البنية اللادينية واللاإنسانية للوضع التاريخي الذي ظهر فيه تيار «مناهضة النبوة». أما أن يعمل، كالأشاعرة — ولو من غير وعي — في سبيل تكريس هذا «الوضع التاريخي» المتشدد، من خلال تنظير عقائدي تهيمن عليه المطلقات الإلهية والسياسية، فإن شيئًا لا يحدث، غير تثبيت ذات الاغتراب الذي نشأ عنه، أصلًا، «إبطال النبوة»، والذي أدرك المعتزلة، فقط، أن قهره غير ممكن، إلا بالكشف عن الجوهر الأصيل للدين؛ أعني جوهره الإنساني خاصة.٣
والحق أن ما سبق يقتضي، لا مجرد عرض آراء الأشاعرة في النبوة عرضًا يسوده السردُ والانتقال من نقطة إلى أخرى انتقالًا يخضع للهوى والاتفاق، بل صياغة بنيوية شاملة لنسقٍ أشعريٍّ كليٍّ تندرج تحته جملةٌ من القضايا والمسائل — بينها النبوة بالطبع — التي لا تجد تفسيرًا علميًّا منضبطًا إلا في إطار هذا النسق الكلي فقط. ويبدو أن المدخل إلى صياغة هذا النسق يكمن — بصورة أساسية — في التعرُّف على تصوُّر الأشاعرة لمفهوم «العلاقة» بين دوائر الوجود الثلاث: الله، والإنسان، والعالم؛ حيث تتباين كافة الأنساق الفكرية والحضارية بدءًا من تصورها لمفهوم «العلاقة» بين هذه الدوائر الثلاث.٤ والملاحظ أن الصياغة الأشعرية لمفهوم «العلاقة» قد اتَّسمت بطابع صوري مجرد؛ بمعنى أن «تعيُّن» أي دائرة من الدوائر الثلاث كان — تبعًا للأشاعرة — ممكنًا تمامًا دون أدنى حضور في الوعي للدائرتَين الأخريَين، فإنه يستحيل — في إطار ما هو صوري ومجرد — صياغةُ علاقة فاعلة بين أطراف، هي صورية أصلًا؛ ولهذا تأدَّى الأشاعرة إلى «نفي» مفهوم «العلاقة» بين هذه الدوائر الثلاث، نظرًا لما بينها من تباين واختلاف يتجاوز حدودَ أيِّ بناء صوري مجرد. وعلى الأقل، يبدو أنهم انتهَوا — تبعًا لهذه الصورية — إلى أن العلاقة الوحيدة الممكنة بين هذه الدوائر الثلاث، هي علاقة «التسيُّد والاستعباد» لا «التفاعل والاستيعاب».٥ وعلى أيِّ حال فإن العلاقة الحقة؛ أعني من حيث هي ارتباطٌ ضروري — وليس مجردَ ارتباط خارجي — بين أطراف يتحدَّد كلٌّ منها بالآخر لا مكان لها في النسق الأشعري مطلقًا.
والحق أن النسق الأشعري يندُّ عن التفسير مع غياب إدراك واضح لهذه الحقيقة، أعني حقيقة انتفاء «العلاقة» — من حيث هي ارتباط ضروري بين أطراف يتحدَّد كلٌّ منها بالآخر — بين الله، الإنسان، العالم. وقد ارتبط ذلك، جوهريًّا، بقصد الأشاعرة إفساح المجال أمام «سيادة المطلقات»٦ داخل النسق. فإن إبراز سيادة «المطلق الإلهي» — على حساب العالم والإنسان بالطبع — هي غاية النَّسق وعلة وجوده. ولهذا جاء النسق اجترارًا كاملًا لمفهوم «الله»، حتى ليلوح أن النسق لا يقدِّم غيرَ تصور لعالم يخلو إلا من الله. وقد تأدَّى ذلك إلى نزع الموضوعية والضرورة عن «العالم» والفاعلية عن «الإنسان»، فصارَا — كلاهما — وجودًا فارغًا هشًّا لا قوام له. وعلى هذا فإن الوجود الحق ﻟ «الله» يكون — طبقًا للأشاعرة — مشروطًا بهامشيةِ كلِّ وجود سواه. والحقُّ أن التضحية بموضوعية «العالم» وضرورته، وفاعلية «الإنسان» وتحرُّره من أجل إبراز سيادة المطلق الإلهي، كانت من أكثر نتائج النَّسق الأشعري سلبيةً. وقد كان حسنًا أن تتعارض — هذه النتيجة — مع أحد تقريرات الله، الذي بدا أنه لم يُوجِد كلًّا من «العالم والإنسان» ليلتمس لذاته «سيادة» — لا معنى لها على هذا النحو — بل ليلتمس — كما أشار هو نفسه٧ — «معرفة» بذاته. وعلى هذا، فإن «المعرفة بالذات» — وليست «السيادة على الآخر» — هي المضمون الحق لعلاقة «الله» بكلٍّ من «العالم والإنسان». وهذا ما عجز الأشاعرة عن إدراكه حين لم يتصوروا «الله» إلا «السيادة المطلقة» في عالم «إنساني أو طبيعي» لا أثر فيه لفاعلية أو ضرورة.
والحق أن هذه البنية الإطلاقية (Absolutism Structure) — المتجهة إلى تأكيد هيمنة المطلق «الإلهي أو السياسي» على كلِّ ما سواه — تتبدَّى بجلاء من خلال التحليل البنيوي لكافَّة عناصر النسق الأشعري. واللافت أنَّ الذهن لا يلتمس هذه البنية في مجرد «إدراك العلاقات المادية الظاهرية التي تُحقق الترابط بين عناصر هذا النسق»،٨ بل في الكشف عن النظام العقلي الداخلي الذي ينتظم كافة عناصر النسق. وبالرغم من أنَّ تكشُّف هذا النظام العقلي الداخلي (أو البنية) لا يتحقق إلا من خلال عناصر النسق، فإنه يتعذر تمامًا تفسيرُ هذه العناصر (تفسيرًا شاملًا) إلا من خلال انتمائها إلى هذه البنية أو النظام العقلي.٩ وعلى هذا، فإن «البنية الإطلاقية» للنسق الأشعري ليست نتاجًا لمجرد إدراك بسيط للعلاقات الظاهرية التي تربط بين عناصر النسق، حيث إنها هي «النظام العقلي الداخلي» الذي ينتظم هذه العلاقات الظاهرية ذاتها ويُكسبها المعقولية والتفسير. وبعبارة أخرى، فإن ملاحظة بسيطة للروابط الظاهرية بين المباحث الأشعرية في المسائل الإلهية والطبيعية والإنسانية لن تنتهيَ إلى الكشف عن بنية النسق الأشعري؛ إذ ينبغي الكشف عن النظام العقلي الداخلي الذي تتمحور حوله هذه المسائل أساسًا. وهنا فقط تتكشف بنية النسق التي يمكن — بعد ذلك — ردُّها إلى بنية أكثر شمولًا.

ولعلَّ بحثًا في النبوة عند الأشاعرة يتجاهل الطبيعة البنيوية للنسق الأشعري، لا يعدو كونه — في أحسن الأحوال — عرضًا سرديًّا يتَّسم بالتفصيل والإفاضة، ولكن يفتقد — من دون شك — معقوليةَ التفسير وعلمية الإحاطة. ولهذا، فإن محاولةً لصياغة بنيوية — توجز دون إخلال — للمباحث الأشعرية في «الذات والصفات» و«المسألة الإنسانية» و«المسألة الطبيعية»، تُعَد توطئةً ضرورية لفهم النبوة فهمًا علميًّا مضبوطًا.

(١) نحو صياغة بنيوية موجزة للمباحث الأشعرية

اللافت أنَّ ثمة ضربًا من التآلف الباطني بين عناصر البحث الأشعري (في الله والعالم والإنسان) يتجاوز مجردَ الارتباط الظاهري الهش بين هذه العناصر، إلى وجود بنية عميقة تتمحور حولها كافةُ هذه العناصر وتستمد منها المعقولية والتفسير. فالحق أن الذهن — حين يتجاوز خصوصية «الفهم» إلى شمول «التفسير»١٠ — يرصد نظامًا عقليًّا داخليًّا ينتظم كافة عناصر البحث عند الأشاعرة. وهذا النظام العقلي الداخلي هو بمثابة «البنية» التي لا يمكن التماسها — في الآن نفسه — بعيدًا عن هذه العناصر ذاتها. وهكذا فإن تحليلًا دقيقًا لمسائل «الذات والصفات» و«العالم الطبيعي» و«العالم الإنساني» قد يؤدي إلى انكشاف البنية العميقة للنسق الأشعري التي تتمحور حولها هذه المسائلُ ذاتها. وإذ سبقَت الإشارة إلى السمة «الإطلاقية» لهذه البنية، فإن تحليل عناصر البحث السالفة، بنيويًّا، يتكفل بتأكيد هذه السمة.
فقد تأدى الأشاعرة — مثلًا — إلى إثبات الصفات قديمة وزائدة على الذات؛ وذلك «لإحاطة العلم باستحالة كون مَن لا علم له، ولا قدرة له، ولا سمع له، ولا بصر له، صانعًا للعالم ومدبرًا للخليقة.»١١ فإنَّ «مَن لم يكن «موصوفًا» بهذه الصفات كان موصوفًا بأضدادها، وأضدادها نقائص وآفات تمنع صحة الفعل.»١٢ وهكذا فإن «اسم الله تعالى لا يصدق على ذات قد أخلَوها عن صفات الإلهية».١٣ فبدَا وكأن نفي «الصفات» يمثِّل نفيًا ﻟ «الذات»، ومن هنا نشأت ضرورةُ الاعتقاد بأن «لله صفاتٍ دلَّت أفعالُه عليها لا يمكن جحدها، وكما دلَّت الأفعال على كونه عالمًا قادرًا مريدًا، دلَّت على العلم والقدرة و«الإرادة»؛ لأن وجهَ الدلالة لا يختلف شاهدًا وغائبًا.»١٤ ولأن الوصف يقتضي الصفة، كما أن الصفة تقتضي الوصف.١٥

والحق أن إثبات الصفات هكذا؛ أعني قديمة وزائدة على الذات، يرتبط جوهريًّا بالبنية الإطلاقية للنسق الأشعري، فقد تأدى بحث الصفات عند الأشاعرة إلى الخوض في مسائل طبيعية وإنسانية ارتبطت — على الخصوص — بإثبات الصفات (قديمةً وزائدة) على نحو مباشر، حتى لقد بدا أن البناء الأشعري للصفات لا يقوم إلا على تصور معين لكلٍّ من العالَمَين الطبيعي والإنساني، وأعني تصورهما على نحو من الوجود الفارغ الهش الخاضع تمامًا لقدرة الله المطلقة وإرادته التي لا يُحاط بها. وهذا يعني، طبقًا للأشاعرة، أن فاعلية الصفات الإلهية وإيجابيتها لا تتأكد إلا في مواجهة عالم «طبيعي أو إنساني» منفعل وسلبي.

ولعلَّ هذه «البنية الإطلاقية» للنسق تتجلَّى، أولًا، في مسألة «الصفة» و«الوصف»، وخصوصًا عندما يؤخذ التصور الأشعري للعلاقة بين الصفة والوصف في مقابل التصور المعتزلي للعلاقة ذاتها. فالصفة — حسب الأشاعرة — هي «الشيء الذي يوجد بالموصوف، أو يكون له ويُكسبه الوصف الذي هو النعت.»١٦ أما الوصف فهو «قول الواصف لله تعالى بأنه عالم حيٌّ قادر مُنعِم متفضِّل، وهذا الوصف غير الصفة القائمة بالله تعالى التي لوجودها به يكون عالمًا وقادرًا ومريدًا.»١٧ وبهذا تكون «الصفة» كيانًا موضوعيًّا أولانيًّا (Priori)، قائمًا بالذات وسابقًا على الوصف، فتتميز عن «الوصف» الذي يكون تابعًا لها ولقول الواصف أيضًا. إن «الصفات» — أشعريًّا — كيانات قائمة بالذات، تستقل عن أي مجال للفعل أو الخلق؛ إنها كيانات «مطلقة الوجود»١٨ بصرف النظر عن الفاعلية أو عدمها، فإن من الممكن مثلًا «أن توجد قدرة القديم في الأزل وهو غير فاعل بها».١٩ و«الوصف»، إذ «يصدر عن هذه الصفة القديمة والقائمة بالذات»،٢٠ فإنه يتكشف عن سمة بعدية (Posterior) في مقابل السمة الأولانية (Prior) (للصفة) عند الأشاعرة. ومن هنا تترسخ ثانويتُه وتبعيتُه في النسق. ولهذا الإدراك أهميته القصوى في إجلاء «البنية الإطلاقية» للنسق من حيث إن «الوصف» يستلزم — على الدوام — إحالةً إلى «آخر». فإن حضور «الآخر» جوهريٌّ في أي «وصف»؛ إذ قد يكون «الآخر» هو الذي يمارسه وصفًا «لذات»، أو قد تكون «الذات» هي التي تمارسه بوصف نفسها ﻟ «الآخر».٢١ وهكذا، فإن التصور الأشعري للوصف (الذي يستلزم الآخر) تابعٌ للصفة (القائمة بالذات لا تتعداها) يحمل معنى تبعية الآخر (وهو الإنسان بالطبع) وثانويته، بل وإمكانية استبعاده من نسق تبدو فيه السيادة لذات لا تمارس فعاليتها إلا على نحو مطلق.

وقد أدرك بعضُ مَن حاولوا صياغةً أكثرَ توازنًا وجدلية للعلاقة بين دوائر الوجود الثلاثة (الله – والعالم – والإنسان)، أن هذا التصور للذات الإلهية وصفاتها مطلقة من كل تحديد يتأدَّى إلى صعوبات لافتة تتعلق بمضمون الذات الإلهية نفسها من جهة، وببعض مسائل الإيمان الجوهرية من جهة أخرى.

فإن القول — حسب الأشاعرة — بأن الله — مثلًا — «يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في حال كونها في زمان ومكان وغير ذلك من الصفات المختصة بموجود موجود»،٢٢ بعلم قديم زائد على ذاته وقائم بها، يتأدى — ضرورةً — إلى افتراض ضرب من التغير في «الذات» يرتبط — دون شك — بالتغير الحادث في العلم القائم بها، فإنه «يعسر أن يتصوَّر أن العلم بالشيء قبل أن يوجد، والعلم به بعد أن وُجد علم واحد بعينه»؛٢٣ لأن وجود الأشياء بعد أن لم تكن موجودة يعني أن ثمة «تغيرًا» قد حدث يتمثل في «خروج الشيء من العدم إلى الوجود (أو من القوة إلى الفعل).»٢٤ وحيث إنَّ «العلم واجب أن يكون تابعًا للموجود، والموجود تارة يوجد قوة، وتارة يوجد فعلًا، فإنه يجب أن يكون العلم بالوجودَين مختلفًا.»٢٥ وهذا يعني أن ثمة تغيرًا في «العلم» ينسحب — ضرورةً — على «الذات» التي يقوم بها. وقد أدرك البعض (ومنهم الجهم بن صفوان) لزومَ هذا التغيير في الذات عن إثبات العلم صفةً قديمة لها، فانتهى — حرصًا على تنزيه الذات عن كلِّ تغير — إلى أنه «لا يجوز أن يعلم الله الشيء قبل خلقه؛ لأنه لو علم به قبل خلقه، لم يخلُ إمَّا أن يكون علمه بأنه سيوجده يبقى بعد أن يوجده أم لا، ولا يجوز أن يبقى لأنه بعد أن أوجده لا يبقى العلم بأنه سيوجده، لأن العلم بأنه أوجده غير العلم بأنه سیوجده ضرورةً، وإلا لانقلبَ العلمُ جهلًا، وهو على الله سبحانه محالٌ. وإن لم يبقَ علمُه بأنه سيُوجده بعد أن أوجده، فقد تغيَّر، والتغيُّر على الله محال.»٢٦ وقد اضطره هذا إلى أن «يُثبت للباري تعالى علومًا حادثة بعدد الموجودات المعلومة».٢٧
ومن جهة أخرى، فإن إثبات «العلم» صفة قديمة وزائدة على الذات تقتضي أن يكون الله «لم يزَل يعلم أجسامًا لم تكن ولا تكون، ويعلم مؤمنين لم يكونوا، وكافرين لم يُخلقوا».٢٨ فإنه — سبحانه — لم يزَل عالمًا بما سيكون من أفعال عباده، وكذلك لم يزَل «مطلعًا على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزَل موصوفًا به في أزل الآزال، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالتحول والانتقال».٢٩ ومن هنا كان العباد معلومين ﻟ «الله» كافرين قبل أن يُخلقوا ومؤمنين قبل أن يكونوا؛٣٠ أو «معلومون معذبون بين أطباق النيران في الصفات، وإن المؤمنين مثابون ممدوحون منعمون في الصفات، لا في الوجود»؛٣١ وذلك لأنهم لا يفعلون إلا ما علم الله — في الأزل — أنهم سيفعلونه. وعلى هذا، فإن الأفعال الإنسانية ليست إلا تكرارًا مملًّا، يخلو من الفاعلية والإبداع، لما سبق في علم الله الأزلي أن سيكون منهم. وقد بدا غريبًا — تبعًا لذلك — أن يبتدرهم الله بالثواب والعقاب على شيء أراده منهم على حسب علمه في الأزل. فإنه «لو كان «الله» عالمًا «في الأزل» بما يفعله عباده لم يصحَّ المحنة والاختبار، على قول هشام بن الحكم».٣٢ ومن هنا أدرك المعتزلة ضرورةَ أن تتعدَّى أفعال العباد — على الأقل — نطاق العلم الإلهي السابق في الأزل، وذلك حتى لا يتقوَّض عدل الله. فإنه «لا يستحيل فقط — طبقًا لهم — أن يقال للإنسان قبل كونه (خلقه) مؤمن أو كافر، بل يستحيل ذلك أيضًا في حال كونه».٣٣ وهكذا، فإن العلم الإلهي هو الذي يرتبط بالأفعال، من حيث هي خلق خالص للعباد، لا أن الفعل، من حيث هو كسب للعبد، يرتبط بعلم سابق به في تقدير الله في الأزل، فإن فاعلية البشر هي الشرط الأهم للعلم بماهيتهم، أما القول بأن ثمة ضربًا من «العلم»، يتجاوز أي فاعلية إنسانية، فيتعلق «بمؤمنين لم يكونوا وكافرين لم يُخلقوا»، فإنه وإن كان يتسق مع «إطلاقية» علم الله، إلا أنه يتعارض — دون شك — مع عدله، وعلى هذا، فإن إثبات الصفات مطلقة من كل تحديد يتأدَّى إلى «ضرب لصفات الله بعضها بالبعض الآخر».٣٤

وهكذا بدا التصور الأشعري للذات مطلقة صفاتها من كل تحديد مفضيًا إلى ضروب من الالتباس والتناقض. فمثلًا، يستلزم القول «بالعلم» صفة قديمة وقائمة بالذات، ضرورة افتراض ضرب من التغير الحاصل في «الذات» نتيجة للتغير الحاصل في «العلم» القائم بها. ومن جهة أخرى يتعارض القول بأزلية العلم الإلهي «بهواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر» — وبالجملة بما سيكون من أفعال العباد — مع مفاهيم الثواب والعقاب والتكليف؛ أي إنَّ علم الله يتعارض مع عدله. وعلى هذا يكون نسق المطلقات الأشعري قد انتهى إلى ضربَين من التعدي؛ «أولهما» على «الذات الإلهية» من حيث تأدَّى إلى افتراض ضرورة تغيرها، و«ثانيهما» على «صفاتها» من حيث انتهى إلى معارضة بعضها بالبعض الآخر.

واللافت أنَّ التصور الأشعري للذات وصفاتها — مطلقة من كل تحديد — وإن كان قد انتهى إلى ضرب من التعدي على «الذات الإلهية» نفسها، فإنه قد انبنى — أصلًا — على ضربٍ من التعدي الصارخ على الوجود الحق لكلٍّ من «العالم» و«الإنسان».٣٥ والحق أن ذلك يبدو — أجلى ما يكون — عند بحث صفة «القدرة». فقد تأدى «إطلاق القدرة» إلى نفي فاعلية الإنسان، أو تقييدها على أقل تقدير من جهة، وإلى خرق موضوعية العالم الطبيعي واطِّراد قوانينه من جهة أخرى.
فالحقُّ أن تصور (القدرة الإلهية) مطلقة من كل تحديد، هو ما تأدَّى بالأشاعرة إلى «نفي قدرة العبد». فإن القدرة — طبقًا لهم — هي «صفة قديمة أزلية قائمة بذات الرب تعالى، متحدة لا كثرة فيها، متعلقة المقدورات».٣٦ وأعني بالمقدورات «الممكنات كلها التي لا نهاية لها».٣٧ وهكذا تتسع «القدرة» لتتعلق بكل ما في العالم من ممكنات بحيث «لا يمكن أن يُشار إلى حركة «ما» فيقال إنها خارجة عن إمكان تعلق القدرة بها».٣٨ وليس من شك في أنَّ مقدورات العباد من بين الممكنات التي تتعلق بها هذه القدرة المطلقة. إذ إن ثمة «برهانًا قاطعًا على أن كلَّ ممكن تتعلق به قدرةُ الله تعالى، وكلَّ حادث ممكن، وفعل العبد حادث، فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق به قدرة الله، فهو محال».٣٩ ومن هنا «زعم أبو الحسن الأشعري أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلًا، بل القدرة «الإنسانية» والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى.»٤٠ وهكذا كان «نفي قدرة العبد»٤١ هو جوهر ما انتهى إليه التصور الأشعري للقدرة الإلهية — في مجال الأفعال — مطلقة من كل تحديد، وذلك بالرغم من محاولة الأشاعرة الفكاك من هذه «الجبرية الصارمة» إلى تصور أكثر مرونة من خلال تبنيهم نظرية «الكسب».٤٢
يلوح، إذن، أن الأشاعرة لم يجدوا في العالم متَّسعًا لقدرتَين تفعلان كلٌّ في مجال، وتبدَّى لهم الحضور المطلق لقدرة «الرب» غير ممكن إلا في إطار غياب تام لقدرة «العبد».٤٣ وليس من شك في أن هذا التصور يتأدَّى ضرورةً إلى رؤية للوجود الإنساني سلبيًّا وهشًّا. ومن هنا، فإن إنكارَ أيِّ فعالية إنسانية — حتى في مجال المعرفة والأخلاق — كان من أهم ما ترتَّب على هيمنة القدرة الإلهية المطلقة عند الأشاعرة. والحق أنه يستحيل — أشعريًّا — بناءُ أيِّ أخلاق في حدود إنسانية خالصة؛ لأنه إذا كان قوام الحياة الأخلاقية هو الالتزام بقانون الأخلاق، فإن هذا القانون — عند الأشاعرة — ليس قانونًا يكتشفه العقلُ البشري … وإنما هو معطًى إلهيٌّ ليس للمرء بإزائه إلا الرضوخ والإذعان.٤٤ وعلى هذا، فإن مصدر الأخلاق الأشعرية — بل وغايتها — يقوم في الإلهي. إذ يمنع الأشاعرة «أشد المنع من أن يكون في العقل بمجرده طريقٌ إلى العلم بقبح فعل أو بحُسْنه»؛٤٥ وذلك لأن الأفعال في ذاتها لا تنطوي على أي صفة أو خاصية تُبرر أخلاقيتها (أعني حسنها أو قبحها). فالأفعال — بما هي كذلك — لا-أخلاقية؛ لا بمعنى أنها منافية للأخلاق، بل بمعنى أنها خارج نطاق التناول الأخلاقي من حيث لا تنطوي على أيِّ مقوِّم لحكم أخلاقي أو تقويم.٤٦ وعلى هذا، فإن تقرير حسن الأفعال أو قبحها؛ أعني تقرير أخلاقيتها، ليس من مدارك العقول، بل من موارد الشرع. فالأحكام الأخلاقية — تمامًا كالأعراض الأشعرية — مجردُ لواحق تلحق بالأفعال. وإذا كان الله هو الذي يلحق الأعراض بالجواهر ويؤلف بينها، «فإن الأحكام «الأخلاقية»، بدَورها، لا تثبت للأفعال إلا بالشرع «من الله».»٤٧ فإن «المعني «بالحسن» ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الشرع بذم فاعله».٤٨ وكما أن علاقة الأعراض بالجواهر — عند الأشاعرة — علاقةٌ خارجية طارئة، فكذلك علاقة الأحكام الأخلاقية بالأفعال خارجية وطارئة؛ وذلك حتى يكون في مقدور الله — إن أراد — أن يُحسِّن ما قَبَّح أو يُقبِّح ما حسَّن. وهكذا فإن الأخلاق الأشعرية إنما تتمثَّل في «ورود القول المبين عن مالك الأعيان»٤٩ وليس في التحليل المتبصر لطبيعة الإنسان. والحق أن هذه الأخلاق تكشف عن خواء الوجود الإنساني وضآلة شأنه؛ لأنها — في كل مراحلها — تُصادر «الإنسان» لحساب «مالك الأعيان».
وإذا كان قد لاح أنه يستحيل — طبقًا للأشاعرة — تأسيسُ نسقٍ للأخلاق في إطار ما هو إنساني؛ فالحق أنه يبدو كذلك أن الأشاعرة يجعلون محالًا بناء نسق معرفي يستند إلى ملكات الإنسان فقط. حقًّا، إنهم يرون أن «النظر الموصل إلى المعارف واجب»،٥٠ ولكن هذا «الوجوب» لا يستمد وجوده من تحليل لماهية الإنسان وطبيعته العاقلة، بل يثبت للنظر بثبوت السمع الدال عليه.٥١ … إذ إن «شروط الوجوب «عند الأشاعرة» هو ثبوت السمع الدال عليه».٥٢ وعلى هذا، فإن المعرفة ليست نشاطًا ضروريًّا للإنسان من حيث هو كذلك، بل نشاط يدين بضرورته إلى سلطة مفارقة.
ومن جهة أخرى، فإن الاستحالة المعرفية — الأشعرية — لم تقتصر فقط على التحسين والتقبيح في الأفعال، بل اشتملت على شطر هام من المعارف الضرورية الأخرى. فالناس «إنما هجموا على العالم بغتة، وليس في دلائل عقولهم ما يعرفون به الأغذية من الأدوية والسموم القاتلة، ولا في مشاهداتهم وسائر حواسهم ما يدل على ذلك أو يُحس به معرفة ما تحتاج إليه من هذا الباب، ولا هو مما يُعرف باضطرار».٥٣ وهكذا فإنه ليس «للعقل» و«التجربة» مدخلٌ في العلم بهذه المعارف … إذ «العلم بهذا الشأن الجسيم والخطب العظيم غيرُ مُنالٍ ولا مُدرَك من جهة العقول، وأن الناس محتاجون في علم ذلك إلى سمع وتوقيف، وأن الواجب على أصولهم أن يكون العلم بأصل الطب مُوقَفًا عليه ومأخوذًا من جهة الرسل.»٥٤ وليس من شكٍّ في أن المعرفة، على هذا النحو، تكشف عن غياب دائم لما هو «إنساني» في مقابل حضور مطلق لما هو «إلهي».

وأخيرًا … فإن استحالة المعرفة، ضمن شروط إنسانية فقط، يرتبط — في التحليل الأعمق — بطبيعة الأنطولوجيا الأشعرية ذاتها. فالحق أن الأنطولوجيا الأشعرية — من حيث تستند في كل الأحوال والأزمنة على التدخل الإلهي والخلق المستمر — تندُّ عن المعرفة إلا بتدخل إلهي أيضًا. وهكذا، فإن النسق الأشعري يتأدَّى من «إنسان» يفتقر إلى القدرة على المعرفة «بذاته» إلى «عالم» يفتقر إلى القدرة على الوجود «بذاته». وليس من شك في أن هذا الإفقار إنما يهدف إلى تكريس فاعلية القدرة الإلهية المطلقة فقط. وهكذا يتكشف النسق الأشعري — في مجالَي الأخلاق والمعرفة — عن تصور «للإلهي»، فعَّال فقط عند غياب ما هو «إنساني».

وتتجلَّى هيمنة البنية الإطلاقية — التي تتمثَّل في الإلغاء التام لقدرة «العبد» إطلاقًا لقدرة «الرب» — على النسق الأشعري، خاصة، عند تناولِ أيٍّ من قضايا الواقع. فإن رأى البعض أنه لا جدال في الخصوصية الإنسانية لقضية «الأسعار» مثلًا — إذ الأسعار تتحدَّد في ظلِّ شروط من صنع الإنسان، على الأغلب، وهذا قول المعتزلة٥٥ — فإن الأشاعرة يرَون «السعر يتعلق بما لا اختيار للعبد فيه»،٥٦ بمعنى أن الأسعار، غلاءَها ورخصَها يكون «من قِبَل الله تعالى الذي يخلق الرغائب في شرائه ويوفر الدواعي على احتكاره، لا لقلة ولا لكثرة، ولأنه طبع الخلق على حاجتهم إلى تناول الأغذية التي لولا حاجتهم إليها لم يُكترث بها ولا فُكِّر فيها».٥٧ وهكذا يبلغ التطرف الأشعري، في إلغاء قدرة العباد، مداه … حتى في قضايا يستحيل مجرد التفكير فيها بمعزل عن نشاط الإنسان وفاعليته في التاريخ.٥٨
ومن حسن الطالع أن الإلغاء الأشعري لقدرة «العبد»، إطلاقًا لقدرة «الرب» قد تأدَّى — فيما يتعلق ببعض الأصول، كالآجال والأرزاق — إلى شناعات دينية وأخلاقية. ففيما يتعلق بقضية «الآجال» تأدَّى الأشاعرة إلى «أن كلَّ مَن يُقتَل فقد مات بأجله المقدور. والمعنى بذلك أن الذي قُتل قد علم الله تعالى في أزله مآل أمره، وما عُلم أنه كائن فلا بد أن يكون».٥٩ وليس من شك في أنَّ الأشاعرة قد رأوا في المقتول ميتًا بأجله المقدور من الله حتى لا يُثبتوا أيَّ فاعلية لقدرة أخرى — غير القدرة الإلهية المطلقة — في مجال الآجال. وقد بدَا للمعتزلة أن لو كان الأمر كذلك حقًّا لما رأى «ذو عقل للقاتل في المقتول فعلًا، ولا عليه تعديًا ولا قتلًا ولا جناية ولا ظلمًا … لأن قاتله ومفني أرزاقه ومبيد أيام حياته هو رب العالمين».٦٠ وهكذا تنتفي عن القاتل — حسب الأشاعرة — أيُّ مسئولية أخلاقية أو جزائية. ومن جهة أخرى، يتمثَّل رأيُ الأشاعرة في «المقتول ميتًا بأجله المقدور»، تفريغًا لبعض النصوص الدينية والأحكام الشرعية — وأعني خاصة حدَّ القصاص — من محتواها الأصيل. لأنه إذا كان القصاص في الأنفس يعني أن «النفس بالنفس»، فإنه لا يعني — تبعًا لذلك — «سوى إخراج نفسه من جسده كما أتلف وأخرج نفس صاحبه بجرحه، ولو كان كما يقولون لكان واجبًا على الحكام إذ يحكمون أن يقتصوا منه لأولياء المقتول جرحًا، وخلوا عنه بعد ذلك، ولا يطلبون لنفسه تلفًا ولا قتلًا، وإن انقطع أملُه وحان أجله مات … «والحق أن الله لم يقصد إلى ذلك»، بل أراد، سبحانه، من وليِّ الأمر إخراجَ نفسه (أي القاتل)، وإتلاف روحه وقطع عمره، ليجد غِبَّ (عاقبة) ما اكتسب من فعله».٦١ وعلى هذا، فإن حدَّ القصاص يؤكد أن المقتول لا يموت بأجله، بل بفعل من غيره يُخرج به نفسَه ويُتلف روحَه ويقطع عمره؛ وبعبارة أخرى، فإنه يُثبت دورًا لفاعلية أخرى — غير فاعلية القدرة الإلهية المطلقة — في مجال الآجال.
وإضافةً إلى هذه الحجج الأخلاقية والشرعية، أورد المعتزلة حجةً منطقية على مجانبة الأشاعرة للصواب بنفيهم التام لقدرة العبد — إطلاقًا لقدرة الرب — في مجال الآجال على الأقل. إذ يستدعي القول الأشعري بأن الله هو الذي يُنهي الأجل في كل الحالات، سؤالًا «عمَّن قتَل نفسه بيده، أقتلها وهي حية في بقية من أجلها؟ أم ميتة قد انقضى أجلها؟ فإن قالوا: قتلها وهي حية في أجلها، فقد أقروا أنه كانت له بقية فقطعها بيده، قلَّت البقية أم كثرت، وإن قالوا: قتلها بعد أن فَنِيَ أجلُها، فكل ما فَنِيَ أجلُه فهو ميت لا شك عند فناء أجله، وقَتْل ميتٍ ميتًا محالٌ».٦٢ وهكذا تؤكد قضية الآجال ضرورةَ إثبات قدرة للعبد إضافة إلى قدرة الرب؛ إذ تأدَّى الإنكار الأشعري لهذه القدرة إلى شناعات أخلاقية ودينية ومنطقية.
وفيما يتعلق بقضية «الأرزاق»، فإن الإلغاء الأشعري لقدرة العبد، إطلاقًا لقدرة الرب، قد تأدَّى إلى «أنَّ كلَّ مَن أكل شيئًا أو شَرِب فإنما تناول رزقَ نفسه حلالًا أو حرامًا.»٦٣ إذ بدا للأشاعرة أن القول بأن الإنسان «قد يأكل رزقَ غيره إذا غصب شيئًا وأكله»،٦٤ يعني إثباتًا لفاعلية العبد من خلال قدرته على الغصب. ولذلك استحسنوا القول بأن «كلَّ ما غصب غاصب أو أخذه من المال أخذًا غصبًا، فهو من الله له بتقدير وعطاء ورزق»،٦٥ على أن يجعلوا هذا «الغصب» فعلًا خاصًّا للإنسان، فتثبت له الفاعلية والقدرة، فبدا وكأن الله — طبقًا للأشاعرة — «يُطعِم ويرزق عبادَه طعامًا ثم يكتبه عليهم حرامًا، فيوجب عليهم — على قبول ما أعطاهم — العقاب، ويحرمهم — بأخذ ما صير إليهم — الثواب … وفي ذلك قول بتجوير الرحمن ووصمه بالظلم والعدوان».٦٦ وهكذا يتأدَّى الإنكار الأشعري لقدرة «العبد» إلى دحض عدل «الرب»، ممَّا يُبرهن على ضرورة إثبات قدرة للعبد ليتنزه الله عن الجور والظلم. والحق أن ذلك يعني أن قدرة للإنسان فعالة، ضرورية ولازمة لتجلي قدرة الله على نحو أكثر منطقية وعدالة.
وإن تبدَّت البنية الإطلاقية للنسق الأشعري، كأجلَى ما يكون، في المباحث الأشعرية ذات الطابع الإنساني، فإن تبدِّيَها في مباحثهم «الطبيعية» لا يقلُّ جلاءً أو ظهورًا. وإن تمثَّلت هذه البنية — في المباحث الإنسانية — في الإلغاء التام لقدرة العبد، والإطلاق — اللا محدود — لقدرة الرب؛ فإنها تتجلَّى — في المباحث الطبيعية — فيما يسمَّى — إذا جاز التعبير — بالإلغاء التام لفاعلية «الطبيعة» والإطلاق الشامل لقدرة الله في الكون. فقد تأدَّى الأشاعرة إلى نفيِ أيِّ استقلال أو موضوعية لقوانين طبيعية تنتظم ما يقع فيها من حوادث. إذ يندرج كلُّ ما يحدث في الطبيعة في إطار «الممكنات» التي تنتظمها قدرةٌ إلهية تكون هي — لا القانون الطبيعي — «شاملة لجميع الممكنات، لا مختصة ببعض الممكنات كما زعم المعتزلة».٦٧ والحق أن تعلُّق القدرة الإلهية بكل ما يقع في الكون من حوادث يبلغ حدًّا من العموم لا يمكن أن يُشار معه إلى أيِّ حركة تحدث في الكون إلا ضمن متعلقات هذه القدرة الشاملة. وإذ بدَا للأشاعرة أن القول بقانون موضوعي ثابت ينتظم سَيْر الظواهر الطبيعية لا يتَّسق مع كمال القدرة الإلهية وتدخُّلها المستمر في سَيْر الطبيعة، وشمولها «لجميع الممكنات والمبدعات من العلويات والسفليات والذوات والصفات كلها»،٦٨ فإنهم لم يترددوا في نقض نظام الطبيعة إطلاقًا لشمول القدرة. وهكذا يتجلَّى الارتباط الجوهري بين بناء الأشاعرة للطبيعة وبين بنية نسقهم الإطلاقية.
واللافت — حقًّا — أن البناء الأشعري للطبيعة لم يتبلور من رغبة في اكتناه أسرارها، توطئةً للسيطرة وإسلاس القياد، بل من الرغبة في تأكيد أصول الاعتقاد. فقد «أراد المتكلمون بيانَ أثرِ القدرة الإلهية في أهم مقدور لها وهو العالم الكبير بعد أن تأكدت فاعلية هذه القدرة — بإطلاق — في العالم الصغير؛ أعني الإنسان. ولهذا، فإنه لم يكن بدٌّ للمسلمين من تفسير ظواهر الطبيعة، «ولكن» لا من حيث كونُها فعلًا للطبيعة، بل من حيث كونُها صادرةً عن الله».٦٩ وهكذا، فإن «الطبيعة» تتقوم في النسق الأشعري باعتبارها «مُعينًا للعقل البشري على اكتشاف الله وتبيُّن حقيقته».٧٠ وبالفعل، فإن الردَّ الأشعري للعالم الطبيعي إلى «أجزاء لا تتجزأ»، إنما يُعَد توطئةً لإثبات تناهي الموجودات إلى حد، فيشملها، بالتالي، العلم المحيط والقدرة المطلقة؛ وذلك لأنه «لا يمكن إحاطة شاملة إلا بموجودٍ متناهٍ، ولا يمكن تحقُّق موجودٍ متناهٍ إلا إذا انقسم في نهاية الأمر إلى جزء لا يتجزأ».٧١ ومن ناحية أخرى، فإن قول الأشاعرة بالأعراض لا تبقى زمانين. يتغيَّا تأكيد انفراد القدرة الإلهية المطلقة بالفعل في عالم الطبيعة؛ وذلك بعد أن بدَا القول ببقاء الأعراض «مؤديًا إلى القول بطبيعة فاعلة فِعْلها باقٍ دائمًا».٧٢ وهكذا اصطبغت المباحث الأشعرية في الطبيعة بصبغة عقائدية جامدة، غدَت معها محلَّ تسليم واعتقاد، لا تفكُّر وانتقاد. ومن هنا، فإن أحد الأشاعرة الغلاة، وأعني البغدادي، قد رأى في انتقاد «النظَّام» للجزء الذي لا يتجزَّأ، سببًا لتكفيره.٧٣ فبدَا، بذلك، وكأنَّ كلَّ تأمُّل في الطبيعة يستهدف «تفسيرًا موضوعيًّا» لا «تبريرًا غائيًّا» هو أمر يضيق به الصدر الأشعري؛ إذ «الغاية» — أي التجلي الإلهي — وليس «التفسير» — أي القانون العلمي — هي قصدُ التأمل الأشعري في الطبيعة. وحسب هذا التصوير، فإن الطبيعة لا تكون موضوعًا مستقلًّا يمكن فهمُه داخل حدوده الخاصة،٧٤ بل كيانًا ناقصًا هشًّا لا يمكن فهمه إلا بوصفه مجرد مجلًی لقدرة مطلقة. وهكذا تبنَّى الأشاعرة تصورًا عن طبيعة مفتتة هشة تحتاج — على الدوام — إلى تدخُّل وعون من خارجها، وذلك إثباتًا لقدرة تتدخَّل وتُهيمن على حساب قانون ثابت مطرد.
إنَّ التفتُّت والخواء يتبدَّى — كأجلَى ما يكون — في تصور الأشاعرة للعالم «كتلة منفصلة الأجزاء، لا فعل لجزء منه في الجزء الآخر».٧٥ وهكذا يعاني العالم — منذ البدء — نقصًا وتفككًا ومواتًا لا سبيل إلى البُرْء منها جميعًا إلا بواسطة قدرة مطلقة، تَصِل الأجزاء ببعضها وتخلق فعلها. فالجواهر والأعراض هي قوام العالم الطبيعي عند الأشاعرة، أو هما «المقولتان اللتان نستطيع بهما أن نتصور الأشياء المتحققة في الخارج».٧٦ وبالرغم من الصدى الفلسفي للمقولتين، فإنهما يتضمنان عند الأشاعرة مفاهيمَ تتباين ومحتواهما عند الفلاسفة. فإن كان الجوهر لدى الفلاسفة هو «ما قام بنفسه، فهو متقوم بذاته ومتعين بماهيته»،٧٧ فإنه لا شيء لدى الأشاعرة يقوم بذاته أو يتعين بماهيته؛ لأن الأشياء جميعًا تقوم وتتعين بالله. ولهذا، فإن الجوهر عندهم هو أقصى ما يتناهى إليه الجسم في التجزئة، أو هو الجزء الذي لا يتجزأ. ولا ريب أنه «إذا كانت الجواهر أو الأجسام لا تتقوم بذاتها فإن المجال يصبح مفتوحًا للدور الرئيسي للقدرة الإلهية — لا في الإيجاد من عدم فحسب — بل في التأليف والتركيب، والاجتماع والمماسة، والافتراق والانفصال بين الجواهر والأجزاء».٧٨ ومن ناحية أخرى، فإن كون «الجوهر لا يتقوم بذاته» يجعل من وحدة الجسم أو وجوده — عند الأشاعرة — وحدةً ظاهرية خارجية، وبذلك يصبح الجسم عرضةً للتصدُّع والانهيار؛ إذ يفتقد إلى أيِّ مقوم داخلي أو باطني لوحدته أو وجوده، وهنا تتجلَّى قدرة الله المطلقة في الإبقاء على وحدة الجسم ووجوده.
والحق أن القول بافتقار «الجوهر» إلى القدرة على «التقوُّم بذاته والتعيُّن بماهيته» ينتهي إلى مشكلة أنطولوجية تتعلق بدوام العالم في الوجود. فإنه يستحيل تصوُّر العالم باقيًا في الوجود «بذاته» في إطار تصور للجوهر لا يتقوم بذاته. إذ يعني تصور الجوهر، لا يتقوم بذاته، أن «الجواهر لا تبقى بأنفسها ولكنها تبقى ببقاء زائد على وجودها، يكون من الله».٧٩ وهكذا تدوم الجواهر في الوجود ببقاء يخلقه الله فيها كل لحظة.٨٠ وعلى هذا، فإنه ليس من وجود حقيقي للجواهر، بل مجرد وجود ظاهري هش تستمده من خلق الله للبقاء فيها في كل لحظة. وعلى نفس القياس، فإنه ليس من وجود حقيقي للعالم، بل ثمة وجودٌ ظاهري فارغ يتبدَّى من خلال خلق الله المستمر للعالم في كل وقت. وهكذا يتأدَّى تصور الأشاعرة «للجوهر» إلى تصور «العالم» على نحوٍ من الوجود الظاهري غير الحقيقي. وتبعًا لذلك، فإن العالم يكون — كفعل الإنسان — وجودًا بالمجاز، في حين يبقى الوجود، على الحقيقة، ماثلًا في خلق الله لكليهما معًا؛ أعني للعالم ولفعل الإنسان.
وإذا كان التصور الأشعري «للجواهر» قد ارتبط جوهريًّا بإفساح المجال أمام القدرة الإلهية المطلقة، خالقةً وحافظة للخلق، فإن تصورهم «للأعراض» يتكفَّل ببيان فاعلية هذه القدرة على نحوٍ أكثرَ شمولًا وجلاء. فالأعراض — حسب الأشاعرة — هي صفات «تعرض في الجواهر والأجسام، وتبطل في ثاني حال وجودها».٨١ واللافت أن العَرَض يُعَد — بحسب هذا التعريف٨٢ — وجودًا إلى الزوال والانقضاء. ويبدو أن هذا التصور الأشعري للعرَض قد ارتبط — إضافةً إلى أصله القرآني — بالتصور الأشعري للزمان. «فالزمان — كالأجسام — يتناهى إلى أجزاء لا تتجزَّأ أو آنات لا مدة لها»؛٨٣ ولهذا فإنه — أعني الزمان — «مجموع ذرات منفصلة أو آنات، يحدث الواحد بعد الآخر، ولا صلة بين الواحد والآخر».٨٤ وتبعًا لذلك، يعتبر «الآن» — في الزمان — وحدة قائمة بذاتها لا علاقة لها بما يسبقها أو يلحقها. وبذلك يكون الأشاعرة قد أدركوا في الزمان نقاطًا منفصلة لا ديمومة متصلة. وليس من شك في أن نظرية في الزمان تعدُّه نقاطًا منفصلة، لا صلة بين الواحدة والأخرى، تنتهي ضرورة إلى افتراض الخلاء بين هذه النقاط المنفصلة. وهكذا بدا وكأن الفراغ أو العدم لا بدَّ وأن يقوم بين كلِّ اثنتين من آنات الزمان الأشعري.٨٥ ومن هنا فإنه يستحيل أن يبقى العَرَض آنَين من الزمان؛ لأن بين كلِّ آنٍ في الزمان وآخر هُوَّة من العدم لا بد أن تطال العَرَض. والملاحظ أن الأشاعرة قد انتهَوا — تبعًا لذلك — إلى الاستنباط المنطقي للطابع العدمي للعَرَض — وبالتالي للجوهر — في تحليلاتهم للزمان. وأعني أنهم تصوَّروا العدمَ (عدم الأعراض — وبالتالي الجواهر —) ضرورةً منطقية، لا فاعلية إلهية. وليس من شك في أن ذلك يرتبط بتصور الأشاعرة في أن القدرة الإلهية لا تتعلق بالإعدام، بل تتعلق بالإحداث فقط: فإن «عدمَ الحوادث، سواء كانت جواهرَ أو أعراضًا، واقعٌ بنفسه لا بالقدرة؛ لأن أثرَ القدرة عندهم (الأشاعرة) لا بد أن يكون وجوديًّا، فلا تتعلق القدرة بالعدم عندهم».٨٦ وإذ بدا للأشاعرة أنه «يلزم استغناء العالم، حال بقائه «بنفسه» عن الصانع»،٨٧ فإنه لم يكن بدٌّ من إثبات «الإحداث الدائم» للقدرة؛ وذلك لأن «السبب المحوِّج إلى المؤثر هو الحدوث».٨٨ وهكذا كان «الإحداث الدائم» هو فقط السبب المحوِّج إلى «المؤثر». وإذ بدَا إثبات هذا الإحداث غيرَ ممكن إلا بإثباتِ إعدامٍ يسبقه، فقد اضطرَّ الأشاعرة إلى إدخال العدم في صميم كينونة العالم بوصفه ضرورةً منطقية، لا بوصفه فاعليةً إلهية، كي لا يبدوَ فعلُ الله عبثًا. ومع ذلك، فإنه يبقى أن هذا العدم يُعَد — في الأنطولوجيا الأشعرية — مجردَ توطئة لإثبات الفاعلية الإلهية، وليس انعكاسًا للطبيعة التطورية للوجود كالحال عند هيجل.
والحقُّ أن القول «بالخلق المستمر» هو أهم ما ترتَّب على إدخال العدم إلى العالم. إذ إن عرَضًا ينعدم لا بدَّ وأن يتجدد عرضٌ مثله، وإلا انقطع العالم عن البقاء. وإذا كان «عدم العرَض» من نفسه — كما سبقت الإشارة — فإن تجدُّدَه أو اختصاصَه بوقت معين يخرج فيه إلى الوجود لا يكون من نفسه، وكذلك فإنه لا يكون — كما يرى الفلاسفة — من «استناده إلى سلسلة مقتضية لذلك الاختصاص».٨٩ بل إن هذا التخصيص لكلِّ عرَض «بوقته الذي وُجد فيه إنما هو للقادر والمختار، فإنه يُخصص بمجرد إرادته كلَّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده».٩٠ واللافت — حسب الأشاعرة — أنه ليس من أثر لأدنى ضرورة في خلق الأعراض، فإنها تُخلق بمجرد «الإرادة»، ودون التقيد بمقتضيات حكمة أو قانون. وتجدر الإشارة إلى أن «الخلق المستمر» إذ يتعلق بالأعراض، فإنه يتعلق — تبعًا لذلك — بالجواهر، وبالتالي بالوجود بأَسْره. ذلك أنه لا يمكن تصوُّر «انعدام العَرَض» دون «انعدام الجوهر»؛ إذ الجوهر ينعدم لا محالة حين ينعدم العَرَض. ومن هنا، فإنه إذا كان «العَرَض لا يبقى زمانَين» فإن «الجواهر — هي الأخرى — لا تبقى زمانَين، مثلها في هذا مثل الأعراض».٩١ وإذ ينتهي «عدم العَرَض» إلى «عدم الجوهر»، فإن «بقاء الجوهر» يستند بالضرورة إلى خلق الله للعرض على التجدُّد، وهذا يعني أن هذا الخلق المتجدد يكون علةَ بقاء الجوهر. إذ إن «شرط بقاء الجوهر هو العرض، ولما كان «العرض» متجددًا محتاجًا إلى المؤثر دائمًا، كان الجوهر أيضًا حال بقائه محتاجًا إلى ذلك المؤثر بواسطة احتياجِ شرطِه إليه».٩٢ ومن هنا، فإن الخلق المستمر للعَرَض هو — لا جدال — خلق مستمر للجوهر. وهكذا، فإن أبسط «العناصر» التي انتهى إليها التحليل الأشعري للعالم تبدو أعجز من أن تدوم في الوجود آنًا بعد آنٍ، بل إن «وجودها يستند في كل الأحوال والأزمنة على التدخل الإلهي».٩٣ وتبعًا لذلك، فإن العالم الطبيعي لا يتمتع بأدنى فاعلية أو نشاط ذاتي. حقًّا، إنَّ ثمة أثرًا لفاعلية ونشاط ذاتي للعالم يتبدَّى في التصور الأشعري للعَرَض — وبالتالي للجوهر — يفنى بنفسه من غير فاعل خارجي. ولكن الملاحظ أنها «فاعلية» تعدم نفسها؛ وأعني أن الأثر الأوحد لفاعلية الطبيعة هو الإعدام والإفناء؛ في حين أن الفاعلية الإلهية تتعلق، فقط، بالإيجاد والإبقاء. واللافت على أي حال، أن التصور الأشعري، للطبيعة (سلبية وموات) لا يجد تفسيره إلا في تصورهم للقدرة الإلهية منفردة بكل نشاط وفاعلية في العالم.
وإذا كان القول بالخلق المستمر قد بدا — في إطار الأنطولوجيا الأشعرية — أمرًا ضروريًّا لتفسير الامتداد الظاهري للعالم في الوجود، فإنه كان ضروريًّا كذلك — في إطار نظريتهم الإبستمولوجية — لتفسير إمكان معرفة هذا العالم. وأعني أن الضمان الإلهي للأنطولوجيا الأشعرية ضروريٌّ كذلك لمعرفتها؛ ذلك أن الخلق المستمر لا يعني — عند الأشاعرة — حفظًا مستمرًّا لذات العالم بفعل من الله واحد، بل خلقًا من الله للعالم بفعل. يتجدد في كل لحظة. وهذا يعني أن الوجود لا يكون لعالم واحد متماسك وثابت — ولو بفعل من الله — بل لسلسلة لا متناهية من العوالم. حقًّا إن «نفس العالم» يُخلق في كل لحظة، ومع ذلك فإنه ليس عالمًا واحدًا «بل سلسلة من العوالم تتوالى حتى يُخيَّل لنا تواليها (كونها) عالمًا واحدًا».٩٤ وليس من شك في أن عالمًا كهذا، يفتقد أدنى ثبات أو ضرورة، هو عالم تستحيل إمكانية معرفته يقينيًّا،٩٥ إلا بتدخل مفارق. ومن هنا فإن الأنطولوجيا المضمونة بتدخل إلهي تتأدى — على صعيد المعرفة — إلى «إبستمولوجيا» لا بد، كذلك، من ضمانها «إلهيًّا».٩٦ وهذا يعني أنه إذا كان «التدخل الإلهي» ضرورة أنطولوجية، فإنه يكون — كذلك — ضرورة إبستمولوجية. وهنا يتجلَّى الإلغاء الأشعري لفاعلية «العالم» من جهة، وفاعلية «الإنسان» من جهة أخرى في موقف واحد يؤكد فقط انفرادَ الذات الإلهية بمطلق القدرة والفاعلية.
وإذا كانت البنية الإطلاقية للنسق الأشعري قد تجلَّت — على نحو واضح — عند تحليل عناصر العالم الطبيعي، فإنها تتجلَّى — بذات القدر — في علاقات هذه العناصر ببعضها. وأعني أنه إذا كان «الجوهر لا ينفك عن العرض» من ناحية، و«العرض لا يمكن — من ناحية أخرى — أن يوجد إلا قائمًا بجوهر ما»٩٧ إذ العرض لا يقوم بنفسه، كما لا يقوم بعرض غيره؛٩٨ فإن هذا الارتباط بينهما لا يتَّسم بأي كلية أو شمول. إذ إن عرضًا جزئيًّا معينًا يقوم بجوهر ما، «ولا يمكن أن يقوم العرض نفسه بجوهر آخر»،٩٩ بحيث إن «السواد القائم بهذا المحل غيرُ السواد القائم بالمحل الآخر ضرورةً».١٠٠ وعلى هذا، فإنه ليس من أثر لمقولة أو معنى كلي يعمُّ أكثر من جوهر أو جزء من الأجزاء القائمة في الخارج؛ إذ الأجزاء جميعًا تقع في قبضة قدرة مطلقة تختص بالتأليف والتفريق بين الأجزاء. وهكذا تتجلى إطلاقية البنية في إطار البحث الأشعري في الطبيعة بأسره.
ولعلَّه تأكَّد، الآن، أن هناك بنية (Structure) محددة تنتظم عناصر البحث الأشعري في المسائل الإلهية والإنسانية والطبيعية. ذلك أنه أمكن صياغة نسق شامل ينتظم هذه المسائل جميعًا برغم تباينها، وهذا النسق لا يجد تفسيره إلا في انتسابه إلى هذه البنية المُشار إليها. ولقد بدا أن هذه البنية ذات طبيعة إطلاقية؛ أعني أنها تكشف — على نحوٍ مطلق — عن حضور ما هو إلهي وفعاليته في مقابل غياب ما هو إنساني أو طبيعي وسلبيته. وقد ارتبطت هذه الصياغة الإطلاقية للبنية بالعجز الأشعري عن إدراك مضمون للعلاقة بين دوائر الوجود الثلاثة: (الله والعالم والإنسان)، إلا التسيُّد والاستبعاد، وليس التفاعل والاستيعاب. وأعني أنهم لم يُدركوا في العالم إلا طرفًا يتسيد ويستبعد ما دونه. وبالرغم من الطابع النظري المحض لهذه البنية، فإن كونها تعكس رؤية للعالم ذات طابع واقعي أمرٌ يصعب إنكاره. وأعني أنه لا يمكن الفصل بين هذه الصياغة الإطلاقية للبنية وبين مجمل التصورات الاجتماعية والسياسية للأشاعرة. وإذ تبدى — على أي حال — أن ثمة نسقًا، يتمحور حول بنية ذات خصائص محددة، ينتظم المباحث الأشعرية الكلامية، فإن مهمةَ أيِّ بحث جزئي في مسألة أشعرية باتت — والأمر كذلك — تنحصر في مجرد الكشف عن تجلِّي هذه البنية الخاصة في تلك المسألة الجزئية واندماجها — بالتالي — في نسق كلي تستمد منه المعقولية والتفسير. فإنه لا بدَّ من سلب «الجزئية» عن أي مسألة خاصة؛ وذلك بإدماجها في البنية أو النسق، حتى يمكن أن تصير علمًا. إذ إنه لا «علم» حيث لا يوجد «الكلي». ولا جدال في أن بحث النبوة الأشعرية سيكون — تبعًا لذلك — محاولةً لسلب «الجزئية» عنها؛ وذلك بإدماجها في نسق كلي تستمد منه المعقولية والتفسير. وليس من شك في أن ذلك لن يتحقَّق إلا بالكشف عن تجلِّي «البنية» فيها.

(٢) النبوة … أو تجلي البنية

لو أنَّ «معيار العلم» يتمثَّل في انكشاف بنية ما خلال عناصر شتى ينتظمها نسقٌ شامل يتمحور حول هذه «البنية»؛ فإن هذا المعيار ينطبق — لا شك — على مبحث النبوة الأشعري، الذي يتكشف عن البنية الكلية للنسق الأشعري بأسره. وإذ تتَّسم هذه البنية الكلية بالنزوع الدائم إلى تأكيد هيمنة المطلقات وسيادتها على العالم، فإن كافة عناصر البحث النبوي الأشعري تُظهر ذات النزوع. وهكذا تتكشف هذه العناصر، كافة، عن حضور وهيمنة «مطلقَين» لما هو إلهي في مقابل غياب وانسحاب «تامَّين» لما هو إنساني. ومن هنا، فإنه إذا كانت النبوة «خطابًا إلهيًّا» يتكشَّف في إطار «شروط إنسانية»، فإن المعتبر لدى الأشاعرة هو مجرد «الخطاب الإلهي» دون «الشرط الإنساني». وبالرغم من أنه بدا أن تصورًا للنبوة في إطار هيمنة ما هو «إلهي» مطلقًا، وغياب ما هو «إنساني» تمامًا يتأدَّى إلى صعوبات جمة تتمثل في أن منطقية «الخطاب» تنهار — لا ريب — بمجرد حذف أحد طرفَيه، كما أنه ثبت تاريخيًّا — وبفضل الخطاب الإلهي ذاته — أن الشرط الإنساني داخلٌ في تركيب الخطاب الإلهي؛ فإن نظرةً على مجمل ما بحثه الأشاعرة في النبوة تكشف — على نحوٍ قاطع — عن شمول البنية الإطلاقية للنسق الأشعري لكل عناصر البحث النبوي.

(أ) تعريف النبوة

تتَّفق المصادر الأشعرية على ردِّ الاشتقاق اللغوي للفظ «النبي» إلى مصدرين. واللافت حقًّا أنه بينما يتكشف أحد المصدرين عن «حضور إلهي» غلَّاب، فإن الآخر يتبدَّى عن «حضور إنساني» فعَّال. إذ بينما النبي طبقًا لأحد المصدرَين يكون هو «المُنْبَأ من الله» أو «المُنْبِئ برسالته»، فإنه يكون طبقًا للآخر مَن ينبو ويسمو فعله ومَلَكَته. وبالرغم من أن المصنفات الأشعرية تَعرض للمصدرين معًا، فإنهم يميلون، خاصة، إلى تبنِّي المصدر المعبر عن حضور إلهي غلَّاب؛ لأنه يتسق ومجمل تصوراتهم العقائدية من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يتفق وتبنِّيَهم تعريفًا اصطلاحيًّا للنبوة بعينه.

فثمَّة من يرى أن «النبي» لفظ مشتق من النبأ وهو الخبر، فهو المنبئ … وقد سُمي به لإنبائه عن الله تعالى، وهو — حينئذٍ — فعيل بمعنى فاعل مهموز اللام،١٠١ وكذلك فإنه قد يكون «فعيل» بمعنى المفعول لأن الله هو الذي يُنبئه.١٠٢ ولأنَّ لفظ «النبي» مشتق من النبأ، فإنه مهموز في اللغة ولكنه يُخفَّف ويُدغم،١٠٣ ويحتمل أيضًا أن تكون همزته قد سقطت،١٠٤ أو أنها أُبدلت ياء،١٠٥ أو أنهم تركوا هَمْزَه كالذارية والخابية.١٠٦ ومن الممكن، أيضًا — حسب الأشاعرة — أن يكون لفظ «النبي» مأخوذًا من «النبوة أو النباوة»، وتعني الارتفاع عن الأرض.١٠٧ «وحينئذٍ يكون معناه الذي شُرِف على سائر الخلق، فأصله بغير الهمزة، وهو فعيل بمعنى مفعول».١٠٨ واللافت أن الاشتقاق في هذا «المصدر الثاني»، وإن كان يتم — كما في المصدر الأول — على ذات الوزن «فعيل»، فإنه يكون على معنى واحد هو المفعول فقط، وليس كما في «المصدر الأول» على معنى الفاعل أيضًا. فقد لاح للأشاعرة — فيما يبدو — أنه بينما يصلح في المصدر الأول أن يكون الاشتقاق على وزن فعيل، بمعنى الفاعل والمفعول معًا؛ إذ اللفظ «نبي»، في الحالين، أعني بمعنى الفاعل (أي المُنبِئ لرسالة الله)، أو بمعنى المفعول (أي المُنبَأ برسالة من الله)، هو مجرد مجلًى أو أداة للقصد أو الفعل الإلهي، فإن اشتقاقًا من المصدر الثاني بمعنى الفاعل يفسح السبيل لشبهة أن يكون «النبو أو الارتفاع» بفعل من الإنسان ذاته. ولهذا أوقفوا الاشتقاق، هنا، على معنى المفعول فقط؛ وذلك حتى يكون «النبو أو الارتفاع» بفعل من الله فقط؛ إذ هو الذي يرتفع بالنبي ويسمو؛ أعني أن الله هو «صاحب الفعل»، أما النبي فهو فقط «محل الفعل». وبالرغم من هذا التقييد الأشعري في الاشتقاق من «المصدر الثاني»، فإن الأشاعرة قد مالوا خاصة إلى تبنِّي المصدر الأول الذي يكشف — جوهريًّا — عن الحضور الإلهي فقط.١٠٩ يبقى أخيرًا الإشارة إلى أن البنية الإطلاقية للنسق الأشعري قد تبدَّت — كأجلى ما يكون — حتى في أدق أمور الاشتقاق اللغوي.
وإذا كان الأشاعرة قد مالوا إلى تبنِّي الاشتقاق الأول للفظ «النبي» من النبأ — وذلك لأن النبي سواء أكان مُنَبِّئ (أي فاعلًا ينشر النبأ) أو مُنَبَّأ (أي مفعولًا يتلقى النبأ)، فإنه يكون كذلك بفعل من الله لا من نفسه — هذا الانحياز اللغوي يتَّسق وتبنِّيَهم تعريفًا اصطلاحيًّا للنبوة يرى فيها هبة واصطفاء؛ أي فعلًا من الله كذلك. فالنبوة — اصطلاحًا — هي عند الأشاعرة «موهبة من الله تعالى ونعمة منه إلى عبده، وهي قول الله تعالى لمن اصطفاه من عباده: أرسلناك وبعثناك وبلِّغ عنَّا»١١٠ وبالرغم من أن هذا التصور الأشعري للنبوة «هبة واصطفاء» لا يتعارض وتصورها امتيازًا ونشاطًا أوليًّا خاصًّا للإنسان يمهِّد لاختصاصه بهبة النبوة — وبذلك تكون النبوة هبةً واصطفاء مبررَين بفعل سابق من الإنسان — فإن الأشاعرة قد أكدوا أن النبوة هي مجرد «هبة من الله، وليست معنًى يعود إلى ذات النبي ولا إلى عرَض من أعراضه، استحقها بكسبه وعمله».١١١ فالحق أنه «لا يشترط في النبوة — حين تكون هبة واصطفاء — شرط من الأحوال المكتسبة بالرياضات».١١٢ وليس من شك في أن تصور النبوة — اصطلاحًا — «هبة واصطفاء» يرتبط بتصورها — لغة — «إخبارًا وإنباء». ذلك أنَّ كون النبوة من «الخبر أو النبأ»، يجعل جوهرها وأصلها في مجرد «القول» وليس في «الفعل»، وبعبارة أخرى: يجعلها — في الاصطلاح — «ترجع إلى «قول» الله تعالى لمن يصطفيه: «أنت رسولي»، ولا تئول إلى صفات الأفعال».١١٣ وهكذا يتأدَّى ردُّ النبوة — لغة — إلى النبأ، إلى ردها في الاصطلاح إلى مجرد «قول» من الله دون «فعل» من الإنسان. والأمر اللافت على أي حال، هو أن الرد الأشعري للنبوة — لغةً — إلى «النبأ» واصطلاحًا — إلى «الاصطفاء» يرتبط — دون شك — بقصد الأشاعرة إثبات «الفعل» من الله فقط دون الإنسان. ومن هنا، فإن البنية الإطلاقية للنسق الأشعري تتجلَّى تمامًا في تعريف النبوة لغةً واصطلاحًا.

(ب) جواز النبوة

بات من الحتم أن يسريَ على النبوة كلُّ ما يسري على أفعال الله — عند الأشاعرة — من إطلاق ولا-تحدد، وذلك بعد أن أظهر التعريف أنها مجرَّد «فعل إلهي» فقط لا يرتبط بأدنى شرط إنساني. واللافت أن التحليل الأشعري لأفعال الله قد ارتبط بقصد يتمثل في إطلاق القدرة، لا إظهار الحكمة. ومن هنا تأدَّى الأشاعرة إلى أن «أفعال الله» تكون على الجواز والإمكان لا الوجوب أو الامتناع. «فالفعل الصادر منه (الله) مختصٌّ بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض»،١١٤ وقد ارتبط هذا التصور الأشعري لفعل الله مختصًّا بضروب الجواز بأن «المصحح للمقدورية هو الجواز، ولو رفضناه لبقيَ إما الوجوب أو الامتناع، وهما يمنعان من المقدورية».١١٥ وإذن، فإثبات القدرة هو الأصل في اختصاص الفعل بضروب الجواز.
والحق أن كون الأفعال على الجواز يقتضي ضربًا من التبرير العلِّي أو الغائي لاختصاص أحد وجوه الجواز بالوجود؛ وذلك لأنه «لو لم يكن فعل واجب الوجود لغرض مقصود — مع أن الدليل قد دلَّ على كونه حكيمًا في أفعاله، غير عابث في إبداعه — لكان عابثًا، والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق، والخير المحض».١١٦ وبالرغم من أن عدم التبرير العلِّي أو الغائي لأفعال الله يؤدي — تبعًا لذلك — إلى إبطال حكمته وبيان عبثه؛ فإن الأشاعرة قد ذهبوا — حرصًا على إطلاق قدرته — إلى أن أفعال الله لا تستند إلى علة أو غرض؛ إذ الله يفعل ويبدع «لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه، بل الخلق وأن لا خلق له جائزان، وهما بالنسبة إليه سيان».١١٧ وقد أبطل الأشاعرة «الغرض» لأنه يؤدي — فيما تصوَّروا — إلى إثبات نقص الذات الإلهية. إذ «الفاعل بغرض مستكمل بالغرض»،١١٨ وذلك «يوجب افتقار الأشرف إلى الأخس في إفادة كمالاته له، وأن يكون ناقصًا قبله».١١٩ فبدا — بذلك — وكأن «كمال الذات» يتعارض وإثبات «الغرض» في الفعل،١٢٠ ولذلك لم يكن بدٌّ من التضحية «بالغرض والغاية» وترك الفعل نهبًا لإرادة مطلقة لا تتقيد بغاية أو حكمة. وأما إذا أظهر المعتزلة أنه «لو لم يكن فعل الله لغرض مقصود، لكان عابثًا والعبث قبيح»؛ فإن الأشاعرة لم يرَوا في ذلك إلا مأزقًا يقوم فقط على أصل المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، أما على أصلهم — أي الأشاعرة — في التحسين والتقبيح من الشرع، فإنه «يلزم منع جواز إطلاق القبح على أفعال الله تعالى، لعدم وروده على لسان الشرع المنقول»،١٢١ وليس بسبب من تصور الله منزهًا عن العبث عقلًا.
وإذ بدا للأشاعرة أنَّ أفعال الله على الجواز؛ إذ الله حرٌّ «حرية استواء»، وأنها لا تتعلل بغرض أو غاية؛ لأن ذلك يوجب كونه ناقصًا، وبدا لهم أيضًا أنه لا بد مع قيام الجواز بالفعل وانتفاء الغرض عنه، من وجود مرجِّح يترجَّح به وجود الفعل على عدمه؛ فإنهم تصوروا هذا المرجِّح في «إرادة مطلقة» من كل شرط. فالإرادة فقط هي ما «يتأتَّى بها تخصيص الممكن»،١٢٢ وأما «ما يقال من أن العلم بالمصلحة (أي الغرض) صالحٌ لذلك، فممنوع؛ إذ قد تكون المصلحة في الفعل أو الترك متساوية».١٢٣ ومن هنا فإنه «ينبغي ألَّا يتوقفَ عاقل في أن علمه (أي الله) بوجه المصلحة (أو الغرض) لا يكفي في فعله».١٢٤ إذ الفعل يترجح وقوعه بمجرد تعلق الإرادة به، وليس بما يتضمنه من مصلحة أو بما يهدف إليه من غرض. وليس من شك في أن تعلُّق الإرادة بأحد وجوه الممكن لا يكون لعلة أو سبب، بل «تعلُّقها بأحدها ترجيح بلا مرجح، وإن لم يكن كذلك، بل كان تعلقها بأحدها بمقتضى ذاته، فالمريد «بذلك» غير قادر على الفعل بالمعنى المذكور (أي بالمعنى المطلق)؛ إذ قد وجب وجود أحد «الوجوه الممكنة للفعل» منه، لا وجوبًا مترتبًا على تعلُّق إرادته، بل لم يَجُز منه إلا وقوع هذا «الوجه».»١٢٥ وهكذا أدرك الأشاعرة أن تفسيرَ تعلُّق الإرادة بالفعل، بكون الفعل ضروريًّا «بمقتضى ذاته» للنظام في عالم الطبيعة وعالم الإنسان، يُعَد تفريغًا للإرادة من محتواها، بل وقولًا بجبرية الله. فالله — طبقًا للأشاعرة — يفعل، لا بمقتضى النظام، بل بمطلق الإرادة. فإنَّ فعلَه يقع في الوجود، لمجرَّد تعلُّق الإرادة المطلقة به، وليس لأن نظامًا شاملًا من الحوادث الطبيعية والإنسانية — لا يُفهم الفعل إلا في إطارها — يقتضيه ويفسِّر — في ذات الوقت — تعلُّق الإرادة به. وهكذا اقتضى الحضور المطلق للإرادة إلغاءَ أيِّ ضرورة ذاتية لأي فعل في العالم.
وكأيِّ فعل، افتقدَت النبوات ضرورتها الذاتية وأصبحت على مذهب أهل الحق (الأشاعرة) «ليست واجبةً أن تكون ولا ممتنعة أن تكون، بل الكون وأن لا كون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجِّحها سيان».١٢٦ وهكذا النبوة — على قول الأشاعرة — «ممكن يستوي طرفاه»،١٢٧ وإنما يكون حصولها في الوجود — والحال كذلك — بأن تتعلق بها إرادة الله المطلقة، التي يتأتَّى بها تخصيص الممكن؛ وليس بكون صلاح البشر يتعلق بها. إذ المعتبر لدى الأشاعرة في النبوة — بوصفها فعلًا جائزًا — هو مطلق الإرادة، لا مقتضى المصلحة. ومن هنا فإنه يتعذَّر — أشعريًّا — تبريرُ النبوة بوصفها «ردًّا إلهيًّا» على «وضع إنساني محدد» في لحظة معينة من التاريخ، بل النبوة (وهي فعل إلهي) لا تتعلَّل إلا بإرادة (هي صفة إلهية) تعلَّقت بها في لحظة ما. واللافت أن هذا التصور الأشعري للنبوة، فعلًا يحصل بمطلق الإرادة، لا بمقتضى المصلحة — والذي يعكس حرصًا بالغًا على الذات الإلهية — يتأدَّى ضرورةً إلى إحاطة الذات الإلهية بالخطر. ذلك أن النبوة — على العموم — تتكشف عن طابع تطوري لا سبيل إلى إنكاره. وليس من شك في أن تصور النبوة — فعلًا — يحصل بمطلق الإرادة فقط، يجعل من المستحيل تفسير هذا الطابع التطوري للنبوة إلا بوصفه تطورًا في طبيعة الذات الإلهية نفسها، أو — على الأقل — تصور الله ذاتًا تبدو لها البداءات،١٢٨ في حين أن تصور النبوة — فعلًا — يحصل بمقتضى المصلحة يؤدي إلى سهولة تفسير هذا الطابع التطوري للنبوة باعتباره تطورًا — لا يلحق أبدًا الذات الإلهية أو علمها — بل يلحق فقط «وضعًا بشريًّا» تكون النبوة «ردًّا إلهيًّا» عليه. فبدا بذلك وكأن التصور الأشعري للنبوة فعلًا جائزًا يحصل بمطلق الإرادة فقط ينتهي، حتمًا، إلى تشويه الذات الإلهية، وذلك من حيث أراد الحرص عليها؛ إذ الحرص على الذات لا يكون بإثبات تلقائية فعلها وعشوائيته، بل ببيان غائيته. وبالرغم من ذلك، يبقى تصور الأشاعرة للنبوة — مجرَّد فعل جائز لا يتحصَّل وقوعه إلا بتعلق إرادة الله به — لازمًا عن البنية الإطلاقية للنسق بأسره؛ تلك التي تتمثل، هنا، في إثبات مطلق الإرادة، دونما اعتبار لقصد أو غاية.

وإذ ارتبط تصوُّر النبوة، فعلًا، على «الجواز والإمكان» بميل أشعري إلى إفساح المجال للإرادة الإلهية، تتجلَّى — على نحوٍ مطلق — دون اعتبار أو تحدد؛ فإنه لم يكن بدٌّ للأشاعرة من مخاصمة أي اتجاه يتخارج بالنبوة من حدِّ الإمكان والجواز إلى أحد الحدَّين المحتملَين الآخرَين؛ أعني «الوجوب» أو «الامتناع». فإن كلَا الحدَّين المحتملَين (الوجوب والامتناع) ينتهيان إلى الحد من التجلي المطلق لما هو إلهي، دون اعتبار أو تحدُّد، ويفسحان المجال — في المقابل — لقانون أو نظام — لا شك في مصدره الإلهي — يتحدَّد فعل الذات الإلهية في إطاره. فالامتناع — فيما يتعلَّق بالنبوة — يستند إلى تصور للعالم مكتفٍ بالعقل ومستغنٍ عن كل تأثير إلهي مباشر، في حين أن «الوجوب» يستند إلى تصور للعالم تُهيمن عليه الضرورة. وهكذا العالم، في إطارهما معًا، لا تُهيمن عليه المطلقات بقدر ما يسوده القانون والنظام. ومن هذا الحد من التجلي المطلق لما هو إلهي، عارض الأشاعرة — بحسم — أيَّ تصور للنبوة خارج الإمكان والجواز؛ وأعني أنهم عارضوا تصور «البراهمة» للنبوة ممتنعة أو محالة، وكذلك تصور «المعتزلة والفلاسفة» للنبوة واجبة.

فقد بدا للبراهمة «أن الله أكمل العقولَ وحسَّن فيها الحسن وقبَّح فيها القبيح وجعلها دلالة على مراشد الخلق ومصالحهم ومنع بها من التظالم وجعلها دلالة وذريعة إلى علمِ كلِّ ما يُحتاج إليه».١٢٩ وبالطبع فإن مضمون النبوة «لم يخلُ إما أن يكون مدركًا بالعقول أو غير مدرك بها؛ فإن كان الأول فلا حاجة إلى الرسول، بل النبوة تكون عبثًا وسفهًا، وهو قبيح في الشرع. وإن كان الثاني فما يأتي لا يكون مقبولًا؛ لكونه غير معقول. فالبعثة على كل حال لا تفيد».١٣٠ وهكذا النبوة — طبقًا للبراهمة — ممتنعة ومحالة تمامًا على قانون العقل الإنساني.
وبالرغم من لاجدوى هذه الحجة البرهمية خارج إطار الدين البرهمي؛١٣١ فإن الأشاعرة قد اضطروا — وهم بصدد تفنيدها — إلى الحدِّ — ولو جزئيًّا — من تصور النبوة مجرد فعل إلهي على الجواز، يتعلل وجوده فقط بإرادة إلهية مطلقة تتعلق به، ودون أدنى اعتبار لتعلق صلاح البشر به. فقد بدا للأشاعرة أنه يستحيل — في مواجهة الإنكار العقلي البرهمي الصارم — تبريرُ النبوة على هذا النحو. وهكذا وجدوا «فيما تقدَّم من تقرير مذهب الحكماء، وهو أن الإنسان مدني بالطبع، فلا بد له من قانون عدل محتاج إلى واضع يمتاز عن بني نوعه بما يدل على أن ما أتى به من عند ربه»،١٣٢ دليلًا يواجهون به إنكار البراهمة للنبوة. ولا جدال في أن البراهمة بذلك قد أجبروا الأشاعرة على التقدم في سبيل تبرير النبوة، لا بمقتضى الإرادة المطلقة، بل بمقتضى النظام والمصلحة.
واللافت — في الجدال الأشعري-البرهمي — هو أن التصور البرهمي للنبوة على قانون العقل الإنساني، جاء مناقضًا تمامًا للتصور الأشعري للنبوة على قانون الفعل الإلهي. إذ بينما يتكشف الإمكان الأشعري عن «إطلاق» الإرادة والقدرة الإلهيتَين على «الفعل»؛ فإن الامتناع البرهمي يتكشف عن «إطلاق» الثقة في «العقل». فبدا وكأن النبوة — حسب الأشاعرة — تُفهم في حدود ما هو إلهي فقط، في حين تُفهم — طبقًا للبراهمة — في حدود ما هو إنساني فقط. وأن الإمكان الأشعري «للنبوة» يُحيل إلى امتناع «إنساني»، في حين يُحيل الإمكان البرهمي «للمعرفة» إلى امتناع «إلهي». فليس من شكٍّ في أن تصور النبوة «ممتنعة» — لدى البراهمة — على الله، يقوم على تصور للمعرفة «ممكنة» للإنسان. وبالرغم من التباين بين حدود النظرتَين للنبوة، فإن ثمة توافقًا بنيويًّا بينهما يتبدَّى من أن مفهوم «الإمكان والجواز» في إطار كلتا النظرتين يرتبط جوهريًّا — مع تباين ما يتعلق به، نبوة إلهية أو معرفة إنسانية — بإبراز التجلي المطلق لفاعلية بعينها، وحذف كل ما يقوم بإزالتها. فقد ارتبط إمكان النبوة لدى الأشاعرة بإفساح المجال للقدرة الإلهية، تتجلَّى على نحوٍ مطلق، دون اعتبار أو تحدُّد، وكذا ارتبط إمكان المعرفة عند البراهمة بإفساح المجال للمَلَكات الإنسانية تتجلَّى على نحوٍ مطلق،١٣٣ أعني مع امتناعِ أيِّ تدخُّل إلهي. وهكذا ارتبط «الإمكان» في النسقَين بتكريس ما هو مطلق، وحذف ما دونه. والمهم هو ما أظهره التحليل البنيوي من أن الأشعرية هي برهمية مقلوبة.

وإذ عارض الأشاعرة قول البراهمة بامتناع النبوة؛ لأنه يتعارض والحضور الإلهي المطلق الذي يتأدَّى إليه القول بإمكانها، فإنهم عارضوا أيضًا قولَ الفلاسفة والمعتزلة بوجوب النبوة؛ لأنه يتكشف عن حضور إنساني ما إلى جوار الحضور الإلهي، وبذلك يقلِّل من التجلِّي المطلق لما هو إلهي. إذ «الوجوب» يعني أن الفعل الإلهي (أي النبوة) مشروطٌ بطبيعة الوجود الإنساني ذاته؛ ولعله بذلك يتكشف عن حضورين معًا، أحدهما إلهي والآخر إنساني، وليس حضورًا أحاديًّا مطلقًا لله فقط. وأعني أن الفعل الإلهي يتبدَّى — من خلال الوجوب — «ضروريًّا» لا «مطلقًا»، «محددًا» لا «منفكًا» من كل حدٍّ.

والنبوة — لدى المعتزلة — واجبة؛ لأنها فعل «ضروري» يرتبط بصلاح البشر، لا «مطلق» يتعلق بمطلق الإرادة. ذلك «أنه قد تقرر في عقل كل عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس، وثبت أيضًا أن ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة، وما يصرف عن الواجب ويدعو إلى القبيح فهو قبيح لا محالة؛ إذا صح هذا، وكنَّا نُجوِّز في الأفعال أن يكون ما إذا فعلناه كنَّا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات، وفيها ما إذا فعلناه كنَّا بالعكس من ذلك، ولم يكن في قوة العقل ما يُعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف وبين ما لا يكون كذلك، فلا بد من أن يُعرِّفنا الله تعالى حالَ هذه الأفعال كي لا يكونَ عائدًا بالنقص على غرضه بالتكليف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلا بأن يبعث إلينا رسولًا مؤيَّدًا بعلمٍ معجز دالٍّ على صدقه، فلا بد من أن يفعل ذلك، ولا يجوز له الإخلال به».١٣٤ وهكذا تكون النبوة فعلًا ضروريًّا لا بدَّ من أن يفعله الله ولا يجوز له الإخلال به. واللافت أن «الضرورة» في هذا الفعل ذات أصل «إنساني» لا «إلهي»؛ وأعني أن تحليلًا للوضع الإنساني هو ما يُبرر الفعل، لا أن الفعل تبرره إرادة إلهية تتعلق به على نحو مطلق. وتعني النبوة — على هذا الفهم — «ردًّا إلهيًّا» على «وضع إنساني» بعينه، وبذلك فإنها تتكشف عن طبيعة ثنائية (إلهية وإنسانية معًا) وليس طبيعة أحادية مطلقة (إلهية فقط). إنها تؤكد حضور الإلهي والإنساني، وليس انفراد «الإلهي» فقط بالحضور والفاعلية. ولعل المعتزلة — فوق ذلك كله — قد غلَّبوا حضور «الإنساني» في النبوة، وذلك حين شرطوا وجوبها «بحسنها». فالنبوة «متى حَسُنَت وجبَت، على معنى أنها متى لم تَجِب (وبالأحرى لم تحسن) قبحت لا محالة».١٣٥ وهكذا بات المعتبر في النبوة — لدى المعتزلة — هو صلاح العباد، وليس مطلق الفعل، ومن هنا فإن حضورًا للإنساني يهيمن بحسم على تصور المعتزلة للنبوة واجبة.
وإن أدرك المعتزلة في القول «بالوجوب» محاولةً لا غِنى عنها لإضفاء المعقولية على الفعل الإلهي، فإن الأشاعرة — على العكس — أدركوا أنه يعكس نقصًا في طبيعة الذات الإلهية نفسها. فإنه «لو وجب عليه تعالى شيء لكان مفتقرًا إلى ذلك الشيء ليكتمل به، وافتقاره تعالى إلى شيء نقص، والنقص عليه تعالى محال، فلا شيء واجب عليه تعالى».١٣٦ ومن جهة أخرى، يعني «الوجوب» أن يكون الله مجبورًا على ما يفعله. إذ «الوجوب» يعني أن الفعل يتحقق خضوعًا «لضرورة»، لا تعلقًا «بإرادة». وهكذا أدرك الأشاعرة في القول بالوجوب، نقص الله وجبريته، في حين أدرك فيه المعتزلة غائية فعل الله ومعقوليته. وقد لاح للأشاعرة أن قول المعتزلة «بالوجوب» مبنيٌّ على أصلهم في التحسين والتقبيح من العقل. فإن تصور العقل حاكمًا بحسن فعل أو قبحه، يعكس تصورًا «للفعل» ينطوي في ذاته على ضرورة تبرر فعله أو تركه (أعني وجوبه أو امتناعه). وهكذا رأى الأشاعرة في إبطال هذا الأصل طريقًا إلى نقض القول بالوجوب عند المعتزلة. أما على أصلهم في التحسين والتقبيح من الله، فإنه يستحيل تمامًا إيجاب شيء بالعقل؛ إذ الأفعال — على هذا الأصل — لا تنطوي في ذاتها على ضرورة تبرر وجوبها أو امتناعها، بل تفتقر إلى أيِّ مقوم ذاتي. ومن هنا فإنها جميعًا على «الجواز»؛ وأعني أن وجودها وحسنها وقبحها إنما يكون بمقتضى الإرادة الإلهية المطلقة، وليس بمقتضى المصلحة.
وإذ النبوة — حسب الأشاعرة — مجرَّد فعل جائز يفتقر إلى أي ضرورة أو مقوم ذاتي، فإن حصولها في الوجود لا يبين بنفسه. فالجواز أو الإمكان يعكس ضربًا من التكافؤ بين حصولها في الوجود وبين عدمه. وهكذا تقتضي النبوة ما يدلُّ على حصولها في الوجود؛ وأعني فعلًا خارجيًّا تتقوَّم به بعد أن افتقدت أيَّ مقوم ذاتي. وهذا الفعل هو «المعجزة». ومن هنا فإن المعجزة تُعَد فعلًا تقتضيه الطبيعةُ الخاصة للنبوة ذاتها؛ وأعني يقتضيه وجودها ذاته، وليس مجرَّدَ قبولها. فإنه لو أمكن تصوُّر حصول النبوة في الوجود — على أصل المعتزلة في التحسين والتقبيح عقلًا، وعلى قاعدة الفلاسفة في «أن النظام الأكمل الذي تقتضيه العناية الأزلية لا يتم بدون وجود النبي الواضع لقوانين العدل»١٣٧ — دون الحاجة إلى فعل خارجي تتقوم به، أي دون معجزة؛ إذ النبوة تتقوم بذاتها؛ أعني بمجرد حسنها وصلاحها للبشر؛ فإنه — في المقابل — لا يمكن تصور حصول النبوة في الوجود على قانون الجواز والإمكان الأشعري دون معجزة. إذ «الإمكان» يعني افتقار النبوة إلى أي ضرورة ذاتية تتقوم بها.

(ﺟ) المعجزة

كالنبوة — وسائر أفعال الله — مضى الأشاعرة إلى القول بجواز المعجزات.١٣٨ فالمعجزات هي خوارق العادات. وإذ تكون «العادات» «من قِبَل الفاعل … فهي راجعة في الحقيقة إلى علمه تعالى وإرادته»؛١٣٩ فإن «خرقها» يكون من مقدورات الفاعل (تعالى)، متى تعلق به سابق العلم ومطلق الإرادة أيضًا. وهكذا فإن «خرق العادات» ليس بأعجب من «إجراء العادات»، بل إنهما يتفقان من كونهما — على السوية — من ممكنات القدرة الإلهية التي تبدو — تبعًا لذلك — مطلقة التعلُّق؛ إذ هي تتعلق بالشيء ونقيضه على السواء، ودون أدنى اعتبار لنظام أو ضرورة. ﻓ «القديم سبحانه، إذا قدر على خلق الشيء وجب كونه قادرًا على خلق ضده ونقيضه، من حيث ثبت كونه قادرًا بقدرة قديمة، وأنه غير متناهي المقدورات».١٤٠ وعلى هذا، فإن إمكان خرق العادة (أو المعجزة) مستمدٌّ — لا ريب — من تصوُّر الذات الإلهية «مطلقة» الإرادة والقدرة. وبعبارة واحدة تأدَّى الأشاعرة إلى أن «انخراق العادة جائز مع القول بالفاعل المختار»؛١٤١ وبالأحرى مع القول بالفاعل المختار على نحو مطلق، لا ملتزمًا بمقتضيات ضرورة أو نظام لا شكَّ في استقلالهما النسبي، بالرغم من كونه — تعالى — مصدرَهما. ويبدو — تبعًا لذلك — أنَّ الفهم الأشعري للذات الإلهية على نحو «مباشر» بالمعنى الهيجلي — وأعني دون توسُّط؛ أي فهم «للعالم» بوصفه ينطوي على قدر من النظام والضرورة — هو الأصل في تأدِّي الأشعري إلى أنه «يجوز انقلاب الجبال ذهبًا إبريزًا، ويجوز انقلاب مياه الأودية دمًا وغيره، ويجوز حدوث الإنسان من غير الأبوين».١٤٢ فالحق أن ذلك كلَّه ممكنٌ تمامًا حين تُفهم الذات على نحو مباشر ودون أدنى توسط. واللافت — على أي حال — أن تصوُّر المعجزة ممكنةً ينبني على تصور ﻟ «الله»، مع إسقاط أدنى اعتبار «للعالم»؛ حيث إن تصور «العالم» نفسه يقوم — حسب الأشاعرة — على تصور «الله». ومع ذلك، فإن تصور المعجزة يندُّ تمامًا عن الفهم والتفسير في غيبةِ تصورٍ للعالم لا يفلت من قبضة الله عند الأشاعرة.

من «بناء الطبيعة» إلى «بناء المعجزة»

تتأتَّى ضرورة ومنطقية الانتقال من «بناء الطبيعة» إلى «بناء المعجزة» من أن الطبيعة هي الإطار الذي تتجلى فيه المعجزة، حتى إنه يستحيل تصورُ المعجزة في غياب تصور ملائم للطبيعة.١٤٣ فالمعجزة — خرقًا للطبيعة كانت أو عملًا من أعمالها — تقوم في قلب الطبيعة لا بعيدًا عنها، ومن هنا كان الارتباط بينهما. ويرجع ذلك — فيما يبدو — إلى أن الطبيعة — بوصفها العالم الأكبر (Macrocosm) — هي الأكثر تأثيرًا في تثبيت دلائل النبوة. فإنه يستحيل تثبيت النبوة بشهادة خاصة لكل فرد،١٤٤ بل لا بد من «شهادة عامة» لا تقوم إلا في حدود ما يشمل النوع الإنساني بأسره؛ وأعني الطبيعة أو العقل. والحق أنه لم يكن من الممكن أبدًا تصور هذه الشهادة العامة (المعجزة) تقوم بعيدًا عن الطبيعة في إطارِ وعيٍ لم يتميز تمامًا عن الطبيعة. ومن هنا، فإنه قد تعذر — وذلك في مرحلة لم يبلغ فيها العقل البشري تمامَ وعيه بذاته على الأقل١٤٥ — أن تكون هذه الشهادة عقلية. وبالرغم من أن الإسلام قد تطور بشهادة صدق النبوة من «معجزة» تخرق نظام الطبيعة إلى «إعجاز» يتحدَّى ملكات الإنسان وقُواه العقلية، فإن أحدًا لم يستطع — إلا فيما ندر — أن يتصور نبوةً تقوم دون معجزة خارقة للطبيعة. ومن هنا تواترت الأخبار عن معجزات للنبي تخرق نظام الطبيعة؛ كانشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه، وحديث الشاة المسمومة، فبدا بذلك وكأنَّ أرقى أشكال «الإعجاز» لم تقدر على الانفصال عن أدنى درجات المعجزة.١٤٦ وبعبارة أخرى، بدا وكأن المعجزة لا تقوم أبدًا بعيدًا عن الطبيعة. وهكذا يبقى فهمُ الطبيعة ضروريًّا ولازمًا لفهم المعجزة.
واللافت أن التصور الأشعري للطبيعة، مواتًا وتفككًا وافتقارًا لأدنى فاعلية أو تقوُّم ذاتي، يتَّسق تمامًا وتصورهم للمعجزة فعلًا خارقًا للنظام الطبيعي أو «العادة». فالطبيعة الأشعرية — على عكس الطبيعة الأرسطية — ليست عالمًا لأشياء تتضمن في ذاتها أصل حركتها، بل عالمًا لأشياء موات غير فاعلة. وقد ارتبط هذا التصور الأشعري للطبيعة بالرغبة في بيان الهيمنة المطلقة للقدرة الإلهية على أهم مقدور لها وهو الطبيعة. ومن هنا، فإن الاعتقاد الأشعري في «عدم وجود أصل باطني يُعَد مصدر سلوك الأشياء … يُعَد مقدمةً ضرورية للاعتقاد في … أن دقائق سلوك أيِّ كائن إنما ترجع بوجه خاص إلى فعل من أفعال إرادة الله القادر على كل شيء».١٤٧ وهكذا فإنه «لا مجال — عند الأشاعرة — للقول بمقوم داخلي يُضفي خصائصَ ذاتية للأشياء مستقلة عن إرادة الله … فعلاقة الحلاوة بالعسل ليست شيئًا ذاتيًّا فيه بموجب مقوم ذاتي، وإلا لما أمكن أن تستحيل الأعراض من حلاوة إلى حموضة مثلًا، وإنما ذلك كله يتوقف على مبدأ خارجي: قدرة الله».١٤٨
انتقد الأشاعرة، إذن — والباقلاني خاصة١٤٩ — فكرةَ «الطبع» أو الطبيعة بوصفها «مقومًا ذاتيًّا باطنيًّا في الأجسام يجعلها تفعل من تلقاء ذاتها أو بموجب طبيعتها»،١٥٠ فبدا وكأنه «لا شيء في الوجود يملك فعلًا خاصًّا به يرجع إلى طبيعته».١٥١ ذلك أنه ليس من فاعل على الحقيقة — لدى الأشاعرة — إلا الله. واللافت أن البناء الأشعري للطبيعة يتأدى منطقيًّا إلى تصورها، على هذا النحو، مواتًا وبلا أدنى فاعلية. فالعالم الطبيعي — لدى الأشاعرة — يبدو «كتلة منفصلة الأجزاء، لا فعل لجزء منه في الجزء الآخر». إنه عالم من التفتُّت والخواء يفتقر إلى أيِّ قانون موضوعي أو علاقة ضرورية بين أجزائه. فجواهره لا تقدر على أن تتقوم بذاتها، وتبقى فقط ببقاء زائد على وجودها يكون من الله، وفوق ذلك كله فإنه لا سبيل أمامها للاتصال بعضها ببعض إلا بفعل من الله أيضًا. أما الأعراض فإنها لا تبقى في الوجود زمانين، بل تفنَى دومًا وتتجدد. وهذا التجدد لا يكون من نفسها بل من «الله». وهكذا، فإن أبسط العناصر التي تتألف منها الطبيعة الأشعرية١٥٢ تبدو أعجز من أن تدوم في الوجود بذاتها وذلك يبرر — ولا شك — تصور الطبيعة مواتًا ولا فاعلية.
وقد تأدَّى الإنكار الأشعري لفكرة «الطبع الذاتي» أو الطبيعة الفاعلة في باطن الشيء إلى إنكار «الضرورة» في الوجود، والقول — عِوضًا عن ذلك — بالخلق المستمر من الله دون وسائط. فإن «الله بقدرته اللامحدودة، قد خلق العالم بنفسه ودون أيِّ توسط، وكذلك فإنه يدبر العالم أيضًا بقدرته اللامحدودة ودون أيِّ توسط، وهكذا فإن كلَّ ما يوجد في العالم من موجودات، إنما يوجد بخلق مباشر من الله دون وساطة».١٥٣ وهكذا، فإنه ليس من مجال في العالم لقانون موضوعي ثابت أو علاقة ضرورية تحكم سير ظواهره، بل ثمة فقط قدرة إلهية مطلقة تفعل بلا وساطة ودون التقيد بمقتضيات قانون أو ضرورة. وبعبارة أخرى، «فإن الطبيعة — كما نفهمها عادة — تتلاشى في الإرادة الإلهية»؛١٥٤ حتى لتستحيل إلى هباء أو عدم.١٥٥
لاح، إذن، أن الفاعلية الوحيدة الحقَّة في الطبيعة — طبقًا للأشاعرة — ليست فاعليةً ذاتية أو «مباطنة»، بل فاعلية «مفارقة»؛ أعنى فاعلية إلهية تتحقق من خلال الخلق المستمر، وتعني فكرةُ الخلق المستمر «أن كلَّ حادثٍ ينقسم إلى أجزاء منفصلة مستقل بعضها عن بعض تمام الاستقلال، بحيث لا تتصل هذه الأجزاء بعضها ببعض اتصال علَّة بمعلول أو سبب بمسبِّب؛ ذلك أن هذه الأجزاء يخلقها الله دائمًا».١٥٦ وعلى هذا، فإنَّ «إنكار الضرورة أو العلية» هو النتيجة القصوى اللازمة عن القول بالخلق المستمر. ذلك أن «تصور جميع الأحداث في الطبيعة مستقلة بعضها عن بعض يقضي تمامًا على أية صلة بين لحظة ما في حياة الطبيعة واللحظة التي تليها»،١٥٧ وبهذا ينتفي «التلازم الضروري بين وجود الكائن في لحظة ما وبين وجوده في اللحظة السابقة لها مباشرة وفي اللحظة اللاحقة لها مباشرة»١٥٨ وأما ما يبدو من ترابط ظاهري بين الحوادث في العالم، فإنه ليس أبدًا ترابطًا ضروريًّا أو عليًّا، بل إن «مرجعه إلى أن الله قد أجرى خلق الأشياء على هذا النحو من التوالي مجرى العادة بإرادة منه لا نُدرك سرَّها، فخُيِّل لنا أن ذلك يجري على نسق من ترابط العلة بالمعلول. ولكن الأمر ليس كذلك في الواقع، وإنما العادة التي أجراها الله لحكمة خفية هي التي صورت لنا الأمر هكذا».١٥٩ وإذن، فإنها «العادة» — وليست الضرورة — هي ما يفسر الارتباط الظاهري بين الحوادث والكائنات في العالم. فالحق أنه قد بدا للأشاعرة أنه يستحيل تمامًا تصور الله — فاعلًا على الحقيقة — في عالم ينطوي على أدنى أثر للضرورة، فكان أن ضحَّوا بالقانون العلِّي الطبيعي إنقاذًا لفاعلية القدرة الإلهية المطلقة.
وهكذا فإن كل ما يحدث في العالم، إنما يستند في وجوده — طبقًا للأشاعرة — إلى إرادة الله وقدرته المطلقة ابتداءً، ودون أيِّ روابط علِّية تربطه بغيره من الموجودات. فإن «الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببًا، وما يُعتقد مسببًا، ليس ضروريًّا عندنا (أي الأشاعرة)، بل كل شيئَين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا. وإن إثبات أحدهما لا يتضمن على الإطلاق إثباتَ الآخر، ولا نَفْي أحدهما يتضمن على الإطلاق نفيَ الآخر، وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم وجود أحدهما عدم الآخر»١٦٠ إن العلة، إذن، لا تتضمَّن معلولها على نحو ما يتضمن «الموضوع» محموله في القضايا التحليلية في المنطق. ومن هنا، فإنه ليس من «استحالة منطقية» البتة في تصور «العلة» دون «معلولها» أو العكس. إذ العلِّية — طبقًا للأشاعرة — ليست قانونًا عقليًّا أوليًّا يتأدَّى إنكاره إلى تناقض ذاتي أو استحالة منطقية. وهكذا، فإن التلازم بين العلة والمعلول ليس أبدًا تلازمًا منطقيًّا يستحيل إنكاره.
وإذ تكشَّف التحليل المنطقي عن أن «العلية» ليست قانونًا عقليًّا أوليًّا يتأدَّى إنكاره إلى تناقض ذاتي أو استحالة منطقية، فإن تحليلًا تجريبيًّا «للعلِّية» يكشف عن أن «اطِّراد الاقتران بين شيئَين لزم عنه أن رسخَت في أذهاننا جريانها على وَفق «العادة» ترسُّخًا لا انفصال عنه، وهذه «العادة» مكتسبة وليست فطرية في الذهن، وهي حصيلة عامل نفسي ذاتي أخطأ الفلاسفة فجعلوه فيزيقيًّا موضوعيًّا».١٦١ وهكذا «العلِّية» ليست قانونًا كامنًا في «العقل»، أو قانونًا كامنًا في «الطبيعة»، وإنما مجرد «عادة» «تستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطبائع السليمة».١٦٢ فالحق أنه ليس من دليل على أن «النار» مثلًا علة، والاحتراق معلول لها سوى مجرد المشاهدة.
وقد كان يمكن أن يكون التطابق كاملًا بين هذا التفسير الأشعري «للعلِّية»، وبين التفسير الحديث لذات المفهوم، وخاصة عند هيوم؛ فكلاهما «لم يستطع — على قول هيوم — أن يجد في طبيعة الأشياء تفسيرًا للعلِّية. فاستعاض عن التفسير الميتافيزيقي للعلية بوصف العملية النفسانية التي تُعين في حكم العلية».١٦٣ ولكن بينما اكتفى هيوم بوصف هذه العملية النفسانية، فإنَّ الأشاعرة قد ارتدوا عن هذه «المثالية الذاتية» — التي تُفسح مكانًا للإنسان — إلى مثاليتهم الإلهية الأثيرة، فردوا الاقتران المشاهد بين الأشياء، لا إلى مجرد عادتنا في الإدراك، بل إلى «ما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى، لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت»١٦٤ فبدا بذلك وكأن المحورية الإلهية لم تَغِب عن النسق أبدًا.
فقد أدرك الأشاعرة — بحقٍّ — أنَّ ردَّ الاقتران المشاهد بين الحوادث في العالم إلى مجرد فعل «العادة»، ليس يعني شيئًا سوى نزع الفاعلية عن «الطبيعة» واستبدالها بفاعلية «إنسانية». والحق أن ذلك لا يعني أكثر من الانتقال بالمسألة من إطار «نظرية الوجود» إلى إطار «نظرية المعرفة»،١٦٥ والمهم أن خرق النظام الطبيعي يكون، في الحالين، مستحيلًا.١٦٦ إذ «العادة» تمثِّل فقط «تفسيرًا معرفيًّا» للمتحقق والمطَّرد، وليس «تبريرًا أنطولوجيًّا» للممكن أو غير المطرد. ومن هنا اضطرَّ الأشاعرة إلى إفساح المجال «لفاعلية إلهية» تخلق الأشياء على التساوق والتعاقب. وهكذا، فإن «وراء العادات الإدراكية عند الإنسان تقديرًا من الله أن تجيء الأشياء المقترنة على صورة من التساوق بحيث تظل مقترنةً دائمًا، وقد لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينها من ضرورة التلازم، وعندئذٍ قد ترى النارَ محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق بها قطعة الورق، وقد ترى الشمس ساطعة دون أن ينتشر في الأرجاء نور».١٦٧ وعلى هذا، فإن الإرادة الإلهية المطلقة هي وحدها القانون الفاعل في الطبيعة.
واللافت أن إنكارَ العلِّية — بوصفها واحدًا من القوانين الموضوعية والضرورية في الطبيعة — وردَّها إلى ما سبق من تقدير الله، بخلقه الأشياء على التساوق، قد ارتبطَا جوهريًّا بإفساح المجال لإمكان معجزات الأنبياء.١٦٨ إذ يعني إنكار «الضرورة» أن تُصبح الطبيعة مجالًا «للإمكان» لا «للحتم». وتبعًا لذلك لا يكون أيُّ خرق في الطبيعة خرقًا لقانون ضروري أو حتمي الوقوع، بل حادثًا ممكنًا؛ حيث لا ضرورة هناك. «وبذلك تستوي المعجزات مع قوانين الطبيعة في اندراجها تحت الإمكان والجواز، لا الضرورة والوجوب، لتبقى جميعًا معلقةً على حكم المشيئة الإلهية التي لا تتقيد بشيء، والتي تتناول كلَّ شيء. إذ لو كانت قوانين الطبيعة ضرورية وحتمية لأصبح وقوع المعجزات مستحيلًا، ولكن لما كان شيء ما لا يستحيل على قدرة الله كانت المعجزات جائزة لأن القوانين الطبيعية١٦٩ نفسها ممكنة وليست واجبة».١٧٠ وهكذا يتخارج إمكان المعجزات — منطقيًّا — من التصوُّر الأشعري للطبيعة. إذ يتأدى هذا التصور للطبيعة إلى أن «لا يُمتنع — طبقًا للأشعري — أن يحضر عندنا جبال شاهقة، وأصوات عالية، ونحن لا نُبصرها ولا نسمعها، ولا يُمتنع أيضًا أن يُبصر الأعمى الذي يكون بالمشرق «بقة» بالمغرب، «وكذا» فإنه يجوز انقلاب الجبال ذهبًا إبريزًا، ويجوز انقلاب مياه الأودية دمًا وغيره، ويجوز حدوث الإنسان من غير الأبوين».١٧١ ذلك أن الله قادر على كل شيء ممكن، وذلك كله ممكن،١٧٢ حيث العالم لا ينطوي على أي أثر للضرورة أو الحتم.
وإن تكشَّف بيان إمكان المعجزة عن عجز «الطبيعة»، فإن بيان معناها يتكشف عن عجز «الإنسان». ﻓ «المعجزة في اللغة مأخوذة من العجز الذي هو نقيض القدرة»؛١٧٣ وأعني أن «أصل وصف «الشيء» في اللغة بأنه معجز مأخوذ من عجز الخلق عنه».١٧٤
وقد بدا للأشاعرة أنَّ «العجز» لا يتجاوز كونه مجرد أصل «لغوي» للمعجزة، دون أن يكون شرطًا «وجوديًّا» لها.١٧٥ ومن هنا، فإن وصف الشيء «بأنه معجز على معنى إثبات «عجز» الخلق عنه صحيح على موجب اللغة ومقتضى المواضعة، غير أن معتقد ذلك من أهلها (اللغة) غالطٌ فيما طريق معرفته النظر والحجة. وذلك ليس بمأخوذ عنهم ولا مرجوع فيه إليهم، وإنما يُرجع فيه إلى مقتضى الأدلة وموجب الحجة».١٧٦ وتقتضي الأدلة — كما توجب الحجة — «أن المعجزة إن كانت خارجةً من قبيل مقدورات البشر، فلا يتصور أيضًا عجز المتحدين بالمعجزات».١٧٧ فإنه «لا يصح عجز الخلق إلا عمَّا تصحُّ قدرتهم عليه».١٧٨ إذ «العجز» عن «العجز» غير متصور عقلًا. وعلى هذا، فإن «العجز» يفترض — منطقيًّا — «قدرة» سابقة عليه. ذلك أنه لو صح «عجز» الخلق عمَّا لا تصح «قدرتهم» عليه «لصحَّ وصفُهم بالعجز عن ذات القديم سبحانه وذات صفاته الذاتية … ووصفهم بالعجز عن إبداع الأجسام واختراع الأنام وإنشاء الجوارح والقدر والأسماع والأبصار وغير ذلك من الأجناس التي لا يقدر عليها إلا ربُّ العالمين عز وجل … فلما علمنا استحالة «عجزهم» عن ذلك أجمع لأجل استحالة «قدرتهم» عليه، ثبت بذلك أنه محالٌ وصْف الخلق بالعجز عمَّا يستحيل كونه مقدورًا لهم».١٧٩ وهكذا فإنه لا «عجز» حيث لا «قدرة».
وإذن، فإن قدرة الخلق شرط للمعجز؛ حيث إنه «إذا ثبت أن من حق المعجز وشرطه أن يكون مما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه دون خلقه، استحال لذلك وصفُ الخلق بالعجز عنه على الحقيقة».١٨٠ ولكن ذلك لا يعني أن الأشاعرة قد أثبتوا — وحتى حين اقتضى المذهب — «قدرةً» فاعلة للإنسان. فالحق أن «القدرة» — كشرط للمعجز — قد ارتبطت جوهريًّا … لا بإفساح المجال للإنسان «فاعلًا» على الحقيقة، بل بإفساح المجال للإنسان «عاجزًا» على الحقيقة. إذ ارتبطت «القدرة» — كشرط للمعجز — لدى الأشاعرة بمجرد تصور «الإعجاز»، لا في عجز الخلق عن المعجز (وذلك ما يستحيل معه وصف الخلق بالعجز عنه على الحقيقة)، بل «في امتناع الخلق عن معارضة المعجز، والامتناع عن المعارضة، يعني وجود المعارضة ضرورة، والعجز مقترن بها».١٨١ ولأنه لا معارضة إلا عن قدرة، فقد أثبت الأشاعرة «قدرة» ولكن «العجز» مقترن بها، وهنا يبدو الإنسان — ولا شك — «عاجزًا» على الحقيقة.
وهكذا تأدَّى الأشاعرة إلى «قدرة» هي و«العجز» بمثابة واحدة. فالحقُّ أنهم، وإن عجزوا عن تصور المعجزة في غياب «القدرة». فإنهم قد افترضوا قدرةً، سرعان ما غيَّبوها وأفنَوها من بعدُ. وعلى هذا، فإن ثمة «قدرة»، ولكنها قدرة محكومة بالإعدام، فإنها لا تُوجد (أو بالأحرى لا تُفترض) إلا لتُعدم وتزول؛ وذلك ليتأكَّد كون الإنسان «عاجزًا» على الأصالة، وكون الله منفردًا «بالقدرة» وحده. إنَّ القدرة، إذن، هي مجرَّد مقدمة للعجز؛١٨٢ إذ بدا أنَّ العجز الحق لا يثبت إلا مع هذه القدرة الوهمية. وبعبارة أخرى، بدَا افتراض الإنسان قادرًا على المجاز مقدمة لإثبات عجزه على الحقيقة.
وإذا كان افتراض القدرة في الإنسان — كشرط للمعجزة — هو، برأي الأشاعرة، تجوُّز وتوسُّع، فإن في مجرد تسمية المعجزة «معجزة» تجوُّزًا أيضًا. إذ كما أن الله هو «القادر» وحده على الحقيقة، فإنه كذلك وحده «المعجِز» على الحقيقة؛ إذ هو فاعل العجز في غيره. ولذلك «فإن سمينا غيره مُعجِزًا، كما في فَلْق البحر، وإحياء الموتى، فذلك إنما هو بطريق التجوُّز والتوسُّع».١٨٣ وهكذا يبدو العالم بأَسْره وجودًا من «المجاز» الخالص، ويبقى الوجود الإلهي هو «الحق» وحده؛ وأعني أن ظاهرية وهشاشة الوجود — غير الله — تتبدَّى في جميع عناصر النسق الأشعري.

وإذ تأدَّى بيان معنى المعجزة — على هذا النحو — إلى إظهار «عجز الإنسان»، كما سبق وتأدَّى بيان إمكانها إلى إظهار «عجز الطبيعة»، فإن «العجز» يبدو — تبعًا لذلك — هو الطابع الأصيل لكلٍّ من الوجودَين الإنساني والطبيعي، لدى الأشاعرة، وإن القدرة أو الفاعلية «في عالم الإنسان أو عالم الطبيعة» — حتى حين تقتضي الضرورةُ افتراضَها — لا تعدو كونها مجرَّد وَهْم طارئ، أو وجود مجازي يهدف إلى تكريس العجز «الإنساني أو الطبيعي» مطلقًا.

واللافت أنَّ التعريف الاصطلاحي للمعجزة يتكشَّف بدوره عن ذات الغياب الإنساني والطبيعي. ﻓ «المعجزة — اصطلاحًا — هي ظهورُ أمرٍ خلاف العادة في دار التكليف لإظهار صدق ذي نبوة من الأنبياء أو ذي كرامة من الأولياء مع نكول مَن يُتحدَّى به عن معارضة مثله».١٨٤ وقد اتَّفق الأشاعرة — إلا الإسفرائيني١٨٥ — على تعريف المعجزة بأنها «أمر» وذلك لتشمل «القول كالقرآن، والفعل كقلب العصا حيَّة، والترك كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم».١٨٦ واشترطوا أن تكون بخلاف العادة «ليتميَّز بها المدِّعي عن غيره».١٨٧ إذ إنَّ «المعتاد من الأفعال يشترك في دعواها الصادق والكاذب»١٨٨ أو «ليخرج عنها السحر والشعبذة؛ فإنَّ كلًّا منهما معتاد وغرابته للجهل بأسبابه».١٨٩ وقد قيَّدوها بدار التكليف؛ «لأنَّ ما يفعله الله تعالى يوم القيامة من أعلامها، على خلاف العادة، فليست بمعجزة لأحد»،١٩٠ وكذلك شرطوا فيها إظهارَ صدقِ النبي «لجواز ظهور ما يخالف العادة على مدَّعي الإلهية فلا يكون دلالة على صدقه، كالذي يظهر على الدجَّال في آخر الزمان».١٩١ وهكذا اجتهد الأشاعرة في جعل التعريف جامعًا لسائر ما يرَونه من عناصر المعجزة.
ومن الواضح أن التعريف الأشعري للمعجزة — اصطلاحًا — بأنها «أمر خارق للعادة» يستحيل تمامًا إلَّا في إطار تصور للطبيعة خلوًا من أي فاعلية أو قدرة على التقوم الذاتي، ومفتقرة لأي قوانين موضوعية ضرورية تُهيمن على حركتها. ومن هنا، فإن تصور الطبيعة «عجزًا ومواتًا» يُعَد مقدمة ضرورية لتصور المعجزة «أمرًا خارقًا للعادة». ومن ناحية أخرى، فإن الإشارة في التعريف إلى أن صدق النبي يكون من المعجزة، بل ويكون منها فقط،١٩٢ ترتبط — لا شك — بتصور للإنسان خلوًا من العقل والحكمة. فالحقُّ أن تصوُّر صدق النبوة لا يتأتَّى إلا من المعجزة يمثل — رغم كونه انعكاسًا ضروريًّا لمجمل الرؤية الأشعرية للعالم — نتاجًا طبيعيًّا لإنكار الأشاعرة للتحسين والتقبيح عقلًا؛ وأعني إنكارهم أيَّ فاعلية عقلية في مجال المعرفة. وإذ يعني هذا الإنكار سلبَ الإنسان مصدر «اليقين الذاتي» وإبقاءه في احتياج دائم إلى دلائل خارجية يستمدُّ منها اليقين، فإن الأشاعرة قد مضَوا إلى «أن سلامة معجزته (النبي) عن المعارضة (هي فقط) دليل على صحته، وأما سلامة شرعه عن التخليط والنقض فيه فلا يدل على صحته».١٩٣ ذلك أن «سلامة الشرع عن التخليط والنقض» يكون من مدارك العقول لا شك، والعقول — عند الأشاعرة — أعجز من أن تُدرك بمفردها أيَّ شيء. ولو كان الأشاعرة — كالمعتزلة وغيرهم — يعتقدون في تحسين العقل وتقبيحه لانتهَوا إلى أنه «لا يحتاج النبي في الحجة على نبوته إلى أكثر من سلامة شرعه وما لا يأتي به من التناقض فيه»،١٩٤ وذلك دون حجة أو معجزة. وبهذا يصبح مصدر اليقين «داخليًّا» يقتضيه العقل، لا «خارجيًّا» يقتضيه «النقص». واللافت — على أي حال — أن تعريف المعجزة، اصطلاحًا، يتكشف — من حيث يشير إلى أن صدق النبوة لا يكون إلا بها — عن عجز عقل الإنسان، وغياب حكمته، تمامًا كما سبق وتكشف تعريفها لغة عن غياب قدرته.
واللافت أن المعتقد الأشعري في أنه «لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة»،١٩٥ لا يتكشف فقط عن تصور للإنسان «عاجزًا»، بل يتكشف أيضًا عن كون النبوة «ناقصة». إذ النبوة — بوصفها فعلًا على الجواز — لا تنضبط بذاتها، بل بفعل خارجي عنها هو المعجزة. ومن هنا يتأتَّى النقص فيها، فهي في حاجة إلى ما تكتمل وتتقوم به. والمعجزة، عند الأشاعرة، هي — كالنبوة — فعل على الجواز والإمكان، وبالتالي فإنها لا تنضبط أو تتقوم بذاتها. ولكنها — على عكس النبوة — يستحيل أن تنضبط بعلامة أو بفعل خارجي؛ أعني بمعجزة أخرى؛ لأن ذلك يستلزم تسلسلًا «لتلك الأفعال الخارجية» إلى غير نهاية. وهكذا ذهب الأشاعرة إلى أن المعجزة تنضبط ضمن شروط نظرية محدودة يتعين الإحاطة بها. وبالرغم من أنه كان يمكن — ابتداءً من هذه الشروط — ضبط المعجزة وتقويمها بما يتلاءم والوضع الإنساني — وأعني محاولة بناء منطق عقلي داخلي للمعجزة تحدث وتتطور في إطاره — فإن هذه الشروط — التي ظلت كالمعجزة خارجية تمامًا١٩٦ — لم تتقوَّم إلا في إطار انسحاب شامل لما هو إنساني.
فإنَّ أول شروط المعجزة وأحكامها «أن تكون من أفعال الله سبحانه التي ينفرد بالقدرة عليها دون سائر خلقه».١٩٧ وإذ بدا أن لفظة «فعل» لا تتَّسق — كما سبق أن أظهرنا عند تعريف المعجزة اصطلاحًا — وبنية النسق الأشعري، فإن بعض المصنفات الأشعرية قد أضافت إلى شرط «الفعل من الله» «ما يقوم مقامه من التروك، أو ما يجري مجرى فعله (أي الله) وإن لم يكن في نفسه فعلًا».١٩٨ ذلك أن من المعجزات ما ليس فعلًا، بل انتفاء فعل، مثل ما إذا قال نبي «آيتي أن يُمتنع على أهل هذا الإقليم القيام مدة ضربها، فذلك من الآيات الظاهرة، وليست هي فعلًا، بل انتفاء فعل».١٩٩
واللافت أن اشتراط الأشاعرة كون المعجزة فعلًا لله ينفرد به دون سائر خلقه، قد تبلور أساسًا في مواجهة إثبات المعتزلة قُدرًا فاعلة للعباد، ثم تأديهم من ذلك إلى «أن من معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قُدر العباد».٢٠٠ وبالرغم من أن المعتزلة قد قيدوا هذا الإطلاق بأنه «يتعذر عليهم (أي العباد) فعلُ الكثير منه (المعجزات) على الوجه الذي يفعله الله تبارك وتعالى، ويُصدق به رسله»،٢٠١ فإن الأشاعرة لم يتهاونوا ألبتة في مواجهة المعتزلة؛ وذلك «لأجل أنه إن ما يدخل تحت قُدر العباد أو مثله، ربما عرضَت فيه الشُّبه وحصلت الشكوك للمكلفين في أنه مما يتم بحيلة من الحِيَل وسبب من الأسباب يكون للذي فعل ذلك الجنس الذي هو داخل تحت قُدر العباد … وأيضًا فإنه متى جُوِّز أن يكون من المعجزات ما يدخل مثله تحت قُدر البشر أوجب ذلك الشك في الآيات «المعجزات» من وجه آخر على مذاهب القدرية «المعتزلة» خاصة. وذلك أنهم يزعمون أن من قدر على إيقاع الفعل على وجه قدر على إيقاعه على غيره من الوجوه، ووجب أيضًا أن يكون من ذلك الجنس على ما لا نهاية له، وألَّا تتخصص قدرته على إيقاعه على وجه دون وجه وبجزء منه دون أمثاله … فإذا كان ذلك عندهم كذلك، وجب أن نكون الآن قادرين على نظم مثل القرآن في بلاغته وما هو أفصح وأوجز وأبلغ منه، وعلى الصعود إلى السماء، [لأننا قادرون على فعل جزء من «النظم»، وفعل جزء من الحركات في جهة العلو، والقدرة عندهم على جزء من الشيء قدرة على الشيء ومثله وخلافه].»٢٠٢ «فنحن إذن قادرون على فعل الصعود إلى السماء، وإنما يتعذَّر ذلك علينا لفقد العلم بكيفية تأتِّي هذه الأفعال. ويجب أن نعتقد أنه لا يؤمن أن يكون تعذُّر صعودنا إلى السماء والمشي على الماء لفقد العلم بكيفية ترتيب الحركات واتصالها. وكذلك فلا يؤمن أن يكون نظم القرآن على هذا الحد من البلاغة إنما تأتَّى لمورده لفضل علمه وتقدُّمه في البراعة واللسن ومعرفته بوجوه تصاريف الكلام ونظومه وأوزانه، وإن تعذر ذلك على غيره».٢٠٣ وإذن، فإنَّ تجويز المعتزلة أن يكون من المعجزات ما يدخل مثله تحت قُدر البشر، يتأدَّى — برأي الأشاعرة — إلى تقويض المعجزة تمامًا.٢٠٤ ومن هنا، فإنه «لم يجز — طبقًا للأشاعرة — أن يكون مما يدخل جنسه تحت قُدر العباد، «بل» يجب ألَّا يكون المعجز إلا ممَّا ينفرد الله عز وجل بالقدرة عليه دون سائر خلقه».٢٠٥ وهكذا، فإن شرط الأشاعرة الأول في المعجزة قد انبثق في مواجهة تصوُّر للقدرة الإنسانية فاعلة في ميدان المعجزات. وبدحضه أي أثر لهذه القدرة، وتصوره المعجزة فعلًا ينفرد به الله دون سائر خلقه، بدا متسقًا تمامًا مع بنية نسق لا يرى في العالم إلا «إلهًا فاعلًا» في مواجهة «إنسان عاجز».
وقد شرط الأشاعرة أيضًا، في المعجزة «أن تكون خارقة للعادة»،٢٠٦ وقد اتفقوا على أن مآل هذا الشرط تمييز مدعي النبوة عن غيره؛ «إذ لو كانت عامة معتادة يستوي فيها البارُّ والفاجر، والصالح والطالح، ومدَّعي النبوة المحقُّ بها والمفتري بدعواه، لما أفاد ما يقدر معجزًا تمييزًا وتنصيصًا على الصادق».٢٠٧ وإذن، فإن تمييز «الصدق» مشروط أبدًا بظهور «الخرق». وهذا يعني أنَّ الصدق أو «الحق» ليس صفةً قائمة في باطن الصادق، ويمكن للعقل أن يتبيَّنَها بنفسه، بل صفة قائمة في الخارج، وليس للعقل إلا أن يتلقاها من مصدر مفارق أو خارق. وتبعًا لذلك، فإن الصدق ليس «اكتشافًا»، بل «اكتسابًا». والحقُّ أنَّ تصوُّر الصدق هكذا، يرتبط — في التحليل الأخير — بتصور الأشاعرة للتحسين والتقبيح «اكتسابًا» من الشرع، وليس «اكتشافًا» من العقل. ويبدو أنَّ هذا التصور قد تأدَّى بالأشاعرة إلى معضلة حقة، حين تعلَّق الأمر — خاصة — بإظهار صدق النبوة. فإن صدق النبوة لا يمكن اكتسابه من الشرع؛ إذ الشرع لم يثبت بعدُ. ومن حيث المبدأ، فإن هذا الصدق يستحيل اكتشافه بالعقل؛ إذ ليس للعقل — لدى الأشاعرة — إلا الكسب والتلقِّي فقط. كيف السبيل، إذن، إلى إظهار صدق النبوة، والصدق — طبقًا لنظرية الأشاعرة في التحسين والتقبيح — لا يثبت إلا من الله بشرع، وهذا الشرع — في حالة إظهار صدق النبوة — لم يثبت بعدُ؟! بدَا للأشاعرة أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بفعل من الله؛ أعني أن إظهار صدق النبوة سيكون — هو الآخر — من الله، لكن «بفعل» لا «بشرع». وقد كان لزامًا أن يكون هذا الفعل «مخصوصًا» ليتميز به «مدعي النبوة المحق» عن «المفتري بدعواه». ومن هنا جاء اشتراط كونه «خارقًا للعادة»، واللافت — على أي حال — أن هذا الشرط ينبني على تصور للعقل الإنساني جوهره «التلقي والكسب» وليس «الفحص والكشف». ولو أن الأشاعرة أظهروا قدرًا من الثقة في العقل، لأدركوا — كما أدرك «ثمامة» من المعتزلة والإباضية وكثير من الخوارج والكرَّامية٢٠٨ — أنه يمكن الحكم على صدق النبوة اعتمادًا على مضمونها فقط، دون خوارق العادات.
وقد بدَا للأشاعرة أن اشتراط خرق العادة في المعجزة مطلقًا؛ أعني دون تخصيص أو تقييد، يمكن أن يتأدَّى إلى ضرب من الاشتباه واللبس؛ ذلك أنَّه «ما من أمر من «الأفعال الخارقة» وغير الخارقة إلَّا وهو مقدور لله تعالى أن يُظهره على يدي من شاء من عباده على حسب إيثاره واختياره، وإنكار ذلك يجرُّ إلى التعجيز، وإبطال كون الفعل مقدورًا لله — تعالى — وهو مستحيل».٢٠٩ وابتداءً من تصوُّر الله هكذا؛ إرادة وقدرة خالصتَين ومطلقتَين من كل تحديد، وخوفًا من الانجرار إلى تعجيزه، فإن الأشاعرة أو «أهل التحقيق لم يمنعوا من جواز إجراء مثل ذلك «الخارق للعادة» على مَن ليس بنبي»،٢١٠ بل وصاروا — فعلًا — إلى «جواز انخراق العادات في حق الأولياء».٢١١ وإذن، فإن «خرق العادة» ليس مختصًّا بالمعجزة لا غير، بل «إن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات».٢١٢ وقد بدا للمعتزلة، خاصة — بل وبعض الأشاعرة كالإسفرائيني — أنَّ استواء المعجزة والكرامة في «الخرق» يمكن أن «يجرَّ إلى ظهور ما كان معجزة لنبي على يد ولي، وذلك يُفضي إلى تكذيب النبي المتحدي بآيته، القائل لمن تحدَّاه: لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به. فلو جاز إتيان الولي بمثله، لتضمن ذلك نسبة الأنبياء إلى الافتراء».٢١٣ ومن هنا فإنهم قد أنكروا كرامات الأولياء جملة، كي لا يكون من سبيل للقدح في دلالة المعجزة على النبوة. وبالرغم من السخرية القاسية٢١٤ التي لاقاها المعتزلة جزاء هذا الإنكار، فإن الأشاعرة باتوا مضطرين — على الأقل — إلى «البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات»، وكان ذلك بتأثير النقد المعتزلي لا شك.
وقد بان للأشاعرة الفرق بين المعجزات والكرامات في تقييد «الخارق للعادة» حين يختصُّ بالمعجزة، بشرط «أن يكون واقعًا مفعولًا عند تحدِّي الرسول، عليه السلام، بمثله وادعائه آية لنبوته وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذَّبه».٢١٥ وهكذا تأدَّى شرط «خرق العادة» إلى شرط أن تكون المعجزة «مقترنة بالتحدي»٢١٦ فإنه لا يكفي في الفعل المعجز أن يكون، فقط خارقًا للعادة، بل لا بدَّ من التحدِّي؛ وأعني أن يدَّعيَه النبي آية يتحدَّى بها قومه. ومن هنا فإنه «لو ظهرت آية من شخص وهو ساكت صامت، فلا تكون الآية (رغم كونها خارقة) معجزة».٢١٧ ذلك أن المعجز «ليس بمعجز لجنسه ونفسه وحدوثه، وإنما يصير معجزًا لما فيه من الاحتجاج والتحدي».٢١٨ وهكذا، فإن لا شيء فاعل بذاته لدى الأشاعرة، وحتى فيما يتعلق بالمعجزة، فإن الإعجاز ليس قائمًا في ذات الفعل المعجز، بل مُستمدًّا أو مُكتملًا — لا فرق — من قرينة خارجية؛ وإذن فإنَّ عالمَ الأشاعرة خِلوٌ — على الدوام — من «الذاتية». ومن هنا «فإن المعجزة لا تدل لعينها (لذاتها)، وإنما تدل لتعلُّقها بدعوى النبي الرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول … ولا يتأتى ذلك دون التحدي».٢١٩ والحق أن شرط «التحدي» في المعجزة ليس يعني شيئًا سوى اشتراط «وعي» البشر بعجزهم الدائم بإزاء الفعل المعجز، وهذا ما يؤكده إرداف الأشاعرة شرط «التحدي» بشرط «تعذر المعارضة»، وتبعًا لذلك، فإنه يبدو وكأن الأشاعرة قد انتقلوا من مجرد «وجود» العجز، كشرط للمعجزة، إلى اشتراط «الوعي» به أيضًا.
وإذ يعني «التحدي» طلب المعارضة — ولو بلا تصريح٢٢٠ — فإنَّ الأشاعرة قد شرطوا في الفعل المعجز، «أن يتعذَّر على المُتحدى به فعل مثله في الجنس أو على الوجه الذي وقع التحدي عليه».٢٢١ وقد كان ذلك لأن «الأمر إذا خرق العادة وادَّعاه النبي آية له، وأنه مخصوص به، وظهر مثله على الوجه الذي ظهر على يده على يد ساحر كذاب، ومَن ليس نبيًّا ولا مدَّعيًا لذلك، الْتبس الأمر ولم يكن ما ظهر على يده حجة في نبوته، إذ قد عُلم ظهوره على يد مَن ليس بنبي».٢٢٢ وهكذا، فإنَّ إمكان معارضة «المعجز» بفعل مثله يؤدي إلى القدح في دلالة المعجزة على النبوة. ومن هنا شرطوا في «المعجز» تعذُّر المعارضة، بل وجعلوه «حقيقة الإعجاز».٢٢٣ واللافت أن جعل «حقيقة الإعجاز» في تعذر معارضة المعجز،٢٢٤ إنما يؤكد على أن «الإعجاز» يتقوم «سلبًا»، لا «إيجابًا»؛ إذ «الإعجاز» — تبعًا لذلك — يتأتَّى، لا من فاعلية ذات المعجز، بل من «عدم» فاعلية مَن يتحدَّاهم المعجز. والحقُّ أنَّ «فاعلية السلب» هذه؛ وأعني تلك الفاعلية التي تتحقق «سلبًا»، من خلال حذف وإعدام فاعلية «الآخر»، وليس «إيجابًا» من خلال حضور إيجابي لفاعلية «الذات» — مع حضور الآخر فاعلًا أيضًا — تُعَد ملمحًا من الملامح الأساسية للنسق الأشعري.٢٢٥
وإذ بدا للأشاعرة أن المعجزة قد تتعلَّق «بالتكذيب»٢٢٦ أيضًا، وليس بالتصديق فقط، فإنهم قد شرطوا في المعجزة — حين تتعلق بالتصديق بالطبع — «ألَّا تظهر مكذِّبة للنبي؛ مثل أن يدَّعيَ مُدَّعي النبوة، فيقول: آيةُ صِدقي أن يُنطق الله يدي؛ فإذا أنطقها الله تعالى بتكذيبه وقالت: اعلموا أن هذا مفترٍ فاحذروه، فلا يكون ذلك آية»؛٢٢٧ وذلك «لأن المكذب هو نفس الخارق».٢٢٨ وأما «لو قال: معجزتي أن أُحييَ هذا الميت، فأحياه، فكذبه، ففيه احتمال»،٢٢٩ فإن أكثر الأشاعرة قد صاروا إلى أن «الصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزًا؛ لأن المعجز (هو) إحياؤه، وهو غير مكذب له، إنما المكذب هو ذلك الشخص بكلامه. وهو بعد الإحياء مختارٌ في تصديقه وتكذيبه ولم يتعلَّق به دعوى … وقيل هذا الذي ذكرنا من عدم خروجه عن كونه معجزًا إنما هو إذا عاش بعد الإحياء زمانًا واستمر على التكذيب»،٢٣٠ وأما «الباقلاني»، فهو الأشعري الوحيد الذي مضى إلى أن «هذه آية مكذبة لا تدل»،٢٣١ وإن كان إنكار «الباقلاني» كونه معجزًا يبدو هنا مطلقًا، حسب «الجويني»، فإنَّ ثمَّة مَن رأى أن «الباقلاني» قد قيَّد إنكار الإعجاز — في المثال الآنف — بشرط حين أظهر أنه «لو خرَّ ميتًا في الحال، بطل الإعجاز لأنه كان أُحيي للتكذيب».٢٣٢ ويبدو أن إنكار «الباقلاني» — مطلقًا أو مقيدًا — لم يمنع الأشاعرة من التأدي إلى أن «الميت إذا حَيِيَ وكذَّب، فتكذيبه ليس بخارق للعادة. وللنبي أن يقول: إنما الآية إحياؤه، وتكذيبه إياي كتكذيب سائر الكفرة٢٣٣ … وأنه لا فرق بين استمرار الحياة مع التكذيب وبين عدمه لوجود الاختيار الإنساني في الصورتين»،٢٣٤ وذلك بخلاف تكذيب اليد أو الضب أو الخالي من الوعي والاختيار عمومًا.

وبعيدًا عن اختلاف الأشاعرة حول شروط معجزة «التكذيب»، فإنه يبقى أن ثمة اتفاقًا حول إمكان معجزة التكذيب. ومن هنا كان شرط تميُّز معجزة التصديق عنها. ذلك أن اشتراط «ألَّا تظهر المعجزة مكذبة للنبي» ليس يعني أكثرَ من إمكان ظهور المعجزة مكذبة. واللافت — على أي حال — أن تصور «التكذيب» ممكن بمعجزة يقوم — كتصور «التصديق» لا يكون إلا بمعجزة — على ذات الثابت المتكرر في كل عناصر النسق الأشعري؛ وأعني به غياب الإنسان، قدرةً وحكمة أو عقلًا وفاعلية.

ولذات السبب؛ أعني إمكان المعجزة مكذبة،٢٣٥ شرط الأشاعرة في المعجز «أن يكون موافقًا للدعوى»،٢٣٦ بمعنى أن يكون ما ادَّعاه النبي معجزةً له، هو ما ظهر عليه فعلًا، حتى لا يقدحَ من دلالة المعجزة على التصديق. فإنه «لو قال «النبي»: معجزتي أن أُحييَ ميتًا، ففعل خارقًا آخر؛ كنتق الجبل مثلًا، لم يدلَّ على صدقه، لعدم تنزُّلِه منزلةَ تصديق الله إياه».٢٣٧ ولكن يبدو أن الأشاعرة قد أدركوا أن هذا الشرط يتأدَّى إلى تقييد٢٣٨ لا مبرر له؛ ولهذا فإنهم صاروا إلى «أنه لا يجب تعيينُ المعجز، بل يكفي أن يقول أنا آتٍ بخارق من الخوارق ولا يقدر أحدٌ على أن يأتيَ بواحد منها».٢٣٩ فبدا بذلك وكأن الأشاعرة قد صاروا — حرصًا على الإفلات من خناق تقييد الذات الإلهية — إلى إلغاء مبرر الشرط — أو الشرط نفسه — على الحقيقة.
وقد شرط الأشاعرة أيضًا «ألَّا تتقدَّم المعجزة على الدعوى؛ فلو ظهرت آية أولًا وانقضت، فقال قائل: أنا نبي، والذي مضى كان معجزتي، فلا يُكترَث به؛ إذ لا تعلُّق لما انقضى بدعواه»،٢٤٠ وكذا فإن «التصديق ﺑ «معجزة» قبل الدعوى لا يُعقل».٢٤١ ذلك أن المعجزة قبل الدعوى لا تكون، أصلًا، معجزة. ولهذا فلو أن نبيًّا ادعى ما مضى معجزة له، فإنه «يُطالب به، أي بالإتيان بذلك الخارق (يلاحظ أنه لم يَقُل بتلك المعجزة) أو بغيره بعد الدعوى؛ فلو عجز كان كاذبًا قطعًا».٢٤٢ إنه مُطالب بذلك لأن «الخارق» غير مقرون بدعوى نبوة، لا يكون «معجزة» أبدًا؛ فالمعجزة — كما سبق القول — لا تكون كذلك، لجنسها أو حدوثها، وإنما لما فيها من التحدي والاحتجاج والاقتران بالدعوى. وعلى هذا، فإنَّ ما ظهر من خوارق على الأنبياء، قبل دعواهم النبوة، مثل «كلام عيسى في المهد، وتساقُط الرطبِ الجَنِيِّ عليه من النخلة اليابسة، فإنهما معجزتان له، مع تقدُّمِهما على الدعوى، و«مثل» معجزات «النبي محمد» من شقِّ بطنِه، وغسل قلبه، وإظلال الغمامة، وتسليم الحَجَر والمَدَر عليه، فإنها كلها متقدِّمة على دعوى الرسالة … تلك الخوارق المتقدمة على الدعوى ليست معجزات، إنما هي كرامات وظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورُها عليهم، وحينئذٍ تُسمَّى إرهاصًا؛ أي تأسيسًا للنبوة».٢٤٣ وإذن، فإن ظهور الخارق، حتى على نبي صادق، لا يُعَد قبل دعواه النبوة معجزة له، بل إرهاصًا بنبوته، وعلى هذا فإن الاقتران بالدعوى من غير تقدُّم عليها يُعَد من أهم شروط «المعجزة». وإذ يقوم هذا الشرط على رباط صميمي لا ينفك بين الدعوى والمعجزة، فإنه يقضي على أية محاولة لقبول الدعوى بتأمل إنساني يستقل — ولو جزئيًّا — عن أي خارق سابق أو لاحق أيضًا.
وبالرغم من أن الأشاعرة قد أجازوا تأخُّرَ «المعجزة» عن الدعوى، وذلك مع التمييز بين ««المتأخر» بزمان يسير يُعتاد مثله، فإنه دالٌّ على الصدق»،٢٤٤ وبين «متأخر بزمان متطاول»، يدل على الصدق أيضًا، ولكن مع تباين وجه دلالته على ذلك؛٢٤٥ فإن ذلك لا يعني قبولًا لدعوى النبوة دون معجزة، ولو ستظهر بعد حين؛ ذلك أنهم قد قالوا بانتفاء التكليف حينئذٍ، فإنه «لا يجب على الناس التصديق بنبوته ومتابعته من الزمان الواقع بين الإخبار «بالدعوى» وحصول الموعود به (أي المعجزة)؛ لأن شرط التكليف بالتصديق والمتابعة العلم بكونه معجزًا؛ وذلك إنما يحصل بعد وجود ما وعد به (أي المعجزة).»٢٤٦ وهكذا فإنه لا سبيل إلى التصديق أو المتابعة «بالعقل»، حتى مع انتظار لمعجزة ستقع حينًا ما. والحقُّ أنَّ هذا «الغياب» المطلق «للعقلانية» هو ما تتكشف عنه كافة شروط المعجزة، ممَّا يعني «حضورًا» قويًّا لبنية النسق الشاملة فيها. وإذ تُمثِّل جملة هذه الشروط شروطًا للتصديق، فإن بحثًا في كيفية دلالة المعجزة على «التصديق» يبدو الآن، ملحًّا.

دلالة المعجزة على الصدق

إن المعجزة علامة أو شهادة خارجية Extrinsic Testimony على الدعوى، وأعني أنها كيان قائم بذاته، منفصل تمامًا عن الدعوى، وليس جزءًا منها. وعلى هذا، فإن برهان الصدق يقوم من انفصال تام عن موضوعه (المراد إثبات صدقه)، وهذا يعني أنَّ إثبات الصدق هنا يبدو عمليةً صورية تمامًا، لأنه لا يتعلق البتة بطبيعة الدعوى أو موضوعها ذاته،٢٤٧ بل بالقائم منفصلًا عنها. ولأن برهانَ صدق الدعوى خارجيٌّ ومنفصلٌ عنها، فإن دلالته على صدقها، لا تتأكد — فيما يبدو — إلا بعون خارجي أيضًا. ولو أنَّ الأشاعرة علَّقوا صدقَ الدعوى — إلى جانب البرهان الخارجي — على برهان باطني٢٤٨ أيضًا، لأمكنهم — دون شك — إدراكُ دلالته على صدقها عقلًا.
فاللافت أن دلالة المعجزة على صدق الدعوى «ليست دلالةً عقلية محضة»؛٢٤٩ لأن الدلالة العقلية هي «دلالة يجد العقل «فيها» بين الدال والمدلول علاقةً ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه».٢٥٠ وهكذا ينطوي مفهوم «الدلالة العقلية» على ضرورة قيام «علاقة ذاتية» بين الدال والمدلول و«بسببها» ينتقل «العقل» من الأول إلى الثاني. فإن «دلالة الفعل على وجود الفاعل، ودلالة إحكامه وإتقانه على كونه عالمًا بها»٢٥١ تستحيل تمامًا في غياب علاقة ذاتية ضرورية بين كلٍّ من الدالِّ والمدلول، بحيث «لا يُقَدر في العقل وقوعه (الدال) غير دالٍّ عليه (المدلول)».٢٥٢ وإذ لا مكان في النسق الأشعري ﻟ «علاقة ذاتية»، لا يقدر معها «العقل» على تصور «الدال» غير دالٍّ على «المدلول»، فإنَّ الأشاعرة قد صاروا إلى امتناع هذه الدلالة العقلية. فالدلالة العقلية «ترتبط لنفسها بمدلولاتها ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها»،٢٥٣ «أو أنها» «تتعلَّق بمدلول بعينه، ولا يقدر في العقل وقوعها غير دالة عليه».٢٥٤ وهذا يعني أن «تحقُّق «الدال» يستلزم في نفس الأمر تحقُّقَ المدلول فيها مطلقًا».٢٥٥ والحق أنه «ليس كذلك سبيل المعجزات»٢٥٦ عند الأشاعرة. ذلك أن «خوارق العادات؛ كانفطار السموات، وانتشار الكواكب، وتدكدك الجبال يقع عند تصرُّم الدنيا وقيام الساعة، ولا إرسال في ذلك الوقت، وكذلك تظهر الكرامات على أيدي الأولياء من غير دلالة على صدق مدِّعي النبوة».٢٥٧ … «وكذلك فإن انقلاب العصا حيَّة، لو وقع بديًّا (أي ابتداء) من فعل الله عزَّ وجلَّ من غير دعوى نبي، لمَا كان دالًّا على صدق مدَّعٍ».٢٥٨ وهكذا، فإنه يمكن أن يتحقَّق الدالُّ (المعجزة) دون أن يستلزم تحقق المدلول (الدعوى). وتبعًا لذلك «فقد خرجت المعجزات عن مضاهات دلالات العقول».٢٥٩
ومن ناحية أخرى، فإنَّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوة «ليست دلالةً سمعية، لتوقُّفها على صدق النبي، فيدور»؛٢٦٠ أي: إن الأشاعرة قد منعوا «الدلالة السمعية» لأنها تؤدي إلى الدور المنطقي. إذ الدلالة حينئذٍ تتوقف على صدق النبي، ولكن صدق النبي نفسه يتوقف، أصلًا، على تلك الدلالة. وهكذا يكون الأشاعرة قد أنكروا أن تكون دلالة «المعجزة» على الصدق، دلالة «باطنية» تتقوم بالعقل، أو حتى دلالة «خارجية» تتقوم بالسمع.
وإذ يستحيل فعلًا — وبمقتضى النسق الأشعري — أن تكون دلالة المعجزة على الصدق دلالة «باطنية»، فإنه يستحيل بذات القدر — وبمقتضى النسق أيضًا٢٦١ — ألَّا تكونَ دلالة المعجزة على الصدق دلالة «خارجية». والحق أن دلالة المعجزة على الصدق كانت عند الأشاعرة دلالة «خارجية» بالفعل، ولكنها لا تتقوم من السمع (حيث الدور المنطقي)، بل من علم بالصدق يخلقه «الله» فينا عقب ظهور المعجزة، فإنه «عند ظهور المعجزة يحصل الجزم بصدقه (أي النبي) بطريق جرى «العادة»، بأن الله تعالى يخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة».٢٦٢ وعلى هذا، فإن دلالة المعجزة على الصدق هي دلالة خارجية، ولكنها ليست سمعية، بل بالأحرى «دلالة عادية»، من مصطلح «العادة» الأشعري، بمعنى أن دلالتها على الصدق تكون من «إجراء الله تعالى «عادته» بخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة».٢٦٣ وهكذا فإن دلالة المعجزة على الصدق، كسائر ما عداها، فعل «من الله أيضًا».٢٦٤
وكما بدا للأشاعرة أن ردَّ دلالة صدق المعجزة على الدعوى إلى «السمع»، يتأدَّى إلى «مأزق» الدور المنطقي، فإنه يبدو أيضًا، أن ردَّهم دلالة صدقها إلى «عادة» الله بخلق العلم بالصدق عقب ظهورها، يتأدى إلى «مأزق» تجويز عدم دلالتها على الصدق. ذلك أن كون اقتران ظهور المعجزة بالصدق يكون بمجرى «العادة»، وكون هذه «العادة» جائزة الانخراق، على مذهب الأشاعرة، يؤدي إلى أنه «يجوز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق».٢٦٥ وهذا «التجويز» يتأدَّى إلى أنه «يجوز إظهاره (أي المعجزة) على يد الكاذب حينئذٍ»، فإنه لا يمنع هذا «الجواز» إلا استحالة خرق العادة من المعجزة، وخرق العادة «عامة» ممكن عند الأشاعرة. ومن هنا فإنه يجوز — بمقتضى النسق الأشعري — إظهارُ المعجزة على يد الكاذب؛ «إذ لا محذور سوى خرق العادة في المعجزة، والمفروض أنه جائز».٢٦٦ وهكذا فإن ردَّ الأشاعرة دلالة صدق المعجزة على الدعوى إلى «إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه» يتأدَّى إلى شناعة تفوق شناعةَ الدور المنطقي، وهي تجويز ظهور المعجزة على يد الكاذب. وإن صار الأشاعرة إلى أن ذلك «وإن كان ممكنًا عقلًا، فمعلومٌ انتفاؤه (عادة)»،٢٦٧ فإن تلك «العادة» مما يجوز — على مذهبهم — إخراجها أيضًا. وهكذا يبقى جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب قائمًا لا يتزعزع. وليس يُجدي هنا قول الأشاعرة بأنه «يستحيل وقوع المعجزة على حسب دعوى الكاذب؛ لأنها تتضمن تصديقًا، والمستحيل خارجٌ عن قبيل المقدورات».٢٦٨ إذ يبقى هذا القول مرسلًا؛ أعني لا يقتضيه مجمل النسق، بل — أو لعله — يتعارض معه.
وإذ جوبه الأشاعرة بهذه الشناعة القاسية، فإنهم قد اضطروا إلى التماس دلالة صدق المعجزة على دعوى النبوة من ضرب من «الإيمان» السابق على الدعوى بأن ثمة إلهًا مطلقَ القدرة، وكذا من الاعتقاد بإمكان النبوة. وبعبارة أصرح التمس الأشاعرة دلالة صدق المعجزة من الإيمان قبل «دعوى النبوة»، بما جاءت «النبوة» أصلًا لنؤمن به. فبدا وكأنهم قد ارتدوا إلى «الدور المنطقي» الذي سبق ومنعوه. فطبقًا للأشاعرة «المعجزة، إنما تدل في حق مَن يعتقد الرب قادرًا يفعل ما يشاء، فيقول النبي في مخاطبة مَن سبق اعتقاده للإلهية: قد علمتم أن ابتعاث النبي غير منكر عقلًا، وأنا رسول الله إليكم. وآية صدقي أنكم تعلمون تفرُّدَ الرب تعالى بالقدرة على إحياء الموتى، وتعلمون أن الله عالمٌ بسرِّنا وعلانيَّتِنا، وما نُخفيه من سرائرنا ونُبديه من ظواهرنا، وإنما أنا رسول الله إليكم، فإن كنت صادقًا فاقلب يا رب هذه الخشبة حية تسعى، فإذا انقلبت كما قال، وأهل الجمع عالمون بالله تعالى، فحينئذٍ يعلمون على الضرورة أنَّ الربَّ تعالى قصد بإبداع ما أبدع تصديقه».٢٦٩ وبصرف النظر عن أن أولئك الذين يعنيهم النبيُّ «بخطابه» ليسوا، في الأساس أولئك العالمون بإله متفرد القدرة والعلم؛ بل — بالأحرى — مَن يجهلونه، فإن هذا التصور — وهو الأهم — يتأدَّى إلى إظهار «عقم» المعجزة؛ ذلك أن مَن يعتقدونه من «الله» هكذا، ويعتقدون — فوق ذلك — من أن ابتعاث النبي غيرُ منكر عقلًا، ليسوا في حاجة، أصلًا، إلى معجزة حتى يؤمنوا بصدق دعوى النبوة. وهكذا يكون الأشاعرة قد تأدوا إلى إظهار عقم المعجزة، لا دلالتها على الصدق. والحق أن نسقًا كهذا، غاب عن «العقل» ليس أمامه إلا حصد التناقضات. ولو كان «العقل» حاضرًا هناك، كشريك للمعجزة، لا فاعل أصلي، لأمكن أن يُفلت الأشاعرة من أنه «لا دليل على صدق النبي غير المعجزة»،٢٧٠ إلى أن ثمة دلائلَ أخرى، يتكشفها «العقل» في طبيعة النبوة، من حيث تتبدَّى خاصة، كشكل من أشكال «الوعي» يقتضيه «الواقع» في «مرحلة» ما، ولأمكن أن يُفلتوا بالتالي من كل صور التناقض التي فرضها غياب «الإنسان» من النسق، أولًا وأخيرًا.

ويبقى، على أي حال، أنَّ «النبوة» من حيث هي «قول الله تعالى لمن اصطفاه من عباده أرسلناك وبعثناك، وبلِّغ عنَّا» هي «إمكان نظري»، وأن «المعجزة» من حيث هي «فعل خارق للعادة يُظهره الله تصديقًا للنبي» هي كذلك، «إمكان نظري». والحق أن تصورهما «إمكان نظري» ليس غايةً في ذاته عند الأشاعرة، بل مجرد توطئة لإثباتهما (تحقق فعلي).

النبوة والمعجزة … من «الإمكان النظري» إلى «التحقق الفعلي».

إنَّ الانتقال بالنبوة والمعجزة من «الإمكان النظري» إلى «التحقق الفعلي» يمثل انتقالًا من «العام» إلى «الخاص». ذلك أنه بينما يتعلق «الإمكان» بإظهار إمكان النبوة «عامة» في مواجهة المخالف على العموم، فإن «التحقق» يتعلق بإثبات نبوة «خاصة» في مواجهة مخالف بعينه. وهنا يبدو وكأنَّ الأشاعرة قد أدركوا أنه لا بدَّ من سبق «منطقي» للعام على الخاص. وليس ذلك يتعارض مع حقيقة أنَّ هذا «السبق المنطقي» للعام على الخاص، يأتي — في الإدراك الأشعري — تاليًا «للسبق الفعلي» للخاص على العام. فالحقُّ أنه لو لم تكن ثمة نبوة خاصة متحققة «فعلًا»، لما كان الأشاعرة قد صاروا، أبدًا، إلى تأسيس إمكان النبوة عمومًا. وإذن، فإن «الخاص» هو الذي يؤسِّس «العام»، «فعليًّا»، وذلك رغم أنه يستحيل العكس «منطقيًّا». ويبقى، إذن، أنه لا تناقض بين القول بأنه لولا نبوة محمد — (أي الخاص) — لما أثبت الأشاعرة النبوةَ عمومًا (أي العام)، وبين كونهم أقاموا نبوةَ محمد نفسها (أي الخاص)، على إثبات النبوة عمومًا (أي العام)، على أنَّ المهم — على أي حال — أن نُدرك أنَّ «العام»، هنا، ليس هو «الغاية»؛ بل «الخاص» هو الغاية والمبدأ والمنتهى أيضًا. فالحق أن إثبات نبوة محمد هو «غاية» البحث الأشعري في النبوة بأَسْره.

وأما أن ثمة انتقالًا — في النبوة — من «الإمكان» إلى «التحقق»، فإن ثمة، في مكة، من زمن ما مَن «ادَّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده، وكلُّ مَن كان كذلك كان رسولًا حقًّا».٢٧١ فأما أنه «ادعى النبوة»، فقد أجمع الأشاعرة على أن ذلك «معلوم»؛ وإن كان ثمة مَن رآه معلومًا «بالتواتر»،٢٧٢ وثمة مَن مضَى إلى «أن العلم بظهور النبي، ، بمكة والمدينة ودعوته إلى نفسه واقع من جهة «الاضطرار».»٢٧٣ ولكن «الاضطرار» هنا، حتى ولو كان «لا يمكن جحده، ولا الارتياب به»،٢٧٤ ليس يعني شيئًا أكثر من «التواتر»، ولكنه من نوع ذلك «الخبر المتواتر «الذي هو» طريق العلم الضروري … «والذي به» علمنا البلدان التي لم ندخلها، وعرفنا الملوك و«الأنبياء» والقرون الذين كانوا قبلنا، وبه يعرف الإنسان والدَيه اللذَين هو منسوب إليهما».٢٧٥ وإذن، فإن «الاضطرار» هنا، ليس أبدًا اضطرارًا «عقليًّا»؛ إذ يستحيل ذلك على مقتضى النسق الأشعري. وعلى أي حال، فإن ادعاء النبي محمد للنبوة معلومٌ تمامًا، سواء من طريق التواتر أو الاضطرار. ولو أن أحدًا تطرَّق إلى الشك من ذلك «لجحد الضرورة (ليست عقلية)، ولسقطت مكالمته».٢٧٦
وأما أنه «أظهر المعجزة»، فإن ذلك أيضًا «معلوم» بإجماع الأشاعرة، وإن كان طريق العلم بذلك يتباين بحسب نوع المعجزة. «فأما العلم بظهور القرآن على يده ومجيئه من جهته، وأنه تحدَّى العرب أن يُؤتَى بمثله، فواقع لنا، ولكلِّ مَن خالفنا «اضطرارًا».»٢٧٧ «وأما سبيل العلم بكلام الذراع، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وجعْل قليل الطعام كثيرًا، وانشقاق القمر، وأشباه ذلك من أعلامه، عليه السلام، فهو النظر والاستدلال، لا الاضطرار».٢٧٨ فقد بدا للأشاعرة أنه بينما كان «ثبوت القرآن، وظهوره عليه، وعجز العرب والعجم عن المعارضة بمثله، معلومًا «بالتواتر» الموجب للعلم «الضروري»»،٢٧٩ فإنه «لا نزاع في أنها (أي المعجزات غير القرآن) لم تُنقل إلينا نقلًا متواترًا «يوجب العلم الضروري»، بل إنما نُقلت على سبيل رواية الآحاد، ورواية الآحاد لا تُفيد العلم».٢٨٠ وإذ بدا للبعض أن عدم إفادة أخبار هذه المعجزات للعلم، يمثِّل — من طرف خفي — إنكارًا لهذه المعجزات ذاتها،٢٨١ فإنهم قد صاروا إلى أن سبيل العلم بهذه المعجزات، هو «الخبر المستفيض المتوسط بين التواتر والآحاد، فإنه «يشارك» التواتر في إيجابه للعلم والعمل، و«يفارقه» من حيث إن العلم الواقع عنه يكون علمًا مكتسبًا «نظريًّا»، والعلم الواقع عن التواتر يكون «ضروريًّا» غير مكتسب».٢٨٢ وإذن، فإن معجزات النبي، غير القرآن، إنما تُفيد «علمًا» … ولكنه علم «نظري»، مكتسب من «النظر» في الخبر وروايته وقرائن الأحوال، في حين أن خبر القرآن ومعجزته بلغَا حدًّا من «التواتر» يوجب العلم «بالاضطرار». واللافت، على أي حال، أن إظهار النبي للمعجزة، معلومٌ بالإجماع، سواء من طريق الاضطرار أو من طريق النظر والاستدلال. وبهذا — لا غيره — أي بتواتر ادِّعاء النبوة وإظهار المعجزة، تواترًا موجبًا للعلم الضروري، أثبت الأشاعرة تحقُّقَ نبوة محمد فعليًّا، في مواجهة المخالفين، وكانوا من أصحاب النبوات السابقة خاصة، حيث تم إفحام المخالفين — ممن لا نبوة لهم — في معرض إثبات النبوة «عمومًا» بوصفها إمكانًا نظريًّا.
وبينما بدا للأشاعرة أنَّ العلم بتحقق نبوة محمد ومعجزته، على هذا النحو، من نوع الضرورات، و«لا حجاج في درء الضرورات»،٢٨٣ فإن ثمة من حاجَّ في الضرورات،٢٨٤ وأنكر نبوة محمد والمعجزات، وهما: «طائفتان، تمسَّكت إحداهما بالمصير إلى منع النسخ، وتمسكَت الأخرى بالمماراة في آياته ومعجزاته».٢٨٥ فأما «مَن أنكر رسالته، لاعتقاده إحالة نسخ الشرائع وتبدُّل الذرائع، كبعض «اليهود»، «فإن» منهم مَن أحال ذلك عقلًا … ومنهم مَن أحاله سمعًا٢٨٦ … «وأما» مَن أنكر رسالته بمجرد القدح في معجزاته، والطعن في آياته، «فهُم» النصارى، وغيرهم من المعترفين بجواز نسخ الشرائع وبعثة الرسل».٢٨٧ وقد أدرك الأشاعرة أنهم مضطرون — تبعًا لذلك — إلى الخوض في تجويز النسخ، وبيان معجزة النبي وطبيعتها؛ أي الخوص في مباحث نظرية خالصة، فبدا وكأنهم قد تحولوا، بذلك، من إثبات نبوة محمد ، «واقعة فعلية» — حسب التاريخ المتواتر — إلى إثباتها «واقعة نظرية»، أعني حسب النظر أيضًا.

فقد بدا للأشاعرة أنه لا يمكن إثبات النسخ — في مواجهة منكريه — اعتمادًا على مجرد العلم بتواتر نقله؛ ولو كان من نوع التواتر الموجب للعلم الضروري. إذ تبقى الضرورة، هنا، غيرَ عصيَّة على الجحد؛ لأنها لا تتأسس عقليًّا. وعلى هذا فإن بحثهم في «النَّسخ» يتعلق، أولًا، بإثباته «ممكنًا نظريًّا»، لا «واقعًا فعليًّا»؛ وأعني تأسيس «النسخ» على تصور نظري لضرب من «الاقتضاء الإلهي»، يبدو — طبقًا لهم — عصيًّا على أي نكران، وحيث كان بالمقدور تأسيس «النسخ» — وهو الأرسخ — على نوع من الضرورة العقلية أو التاريخية، أو — بالأحرى — على ضرب من «الاقتضاء الإنساني»، فإن ردَّ الأشاعرة «للنسخ» إلى «الاقتضاء الإلهي» يتكشف عن حضور قوي لبنية تأبى إلا أن تنتظم عناصر نسقهم بأسرها.

وقد خاض الأشاعرة في النسخ، بذكر حقيقته ابتداءً؛ وذلك لإدراكهم أن مقصدهم في إبطال ما انتحله الخصم لا يتبين إلا بذكر حقيقة النسخ. و«النسخ في اللغة لفظ مشترك؛ فربما تَرِد والمراد بها الإزالة والتمحيق … وقد يُطلق النسخ ولا يراد به حقيقة الإزالة، ولكن يراد به النقل، وذلك نحو قولهم: نسخ فلان كتابًا».٢٨٨ وإذ تبدو دلالة معناه الأول؛ أي الإزالة — وهو «أظهر معانيه في اللغة»٢٨٩ — واضحة جلية، فإنَّ دلالة المعنى الثاني؛ أي النقل، تبقى في حاجة إلى إجلاء. فالنسخ، على معنى النقل، ينطوي على دلالة «الحفظ والإبقاء»؛ ذلك أن مَن ينسخ «كتابًا» أو «أثرًا» إنما يهدف إلى حفظه وإبقائه، لا مَحْقه وإفنائه. وهكذا فإن لفظ «النسخ» ينطوي — بحسب اللغة — على دلالتَين متناقضتَين تمامًا، أولاهما «المحق والإفناء»، والثانية هي «الحفظ والإبقاء». وبالرغم من أنه كان يمكن — بدءًا من هاتين الدلالتين المتناقضتين — تطوير تصور نظري، أو اصطلاحي للنسخ، ذي طبيعة جدلية؛ وأعني تصوره تأليفًا ينطوي في ذاته على «السلب والإيجاب» أو الإفناء والإبقاء في وحدة خلاقة، لا يكون «نسخ شريعة» فيها، إفناءً مطلقًا لها، بل إفناءً يُبقي منها على أكثر عناصرها حياةً. ولكن الأشاعرة — فيما يبدو — قد أخفقوا في بلوغ هذا التصور.٢٩٠ ذلك أنهم عجزوا عن تصور النسخ — في المصطلح — إفناءً وإبقاءً، في ذات الوقت، ولم يقدروا إلا على تصوُّره مَحْقًا وإفناءً، فقط. وذلك يرتبط — لا شك — بهيمنة «البنية»؛ حيث «الغياب الإنساني» أظهر «الاقتضاء الإلهي» — علة النسخ — متعلقًا «بذاته» فقط، دون أخذ لوضع «الآخر» التاريخي في الاعتبار. فبدا بذلك وكأن «النسخ» فعلٌ «صوري» ذو طبيعة واحدة، وليس فعلًا «متعينًا» مزدوج الدلالة.
فالنسخ — في المصطلح الأشعري — «هو الخطاب الدالُّ على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر، على وجهٍ لولاه لاستمرَّ الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق، «رفع حكم بعد ثبوته».»٢٩١ وهكذا لا بدَّ من حكم ثابت «يرفعه» حكم آخر، و«الرفع» هنا، رفع «صوري» محض — يُفني فقط ويُزيل — وليس رفعًا «هيجليًّا» يُفني ويُبقي في ذات الوقت. فإن «إبراهيم، ، مأمورٌ عندنا وعند أصحابنا «بالذبح» أولًا. ونُسخ ذلك عنه آخرًا، وعين المأمور به هو الذبح، ولم يكن أفعالًا تمتدُّ وتتعدد، حتى يُصرف «الأمر» إلى الشيء، والنسخ إلى غيره»؛٢٩٢ ومتى انصرف النسخ هكذا «إلى عين المأمور به، كان رفعًا للحكم على التحقيق»؛٢٩٣ أي محقًا وإفناءً فقط.
وعلى النقيض صار المعتزلة إلى «أنَّ حدَّ النسخ هو النص الدال على أن «مثل» الحكم الثابت بالنص المتقدم، زائلٌ على وجه لولاه لكان ثابتًا».٢٩٤ ويُستفاد من هذا التعريف أن ثمة ضربين من الأحكام في الشريعة — أي شريعة — أولاهما: «أحكام ثابتة قطعيًّا»، لا ينصرف إليها النسخ فيما يبدو، والأخرى: هي «مثل الأحكام الثابتة»؛ أي أحكام تماثل الأحكام الثابتة، ولكنها ليست كذلك في الجوهر، وتلك هي التي ينصرف إليها النسخ فيما يبدو. وإذن، فإن النسخ في الشرائع لا ينصرف إلى «عين» أحكامها الثابتة، بل إلى «مثل» أحكامها الثابتة. وإذا كان النسخ عند المعتزلة، لا ينصرف — تبعًا لذلك — إلى عين الحكم الثابت، فإنه «لا يرفع حكمًا ثابتًا، وإنما يبيِّن انتهاءَ مدة شريعة».٢٩٥ وهذا البيان لا يكون — بالطبع — بنفي عين أحكامها الثابتة، بل بنفي «مثل» أحكامها الثابتة. ومن هنا، فإن النسخ لا يكون «إفناءً» فقط، بل «إفناءً وإبقاءً» معًا. ولعل ذلك ما دفع الأشاعرة إلى القول بأن المعتزلة يردون النسخ إلى «تبيين معنى لفظ لم يُحط به أولًا، وتنزيل له (للنسخ) منزلةَ تخصيص صيغة عامة».٢٩٦ فإن «تخصيص صيغة عامة»، مثلًا، لا يعني «إفناءً» مطلقًا لكل ما تنطوي عليه عامة، بل يعني، بالأحرى، «نفيًا» للثانوي وغير الجوهري فيها من جهة، و«حفظًا» للخاص والجوهري فيها من جهة أخرى. وليس من شكٍّ في أنه لا يمكن فهم هذا الطابع «الجدلي» للنسخ عند المعتزلة — المفارق تمامًا للطابع «الصوري» للنسخ عند الأشاعرة — بعيدًا عن الحضور «الإنساني» الفعال في البناء الاعتزالي للعلم.
وعلى أيِّ حال، فإنه سواء كان النسخ ذا طابع «صوري» ينصرف إلى عين الحكم الثابت، أو طابع «جدلي» ينصرف إلى مثل الحكم الثابت، وسواء كان «رفعًا للحكم الثابت على التحقيق» — أي مَحقًا وإفناءً فقط — أو كان «تخصيصًا لصيغة عامة» — أي إفناءً وإبقاءً معًا — فإن النسخ، بالإجماع، جائز، ولعله يكون واجبًا عند المعتزلة. فالنسخ ليس مما يستحيل لنفسه؛ لأن «كل ما يستحيل لذاته يعلم استحالته عند تصور ذاته، والنسخ ليس كذلك»؛٢٩٧ إذ إن «تصويره (أو تصوره) ممكن، لا استحالةَ فيه».٢٩٨ وكذلك فإنه يستحيل صرفُ استحالته إلى غيره؛ أي إلى تأديه إلى مُحال إلهي مثلًا؛ «إذ ليس في تجويزه خروجُ صفة من صفات الإلهية عن حقيقتها؛ فإن الحكم ليس بصفة نفسية للفعل كما قدرناه، وليس في تقدير النسخ ما يُفضي إلى تغيُّر العلم والإرادة»؛٢٩٩ أي ليس فيه ما يُفضي إلى «محال إلهي» كما تصوَّره منكرو النسخ عقلًا. فقد صار منكرو النسخ إلى أن «الدليل على إحالة النسخ من جهة العقل أنه يوجب البداء «والجهل على الله»؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي كونه مصلحة، واعتقاد الآمر به كونه كذلك. والنهي عنه بعد الأمر به يدل على أنه قد بدا للآمر وانكشف له أن ما كان أمر به مفسدة، ليس بمصلحة، على ما توهمه. وذلك منتفٍ عن الله، جل ذكره».٣٠٠ وإذن، فإن «النسخ مُحال؛ لأنه يدل على الجهل أو البداء، وكلاهما مُحالٌ على الله تعالى».٣٠١ وبالرغم من أنه بدا للبعض من الأشاعرة — وكانوا في ذلك يأكلون على موائد المعتزلة ما يتعذَّر على مقتضى نَسقهم بَلْعُه — أنَّ الاحتكام إلى منطق المصلحة — مصلحة العباد — هو المخرج من المأزق؛ إذ «ربما حدثت مصلحةٌ لم تكن حاصلةً «من» قبل، فإن المصالح تختلف بحسب الأوقات؛ كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت. فربما كانت المصلحة في وقت «هي» ثبوت الحكم، لاشتماله فيه على ما يجب رعايته، وفي وقت آخر ارتفاعه (أي الحكم) لاشتماله فيه على مصلحة أخرى حادثة بعد زوال الأولى، أو مرجوحيتها مقيسة إلى الثانية، فلا يلزم ما ذكرتم من الجهل أو البداء».٣٠٢ وإذ يبدو ذلك — من حيث يفسح المجال لدَور إنساني فاعل في النسخ — غير متصوَّر على مقتضى النسق الأشعري، فإن ثمة من الأشاعرة — وهم الأصلاء حقًّا — مَن صار إلى أنه «لا يجب رعاية المصلحة في الأحكام عندنا، فلا يلزم اشتمال الحكم المنسوخ على مصلحة».٣٠٣ وعند هؤلاء، يستحيل القول بالبداء، لا بدءًا من مصلحة العباد، بل بدءًا من أنَّ «علم الباري سبحانه متعلق بالمعلومات على ما هي عليه، ولا يتجدد له علمٌ لم يكن».٣٠٤ وأما النسخ، فإنه لا يُعلل؛ إذ «إن الله تعالى يفعل ما يشاء، كيف يشاء، وعلى أي وجه شاء. وأن ذلك كله تصُّرف في مملكته لا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسألون. فإذا تقرَّر ما قلناه ثبت جواز النسخ لا محالة».٣٠٥ وهكذا عاد النسخ يجد تفسيره — أو بالأحرى عدم تفسيره — في دائرة إلهية مغلقة.
وأما الاحتجاج على منع النسخ عقلًا، بأنَّ «ما أوجبه الله تعالى، فقد أخبر عن كونه واجبًا؛ فلو حظره، وأخبر عنه كونه محظورًا، لانقلب الخبر الأول خُلفًا واقعًا على خلاف مُخبره، وذلك مستحيل»،٣٠٦ فإن الأشاعرة يؤكدون على زيف هذا الاحتجاج، من حيث يتقوم على تصوُّر «للحكم» صفة «ذاتية» للفعل. وليس ذلك صحيحًا على أصولهم؛ إذ «الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا»،٣٠٧ بل «الوجوب» — على أصلهم — مجردُ «خبر» عن الواجب. وعلى هذا، فإن «المعنى بكون الشيء واجبًا، أنه الذي قيل فيه «افعل»؛ فإذا أخبر الرب تعالى عن وجوب الشيء، فمعناه أنه أخبر عن الأمر به. فإذا نهى عنه، أخبر عن النهي عنه».٣٠٨ وإذ يكون «الوجوب» — على هذا النحو — «خبرًا»، لا «صفة ذاتية» للفعل، فإن ذلك يعني «حيادية» الفعل، وبالتالي إمكانية «اكتسابه» أي حكم تعلق به «الخبر»، دون أن يعني الأمر انقلابًا في طبيعة الفعل أو تناقضًا. ومن هنا فإنه «ليس بين الإخبار عن الأمر به (بالفعل) تحقيقًا، وبين الإخبار عن النهي تناقض، ولا يتصف واحد من الخبرَين بالخروج عن كونه صدقًا حقًّا».٣٠٩ إذ «الإخبار» هنا، لا يصدر عن «طبيعة ذاتية» للفعل — لا وجود لها عند الأشاعرة — بل عن «ذات» تفعل ما تشاء، كيف تشاء، وعلى أي وجه تشاء. وهكذا صار الأشاعرة إلى أن النسخ ليس مما يمتنع عقلًا، ابتداءً من «منع البداء» على الله أولًا، ثم إحالة «انقلاب الخبر»٣١٠ ثانيًا. وقد صاروا بعد ذلك إلى أنه «إذا ثبت جواز النسخ عقلًا، فليس تمنع منه دلالة سمعية».٣١١
فإن ثمة مَن صار — وهم فرقة من اليهود — إلى أن النسخ لا يجوز سمعًا، وإن جاز عقلًا. وعند هؤلاء، أن الخبر الموجب لمنع نسخ شريعة موسى «هو ما نقله اليهود خلفًا عن سلف عمن شاهد موسى منهم، أنه قال: «إن هذه الشريعة مؤبدة عليكم، ولازمة لكم، ما دامت السموات والأرض، لا نسخ لها ولا تبديل».»٣١٢ ولكن يبدو أن اليهود لم ينقلوا هذه الحجة خلفًا عن سلف عمن شاهد موسى، حقًّا، بل «تلقَّنوها من ابن الراوندي الملحد»،٣١٣ حيث «لا يوجد نصُّ هذا القول في أيٍّ من أسفار العهد العتيق».٣١٤ ومع ذلك، فإنهم أصروا على القول بتأبيد شريعتهم، لأن القول «إنه تعالى بيَّن في شرع موسى — عليه السلام — أنه ثابت إلى الوقت الفلاني (أي إنكار التأبيد)، كان هذا من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقله، فوجب أن ينقل ذلك التوقيت متواترًا؛ فالنقل المتواتر لا يجوز الإطباق على إخفائه، فكان يلزم أن يكون العلم بانتهاء شرع موسى عند مبعث عيسى، وانتهاء شرع عيسى عند مبعث محمد عليه الصلاة والسلام، معلومًا بالضرورة للخلق، وأن يكون المنكر له منكرًا للتواتر، وأن يكون ذلك من أقوى الدلائل لعيسى ومحمد على دعواهما، فلما لم يكن الأمر كذلك، علمنا فساد هذا القول».٣١٥ وإذ لا يجوز «التوقيت» — تبعًا لذلك — ليس إلا «التأبيد»؛ إذ «السكوت» عنهما معًا محالٌ كذلك.٣١٦ ويلزم عن هذا «التأبيد»، امتناع النسخ، لوجوه: ««أولًا»، فلأنه أخبر أن هذا الشرع ثابت أبدًا؛ فلو لم يبقَ ثابتًا أبدًا، كان كذبًا، وهو غير جائز على الله تعالى، وأما «ثانيًا» فلأنه لو جاز أن ينصَّ الله تعالى على أن شرع موسى — عليه السلام — ثابتٌ أبدًا، ثم أنه لا يبقى ثابتًا أبدًا، فلِمَ لا يجوز أن ينصَّ الله على شرع محمد عليه الصلاة والسلام أنه ثابت أبدًا، مع أنه لا يكون ثابتًا أبدًا؟! فيلزمكم تجویزُ نسخ شرعكم، وأما «ثالثًا» فلأنه لو جاز أن يُخبر الله عن التأبيد مع أن التأبيد لا يحصل، ارتفع الأمان عن كلامه ووعده ووعيده، وذلك باطل بالاتفاق».٣١٧ وإذن، فالنسخ يمتنع سمعًا، من حيث يتأدى إلى كل هذه المحاولات القاسية.
وبالرغم من أنه كان بمقدور المتكلمين نفي المشكلة، من أساسها، اعتمادًا على أن نص «التأبيد»، الذي اعتمد عليه اليهود في أفكار النسخ، لم يَرِد في أيٍّ من أسفار العهد القديم، فإنه يبدو وكأنهم قد تقبلوا النص، وناقشوا فقط مدى حجيته على مرمى اليهود. وهكذا صار الأشاعرة إلى أنه، ولو صح نص التأبيد، «فلا مانع من أن يكون ذلك مشروطًا بعدم ظهور نبي آخر، ويكون هو المراد باللفظ، ومع تصور هذا الاحتمال، فلا يقين».٣١٨ وإذن، فالمراد من نص التأبيد، لا التأبيد على الإطلاق، بل التأبيد فقط «ما لم يبعث الله نبيًّا تظهر الأعلام على يده يدعو إلى نسخها (الشريعة) وتبديلها».٣١٩ وأما إن أصرَّت جماعة اليهود على أن مراد النص، لا هذا التأبيد المشروط، بل التأبيد على الإطلاق؛ إذ «اليهود قد نقلت — وهم اليوم أهل تواتر — عن مثلهم عمَّن شاهد موسى أنه أكَّد هذا النفي للنسخ، وقرنه بما يدل على أنه أراد عموم الأزمان على جميع الأحوال، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها»،٣٢٠ فإن الأشاعرة يصيرون إلى أن «مراد النص» هكذا، غير معلوم بالاضطرار؛ «لأننا قد سمعنا الخبر كما سمعتم، وعرفناه، كما عرفتم؛ فلو كان فيه من التوقيف والتأكيد «على التأبيد المطلق» ما وصفتم — وقد نقله أهل الحجة — لعلمنا ذلك ضرورة، كما علمنا وجود موسى ضرورة … وفي رجوعنا إلى أنفسنا ووجودنا لها غير عالمة بذلك في جملة ولا في تفصيل — فضلًا عن أن تكون مضطرة — دليلٌ على كذبكم في هذه الدعوى».٣٢١
وإذ مضى اليهود إلى مزيد من الإصرار على أن مراد النص هو التأبيد المطلق، فقد بدا للأشاعرة أن لا سبيل لدحض ذلك، سوى إنكار «النص» بالكلية، فصاروا إلى أنَّ «ما يدلُّ على كذب هذه الدعوى أننا لا نعلم ضرورة أن موسى قال هذا القول جملة — أعني ما ادعوه عليه من قوله: «هذه الشريعة لازمة لكم، ما دامت السموات والأرض» — فضلًا عن أن نعلم مراده به؛ لأن العلم بمراده بالقول، إنما هو فرع للعلم بوجود القول. ونحن لا نعلم أنه قال هذا القول جملة، فكيف يُدَّعى علينا العلم بمراده فيه ضرورة».٣٢٢ وهكذا صار الأشاعرة من قَبول النص مع تأويله، أو إنكار مراده فقط، إلى إنكار النص بالكلية. ذلك أن «النص» ومراده أيضًا يتعارضان مع «واقعة»٣٢٣ ظهور عيسى ومحمد بالنبوة. ولا يستند الإنكار الأشعري «للنص» على «واقعة» ظهور نبوة لاحقة؛ أعني على النقد الخارجي، فقط، بل يقوم على ضرب من النقد الباطني أيضًا؛ ذلك «أن موسى عبرانيُّ اللسان، وأن ما نقلوه عنه ليس بصورة ما يُوردونه علينا من قولهم: إن الشريعة مؤبدة، وإنها لا نسخ لها، وإن العمل بها واجب ما دامت السموات والأرض، وأمثال ذلك. وإنما ينقلون كلام موسى ويترجمونه وينقلونه من لغة إلى لغة ويفسرونه … والغلط والتحريف يدخل في النقل كثيرًا. وهكذا يتأدَّى النقد «الخارجي» و«الباطني» إلى إنكار نص التأبيد كلية، أو على الأقل إلى التشكيك في صحته إلى أقصى درجة».
وقد مضى الأشاعرة إلى أن «النص» المنقول «عن موسى، عليه السلام، في هذا الباب — فيما يرى أكثر اليهود ممن لا يعتمد البهت في المناظرة والمدافعة — هو أنه قال: «إن أطعتموني فيما أمرتكم به، ونهيتكم عنه ثبت ملككم، كما ثبتت السموات والأرض».٣٢٤ وما ذكر النسخ، ولا أن الشريعة لا تُنسخ، ولا أنه لا نبي بعده ينسخها، ولا أنها مؤبدة عليكم، ولازمة لكم ما دامت السموات والأرض، ولا شيئًا من هذه الألفاظ، وكل ما يدعونه من هذه الألفاظ أباطيل، ومقايلات للنصارى والمسلمين واستعارة لكلامهم وألفاظهم».٣٢٥ وهكذا يستحيل ما يزعمه اليهود — بنص «منكور» أولًا، أو نص «مقبول» بعد ذلك — من التأبيد وعدم جواز النسخ.
ويبدو أن الأشاعرة قد أدركوا عدم كفاية نقد النصوص وتأويلها، فقط، في إنكار التأبيد وعدم جواز النسخ. إذ لا يفيد ذلك في مواجهة مَن يؤمن «بالنص» دون اعتبار لشهادة «النقد». وهكذا صاروا إلى التماس ثبات النسخ من «واقعة» تُثبته على وجه القطع. وهذا ما أدركوه «في ثبوت نقل المسلمين القرآن وغيره من الأعلام، وثبوت الإعجاز فيما نقلوه عن نبيِّهم — بالأدلة التي ذكرناها، والنقل الذي يحج مثله — دليل على كذب مدَّعي توقيف موسى عليه السلام، على ما قلتم «أي على التأبيد ومنع النسخ»».٣٢٦ وقد بدا للأشاعرة أنه يستحيل درْءُ هذه الحجة؛ لأنهم «إن أنكروا شيئًا منه لزمهم في شرع موسى «ومعجزته» لزومًا لا يجدون عنه محيصًا، وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب مَن نقل إليهم من موسى عليه السلام قوله إني خاتم الأنبياء».٣٢٧ وإذن، فقد لاح وكأن ثبات «النسخ» لا ينفصل عن ثبات «المعجزة»، فمضى الأشاعرة إلى تثبيتها.
فأما أن النبيَّ محمدًا قد أظهر معجزة تحدَّى بها، وأن مَن قصد تحدِّيَهم لم يقدروا على معارضته، فإن ذلك أجمع معلوم — عند الأشاعرة — بالاضطرار. فإن «إنكار ظهور القرآن على يده، واقترانه بدعوته، مما لا سبيل إليه، إلا في حق مَن رفع نقاب الحياء عن وجهه، وارتكب جحد الضرورة الحاصلة من أخبار التواتر بذلك؛ فإنه ما من عصر من الأعصار، ولا قطر من الأقطار، إلا والناس فيه بأسرهم مطبقون؛ الموافقون والمخالفون، على أن ذلك مما لم يظهر إلا على يده، ولا صدر إلا من جهته، واستقر ذلك في الأنفس، على نحو استقرار العلم بالملوك الماضية والأمم السالفة، والبلاد النائية، فمَن تفوَّه بإنكاره، فقد ظهرت مخازيه، وسقطَت مكالمته، وكان كمَن أنكر وجود مكة وبغداد … ونحو ذلك».٣٢٨ وأما «التحدي» به، فإن «هذا أيضًا معلوم على الضرورة»،٣٢٩ من حيث إنه قد «تواتر بحيث لم يبقَ فيه شبهة».٣٣٠ ذلك «أنا نعلم أنه — — تحدَّى العرب بأن تأتيَ بمثله في براعته وفصاحته وحسن تأليفه ونظمه وجزالته ورصانته وإيجازه واختصاره واشتمال اللفظ اليسير منه على المعاني الكثيرة. ودعاهم إلى ذلك وطالبهم به في أيام المواسم وغيرها مجتمعين ومتفرقين. وقال لهم في نص التلاوة: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء: ٨٨) يقول ممالئًا معينًا؛ وقال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ (هود: ١٣)؛ وقال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة: ٢٢) مبالغةً في تقريعهم بالعجز عنه، مع أن اللسان الذي نزل به لسانهم، ومع العلم بما هم عليه من عزة الأنفس، وعظم الأَنَفة وشدَّة الحمية والحرص على تكذيب الرسول».٣٣١ وأما أنه — بعد إظهار المعجزة والتحدي بها — «لم يُعارض، فلأنه لو عورض لتواتر؛ لأنه مما تتوفر الدواعي إلى نقله، سيما والخصوم أكثر عددًا من حصى البطحاء، وأحرص الناس على إشاعة ما يُبطل دعواه».٣٣٢ فلا يمكن أن يكون قد عُورض، وسُكت عن نقله؛ «إذ السكوت عن مثل هذا والتواطؤ على تركه مما تقضي «العادة» الجارية بإحالته».٣٣٣ وأما الاحتجاج بأنَّ خوف السيف هو المانع من إظهار المعارضة، فإنه غير جائز؛ إذ «الواجب بالنظر إلى العادات ومقتضى الطباع، هو النقل «والإظهار» لمثل ما هو من هذا القبيل، ولو على سبيل الإسرار، كما جرت به عادة الناس من التحدث بمساوئ ملوكهم وإظهار معايبهم وإن كان خوف السيف قائمًا في حقهم».٣٣٤ وأخيرًا، فإنه لا يمكن ردُّ ترك المعارضة إلى الإهمال وعدم الاكتراث؛ إذ «العرب في تحاورها وتفاوضها، كانت تتشمَّر لمعارضة الركيك من الشعر والرصين المتين منه. وباضطرار نعلم أن القرآن في اعتقادهم لم ينحطَّ عن شعر لشاعر ونثر لناثر، حتى يحملَهم الازدراء به على الانكفاف عن معارضته».٣٣٥ وإذن، فقد ثبتت المعجزة، والتحدي بها، والعجز عن معارضتها. وفي ثبوت ذلك، ثبوت صدق نبوة محمد وكذب من أنكرها. وإذ بدا للأشاعرة أنه «بمثل هذا الطريق» تثبت نبوات السابقين (موسى وعيسى) — وذلك من حيث يستند التصديق بها إلى مثل هذه المقدمات المشهورة التي «بعضها بالتواتر، وبعضها بجاري العادات»٣٣٦ — فإنهم صاروا إلى أن القدح في مثل هذا الطريق، فيما يتعلق بنبوة محمد ، ينعكس على القادحين، في نبواتهم أيضًا. ومن هنا، فإنه يمكن للنصراني أو اليهودي إنكار الطريق الذي منه تثبت نبوة محمد . إذ يمكن — آنئذٍ — أن يقابل بعيسى، «فينكر تحديه بالنبوة، أو استشهاده بإحياء الموتى، أو عدم المعارضة، أو يقال عورض ولم يظهر، وكل ذلك مجاحدات لا يقدر عليها المعترف بأصل النبوات».٣٣٧ وهكذا يتأدَّى إنكار نبوة محمد ، من أصحاب النبوات السابقة، إلى إنكار نبواتهم ذاتها. ولذا، فإنه لا وجه لإنكارها، استنادًا إلى منع النسخ «عقلًا أو سمعًا»، أو إنكار المعجزة والتحدي بها «تواترًا».
واللافت أن التحول الأشعري من «النسخ» إلى «المعجزة»، في تثبيت نبوة محمد إنما يتكشف بقوة عن هيمنة البنية الإطلاقية للنسق. فمن ناحية يتأكد المبدأ الأشعري في أن «لا دليل على صدق النبوة غير المعجزة»، على نحوٍ واقعيٍّ؛ وذلك في حين أن نبوة محمد يمكن أن تتقوم واقعيًّا بما «أحدثت»، لا بما «أعجزت». ومن ناحية أخرى، يعني هذا التحول ذاته تحولًا من «الإنساني» — حيث «النسخ» يمكن أن يكون عنوانًا على مصلحة إنسانية تقتضيه — إلى «الإلهي» — حيث «المعجزة» لا تنكشف أبدًا إلا عن فاعلية إلهية فقط في مقابل غياب إنساني عام — ولعله يؤكد ذلك، أن الأشاعرة — حتى فيما يتعلق بهذه المعجزة — قد تعلقوا فقط بالصوري والثانوي، وتركوا الحقيقي والجوهري. ذلك أن «المعجز» من القرآن، يقوم في «اللغة» وأسلوب النظم، وليس في «المضمون» بما ينطوي عليه من شمول في الرؤية والفهم.٣٣٨ فلربما بدا للأشاعرة — وهذا حق — أن تصوُّر المعجِز يقوم في «المضمون»، لا بد من أن يتكشف عن حضور إنساني يتعذَّر تصور المضمون دونه. وهذا ما يأباه النسق الأشعري مطلقًا.
وثمة — أخيرًا — بعضٌ من المسائل الفرعية، خاض فيها الأشاعرة؛ كعصمة الأنبياء، وتفضيلهم على الملائكة، والتفاضل فيما بينهم، وهي مسائل تتجلَّى، بدورها، عن «البنية» المهيمنة على النسق بأسره. فقد أجمع الأشاعرة على «عصمة الأنبياء عن الكبائر مطلقًا».٣٣٩ وقد لا يكون من خلاف حول ذلك، «وإنما الخلاف في أن امتناعه (أي الكبائر) بدليل السمع أو العقل».٣٤٠ فبينما صار المعتزلة إلى التماس مبرر هذه العصمة فيما هو «إنساني»؛ وذلك من حيث إن «صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط هيبتهم عن القلوب، وانحطاط رتبتهم في أعين الناس، فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم، ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم، وهو خلاف مقتضى العقل والحكمة»،٣٤١ فإن الأشاعرة قد صاروا — كعهدهم دائمًا — إلى التماس مبرر هذه العصمة فيما هو «إلهي»، إذ يبدو العقل٣٤٢ أعجز من أن يُمنطق العصمة ضمن شروط إنسانية. وعلى هذا، فإن «المحققين من الأشاعرة علموا أن ذلك مستفاد من السمع (أساسًا) والإجماع».٣٤٣ وهكذا تتكشف العصمة عن بنية النسق؛ أعني عن حضور «الإلهي» مطلقًا، وغياب «الإنساني» تمامًا.٣٤٤
وأما ما صار إليه الأشاعرة من «تفضيل الأنبياء على الملائكة»،٣٤٥ فإنه يُعَد نموذجًا مثاليًّا لضرب من الوعي الزائف الذي انتهى إليه — لا جدال — البناء الأشعري للعالم، غائبًا عن الإنسان، أو مُغيَّبًا عنه بالأحرى. وقد مضى الأشاعرة، كذلك، إلى «تفضيل نبينا على سائر الأنبياء»،٣٤٦ ويدل على ذلك النقل والعقل. ﻓ «أما النقل: فهو أنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»،٣٤٧ أمره أن يقتديَ بهم بأسرهم … وإذا أتى ما أتَوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم. وأما العقل … فهو أن انتفاع أهل الدنيا بدعوة محمد أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء عليهم السلام، فوجب أن يكون محمد أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام. والحق أن هذا الاحتجاج الأشعري يتكشف عن حسٍّ لا تاريخي ولا منطقي كذلك. فمن ناحية، لن يكون الأنبياء — حسب هذا الفهم — أكثر من مجرد حاملي صفات وخصال — لا حاملي رسالات اقتضاها الوضع التاريخي للبشر كما هي — لم توجد إلا لتجتمع في النبي الخاتم ليفضلَهم بها بعد ذلك. وذلك في حين يقتضي الفهم التاريخي إدراك أن: «كلَّ نبي يؤدي دَوره في مرحلة «ما»، والكل على مستوى واحد من الأداء من حيث الأمانة والصدق والتبليغ. «ومن هنا» فإنه لا يوجد تفاضل بين الأنبياء».٣٤٨ ومن ناحية أخرى، فإن كون نبوة محمد هي نبوة الاكتمال، لا يتأدَّى بالضرورة، إلى أنها «الأفضل». إذ الاكتمال هنا ليس — كاكتمال المطلق — «مستغنيًا» عن عناصرَ سبقَته، بل إنه «محتاج» إليها، حتى إنه لا يُدرك دونها. فالحق أن نبوة محمد في حاجة إلى ما سبقها من نبوات لتجدَ «مبررها». وبذات القدر، فإن ما سبقها من نبوات في حاجة إليها ليجد «غايته». وبالطبع فإنه يستحيل، منطقيًّا، في إطار هذا الاحتياج المتبادل تصوُّر أفضلية عنصر على الآخر، إضافةً إلى أن تصور «الأعلى» منطويًا على «الأدنى» يستحيل كذلك منطقيًّا في غياب تصور «للأدنى» منطويًا على «الأعلى». والحق أنه، ما كان الأشاعرة ليتأدوا إلى كلا المأزقين لولا أنهم أدركوا النبوة في «المطلق»، لا في «التاريخي»؛ أعني لولا أن النبوة — تبعًا للأشاعرة — تكون «اقتضاءً إلهيًّا» فقط، وليست «مطلبًا إنسانيًّا» أيضًا.
واللافت، على أيِّ حال، أنَّ النبوة — إمكانًا نظريًّا أو تحققًا فعليًّا — تتكشف عن ذات البنية المهيمنة على النسق الأشعري بأسره. فقد لاح — أولًا — أن ثمة بنية محددة، تتجلَّى — صراحةً أو ضمنًا — في كافة عناصر البحث الأشعري؛ حتى لقد انتظمت هذه العناصر — جميعًا — في نسق واحد. ومن هنا، فإن على مَن يحرمون «العلم» — علم الكلام — من الانتساب إلى الفلسفة الحقَّة استنادًا إلى لا نسقيته وتناثر مباحثه، أن يبحثوا عن نقائص أخرى يردون إليها هذا الحرمان. إذ الحق أنه يمكن — بل ينبغي — اعتبار «العلم» جزءًا من الفلسفة الحقَّة، استنادًا إلى هذه النسقية (Systematic) التي تُعَد — فيما يرى البعض — شرطًا لكل فلسفة حقة. وأما «الحدس» أو البنية التي تنتظم هذا النسق، فإنها تتكشف — عند الأشاعرة — عن أحادية الحضور الإلهي ومطلقيته من جهة، وغياب ما دونه تمامًا من جهة أخرى. فهي بنية تَعارُض واختلاف، وليس اختلافًا ووحدة في آنٍ معًا. فإنها تقوم على أنه لا يمكن تصور الله «إيجابيًّا» على الحقيقة، إلا في عالم يوصف على — الحقيقة — «بالسلبية» المطلقة، ولا بأس من أن يبدوَ — على المجاز — غير ذلك. ومع ذلك، فإن الطالع الحسن — فيما يبدو — تأدَّى غير مرة إلى أنه يستحيل، مع تصور العالم على هذه السلبية المطلقة، تصور الله إيجابيًّا على الحقيقة. فبدا وكأنَّ إيجابية الله تثبت — على الأكثر — بإيجابية العالم لا سلبيته. ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك إخفاق البنية الأشعرية داخل حدود النسق الخاصة؛ فإن سلامة «البنية» ترتبط بقدرتها على تفسير معظم — إن لم يكن كل — العناصر المؤلِّفة للنسق من ناحية، وأيضًا بقدرتها على تكييف المتغايرات التي تبدو متعارضةً — داخل النسق — لأول وهلة، وهذا ما حققَته البنية الأشعرية بالفعل. وأما «النقد» فإنه ينصبُّ على «مضمون» البنية، وليس على مدى دلالتها أو تأديتها لوظيفتها داخل النسق.
وأخيرًا، فإن تصور «الفرق الإسلامية كانت أحزابًا سياسية تحتوي قوى اجتماعية تشكَّلت وفقًا لطبيعة الأوضاع الاقتصادية»،٣٤٩ يتأدَّى إلى إمكانية تصوُّر «البنية»، لا كتجريد مطلق، أو كمبدأ مستقل عمَّا عداه مكتفٍ بنفسه، بل بوصفها تعبيرًا عن رؤية فرقة ما للعالم، مشروطة بوضعها التاريخي والاجتماعي. فالبنية — المعنية — ليست نظامًا شكليًّا، منغلقًا على ذاته، ولا يتَّصل بأيِّ شيء خارجه، بل نتاجٌ لضربٍ من «الوعي الجماعي» بالعالم في لحظة ما؛ أي إن البنية ليست «معطًى» قَبْلِيًّا، بل «تكوين» تاريخي. وذلك ينطوي على تصور للبنية مفتوحة ومتحركة، بمعنى قدرة البنية على استيعاب أي تحولات أو تحورات تطرأ على وعي الجماعة بالعالم. وبالرغم من كون البنية نتاجًا لضرب من «الوعي الجماعي»، فإنها لا تمثِّل كيانًا أنطولوجيًّا قائمًا في الفراغ منعزلًا، بل تمثِّل كيانًا قارًّا في الوعي الفردي. ومن هنا تأتي القدرة على التعبير عنها في إبداعات الأفراد الثقافية؛ هذا التعبير الذي قد يتحقق على نحو «تصوري» في أعمال المفكرين والفلاسفة، أو على نحوٍ «خيالي» في أعمال الشعراء والأدباء. ومن هنا، فإن التعبير «التصوري» عن «البنية الإطلاقية» في إبداعات متكلمي الأشاعرة، يتوازى — دون شك — مع ضربٍ من التعبير «الخيالي» عن ذات البنية في إبداعات أدباء وشعراء معاصرين، بل ويمكن القول بأنه يتوازى مع إبداعات فقهاء ومفسرين للقرآن ومؤرخين … إلخ.
وبالرغم من ندرة البحوث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للفِرَق الكلامية، فإنه يمكن الاطمئنان إلى أن بنيات أنساقها النظرية تمثل — إلى حد كبير — تعبيرًا عن «رؤية للعالم» محددة ومشروطة تاريخيًّا واجتماعيًّا.٣٥٠ وترتبط صياغة هذه البنيات بأداء دور «وظيفي»، يتمثل في تجاوز «إشكالية» ما، تُواجه كلَّ فرقة. ومن هنا، فإن البنية «الإطلاقية» للنسق الأشعري إنما تعدُّ نتاجَ مرحلة تاريخية ووضع اجتماعي محدد؛ وليست نتاجَ ضربٍ من التأمل الخالص في المطلق. ومن جهة أخرى، فإنها تقصد — وظيفيًّا — إلى تدعيم الأساس الأيديولوجي لدولة لم تدرك وجودها — ناهيك عن قوَّتها — إلا في تغييب الإنسان تمامًا، وإفراد القدرة للمطلق، إلهًا أو حاكمًا، فقط. ولعلَّ في التاريخ السياسي للأشاعرة مصداقَ ذلك؛ إذ ظلَّ الأشاعرة — في الأغلب — مفكري السلطة؛ أي سلطة بالطبع. ويبقى الأهم، متمثلًا في أن كون «البنية» تُعَد تعبيرًا عن وضعٍ تاريخيٍّ وأداءً لدور وظيفي؛ إنما يعني كونها قابلةً للتجاوز، وذلك باعتبار أن «أصلها» و«قصدها» لا يقبلان التجاوز فقط، بل لعلهما يستدعيانه. وهذا يعني أن تجاوز النسق الأشعري ليس ممكنًا فقط، بل واجبًا.
١  نقلًا عن: حسن حنفي، قضايا معاصرة، ج٢، دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٧٠.
٢  هكذا كان المصير الدائم للإسلام، حين يتحول — في التاريخ — إلى أبنية إنسانية، سياسية أو حضارية شاملة. فإنه إذا كان الإسلام «الحضارة» يمثِّل تراجعًا عن الإسلام «الدين»، من حيث إن مركزيته الدينية لم تتأدَّ إلى مركزية حضارية مماثلة، فإن الإسلام (السلطة السياسية) يمثِّل أيضًا تراجعًا عن الإسلام «الدين»؛ من حيث إن تسامحه الديني لم يتأدَّ إلى تسامح سياسي. وهكذا يبقى مأزق الإسلام ماثلًا أبدًا في «التاريخي» لا في «الديني».
٣  من هنا يأتي ذكر الأشاعرة قبل المعتزلة في تحدٍّ صارخ للبناء التاريخي للعلم؛ إذ تفرض الضرورة التاريخية ذكْرَ المعتزلة قبل الأشاعرة؛ حيث تأسَّس الاعتزال واستقرت مدارسُه قبل ولادة الأشعري نفسه. وبهذا يكون خطُّ التطور التاريخي للعلم تراجعًا من «العقلي والإنساني» — المعتزلة — إلى «اللاعقلي واللإنساني» — الأشاعرة. وليس من شكٍّ في أن الضرورة الحضارية الراهنة تفرض بناءً مضادًّا يكون فيه التطور صعدًا من «اللاعقلي واللإنساني» — الأشاعرة — إلى «العقلي والإنساني» — المعتزلة. وهذا أمر مشروع تمامًا؛ لأن الشاغل هو صياغة تستهدف بناء «الحاضر والمستقبل»، ولو بمعارضة ما هو تاريخي أحيانًا.
٤  يتأكد ذلك من أن تطور العقل الأوروبي منذ هيراقليطس إلى اليوم، ينتظمه ثابتٌ بنيوي واحد، قوامُه تمحور العلاقات في بنية هذا العقل حول محور واحد، قطباه: العقل (الإنسان) والطبيعة. أما «الله» فإنه — رغم كونه الضلعَ الثالث — لا يشكِّل طرفًا مستقلًّا بنفسه عن الطبيعة والإنسان؛ بمعنى أنه إما أن يكون ملتصقًا بالطبيعة — بوصفه قوةً منظمة تتدخل لإضفاء النظام والتمييز على الموجودات — في مواجهة الإنسان، أو ملتصقًا بالإنسان — كما أظهر اللاهوت المسيحي — في مواجهة الطبيعة، حيث بدَا تجسُّد الله في المسيح على أنه جمعٌ لله والإنسان في قطب والطبيعة في قطب مقابل. انظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص٢٧-٢٨.
أما «العقل العربي»، فإن «العلاقات داخله تتمحور حول ثلاثة أقطاب: الله، الإنسان، الطبيعة. وإذا أردنا تكثيفَ هذه العلاقة حول قطبَين اثنين فقط، كما فعلنا بالنسبة للعقل اليوناني-الأوروبي، وجب أن نضعَ في أحدهما «الله» وفي الآخر «الإنسان». أما الطبيعة فلا بد من تسجيل غيابها النسبي، بنفس الدرجة التي سجَّلنا بها غياب الله في بنية العقل اليوناني الأوروبي، فإن «فكرة الله» تقوم في العقل اليوناني-الأوروبي بدور «المُعين» للعقل البشري على اكتشاف نظام الطبيعة واكتناه أسرارها. أما في العقل العربي، كما تشكل داخل الثقافة العربية الإسلامية، فالطبيعة هي التي تقوم بدور «المعين» للعقل البشري على اكتشاف الله وتبيُّن حقيقته. هنا في الثقافة العربية الإسلامية يُطلب إلى العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها: الله. وهناك في الثقافة اليونانية-الأوروبية يتخذ العقل من «الله» وسيلةً لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامنًا لصحة فهمه لها.» انظر: المصدر السابق، ص٢٩.
ولكن يبدو أن هذا التصور لبنية العقل العربي يصدق على نحوٍ نسبي غير مطلق، أعني أنه يصدق، فقط، على العقل العربي، كما تشكَّل داخل الإطار الثقافي الأشعري؛ حيث لا يملك المرء أن يسجل غياب «الطبيعة أو العالم» فقط، بل وكذلك «الإنسان» الذي أصبح — يكون مجردَ ميدان لظهور الفعل الإلهي من خلال «الكسب الأشعري»، الشهير — شيئًا — يخلو من الفاعلية — كالطبيعة تمامًا. وهكذا انتفى مفهوم «الحد» بين دوائر الوجود الثلاث، وبات الشكل الممكن «للعلاقة» فيما بينها هو السيادة المطلقة ﻟ «الله» على كلٍّ من «الطبيعة والإنسان». والحق أنه لو قدِّر للعقل العربي أن يتشكَّل داخل الإطار الثقافي المعتزلي، لاختلف الأمر تمامًا. فقد اتَّسمَت «الطبيعة أو العالم» — عند المعتزلة — بضربٍ من الاستقلال النسبي، أصبحَا معه ميدانًا ﻟ «التفهُّم الموضوعي» لا «للتجلِّي الإلهي». ومن ناحية أخرى، تحصَّن «الإنسان» خلف حريته، التي أحرزها بفاعليته في مواجهة «الطبيعة» حين جعلها مجالًا لفهمه وعمله. وقد بدَا أحيانًا أن قدرة «الله» وفاعليته تتضاءل بإزاء هذه الفاعلية الإنسانية، وخاصة عند النظَّام. وهكذا بلور المعتزلة مفهومًا ﻟ «الحدِّ والعلاقة» بين دوائر الوجود، فيه، كانت كل دائرة من الدوائر الثلاث تتحدد أو تكتسب هُويَّتَها الحقة من خلال علاقتها بالدائرتَين الأخريَين فقط، وفي هذا الإطار يمكن أن يلتمس الذهن ثابتًا بنيويًّا أصيلًا يمكن أن ينتظم «العقل العربي» في مرحلته الراهنة.
٥  يتباين مفهوم «العلاقة» تبعًا لتباين المجال المنطقي المتداول فيه؛ ففي إطار «المنطق الصوري» لا يكتسي مفهومُ «العلاقة» أيَّ معنًى أو دلالة جوهرية. إذ يكون الجوهر — أساس كل علاقة — مفارقًا لسائر المقولات والأعراض، التي لا توجد إلا بوصفها كيفيات له. ولهذا، فإن العلاقة الممكنة بين الجوهر والمقولات هي «سيادة الجوهر» واستيلاؤه على سائر المقولات. أما في إطار «المنطق الجدلي» فإن الأعراض تغدو تعيُّنات للجوهر، أو صورًا للوجود يُخرجها الجوهر من نفسه. والحق أنَّ الجوهر، وإن كان يضع نفسَه على أنه عرَض، إلَّا أنَّ ما يضعه حقًّا هو جوهر آخر؛ لأنَّ ما يُخرجه من داخله هو ذاته. وهكذا أصبح ما يضعه الجوهر على أنه عرض، جوهرًا آخر. انظر: ولتر ستيس، فلسفة هيجل. وهنا تغدو العلاقة الممكنة هي علاقة «التفاعل» بين «جوهرين» يتحدَّد كلٌّ منهما بالآخر. وقد كان طبيعيًّا أن تتبلور كافةُ الأنساق المتسلطة — حضاريًّا ودينيًّا — بدءًا من الفهم الصوري للعلاقة بين دوائر الوجود الثلاث، في حين تبلورت الأنساق المتسامحة بدءًا من الفهم الجدلي ﻟ «العلاقة».
٦  بالرغم من أن الأشاعرة قد اهتموا، خاصة، بإبراز سيادة «المطلق الإلهي» الذي ينهار بإزائه كلٌّ من الوجود الموضوعي للعالم والوجود الفاعل للإنسان، فإن ذلك قد تأدَّى بهم — ولو من غير وعي — إلى تأكيد سيادة «المطلق السياسي» في عالم لم يَعُد فيه الوجود الحق إلا ﻟ «مطلق» هو إله أو حاكم. ولهذا ظلت الأشعرية — منذ النشأة — هي مذهب السلطة الأثير.
٧  هكذا قال الله في الحديث القدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا، فأردت أن أُعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني (أو عُرِفت).» ويبدو أنه لم يكن مخفيًّا عن غيره فقط، بل عن ذاته أيضًا. فإن أحدًا لم يكن هناك آنئذٍ ليكون «الله» مخفيًّا عنه. ولهذا فإنه خفاء عن «ذات» أدركت — منذ الأزل — ضرورةَ الآخر لبيان حضورها الخلَّاق، وليس خفاءً عن «آخر» لا وجود له. وهكذا فلعل «الله» لم يُرِد — فقط — أن يُعرف من الآخر، بل — بالأحرى — أن يتعرف ذاته الحقة عبر الآخر.
٨  زكريا إبراهيم، مشكلة البنية، سبق ذكره، ص٣٣.
٩  لا يعني ذلك أبدًا أن البنية كيانٌ قبليٌّ (a priori)، سابق على عناصر النسق. إذ إن «العناصر» تحقِّق البنية بالقدْر الذي به تحقِّق «البنية» العناصرَ ذاتها. وعلى هذا فإن الجدلية (Dialectism)، وليست القبلية (a priorism)، هي مضمون العلاقة بين البنية وعناصرها.
١٠  «الفهم» عبارة عن عملية عقلية تقوم على أدقِّ وصفٍ ممكن لبنية دالَّة لمسألة ما (كالذات والصفات مثلًا)، في حين يهدف «التفسير» إلى إدماج هذه البنية — كعنصر مكون — في بنية شاملة. لمزيد من التفصيل انظر: لوسيان جولدمان، علم اجتماع الآداب، ترجمة جابر عصفور، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الثاني، يناير١٩٨١م، ص١٠٤-١٠٥.
١١  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص٣٧.
١٢  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص٩٩.
١٣  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص٧٠.
١٤  الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج١، ص١٢٨، نقلًا عن: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي، ج١، سبق ذكره، ص٤٣١. ويبدو أن «قياس الغائب على الشاهد» هو مستند الصفاتية الجوهري في إثبات الصفات، فإنه «إذا ثبت أن كونَ العالم عالمًا شاهد (أي في الشاهد) معلل بالعلم، لزم كون الغائب العالم عالمًا معللًا بالعلم أيضًا … وعلى هذا الأساس أثبت الصفاتية للغائب الإرادةَ والكلام وغيرها من الصفات.» انظر: الجويني، البرهان، ج٢، القسم الثالث، الباب الأول، المسألة الأولى، نقلًا عن: علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار المعارف بمصر، ط٤، ١٩٧٨م، ص١٠٨.
١٥  الجويني، البرهان، نقلًا عن النشار، ص١٠٨.
١٦  الباقلاني، التمهيد، سبق ذكره، ص٢١٣.
١٧  المصدر السابق، ص٢١٤.
١٨  وبذلك تكون الأقرب إلى «المثل الأفلاطونية».
١٩  الباقلاني، التمهيد، سبق ذكره، ص٣٥.
٢٠  المصدر السابق، ص٢١٣.
٢١  وذلك إلا أن يقال إن الذات، في الأزل، تَصِف نفسَها لنفسها. ولكن ذلك يتعارض — فيما يبدو — مع ما تُقرره هذه الذات نفسها من أنها كانت، في الأزل، كنزًا مخفيًّا، فخلقت الخلق لتُعرف. ومن جهة أخرى فإنه إذا كان «ابن عباد المعتزلي» قد ذهب، خوفًا من القول بالشرك، إلى أنه «لا يقال إن الله «في الأزل» يعلم نفسه لأنه قد يؤدي إلى تمايز العالم والمعلوم.» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، سبق ذكره، ج١، ص٦٨. فكذلك لا يقال: يصف الله نفسه في الأزل؛ لأنه قد يؤدي إلى تمايز الواصف والموصوف.
٢٢  ابن رشد، ضميمة لمسألة العلم القديم (بذيل فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، دار العلم للجميع، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٣٥م، ص٣٧.
٢٣  المصدر السابق، ص٣٧.
٢٤  المصدر السابق، ص٣٧.
٢٥  ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، دار العلم للجميع، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٣٥م، ص٧٧-٧٨.
٢٦  الشهرستاني، الملل والنحل، سبق ذكره، ج١، ص٨٧.
٢٧  المصدر السابق، ص٨٧. ويبدو أن حرص «الجهم» على ألَّا يتأدَّى تصوره لحدوث العلم إلى أن تكون الذات محلًّا للحوادث أو التغير هو الذي دفعه إلى القول بأن العلم حادثٌ في لا محل. انظر: المصدر السابق، ص٨٧. ولكن يبقى — وهو الأهم — أن العلم لم يَعُد طبقًا للجهم كيانًا أولانيًّا، بل تكوينًا حادثًا يتجدد دائمًا بتجدد الحوادث. وإذ يرتبط العلم بالحوادث على هذا النحو، فإن ذلك يقلِّل من طابعه المطلق إلى حدٍّ كبير.
٢٨  الأشعري، مقالات الإسلاميين، سبق ذكره، ج١، ص٢٢٣.
٢٩  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، سبق ذكره، ج٢، ص١٤٧.
٣٠  وقد أدرك «عمر الخيام» ما ينطوي عليه هذا التصور من مأزق يتمثل في التناقض بين العلم الأزلي بأفعال العباد (وخاصة إذ يكون العلم علة لها) من جهة، وبين التكليف والثواب والعقاب من جهة أخرى، فأنشد يقول:
علم الله قبل خلقي
أني أشرب الخمرة ثم لا أتخلَّى
فإذا ما منعت نفسي عنها
كان علم الله من قبل جهلا
٣١  الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج١، ص٢٢٣.
٣٢  الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج١، ص١٠٨.
٣٣  المصدر السابق، ج١، ص٢٢٣.
٣٤  حسن حنفي، دراسات إسلامية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨١م، ص٥١.
٣٥  يبدو — طبقًا لذلك — أن تعديًا على «العالم» أو «الإنسان» يتأدى — ولا شك — إلى ضرب من التعدي على «الله» ذاته، مما يجعل من التفريط في «العالم» تفريطًا في «الله»، ويجعل من سحق «الإنسان» سحقًا ﻟ «الله».
٣٦  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٨٥.
٣٧  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص٤٣.
٣٨  المصدر السابق، ص٤٣.
٣٩  المصدر السابق، ص٤٧.
٤٠  الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، ص١٩٤.
٤١  وذلك في حين كان «تقييد قدرة الله المطلقة» بالعدل هو جوهر ما انتهى إليه المعتزلة. انظر: دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٩٣٨م، ص٥٣.
٤٢  فإن الأشاعرة، وقد أدركوا أن «في المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع لطلبات الشرائع». انظر الجويني، العقيدة النظامية، سبق ذكره، ص٤٤، التمسوا قدرًا من التأثير — بالغ الضآلة — لقدرة العبد في فعله، وهكذا بدأ الأشعري يبسط نظرية في «الكسب» تأدَّى منها إلى أن الله تعالى هو خالق الأفعال جميعًا، وأن العباد «كاسبون» لها بقدرة حادثة مخلوقة لهم. «إن الله — فيما يرى الأشعري — أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعلَ الحاصل إذا أراده العبد وتجرَّد له. ويسمى هذا الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد «بقدرة مخلوقة من الله كذلك».» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، ص٩٧. وبالرغم من كل ضروب التعديل والتطوير التي طالت تلك النظرية لتغدوَ أكثر قبولًا، فإنها ظلت تنطوي على صعوبات حادة جعلَتها أقرب إلى «الجبر». من هذه الصعوبات: أن أفعال العباد تبقى — على الدوام — مخلوقة من الله، ومنها أن قدرة العبد — حتى وإن تجاوز المرء عن كونها مخلوقة من الله — ليست إلا قدرة على الفعل دون الترك … فإن القدرة ليست جوهرًا أصيلًا في الإنسان، بل مجرد عرَض يلحق به، ولأن العرَض — طبقًا للأشاعرة — لا يبقى زمانَين، فإن القدرة — بدورها — لا تبقى، بل تزول بزوال الفعل الذي تصاحبه. انظر: الجويني، الإرشاد، ص٢١٧-٢١٨. وهكذا تبقى قدرة الإنسان عرَضًا زائلًا في مواجهة قدرة مطلقة تتجاوز كلَّ حد. والحق أن خطورة هذا التصور تبدو — كأجلى ما يكون — في حال تجاوزه نطاق «العقيدة الدينية» إلى نطاق «الأيديولوجيا السياسية».
٤٣  أدرك المعتزلة — على النقيض — أن فعالية القدرة الإلهية لا تتبدَّى على نحوٍ معقول، إلا في ظلِّ حضور نسبي للقدرة الإنسانية. ولذلك اشترطوا في التكليف — وهو أحد مظاهر تحقُّق القدرة الإلهية في المجال الإنساني — «وجوب كون المكلَّف قادرًا قبل الوقت الذي كُلِّف الفعل فيه ليصح منه إيجاد الفعل على الوجه الذي قد كُلِّف». انظر: القاضي عبد الجبار، المغني، ج١١، «كتاب التكليف». تحقيق محمد علي النجار «وآخر»، ص٣٦٧ وما بعدها.
٤٤  ولقد كان يمكن للأشاعرة أن يكشفوا — وهذا ما فعله المعتزلة جزئيًّا، على الأقل — عن الصلة الوثيقة بين القانون الأخلاقي بوصفه «معطًى إلهيًّا» وبين القانون الأخلاقي بوصفه «تكوينًا إنسانيًّا»؛ وذلك باعتبار أنه إذا كان ثمة قانونٌ أخلاقي معطًى من الله، فإن الله نفسه قد بثَّ في كل نفس قبسًا أو صدًى من هذا القانون المعطى. وعلى هذا فإن الإصغاء لصوت الضمير أو العقل يؤدي إلى كشف نفس الأوامر المعطاة من الله عبر الوحي، ولكن الأشاعرة — وفاءً لهيمنة القدرة المطلقة — لم يتبيَّنوا من الأخلاق إلا قانونًا واجب الطاعة والإذعان، معطًى من الله. ولربما كان في ذلك تفسيرٌ لكون الأخلاق قد ارتبطت — في وعينا المعاصر — بالخضوع والطاعة العمياء، لا بالتبصر والالتزام الواعي.
٤٥  الباقلاني، التمهيد، سبق ذكره، ص١٠٥.
٤٦  وفي هذا يذكر الشهرستاني أننا «لو قدرنا إنسانًا خُلق تام الفطرة، كامل العقل دفعة واحدة من غير أن يتخلق بأخلاق قوم، ولا تأدَّب بآداب الأبوين، ولا تزيَّا بزيِّ الشرع، ولا تعلَّم من معلِّم، ثم عُرض عليه أمران: أحدهما … أن الاثنين أكثر من الواحد، والثاني أن الكذب قبيح … فلا شك أنه لا يتوقف في الأول، بينما يتوقف في الثاني.» انظر الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٣٥٢.
٤٧  الباقلاني، التمهيد، ص١٠٥.
٤٨  الجويني، الإرشاد، ص٢٥٨.
٤٩  الباقلاني، التمهيد، ص١١٤.
٥٠  الجويني، الإرشاد، ص٨.
٥١  وقد بدا للمعتزلة أن إيجاب السمع هو الذي يقتضي ثبوت النظر، لا العكس. يقول المعتزلة، والخطاب للأشاعرة: «إذا نفيتم مدرك وجوب النظر عقلًا، ففي مصيركم إلى ذلك إبطال تحدِّي الأنبياء عليهم السلام، وانخسام سبيل الاحتجاج؛ فإنهم إذا دعَوا الخلق إلى ما ظهر من أمرهم، واستدعَوا منهم النظر فيما أبدَوه من المعجزات، وخُصِّصوا به من الآيات، فيقال لهم: لا يجب النظر إلا بشرع مستقر وتكليف ثابت مستمر، ولم يثبت بعدُ عندنا شرعٌ نتلقَّى منه الواجبات.» انظر: الجويني، الإرشاد، ص٩.
٥٢  المصدر السابق، ص١٠.
٥٣  الباقلاني، التمهيد، ص١٢٧.
٥٤  الباقلاني، التمهيد، ص١٢٩.
٥٥  الجويني، الإرشاد، ص٣٦٧.
٥٦  المصدر السابق، ص٣٦٧.
٥٧  الباقلاني، التمهيد، ص٣٣٠.
٥٨  ويبدو أن إضفاء الأشاعرة هذا الطابع الميتافيزيقي الغيبي على قضية «الأسعار» قد انعكس عن تبرير مكشوف — على الصعيد الاجتماعي — لكل نزعة احتكارية أو استغلالية تجني أقصى الفائدة من إلقاء أمر الأسعار في براثنِ قُوًى مجهولة لا سبيل إلى سيطرة الإنسان عليها.
٥٩  الجويني، الإرشاد، ص٣٦٢.
٦٠  يحيى بن الحسين، الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية، منشور ضمن «رسائل العدل والتوحيد»، ج٢، سبق ذكره، ص١٦٢.
٦١  المصدر السابق، ص١٦٣.
٦٢  المصدر السابق، ص١٦٦.
٦٣  البغدادي، أصول الدين، سبق ذكره، ص١٤٤.
٦٤  المصدر السابق، ص١٤٤.
٦٥  يحيى بن الحسين، الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية، سبق ذكره، ص١٧٢.
٦٦  المصدر السابق، ص١٧٠.
٦٧  كمال الدين أحمد الحنفي، إشارات المرام من عبادات الإمام، تحقيق: يوسف عبد الرازق، طبعة الحلبي، مصر، ط١، ١٩٤٩م، ص١٣٣.
٦٨  المصدر السابق، ص١٣٣.
٦٩  دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، سبق ذكره، ص٦٨.
٧٠  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص٢٩.
٧١  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج١، سبق ذكره، ص٤٧٣.
٧٢  المصدر السابق، ص٤٧٧.
٧٣  البغدادي، الفرق بين الفرق، ص٣١٦.
٧٤  والحق أن التصور الأشعري للطبيعة يبدو متسقًا وتصور الطبيعة قديمًا. فقد كان لزامًا على التصور القديم للطبيعة أن يتلاءم، دومًا، مع الأصول الميتافيزيقية للنسق الذي تُفهم الطبيعة في إطاره. ومن هنا تباين فهم الطبيعة بحسب تباين الأنساق الميتافيزيقية، وبدا أن ثمة طبيعة «أفلاطونية» تباين الطبيعة «الأرسطية»، وطبيعة «أشعرية» تباين الطبيعة «الفارابية أو السينوية». وعلى هذا، فإن الأشاعرة لم يكونوا أبدًا — كما حسب البعض — «روادًا ممتازين للعلم الحديث». انظر: علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، سبق ذكره، ص١٢٧. وذلك لأن بنية العلم الأشعري — إذا جاز التعبير — تتفق وبنية العلم القديم من حيث كانا، كلاهما، لازمَين عن تصورات ميتافيزيقية محددة. وبالرغم من أنَّ النظرية العلمية المعاصرة تستلزم — بقصد التفسير والتحليل — فرضَ فروض تتسم بسمات ميتافيزيقية أحيانًا، فإن أحدًا لا ينازع في أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين «تصورات ميتافيزيقية» يقتضي تأكيدها تصورًا معينًا للطبيعة، وبين «طبيعة» يقتضي فهمها وتفسير ظواهرها فرض «ميتافيزيقية» معينة.
٧٥  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، سبق ذكره، ص٧٠.
٧٦  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، سبق ذكره، ص٦٨.
٧٧  مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، مادة جوهر، القاهرة، ١٩٧٩م، ص٦٤.
٧٨  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج١٠، سبق ذكره، ص٢١٣.
٧٩  Harvy. A. Walfson: The philosophy of the Kalam, Harvard University Press, 1976, p. 526.
والحق أننا اعتمدنا — فيما يتعلق بمشكلة بقاء الجواهر والأعراض وفنائها — على هذا الكتاب؛ وذلك لأنه — فيما نحسب — يحتوي على أرقى وأشمل تصنيف ممكن للآراء الكلامية في هذه المشكلة.
٨٠  والحق أن البقاء يصبح — تبعًا لذلك — «شيئًا thing — كالعَرَض — يوجد في شيء آخر، بحيث يكون هذا الشيء الآخر حاملًا له». انظر: Ibid., p. 524. ولأن الأعراض — طبقًا للأشعري — لا يُتصور بقاؤها، فإن هذا البقاء — الذي هو كالعرض — لا يُتصور بقاؤه كذلك إلا ببقاء يكون القول فيه كالقول في البقاء الأول … وكذلك إلى ما لا نهاية. وهكذا فإن التزام الأشاعرة مأزقًا منطقيًّا يتمثل في القول بالتسلسل إلى ما لا نهاية، يُعَد نتيجةً طبيعية لإنكار الأشاعرة للتقوُّم الذاتي للجوهر، وبالتالي إنكار فاعلية الطبيعة.
٨١  الباقلاني، التمهيد، ص١٨.
٨٢  وجد الأشاعرة مستندًا قرآنيًّا لتعريف العرَض بأنه «وجود» إلى الزوال والبطلان من قبل قوله تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وقوله تعالى: قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. انظر: المصدر السابق، ص١٨.
٨٣  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص٧٠.
٨٤  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج١، ص٤٧٥.
٨٥  وقد حاول الأشاعرة — حقًّا — تجاوز هذا المأزق الميتافيزيقي بالقول بالطفرة؛ أعني اعتبار الزمان طفرة من آنٍ إلى آن. ولكن يبدو أن هذا التجاوز الميتافيزيقي — إن صح — يتأدَّى إلى مأزق «أيديولوجي». فاللافت أن زمانًا يقوم على «الطفرة» يعني إلغاءً لأي علاقة (ضرورية أو منطقية) بين آنٍ سابق وآخر لاحق؛ وبذلك يفقد مفهوم «التقدم الإنساني» أساسَه ومعناه. وهكذا يتأدَّى هذا التصور الفيزيائي للزمان — على صعيد الأيديولوجيا — إلى استحالة انبثاق «الوعي» في صورته التاريخية؛ لأن هذا الوعي يتأسس — جوهريًّا — على ضرورة «تواصل» لحظات الزمان «التاريخي» بشكل يُفسح المجال لتراكم الخبرة التاريخية (وهي هيولى الوعي التاريخي). ولأن مفهوم «التقدم» يبقى مشروطًا بانبثاق الوعي في صورته التاريخية على الأخص، فإن هذا المفهوم يختص في الخطاب العربي المعاصر بغير قليل من الغموض والاضطراب. إذ يبدو «التقدم»، لا بوصفه نتاجًا لخبرةٍ ووعيٍ تاريخيَّين، بل بوصفه «طفرة» من لحظة في التاريخ إلى أخرى قد تكون بعيدةً في ماضي الذات (سلفية ماضوية)، أو أبعد منها في معاصرة الآخر (سلفية معاصرة). وهكذا تتفق النظرتان في تصورهما التقدم «قفزًا» من لحظة في التاريخ إلى أخرى، وذلك دون تحليلٍ كافٍ للوضع التاريخي الراهن، ومن هنا تتآتى سلفيتُهما معًا. وعلى هذا، فإن سيادة النسق الأشعري — الذي تتمحور بنيتُه حول الاستبعاد دون الاستيعاب — قد جعل التقدم، في خطابنا المعاصر، محوًا للحظة في التاريخ من أجل أخرى، أو في أحسن الحالات احتفاظًا باللحظتين معًا في تجاوز مصطنع.
٨٦  محمد نووي بن عمر الجاوي، شرح الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد، مكتبة الحلبي، القاهرة، الطبعة الأخيرة، ١٩٥٤م، ص٢١.
٨٧  السيد السند، شرح المواقف، سبق ذكره، ص١٩٩.
٨٨  المصدر السابق، ص١٩٩.
٨٩  المصدر السابق، ص١٩٩.
٩٠  المصدر السابق، ص١٩٩.
٩١  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص٧١.
٩٢  السيد السند، شرح المواقف، ص١٩٩.
٩٣  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج١، ص٤٧٦.
٩٤  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص٧١.
٩٥  والحق أن هذا التصور يبدو نتيجةً لازمة عن أي نظرية — في الوجود — تُضحي بموضوعية العالم على مذابح المطلق. فمن المعروف أن النزعة السوفسطائية قد انتهت — فيما يتعلق بإمكان معرفة العالم — إلى لا أدرية مفرطة وخاصة عند جورجياس، وذلك بعد أن قوضت «موضوعية العالم» من أجل «إنسان» أصبح — لظروف تاريخية — «مطلقًا» يُقاس عليه كلُّ شيء. وبدورهم، كاد الأشاعرة ينتهون إلى ذات الموقف اللاأدري، بعد أن نزعوا عن العالم الثبات والضرورة، إفساحًا «لذات» مطلقة القدرة والفاعلية، لولا أنهم التمسوا ضمانًا لليقين في المطلق. وهكذا يبقى إمكان المعرفة الإنسانية مرتبطًا — على نحوٍ صميمي — بنظرية الوجود والعلاقة الممكنة بين دوائره الثلاث (الله والعالم والإنسان). فإن علاقة بين هذه الدوائر الثلاث أكثر توازنًا ونسبية تتأدَّى إلى إثبات إمكان المعرفة، في حين تستحيل المعرفة — إلا ضمن شروط مفارقة — في ظل سيادة ما هو مطلق.
٩٦  فالحقُّ أن المفاهيم الإبستمولوجية لنسق ما تتسق، في الأغلب، مع التصورات الأنطولوجية التي ينطوي عليها، وذلك بسبب من انتمائهما المشترك إلى بنية يتمحور حولها النسق بأسره. ومن هنا تنشأ صميمية الارتباط بين المفاهيم الإبستمولوجية وبين التصورات الأنطولوجية، بحيث تتأدى الأنطولوجيا «غير المكتفية بذاتها»، إلى إبستمولوجيا «غير مكتفية بذاتها»، أيضًا. هكذا بدَا الأمر عند ديكارت الذي احتاج — ليتمكن من القفز خارج أسوار عزلة ذاته — إلى «إله» يضمن صدقَ معرفته بالوجود، بل ويضمن دوامَ الوجود ذاته. وكذلك فإن الأشاعرة، وإن افتقدوا نظرية متكاملة في المعرفة، إلا أنه يمكن التأدي من تصوراتهم الأنطولوجية إلى صياغة إبستمولوجية كان من اللازم أن ينتهيَ إليها نسقهم لو أنهم حاولوا ذلك.
٩٧  دي. بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص٦٩.
٩٨  البغدادي، الفرق بين الفرق، ص٣١٧، السيد السند، شرح المواقف، ص١٩٧.
٩٩  علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج١، ص٤٧٥.
١٠٠  السيد السند، شرح المواقف، ص٢٠٢.
١٠١  أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، سبق ذكره، ص١٩٨.
١٠٢  محمود الشرقاوي، الأنبياء في القرآن الكريم، سبق ذكره، ص٩.
١٠٣  السيد السند، شرح المواقف، سبق ذكره، ص٥٤٥.
١٠٤  البغدادي، أصول الدين، ص١٥٣.
١٠٥  محمود الشرقاوي، الأنبياء في القرآن الكريم، ص٩.
١٠٦  الرازي، مختار الصحاح، سبق ذكره، ص٦٤٢.
١٠٧  البغدادي، أصول الدين، ص١٥٤.
١٠٨  أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٨.
١٠٩  فقد أجمع الأشاعرة على أن النبي هو «المنبئ» واشتقاقه من «النبأ»، وقد غالى الجويني في تأكيد هذا الاشتقاق حتى لقد أطلق على النبوة اسم «النبوءة» باعتبار النبي هو المنبئ من النبأ. انظر: الجويني، الإرشاد، ص٣٠٢. ولا بد من الإشارة — ثانية — إلى أن ذلك لا يعني أن الأشاعرة قد منعوا تمامًا الاحتمال الثاني للاشتقاق، بل المعنيُّ فقط أنهم مالوا إلى تبنِّي الاشتقاق الأول لأنه يتسق ورؤيتهم الشاملة للنبوة. وذلك ما يتضح بالمقارنة مع المعتزلة الذين مالوا — على العكس — إلى تبنِّي الاشتقاق الثاني للنبي من «النباوة»؛ لأنه يتسق — بدوره — ورؤيتهم الشاملة للنبوة. وذلك دون أن يمنعوا تمامًا إمكانية اشتقاق النبي من «النبأ».
١١٠  أبو الثناء الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص١٩٩.
١١١  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٣١٧.
١١٢  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٥.
١١٣  الجويني، الإرشاد، ص٣٥٥.
١١٤  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص٥٢.
١١٥  الرازي، معالم أصول الدين، نشر: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص٥٢.
١١٦  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص٢٣٠.
١١٧  المصدر السابق، ص٢٢٤.
١١٨  الطوسي، تلخيص المحصل، بذيل كتاب الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، سبق ذكره، ص٢٠٥.
١١٩  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص٢٢٦.
١٢٠  وقد أظهر المعتزلة ما ينطوي عليه هذا التصور الأشعري من مغالطة تتمثل في أن: «ما ذكروه من تعلق النقص والكمال به بالنظر إلى الغرض المقصود، فإنما يلزم لو كان ذلك الغرض عائدًا إليه، وكماله ونقصه متوقفًا عليه، وليس «الأمر» كذلك، بل هو الغني المطلق، واستغناء كل ما سواه ليس إلا به، بل عوده إنما هو إلى المخلوق، وذلك مما لا يوجب كمالًا ولا نقصانًا بالنسبة إلى واجب الوجود». انظر: المصدر السابق، ص٢٣٠.
١٢١  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص٢٣٩.
١٢٢  محمد نووي بن عمر الجاوي، شرح الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد، سبق ذكره، ص٢٤.
١٢٣  كمال الدين الحنفي، إشارات المرام من عبارات الإمام، سبق ذكره، ص١٥١.
١٢٤  مصلح الدين الكستلي، حاشية على شرح العقائد النسفية، سبق ذكره، ص٨٦.
١٢٥  المصدر السابق، ص٨٦.
١٢٦  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص٣١٨.
١٢٧  التفتازاني، شرح العقائد النسفية، سبق ذكره، ص١٦٤.
١٢٨  ومن الغريب حقًّا، أن الأشاعرة لم يجدوا بدًّا من الالتياذ بمقتضيات المصلحة، حين تعلَّق الأمر بتفسير التطور في النبوات أو ما يُعرف أصوليًّا «بالنسخ في الشرائع»! ﻓ «لأنه ليس يمتنع أن يكون مثلُ الصلاح في وقتٍ فسادًا في وقت آخر»، فإن النبوات تتطور والشرائع تُنسخ «ولا يوجب ذلك البداء، إذا عُلم «الآمر» أن في تبقية «ما أمر به» مشقةً داعية إلى ترك المكلَّف كل الواجبات، وأن تخفيف المحنة بالنهي عنه مصلحةٌ ولطف، فيكون الأمر مصلحة، وإزالته، أيضًا، مصلحة». انظر: الباقلاني، التمهيد، ص١٨٥–١٨٧. واللافت على أي حال، هو أن «منطق المصلحة» — الإنساني في جوهره — يبرر — لدى الأشاعرة — فعلًا إلهيًّا — مثل نسخ الشرائع — وذلك لتجنُّب تشويه الذات الإلهية بالقول بالبداء.
١٢٩  الباقلاني، التمهيد، ص١٢١.
١٣٠  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص٣٢٠.
١٣١  سبق أن ألمحنا إلى أن حدود الديانة البرهمية لا تتسع لأي وحي أو نبوة، فإن التصور البرهمي للألوهية شاملة لكل شيء ومتغلغلة في كل شيء يؤدي إلى أنه لا انفصال البتة بين العقل الكلي (الله) وبين العقل الجزئي (الإنسان)، بل ثمة وحدة كونية تفنى فيها الجزئيات المتناهية في جوف الكلي أو الألوهية الشاملة. ومن ثَم تنتفي النبوة، التي تفترض سلفًا هذا الانفصال لأنها — أصلًا — ليست إلا محاولة لقهره والقضاء عليه. انظر: الفصل الثالث، حاشية «٣»، ص٣٣، والفصل الثاني، ص٧–٩.
١٣٢  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٣.
١٣٣  لا بد من ملاحظة أن حضور الإنساني ضروريٌّ مطلقًا لأي حضور إلهي لدى البراهمة. إذ «الله» ليس جوهرًا «مفارقًا» بل «مباطنًا» ومتغلغلًا في الوجود؛ والإنسان بالطبع. ومن هنا، فإنه لا انفصال البتة بين الله والإنسان، بل إن «الإلهي» لا يتجلى إلا فيما هو إنساني. وهكذا يبدو الحضور الإنساني — لدى البراهمة — مقدمة لإبراز الحضور الإلهي، وليس نفيَه.
١٣٤  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، سبق ذكره، ص٥٦٤.
١٣٥  القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص٥٦٤.
١٣٦  محمد نوري الجاوي، شرح الدر الفريد في عقائد أهل التوحيد، ص٣٧.
١٣٧  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٠.
١٣٨  وذلك بالرغم من أنه كان يلزم الأشاعرة — استنادًا إلى تصور النبوة فعلًا على الجواز والإمكان يفتقر لأي ضرورة ذاتية؛ ولذا فإنه يتقوم بفعل خارجي عنه هو المعجزة — القول بأن المعجزة «واجبة» لا جائزة. ويعني الوجوب هنا، أن ثمة نقصًا في النبوة — لا في الذات الإلهية — يكمل بالمعجزة. وذلك المعنى يُحيل إلى أن المعجزة «واجبة»، لا وجوبًا على الله، بل على «النبوة» إن صح القول. أعني أن المعجزة لن تكون — في ذاتها — فعلًا واجبًا على الله أن يفعله، بل فعلًا واجبًا وضروريًّا للنبوة بسبب من طبيعتها الذاتية الناقصة التي تجعلها في حاجة إلى ما تتقوم به من خارج. ومع ذلك، فإن التصور الأشعري للإرادة الإلهية تتعلق على نحو مطلق بكل ما يجري في العالم، منعهم من تصور الوجوب أو الضرورة الذاتية لأيِّ حادث في العالم. فإنه ليس من مكان في العالم لأي وجوب أو ضرورة، بل «محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كلُّ حادث». انظر: ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، طبعة القاهرة ١٣٢١ﻫ، ج٢، ص٩١.
١٣٩  المكلاتي، لباب العقول، تحقيق فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، ١٩٧٧م، الطبعة الأولى، ص٣٣٨.
١٤٠  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، تحقيق رتشرد مكارثي، المكتبة الشرقية، بيروت ١٩٥٨م، ص١٠.
١٤١  الطوسي، شرح المحصل، بهامش: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي، سبق ذكره، ص٢٠٩.
١٤٢  فخر الدين الرازي، النبوات، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٠٠.
١٤٣  لا يمكن مثلًا، فصل تصور اسبينوزا للمعجزة «بوصفها عملًا للطبيعة — لا خرقًا لها — يتجاوز الفهم الإنساني» — انظر: اسبنيوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، سبق ذكره، ص٢٢٧ — عن نظريته في وحدة الوجود والطبيعة بوصفها تجلِّيًا للجوهر. وكذلك فإن إنكار هيوم للمعجزات — بوصفها أفعالًا خارقة للعادة — يرتبط جوهريًّا بنسق الفيزياء النيوتوني الذي يُحيل على مَن يقبله «أن يُثبت وقوعَ أيِّ حادث معين بشكل خارق للطبيعة ما لم يفترض أن له معرفةً كاملة بأعمال الطبيعة، بحيث يتمكن من أن ينفيَ عنها كلَّ علة طبيعية، وهو أمرٌ بيِّنُ الاستحالة». انظر: جون. ﻫ. راندال، تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة، دار الثقافة، بيروت، ١٩٦٥م، ط ٢، ج١، ص٤٤٨. وأخيرًا، فإن النقد الصارم للمعجزة من جانب فلاسفة التنوير يرتبط — دون شك — بتصور للطبيعة في قبضة العقل تمامًا.
١٤٤  فإن ذلك يعني أن يقضيَ النبي حياته في مجرد إثبات «النبوة»، دون بنائها والسعي نحو تحقيق قصدها.
١٤٥  أشرنا آنفًا إلى أن ضربًا من التوافق النبوي يتبدَّى بين لحظات النسق النبوي من جهة وبين لحظات الوعي البشري من جهة أخرى، بحيث أمكن التمييز بين أطوار من النبوات لا يفسرها إلا تطورُ الوعي البشري لا غير. والحق أن ضربًا من ذات التوافق البنيوي يتبدَّى بين لحظات المعجزة وبين لحظات الوعي والنبوة بالتالي. فإذ التصق «الوعي» — في أطواره الأولى — بالطبيعة حتى كاد لا يتميز عنها، فإنه لم يحقق اتصاله بالله بعيدًا عن الطبيعة، بل إن الله نفسه قد أدرك هذه السمة الطبيعية للوعي، فتجلَّى لموسى فيما هو طبيعي، أعني في صورة شجرة من نار على الجبل. وبذات الطريقة أدرك هذا الوعي الفج معجزته في الطبيعة أو العالم الكبير. ومن هنا كان إطار المعجزة في اليهودية — كانفلاق البحر لموسى، وتوقُّف الشمس في السماء ليشوع — هو عالم الطبيعة الكبير. وإذا كان قدرًا من التمايز عن الطبيعة، وبدء تحوُّل الوعي إلى بناء «ذاتي» قد تأدَّى — فيما يتعلق بالنبوة — إلى صياغة ما يسمى بنمط التنبؤ الذاتي، فإنه قد تأدَّى أيضًا إلى التحول بالمعجزة من عالم الطبيعة الكبير — كإطار للتحقق — إلى العالم الصغير، أعني الإنسان، كإطار لتحققها. وقد بدا أن هذا التحول يعكس وعيًا جوهريًّا بالإنسان بما هو ذات، وليس بوصفه مجردَ جزءٍ من الطبيعة. فحين نادى الأعمى على يسوع: «أجاب يسوع وقال ما تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أُبصر، فقال له يسوع: اذهب. إيمانك قد شفاك. فللوقتِ أبصرَ وتَبِع يسوع في الطريق». مرقس، إصحاح ١٠: ٥١–٥٣. وهكذا كان الإنسان بما هو «ذات» تؤمن، وليس بما هو «طبيعة» تُخرق هو إطار تحقق المعجزة. فبدا بذلك وكأن تمايز الوعي عن الطبيعة يعكس أيضًا تمايزًا للمعجزة عنها. وأخيرًا، فإن تمام الوعي بالذات في الإسلام قد انعكس في انبثاقِ ضربٍ من الإعجاز العقلي الخالص المفارق لما هو طبيعي. وهكذا فإن ثمة منطقًا ينتظم تطور المعجزة يتمثَّل في ارتباط صميمي بين أبنيتها وبين أبنية الوعي الإنساني. ومن هنا فإن التفاوت بين معجزات الأنبياء لا يرتبط فقط بأن معجزاتِ كلِّ نبيٍّ كانت من جنس ما تفوق فيه قومه، بل يرتبط — وهو الأهم — بما بين أطوار المعجزة من جهة وبين أطوار الوعي من جهة أخرى من توافق بنيوي ثابت.
١٤٦  واللافت أن افتقار أرقى أشكال الإعجاز للقدرة على الانفصال عن أدنى درجات المعجزة يتوافق بنيويًّا مع ما سبق التأكيد عليه من أن النسق النبوي في أرقى أشكاله لم يتجاهل ضروبه الأولية التي يمكن ردُّها إلى العصور البدائية أحيانًا. انظر: الفصل الثاني.
١٤٧  ر. كولنجوود، فكرة الطبيعة، ترجمة أحمد حمدي محمود، مراجعة توفيق الطويل، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلمية، مكتبة جامعة القاهرة، ١٩٦٩م، ص٥٤.
١٤٨  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج١، ص٢١٥.
١٤٩  انظر: الباقلاني، التمهيد، ص٣٤–٤٧.
١٥٠  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج١، ص٢٤٢.
١٥١  H. A. Walfson: The philosophy of the Kalam, p. 552.
١٥٢  لمزيد من التفصيل انظر: ص١٥–٢١ من هذا الفصل.
١٥٣  H. A. Walfson: The philosophy of the Kalam, p. 520.
١٥٤  سيد حسين نصر، دراسات إسلامية، الدار المتحدة للنشر، بيروت ١٩٧٥م، طبعة أولى، ص٥٧.
١٥٥  وقد كان ذلك ما اعتقده ابن رشد الذي أدرك أنه «إذا ارتفعت طبيعةُ الموجود أدَّى بنا هذا إلى العدم. فلو لم يكن لموجودٍ فعلٌ يخصُّه لم يكن له طبيعة تخصُّه، وإذا لم تكن له طبيعة تخصُّه، لما كان له اسمٌ يخصُّه ولا حد، وكانت الأشياءُ كلُّها شيئًا واحدًا ولا شيئًا واحدًا. لأن ذلك الواحد يُسأل عنه، هل له فعل واحد يخصُّه وانفعال يخصه أو ليس له ذلك؟ فإن كان له فعلٌ يخصُّه، فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعلٌ واحد يخصُّه، فالواحد ليس بواحد. وإذا ارتفعت طبيعة الواحد، ارتفعت طبيعة الموجود. وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم». انظر: ابن رشد، تهافت التهافت، طبعة القاهرة، ١٩٠١م، ص١٢٣.
١٥٦  علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، سبق ذكره، ص١٢٤.
١٥٧  سيد حسين نصر، دراسات إسلامية، سبق ذكره، ص٥٧.
١٥٨  حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، سبق ذكره، ج١، ص٧٣٩.
١٥٩  المصدر السابق، ص٧٣٩.
١٦٠  الغزالي، تهافت الفلاسفة. القاهرة، ١٩٥٥م، ص٢٢٥.
١٦١  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج٢، ص١٦٦.
١٦٢  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، سبق ذكره، ج٢، ص٩٧٧.
١٦٣  إميل بوترو، كانط، ترجمة عثمان أمين، الهيئة المصرية للتأليف والنشر، القاهرة، ١٩٧١م، ص١١٠.
١٦٤  الغزالي، تهافت الفلاسفة، سبق ذكره، ص٢٢٥.
١٦٥  وقد كان الأمر كذلك حقًّا عند هيوم الذي جاء تحليله «للعلِّية» في إطار بحث عن «طبيعة العقل البشري»، وليس في إطار تحليل لطبيعة «الوجود». إن الأمر لا يعني — عند هيوم — أكثر من تفسير للكيفية التي بها «نعرف» العالم، وذلك دون أن يحفل كثيرًا بالطبيعة الباطنية للعالم.
١٦٦  يؤكد ذلك إنكار هيوم الصارم للمعجزات، رغم تفسيره العلِّية بالعادة. والحق أنه «بينما يمكن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه تحليل في الوقت نفسه لحقيقة القانون العلمي، نرى تحليل الغزالي للسببية مبطلًا لفكرة القانون العلمي من جذورها؛ ففي حالة هيوم نستطيع القول — بناءً على تحليله للسببية — إن أيَّ قانون علمي ينتظم ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ما هو في أساسه إلا أن يكون في تلك الظاهرة جوانب ارتبط بعضُها ببعض دائمًا فيما شاهدناه منها، فبات مرجحًا لدينا أن نتوقع استمرار هذا الارتباط نفسه بين تلك الجوانب في المستقبل؛ ففي ظاهرة المطر مثلًا، شاهدنا في كل حالاته الماضية أن ثمة ارتباطًا بين درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح … إلخ، فأصبحنا نرجح أنه كلما توافرت هذه الجوانب نفسها بهذه الدرجات نفسها، أن يسقط المطر، لأنه ليس في الأمر — من وجهة نظر هيوم — أكثر من ظواهر ارتبطت في إدراكنا، فتكونَت لدينا العادة بأن نتوقع ارتباطها على هذا النحو دائمًا؛ وأما عند الغزالي فقد دخل في الموقف عاملٌ آخر هو «تقدير الله»؛ وبذلك لم يَعُد ارتباطُ الظواهر في إدراكنا كافيًا وحده لنستخرج لأنفسنا قانونًا من قوانين الطبيعة؛ إذ قد يتم الارتباطُ كلُّه بين العناصر المكونة للظاهرة المعينة كلها، ومع ذلك يريد لها الله ألَّا تفعل فلا تفعل؛ قد تتوافر درجة الحرارة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح … إلخ، مما حدث معه سقوطُ المطر دائمًا في جميع الحالات الماضية، ومع ذلك فربما قدَّر الله سبحانه ألَّا يكونَ مطر فلا يكون؛ وبهذا ينتفي العلم من أساسه؛ لأن العلم ينهار كلُّه ولا يبقى منه في أيدينا شيء، إذا نحن لم نجد الأساس الذي نتوقع به ما يحدث في المستقبل إذا توافر كذا وكذا من العوامل والظروف. أما إذا امتلأنا بفكرة تقول: إنه قد تتوافر العوامل كلُّها والظروف كلُّها لظاهرة معينة، ومع ذلك يظل الأمر مرهونًا بتقدير الله أن تقع الظاهرة أو لا تقع، كان معنى ذلك ألَّا علم؛ لامتناع القدرة على تكوين القوانين التي تُمكننا من توقُّع ما يحدث في الحالات المعلومة العناصر». انظر: زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٩٧٨م، ص٣٤١-٣٤٢.
١٦٧  المصدر السابق، ص٣٤٠.
١٦٨  والحق أن الارتباط الصميمي بين دحض الغزالي — بالذات — للضرورة أو العلِّية — بوصفها قانونًا طبيعيًّا حتميًّا — وبين محاولته بيان «تهافت الفلاسفة» في قولهم باستحالة خرق العادات، قد انتهى — في الأغلب — إلى اختزال النظر لإنكار العلِّية الأشعري على أنه فقط مجردُ توطئة لإثبات معجزات الأنبياء، وليس أيضًا نتاجًا ضروريًّا لتصور بعينه للطبيعة. وهكذا ضاع الأصل «الأنطولوجي» لإنكار العلِّية، وبقي فقط ما تأدَّى إليه هذا الإنكار على المستوى «العقائدي». والآن، فإن ضرورة إعادة بناء العلم تُحتِّم إجلاء الجذور الأنطولوجية لإنكار العلِّية الأشعري؛ ليس فقط لأن ذلك قد يصلح مقدمةً لردِّ الاعتبار لمفهوم العلِّية في إطار أنطولوجيا مغايرة، بل — وأيضًا — لتأكيد الطابع البنيوي للنسق الأشعري من حيث يتبدَّى «إنكار العلية» نموذجًا مثاليًّا للانتقال البنيوي من «الطبيعي» إلى «النبوي أو الديني».
١٦٩  وهذا بالطبع، إن كانت ثمة «قوانين طبيعية» لدى الأشاعرة أصلًا.
١٧٠  أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج٢، ص٨٩.
١٧١  الرازي، النبوات، سبق ذكره، ص١٠٠.
١٧٢  لا يُجدي هنا التحفظ الأشعري بأنه «إن ثبت أن الممكن كونه لا يجوز أن يُخلق للإنسان علم بعدم كونه، لزمت «تلك» المحالات كلها، لكنا نقول: العلمُ بعدم كونه ثابتٌ لنا، فلا يلزم شيء من هذه المحالات». انظر: المكلاتي، لباب العقول، سبق ذكره، ص٣٣٦. فإن عدمَ لزوم شيء من هذه المحالات (التي هي ممكنات حسب الأشاعرة) ثابتٌ لنا، لا بعلم ضروري من العقل، بل بعلم من الله «لنا» يجوز أن ينقلب. وبعبارة أخرى، «إن عدم لزوم هذه المحالات-الممكنات ليس كذلك بالعقل؛ ولهذا فإنها ممكنة يجوز أن تقع وألَّا تقع». انظر: علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص١٢٩.
١٧٣  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٠، وكذا: الآمدي، غاية المرام، ص٣٣٣، والجويني، الإرشاد، ص٣٠٧.
١٧٤  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، سبق ذكره، ص٨-٩.
١٧٥  ومع ذلك فإن التحليل الأشعري للمعجزة قد تكشف — في النهاية — عن أن «قدرة» — هي و«العجز» بمثابة واحدة — هي شرط المعجزة.
١٧٦  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص١٣.
١٧٧  الجويني، الإرشاد، ص٣٠٧.
١٧٨  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٩.
١٧٩  المصدر السابق، ص٩–١٠.
١٨٠  المصدر السابق، ص٩.
١٨١  الجويني، الإرشاد، ص٣٠٧.
١٨٢  واللافت أن هذا التصور الأشعري «للقدرة» لا توجد إلا لتنعدم وتزول، يتوافق بنيويًّا مع إثبات الأشاعرة فاعلية في الطبيعة — للعَرَض — تتمثَّل أساسًا في إفنائه لنفسه — وبالتالي للجوهر — باستمرار. فبدا بذلك وكأنَّ الأثر الوحيد لأي قدرة أو فاعلية — في المجال الإنساني أو الطبيعي — هو الإفناء والإعدام فقط. فالقدرة في عالم الإنسان تئول إلى عجز، والفاعلية في عالم الطبيعة هي فاعلية إعدام فقط. انظر: ص٢٠ من هذا الفصل.
١٨٣  الآمدي، غاية المرام، ص٣٣٣.
١٨٤  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٠.
١٨٥  فقد آثر الإسفرائيني تعريفَ المعجزة بأنها «فعل (لا أمر) يظهر على يدِ مدَّعي النبوة … إلخ». انظر: الإسفرائيني، التبصير في الدين، ص١٠٤. ويبدو أن لفظ «فعل» الذي استخدمه الإسفرائيني لم يكن ضيِّقًا فحسب، بل لعلَّه — وهو الأهم — لا يتَّسق وبنية النسق الأشعري. ذلك أنه «إذا قال النبي: معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه، ففعل وعجزوا، فإنه مُعجِزٌ دالٌّ على صدقه، ولا فعل لله ثمة، فإنَّ عدم خلق القدرة على ذلك الوضع ليس فعلًا صادرًا عنه تعالى». انظر: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٧. وإذن فإن عدم خلق القدرة يُعَد معجزة، ولكنه ليس فعلًا، والحق أن «عدم خلق القدرة» كان يمكن أن يكون فعلًا صادرًا عن الله تعالى، لو أنَّ الأصل في الوجود الإنساني كان «القدرة» لا العجز والنقص؛ أعني لو كانت القدرة بناءً يدخل في صميم تركيب الوجود الإنساني ذاته. إذ «القدرة» حينئذٍ تكون فاعلية مستقلة في الإنسان يتعذَّر تعطيلها أو تعجيزها إلا بفعل مستقل أيضًا من الله. أما والقدرة — أشعريًّا — تُعَد من لواحق الوجود الإنساني المخلوقة دائمًا بفعل من الله، فإن عدم خلقها — والحال كذلك — لن يكون «فعلًا» بل «توقُّفًا» عن الفعل. ومن هنا بات «الأشعري» مضطرًّا إلى تعريف المعجزة بأنها «أمر»، لا «فعل». فبدا وكأن الاستخدام الأشعري لكلمة «أمر» لا «فعل» في تعريف المعجزة، يرتبط جوهريًّا بمجمل التصور الأشعري للإلهي والإنساني. ومن هنا لم يكن تعريف الإسفرائيني للمعجزة بأنها «فعل» موفَّقًا، على طريقة الأشاعرة بالطبع.
١٨٦  محمد نووي بن عمر الجاوي، شرح الدر الفريد، سبق ذكره، ص٤٦.
١٨٧  الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، ص٢٠٧. وكذا: الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص٢٠١.
١٨٨  البغدادي، أصول الدين، ١٧٠.
١٨٩  محمد نووي بن عمر الجاوي، شرح الدر الفريد، ص٤٦.
١٩٠  البغدادي، أصول الدين، ١٧٠.
١٩١  المصدر السابق، ص١٧٠.
١٩٢  فقد مضى الأشاعرة — وكان ذلك ضروريًّا — إلى أنه «ليس في المقدور نصبُ دليل على صدق النبي غير المعجزة». انظر: الجويني، الإرشاد، ص٣٣١. إذ النبوة — كسائر أفعال الله — فعلٌ على الجواز؛ أعنى يفتقر إلى أي ضرورة ذاتية تُوجب ظهوره، ناهيك عن تصديقه؛ ولذا فإنها تستمد بالضرورة دليل وجودها وتصديقها من فعل خارجي تمامًا هو المعجزة. وعلى هذا، فإنه «لولا التأييد بالمعجزة لما وجب قبول قوله، ولما بان الصادق من الكاذب في دعوى الرسالة». انظر: التفتازاني، شرح العقائد النسفية، سبق ذكره، ص١٦٦.
١٩٣  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٦.
١٩٤  المصدر السابق، ص١٧٦.
١٩٥  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٣٨.
١٩٦  ومن الحتم أن تكون كذلك، لأن لا شيء — لدى الأشاعرة — يتقوَّم بدْءًا من طبيعة ذاتية باطنية، بل لا بدَّ — دومًا — من مقوِّم خارجي، حتى ولو كان الأمر يتعلق بمجرد شرط نظري. فحينئذٍ يكون الشرط «مشروطًا» بطبيعة الوضع الإلهي.
١٩٧  المصدر السابق، ص٤٥؛ وأيضًا: الجويني، الإرشاد، ص٣٠٨؛ والآمدي، غاية المرام، ٣٣٣؛ الإيجي، المواقف، ص٥٤٧.
١٩٨  البغدادي، أصول الدين، ص١٧١؛ والجويني، الإرشاد، ص٣٠٩؛ والسيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٧.
١٩٩  الجويني، الإرشاد، ص٣٠٩.
٢٠٠  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص١٥.
٢٠١  المصدر السابق، ص١٥.
٢٠٢  ما بين القوسين مضطرب في النص تمامًا، ولذا كان لزامًا بناؤه — على هذا النحو — بما يتلاءم والمعنى في السياق.
٢٠٣  المصدر السابق، ص١٧-١٨، ٢٠–٢٢.
٢٠٤  وإن كان يبدو أن ما قصده المعتزلة حقًّا، هو «التفسير» لا التقويض، ولكن التفسير في إطار نسق مغاير يفسح المجال لفاعلية أوسع للقدرة الإنسانية. فقد بدَا للمعتزلة أنه يستحيل — مع إثباتهم قدرة فاعلة للعباد — تفسير المعجزة، كما فسرها الأشاعرة، بانعدام «الحكمة» وغياب «القدرة» من الإنسان. وبدا — متسقًا مع إثبات القدرة — قولهم إن المعجزة إنما تكون كذلك لفقد علم «يمكن تحصيله» أو فقد آلة «يمكن اكتسابها». فالمعجزة عندهم — وبلغة اسبينوزية — هي مجرد فعل نجهل أسبابَه وعِللَه.
٢٠٥  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص١٨-١٩.
٢٠٦  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٧؛ الباقلاني، البيان، ص٤٥؛ الجويني، الإرشاد، ص٣٠٩؛ الآمدي، غاية المرام، ص٣٣٤.
٢٠٧  الجويني، الإرشاد، ص٣٠٩.
٢٠٨  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٥-١٧٦.
٢٠٩  الآمدي، غاية المرام، ص٣٣٥.
٢١٠  المصدر السابق، ص٣٣٥.
٢١١  الجويني، الإرشاد، ص٣١٦.
٢١٢  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٤.
٢١٣  الجويني، الإرشاد، ص٣١٧؛ وأيضًا: الآمدي، غاية المرام، ٣٣٤.
٢١٤  بلغ الأمر بالبغدادي حدَّ التفكُّه بأن المعتزلة إنما أنكروا «الكرامة»، لا منعًا للقدح في دلالة المعجزة على النبوة كما قد يتبادر إلى الظن، ولكن «لأنهم لم يجدوا في أهل بدعتهم ذا كرامة، فأنكروا ما حُرموه بشؤم بدعتهم». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص١٧٥.
٢١٥  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٤٦.
٢١٦  الآمدي، غاية المرام، ٣٣٤. وأيضًا: الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص٢٠٠.
٢١٧  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٥١، وأيضًا: الجويني، الإرشاد، ص٣١٣.
٢١٨  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٤٨.
٢١٩  الجويني، الإرشاد، ص٣١٩.
٢٢٠  فبالرغم من أن ثمة نصوصًا قرآنية عدة، تُصرِّح بطلب معارضة المعجزة تصريحًا — كقوله تعالى: (هود: ١٣)، وقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (يونس: ٣٨) — فإن الأشاعرة قد مضَوا إلى أنه «لا يشترط التصريح بالتحدي وطلب المعارضة، بل يكفي قرائن الأحوال؛ مثل أن يقال لمدَّعي النبوة: إن كنت نبيًّا فأظهر معجزًا، ففعل». انظر: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨. ويبدو أن عدم اشتراط الأشاعرة للتصريح، يرتبط بتصورهم لذلك التصريح بالتحدي وطلب المعارضة، يفترض قدرة في العباد على ذلك، وهي قدرة لا وجود لها — على مذهبهم — أبدًا. يؤكد ذلك أنهم — مع عدم اشتراط التصريح بطلب المعارضة، «الذي يفترض قدرة عليها لا شك» — قد اشترطوا الإقرار — صراحةً — بتعذر المعارضة، «وهو القائم على عدم القدرة أصلًا». ويبدو — تبعًا لذلك — أن الله تعالى، بطلبه معارضة معجزته تصريحًا، كان أكثر رحمة بعباده وتفهمًا لهم من الأشاعرة.
٢٢١  البغدادي، أصول الدين، ص١٧١.
٢٢٢  الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٤٧.
٢٢٣  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٧.
٢٢٤  وقد بدَت «حقيقة الإعجاز» تلك في خطرٍ جمٍّ حين تمسَّك البعض بأنه: «لا يمكن أن تكون دلالة المعجز على صدق النبوة مشروطة بعدم أو «تعذر» المعارضة، لوجوه: الأول: أنه إما أن يكفيَ في كون المعجز معجزًا: عدم المعارضة في الحال، أو المعتبر عدم المعارضة أبدًا، أو المعتبر عدم المعارضة في مرتبة متوسطة بين المرتبتَين المذكورتَين. والأقسام الثلاثة باطلة. أما «عدم المعارضة في الحال»، فإنه لا يكفي في كون الفعل معجزًا. فكم من إنسان يأتي بعمل، فلا يقدر الحاضرون، في الحال، على معارضته مع أنه لا يكون ذلك الفعل معجزًا بالاتفاق. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الشرط في كونه معجزًا عدم المعارضة «أبدًا»، فهذا الشرط مجهول؛ فمَن ذا الذي يمكنه أن يعلم أن أحدًا من الواردين بعده إلى قيام القيامة، لا يمكنه الإتيان بهذه المعارضة؟ وإذا صار هذا الشرط مجهولًا، صار المشروط مجهولًا أيضًا. فوجب أن تصير المعجزات بأسرها مجهولة. وأما القسم الثالث: وهو المرتبة المتوسطة بين المرتبتين المذكورتين، فنقول: إن تلك المراتب المتوسطة كثيرة متفاوتة. وليس اعتبار بعضها أولى من اعتبار البواقي، فكان اشتراط الواحدة منها وإلغاء البواقي محضَ التحكيم، وهو باطل، فثبت أن اشتراط عدم المعارضة ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وثبت أنها بأَسْرها أقسام باطلة، فكان القول باعتبار عدم المعارضة باطلًا. والوجه الثاني في فساد هذا القسم: أن المعتبر عدم المعارضة؛ إما من الحاضرين فقط، أو من جميع أهل الدنيا، أو المعتبر مرتبة متوسطة. وإبطال هذه الثلاثة بمثل الكلام الذي ذكرناه في الوجه المتقدم معلوم». انظر: الرازي، النبوات، ص١٢٩-١٣٠. وهكذا فإن شرط «تعذر المعارضة» موضع شك، زماني ومكاني.
٢٢٥  واللافت أن بناء «فاعلية السلب» هذه، يرتبط — جوهريًّا — بعجز الأشاعرة عن تصور «الله» كامل «الوجود والفاعلية»، إلا في عالم من النقص التام والسلوب المحضة. فقد تأدَّى الأشاعرة إلى تأسيس — ما يمكن تسميته — «ناسوت السلب» — في مواجهة «لاهوت السلب» عند المعتزلة — و«فيزيقا السلب»؛ وأعني بهما تصوُّرَ كلٍّ من «الإنسان والطبيعة» جملةً من السلوب المحضة؛ إذ هما كيانان هشان، يخلوان تمامًا من أيِّ فاعلية أو تأثير، ولا يتميزان أبدًا بأيِّ خاصية إيجابية. وقد كان ذلك لما بدَا لهم من أن قدرة الله وفاعليته الحقة تتأتَّى، فقط من هذا السلب، أي من سلب فاعلية الإنسان والطبيعة. وليس من شك أن ظلًّا من الخطر يُخيم، مع هذا الفهم، على قدرة الله وفاعليته الحقة، حيث إن قدرته وفاعليته لا يتأتيان — تبعًا لذلك — من حضور إيجابي ذاتي، بل يتأتَّى حضورهما، فقط من غياب قدرة وفاعلية «الآخر»؛ إنسان وطبيعة. وهكذا ينتفي الحضور الإيجابي الذاتي لفاعلية الله وقدرته. ويبقى الدرس الأهم قائمًا في أن مَن أضاع قدرة الإنسان وفاعليته، وكذا الطبيعة، فقد أضاع، في النهاية، الحضور الإيجابي الذاتي لقدرة الله وفاعليته الحقة.
٢٢٦  البغدادي، أصول الدين، ص١٧٢، وبالرغم من غرابة هذه الفكرة، فإنها تبدو منطقيةً تمامًا في إطار نسق لا مكان فيه لفاعلية عقلية البتة. ذلك أنه حيث لا عقل هناك، فإنه ليس التصديق فقط، يكون في حاجة إلى علامة أو برهان خارجي، بل والتكذيب أيضًا.
٢٢٧  الجويني، الإرشاد، ص٣١٥.
٢٢٨  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨.
٢٢٩  المصدر السابق، ص٥٤٨.
٢٣٠  المصدر السابق، ص٥٤٨.
٢٣١  الجويني، الإرشاد، ص٣١٥.
٢٣٢  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨.
٢٣٣  الجويني، الإرشاد، ص٣١٥.
٢٣٤  السيد السند، شرح المواقف، ٥٤٨.
٢٣٥  والحق أن ابن خلدون، وهو أشعري متأخر، يعترض بأن ذلك محال «عند الأشعرية؛ لأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية، فلو وقعت بخلاف ذلك، انقلب الدليل شبهة، والهداية ضلالة والتصديق كذبًا، واستحالت الحقائق وانقلبَت صفات النفس، وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكنًا». انظر: ابن خلدون، المقدمة، نشرة: علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، الطبعة الثالثة، الجزء الأول، ص٤٠٢. ولكن نظرة فاحصة تفضُّ الاعتراض الخلدوني تمامًا؛ ذلك أن ثمة فرقًا بين استحالة وقوع المعجزة على يد الكاذب، وهو ما كان يعنيه ابن خلدون، وبين إمكان وقوع معجزة التكذيب. فإذا كان يستحيل أشعريًّا — وهذا متنازع عليه — وقوع المعجزة على يد الكاذب «تلبيسًا» للعباد، فإنه لا يستحيل وقوع معجزة التكذيب «هداية» للعباد عن تصديق الكاذب، لا تلبيسًا لهم. وهكذا فإن ثمة فرقًا بين القول باستحالة وقوع المعجزة «تصديقًا» للكاذب، وبين القول بإمكان وقوعها تكذيبًا له. وإذن، فإن ما كان يعنيه ابن خلدون إنما هو استحالة أن تتعلق بالكاذب معجزة «تصديق»، لا معجزة تكذيب … إذ تبقى تلك ممكنة.
٢٣٦  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨.
٢٣٧  المصدر السابق، ص٥٤٨.
٢٣٨  قد يتبادر إلى الذهن أن «التقييد» هنا، ينصرف إلى «النبي»، ولكن ذلك ليس بذي بال عند الأشاعرة؛ إذ الأهم أن هذا التقييد يطال فاعليةَ الذات الإلهية المطلقة؛ إذ تغدو الذات الإلهية — حسب هذا الشرط — «ملزمة» بأن تُعلِم النبيَّ جنسَ معجزته ليدَّعيَها قبل أن تظهر، ثم إنها «ملزمة» — بعد ذلك — بألَّا تُبدلَها. وهكذا الشرط يتأدَّى — وإن حال دون القدح في دلالة المعجزة على التصديق — إلى القدح في جلال الذات الإلهية لا شك.
٢٣٩  المصدر السابق، ص٥٤٨.
٢٤٠  الجويني، الإرشاد، ص٣١٤. وأيضًا: المكلاتي، لباب العقول، ص٣٥٢.
٢٤١  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨.
٢٤٢  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٨.
٢٤٣  المصدر السابق، ٥٤٨.
٢٤٤  المصدر السابق، ٥٤٩.
٢٤٥  المصدر السابق، ٥٤٩.
٢٤٦  المصدر السابق، ٥٤٩.
٢٤٧  إن الصدق، هنا، مشابهٌ تمامًا «للصدق الصوري» من القياس الأرسطي. فكما كان صدق «أرسطو» لا يتحقق بالنظر في مضمون القضايا المكونة للقياس، بل يتحقق باستيفاء جملة من الشروط الصورية المنطقية. وكذلك صدق «الأشاعرة» لا يتحقق بالنظر في مضمون دعوى النبوة، بل باستيفاء جملة من الشروط الخارجية، الصورية أيضًا. وبينما وجدت «صورية أرسطو» مَن يتجاوزها، فإن «صورية الأشاعرة» لم تزل، للآن، عصيةً على التجاوز.
٢٤٨  والعجيب أن ذلك مما يتفق ومعجزة «الدين» الذي نافحوا عنه طويلًا؛ إذ الحقُّ أنه لا يمكن النظر إلى المعجزة الأساسية للنبي محمد ، في انفصال عن الطبيعة الباطنية لذات دعواه. وقد كان ذلك تطورًا في طبيعة المعجزة، من كونها «شهادة خارجية» إلى كونها «شهادة داخلية»، فرضه دون شك تطور وعي البشر ذاته؛ إذ تعكس مسيرة الوعي توجُّهًا من «الخارج» إلى «الداخل». ولكن القول بمعجزة لا تنفصل عن الطبيعة الباطنية لذات الدعوى، يعني أن ثمة دورًا «للعقل» في الكشف. وهذا ما يأباه النسق الأشعري. فبدا وكأن ثمة وقائعَ دينيةً أساسية، يمكن أن تتعارض — إلى حدٍّ ما — مع النسق الأشعري.
٢٤٩  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٩.
٢٥٠  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ح ٢، ص٣٨٦.
٢٥١  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٩.
٢٥٢  الجويني، الإرشاد، ص٣٢٤.
٢٥٣  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٩.
٢٥٤  الجويني، الإرشاد، ص٣٢٤.
٢٥٥  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج٢، ص٣٨٧.
٢٥٦  الجويني: الإرشاد، ص٣٢٤.
٢٥٧  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٤٩-٥٥٠.
٢٥٨  الجويني، الإرشاد، ص٣٢٤.
٢٥٩  المصدر السابق، ص٣٢٤.
٢٦٠  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٠.
٢٦١  ذلك أن البنية الإطلاقية للنسق، قد فرضَت أن يكون أدنى تقوُّم فيه «اكتسابًا» من الخارج، وليس تقوُّمًا ذاتيًّا باطنيًّا.
٢٦٢  التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص١٦٦.
٢٦٣  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٠، وأيضًا: التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج١، ص٩٧٧.
٢٦٤  وليس ذلك بغريب على الأشاعرة الذين صاروا إلى «أن العلم بصحة نبوة النبي فرعُ العلم بصحة المعجزة الدالة على صدقِه في دعواه، «وذلك» إذا لم يضطرَّنا الله تعالى إلى العلم بصدقه (النبي) …» انظر: البغدادي، أصول الدين، ص١٧٨. فبدا ذلك وكأنه ليس العلم بدلالة المعجزة على الصدق هو ما يضطرُّنا الله إليه فقط؛ ذلك أنه لو لم تكن ثمة معجزة بالمرة، لاضطرَّنا الله أيضًا إلى العلم بصدق الدعوى دونها، والمهم أن لا مدخلَ «للعقل» البتة في التصديق بدعوى النبوة، سواء كانت بمعجزة أو بغير معجزة.
٢٦٥  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ح ١، ص٩٧٧.
٢٦٦  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٠.
٢٦٧  المصدر السابق، ص٥٥٠.
٢٦٨  الجويني، الإرشاد، ص٣٢٧.
٢٦٩  الجويني، الإرشاد، ص٣٢٩؛ وأيضًا: المكلاتي، لباب العقول، ص٣٥٤.
٢٧٠  المصدر السابق، ص٣٣١.
٢٧١  الرازي، معالم أصول الدين، سبق ذكره، ص٩١، وانظر للرازي أيضًا: المحصل، ص٢٠٨.
٢٧٢  التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص١٦٨؛ وكذا: الرازي، معالم أصول الدين، ص٩١؛ والمحصل، ص٢٠٨؛ وكذا: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٧؛ وكذا: الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص٢٠٥.
٢٧٣  الباقلاني، التمهيد، ص١٣٣.
٢٧٤  المصدر السابق، ١٣٣.
٢٧٥  البغدادي، الفرق بين الفرق، ص٣١٢.
٢٧٦  الباقلاني، التمهيد، ص١٣٣.
٢٧٧  المصدر السابق، ص١٣٣.
٢٧٨  المصدر السابق، ص١٣٤.
٢٧٩  البغدادي، الفرق بين الفرق، ص٣١٣-٣١٤.
٢٨٠  الرازي، المحصل، ص٢٠٨.
٢٨١  والحق أن ثمة ضربًا من «القلق» يتلبَّس موقف الأشاعرة من هذه المعجزات، غير القرآن؛ وأعني أن ليس من موقف أشعري ثابت. حقًّا إن كثيرين منهم؛ كالجويني، والغزالي، والنسفي، والإيجي، قد وقفوا عند القول بأن هذه المعجزات، وإن كانت لا تُفيد العلم، «آحادًا»، فإن «جملتها بالغة مبلغ التواتر «بحيث» لا يستريب فيها مسلم أصلًا». انظر: الاقتصاد في الاعتقاد، ص١٠٢. ولكن ثمة، أيضًا — كالمكلاتي — مَن اكتفى بالقرآن معجزة للنبي ، وسكت تمامًا عن هذا النوع من المعجزات. وثمة، على النقيض — كالبغدادي في «أصول الدين» ص١٨٢ — مَن أخذ بالخبر وتقبَّل «الرواية» عن هذه المعجزات، دون اعتبار لسبيل «العلم» وكيفية «الدراية». وثمة — كالباقلاني — مَن نافح بلا هوادة عن هذه المعجزات في التمهيد، ص١٣٤–١٤٠، ولكن بدَّد رصيد دفاعه، وهو في معرض «البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات»، حين صار إلى أن «الإعجاز في نظم القرآن وبلاغته أبلغ من بابه وأعلى من سائر المعجزات غيره، [ورغم أنه كان يعني معجزات غيره من الأنبياء، إلا أنها توافق معجزاته غير القرآن]؛ وذلك لأجل اعتقاد البراهمة وكثير من الناس أن ما يظهر من ذلك، إنما يتم بحِيَل ومخاريق، وأسباب يتوصل بها إلى التمويه في ذلك … فكل هذا يمكن أن تعرض فيه الشبهات، وبلاغة القرآن لا يمكن أن تعرض فيه شبهة.» انظر: الباقلاني، البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات، ص٢٦-٢٧. وللرازي كذلك قولٌ في هذه المعجزات، يورث من «الشك» بأكثر ممَّا يؤدي إلى «اليقين»، مفاده: «أنه نُقل عنه معجزات كثيرة، وكل واحد منها، وإن كان مرويًّا بطريق الأحاد، إلا أنه لا بدَّ وأن يكون قد صح بعضها.» انظر الرازي، معالم أصول الدين، ص٩٢.
٢٨٢  البغدادي، الفرق بين الفرق، ص٣١٣.
٢٨٣  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٥.
٢٨٤  وهكذا «ضرورات» الأشاعرة، عرضة للحجاج أبدًا؛ ربما لأنها تتأسس تأسيسًا «نقليًّا»، لا «عقليًّا».
٢٨٥  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٥٨؛ وأيضًا: الجويني، الإرشاد، ص٣٣٨.
٢٨٦  رغم أن «الآمدي» قد نسب كلًّا من الرأيَين لفرقة بعينها من اليهود، فالاستحالة عقلًا، عنده، من رأي «الشمعنية»، والاستحالة سمعًا من رأى «العنانية»، إلا أننا قد آثرنا إغفالَ هذا التعيين. ذلك أن «الباقلاني» — وهو أشعريٌّ دقيق — قد صار إلى النقيض تمامًا من «الآمدي»؛ فنسب القول بالاستحالة عقلًا إلى «العنانية»، والقول بالاستحالة سمعًا إلى «الشمعنية». انظر: الباقلاني، التمهيد، ص١٦٠. وبالرغم من أن ثمة قرائنَ عند الشهرستاني (الملل والنحل، ج٢، ص٢٠)، والقاضي عبد الجبار (شرح الأصول الخمسة، ص٥٨٠) خاصة على أن «الآمدي» هو الأدنى إلى الصواب، فإن الإغفال — وهو ما صار إليه معظم الأشاعرة فعلًا — ليس بذي بال في الأمر.
٢٨٧  الآمدي، غاية المرام، ص٣٤١.
٢٨٨  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٥٨.
٢٨٩  المصدر السابق، ص٣٥٨.
٢٩٠  وهنا يستحيل الاحتجاج بأنَّ المرء يسأل الأشاعرة أن يقفزوا فوق أسوار عصرهم. إذ الحق أن المرء لم يسأل الأشاعرة أكثر من الوفاء لحقيقتين؛ أولاهما «لغوية»، ولعلهم مسُّوها — ولو من بعيد — عند تعريف النسخ لغة. والثانية «دينية» كان يمكنهم التماسها في الجدل الديني بين الإسلام والديانات السابقة. هذا الجدل الذي يتكشف عن أن نسخ الإسلام لما سبق من أديان وشرائع، لم يعنِ أبدًا إفناءً مطلقًا؛ إذ — على العكس — أبقى الإسلام — تشريعيًّا وعقائديًّا — على كثير مما يستحق الحياة في الديانات السابقة. وثمة كذلك حقيقة «تاريخية» تتمثل في أن المعتزلة — وهم أبناء ذات العصر — بدا وكأنهم قد بلغوا هذا التصور.
٢٩١  الجويني، الإرشاد، ص٣٣٩.
٢٩٢  المصدر السابق، ص٣٤٠.
٢٩٣  المصدر السابق، ص٣٤٠.
٢٩٤  المكلاني، لباب العقول، ص٣٥٨.
٢٩٥  الجويني، الإرشاد، ص٣٣٩. واللافت أن ثمة من الأشاعرة مَن صار إلى القول بما يقول به المعتزلة، هنا، بالضبط. انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٢٢٦. والحق أن هذا المصير إلى القول بما يقول المعتزلة، كان — على الدوام — حلًّا أشعريًّا ممكنًا، حين يُجابه الأشاعرة شناعة ملزمة أو نقيضة لا سبيل إلى دَحْضها. هكذا فعل البغدادي — وهو خصم المعتزلة الألدُّ — فيما يتعلق بالنسخ، وبالصفات الخبرية أيضًا. انظر: أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، ج٢، ص١٠٢؛ وأيضًا فعل «الرازي»، حتى لقد بدا ممكنًا إخراجه من دائرة أهل السنة، ووضعه بين رجال الاعتزال؛ لأنه «يمضي أحيانًا مع المعتزلة إلى الحدِّ الذي يجعله لا يتورَّع عن أن يستخدم اعتراضاتهم ضد الأشعري وأصحابه في كثير من المسائل». انظر: فتح الله خليف، الإمام أبو منصور الماتريدي، مقال بمجلة عالم الفكر، مجلد ١١، عدد ١، الكويت ١٩٨٠م، ص٢٤٠. وهكذا كان الكثير من الأشاعرة يكفِّرون المعتزلة، ولا يتورعون عن الأكل على موائدهم.
٢٩٦  الجويني، الإرشاد، ص٣٣٩.
٢٩٧  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦١.
٢٩٨  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٠-٣٤١.
٢٩٩  المصدر السابق، ص٣٤١.
٣٠٠  الباقلاني، التمهيد، ص١٨٦.
٣٠١  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٦٦.
٣٠٢  المصدر السابق، ص٥٦٦.
٣٠٣  المصدر السابق، ص٥٦٦.
٣٠٤  الجويني، الإرشاد، ص٣٤١.
٣٠٥  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٢.
٣٠٦  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٢؛ وأيضًا: المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٢.
٣٠٧  المصدر السابق، ص٣٤٢؛ وأيضًا: المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٢.
٣٠٨  المصدر السابق، ص٣٤٢؛ وأيضًا: المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٢.
٣٠٩  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٢.
٣١٠  ولعل الأصح «انقلاب طبيعة الفعل»؛ إذ الخبر «بالأمر» أولًا، ثم «النهي» عنه بعد ذلك، لا يمثِّل — على أصول الأشاعرة — انقلابًا في طبيعة الفعل الذاتية؛ لأنه ليس من طبيعة ذاتية للفعل البتة، ولكنه يمثِّل — لا شك — انقلابًا للخبر نفسه من «الأمر» إلى «النهي»، ليس له ما يُبرره. وإذ كان ممكنًا تفسير هذا الانقلاب أو التحول في الخبر، اعتمادًا على التحول من مصالح العباد، فإن الأشاعرة — الأصلاء حقًّا — قد تأدوا، بإصرارهم على الرؤية في حدود إلهية فقط، إلى انقلاب «للخبر» غير مبرر، وذلك إلا أن يكون مُبررًا بعلم من الله ومشيئة مطلقتَين، وهذا أصلهم حقًّا.
٣١١  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٢.
٣١٢  الباقلاني، التمهيد، ص١٧٦.
٣١٣  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٣؛ وأيضًا: السيد السند، شرح المواقف، ٥٦٧.
٣١٤  الباقلاني، التمهيد، هامش ٩، ص١٧٦.
٣١٥  الرازي، المحصل، ص٢١٢.
٣١٦  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٦٦؛ وأيضًا: الرازي، المحصل، ص٢١٢-٢١٣.
٣١٧  الرازي، المحصل، ص٢١٢.
٣١٨  الآمدي، غاية المرام، ص٣٥٨.
٣١٩  الباقلاني، التمهيد، ص١٧٧.
٣٢٠  المصدر السابق، ص١٧٧.
٣٢١  المصدر السابق، ص١٧٨.
٣٢٢  المصدر السابق، ص١٧٩.
٣٢٣  على الرغم من أن «الواقعة» هنا، هي مصدر الحكم على «النص» وتقويمه، إلا أنه يبدو وكأن الأشاعرة لم يُفيدوا من تلك القاعدة النقدية إلا في تقويم نصوص لا تخصهم. فإن ثمة ما يؤكد على أن تقويمهم «للقرآن» وفهمهم له، قد جاء خلوًا من أي اعتبار «لوقائع» يتعذر فهمُ النص بعيدًا عنها.
٣٢٤  ورغم أن «نصًّا» بتلك الصيغة لا يوجد في العهد القديم. انظر: الباقلاني، التمهيد، هامش ١٦، ص١٨٠، إلا أن «مراد النص» — وهو الأهم — يلوح في أكثر من صيغة توراتية. انظر مثلًا: الخروج، ١٩: ٥؛ والتثنية، ٤: ١-٢.
٣٢٥  الباقلاني، التمهيد، ص١٧٩-١٨٠.
٣٢٦  المصدر السابق، ص١٨٣.
٣٢٧  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١٠٠.
٣٢٨  الآمدي، غاية المرام، ص٣٥٠.
٣٢٩  المكلاتي، لباب العقول، ص٣٦٥.
٣٣٠  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٧؛ وأيضًا: الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١٠٠.
٣٣١  الباقلاني، التمهيد، ص١٤١-١٤٢.
٣٣٢  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٥٧.
٣٣٣  الآمدي، غاية المرام، ص٣٥٢؛ وأيضًا: الجويني، الإرشاد، ص٣٤٧.
٣٣٤  المصدر السابق، ص٣٥٣.
٣٣٥  الجويني، الإرشاد، ص٣٤٨.
٣٣٦  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١٠١.
٣٣٧  المصدر السابق، ص١٠١.
٣٣٨  وبالرغم من أنه ليس غريبًا على أولئك الذي عاشوا في الصدر الأول للإسلام — ولم يرثوا عن أسلافهم إلا تراثًا من النظم والبلاغة — أن يُدركوا معجز القرآن، فيما قد علموه حقًّا؛ أعني في النظم والبلاغة، فإنه كان غريبًا حقًّا من أولئك الذين انطوى جهدهم النظري (أعني الأشاعرة) على تحليل أساسي لمضمون النص — لا مستقلًّا، بل من خلال قراءة نصوص أخرى — أن يقفوا عند مجرد معجزة «إطار القول» عاجزين عن تجاوزها إلى معجزة «المضمون والفعل».
٣٣٩  الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ٢١٠؛ وأيضًا: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٦٧.
٣٤٠  مصلح الدين الكستلي، حاشية على شرح العقائد النسفية، سبق ذكره، ص١٧١.
٣٤١  السيد السند، شرح المواقف، ص٥٦٧؛ وأيضًا: الكستلي، حاشية، ص١٧١.
٣٤٢  وقد يقال إن ثمة من العصمة — عند الأشاعرة — ما يشهد به العقل أساسًا؛ وذلك كعصمة الأنبياء عن الكذب في دعوى الرسالة والتبليغ عن الله. انظر: التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص١٧٠؛ وأيضًا: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٦٧. والحق أن نظرة أعمق تدرك — لا ريب — أنه ليس «العقل» الذي يشهد بذلك، بل هي المعجزة أساسًا؛ ذلك أن الصدق في دعوى الرسالة، والتبليغ عن الله، إنما يتأيد عند الأشاعرة لا من العقل، بل من المعجزة. وليس من شك في أن ما يشهد بالصدق، هو ما ينبغي — منطقيًّا — أن يشهد بالعصمة عن الكذب.
٣٤٣  الكستلي، حاشية، ص١٧١.
٣٤٤  وربما يُكرس ذلك تصور الأشاعرة لحقيقة العصمة؛ إذ النبي لا يكون معصومًا بقوة من ذاته؛ أعني بمجرد «العلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات، فيما يرى الحكماء»، بل بألَّا «يخلق الله فيه ذنبًا»، فإن ذلك هو «حقيقة العصمة على ما يقتضيه «أصلهم» من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء». انظر: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٧٥.
٣٤٥  الأصفهاني، شرح طوالع الأنوار، ص٢١٢؛ وأيضًا: السيد السند، شرح المواقف، ص٥٧٦.
٣٤٦  البغدادي: أصول الدين، ص١٦٥.
٣٤٧  الرازي، أصول الدين، ص١٠٣-١٠٤.
٣٤٨  حسن حنفي، دراسات إسلامية، سبق ذكره، ص٢٨.
٣٤٩  کلود کاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ص١٠، نقلًا عن محمود إسماعيل، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، سبق ذكره، ص٦٧.
٣٥٠  ولكن ذلك لا يعني أن هذه البنيات تُعَد انعكاسًا آليًّا لما هو تاريخي واجتماعي، بل البنية — أي بنية — تختص بضرب من الاستقلال النسبي نظرًا لطبيعتها النظرية. وكل ما في الأمر هو أنه يستحيل عزل البنية مطلقًا عمَّا هو تاريخي واجتماعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤