الفصل السابع

ماذا نحن فاعلون في القرن ٢١؟

(١) سيناريو الأرض وتأملات فيما كان ويكون

(١-١) التغير سمة الحياة على كوكب الأرض

التغيير هو الصفة الأساسية التي تلازم كرتنا الأرضية؛ فليس هناك شيء دائم على حال واحدة، ولكن سرعة التغيير تختلف من عنصر إلى آخر. فالتغيرات التي أدت إلى تكوين كوكبنا الأرض تقاس بمليارات من السنين وحركات بناء القارات وتكوين البحار تقاس بمئات الملايين من السنين، وكذلك الحال بالنسبة لظهور أشكال الحياة النباتية والحيوانية، أما التغيرات المناخية الكبرى فتقاس بملايين السنين. وأخيرًا فإننا نقيس ظهور الإنسان بمئات آلاف السنين، وانتشاره على سطح الأرض بعشرات آلاف السنين. وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى أذهاننا وعقولنا فربما يخدمنا في هذا السناريو التالي كفيلم نرى تتابعه؛ لكنه الحقيقة بعينها في صور خاطفة:

  • تطور الأرض على مر خمسة مليارات سنة: قارة واحدة تتكسر إلى عدة ألواح تكتونية هي أجزاء من القارات الحالية أضيفت إليها بالتعرية والنحت وحركات أرضية أخرى، كلها غير ثابتة بل متحركة على مقياس عدة مليمترات وسنتيمترات في السنة تراكمت على ملايين السنين لتكون ضغوطًا هائلة تنتج السلاسل الجبلية الحالية أحدثها جبال الألب الأوروبية منذ نحو ٥٠–٣٠ مليون سنة. وما زالت الحركات الأرضية مستمرة، ومن مظاهرها المعايشة أحداث الزلازل والبراكين المفجعة، وغيرها من الحركات غير المحسوسة؛ لكنها تقع تحت طائلة الرصد والقياس حسب قدرة أجهزتنا الحالية.

  • تكسر الصخور بفعل المطر والحرارة وزحف حقول الجليد ونحر البحر، وأشياء أخرى تؤدي إلى تكوين مسطحات من الصخور الإرسابية أشيعها التكوينات الجيرية كالمقطم. إرساب المفتتات يحدث في قاع البحار ثم تحدث عوامل أرضية ترفع الإرسابات فوق منسوب البحار. وبالتالي فإن سطح البحر يتغير على مر الزمن.

  • الصخور التي نشاهدها على الأرض إما هي باطنية — نارية أو أصلية — كالجرانيت أو متحولة نتيجة الضغوط الهائلة للكتل الأرضية كالشيست أو رسوبية كالصخور الجيرية والرملية. ولكل نوع قيم اقتصادية؛ الصخور الباطنية تحتوي على معظم المعادن الفلزية كالنحاس والحديد والذهب، أما الصخور الرسوبية فهي على الأرجح مكامن معادن الطاقة كالفحم والبترول والغاز الأرضي.

  • الأنهار تفتت الصخور وتبني أودية ذات تربة صالحة للاستقرار وممارسة الزراعة. أحسن أنواع التربة هي ما اشتقت من الصخور البركانية كوادي النيل والدلتا، أو على سفوح البراكين الخامدة أو النشطة برغم مخاطرها.

  • عناصر المناخ الأساسية مشتقة من الغلاف الجوي الذي يلف الأرض ويتأثر بالحرارة الشمسية، التي تؤدي إلى الحرارة والتبخر والتكاثف وتساقط المطر والثلوج بنظام محدد على سطح الأرض؛ لكنه يتغير بين فترات زمنية متفاوتة الزمن ناجمة عن تغيرات عديدة، ربما منها تغير توجه محور الكرة الأرضية إلى غير ما هو عليه توجهها الآن إلى نجم القطب الشمالي، أو نتيجة ازدياد النشاط البركاني والزلزالي المصاحب لتكوين القارات، وما يحدثه من مليارات أطنان الغبار في الغلاف الجوي؛ مما يؤثر على الحرارة مددًا طويلة أو قصيرة، أو تحرك الألواح التكتونية المتعددة أو نتيجة إصابة الأرض باصطدام نيازك ضخمة ومكونات صخرية فضائية أخرى … وهو ما يترتب عليه أن يتحمل الغلاف الجوي بأتربة وغازات كثيفة لعدة مئات أو آلاف السنين تلف العالم وتقلل اختراق أشعة الشمس إلى سطح الأرض، مؤديًا إلى تغيرات جسيمة في الأقاليم المناخية. وحسب طول وقوة المتغيرات قد يبيد شكل من أشكال الحياة كما حدث للديناصورات وهلاكها منذ نحو ٦٠ مليونًا من السنين. ومنذ بضع عشرات آلاف السنين استقرت الأوضاع المناخية على أشكال أساسية نجم عنها الأقاليم المناخية المعتدلة في العروض الوسطى والمتطرفة البرودة في المناطق القطبية والمرتفعة حراريًّا في المناطق الاستوائية والمدارية الصحراوية — أي مقدمات المناخ الحالي لكرتنا الأرضية.

  • المناخ الحالي ربما يعود إلى نحو ٣٠ ألف سنة، والمناخات الأقدم تراوحت بين عصور جليدية ممطرة وعصور حارة جافة أو ممطرة لمئات وعشرات آلاف السنين. وفي خلال مئات ملايين السنين تغيرت وتطورت وانقرضت أشكال الحياة النباتية والحيوانية من الأمفيبيات والأسماك إلى السحالي الضخمة — الديناصورات — وإلى الحيوانات الثديية ثم الرئيسيات في الملايين الخمسة الماضية، وآخرها الإنسان في مقدماته ومتاهات تفريعاته خلال المليونين الأخيرين، والإنسان العاقل منذ نحو بضع عشرات آلاف سنة؛ فأصبح على قمة الهرم الإيكولوجي للحياة بابتكارات كثيرة أهمها اللغة — الكتابة تعود إلى ٥ أو ٦ آلاف سنة فقط؛ بينما صحبت لغة الصوتيات الإنسان منذ ظهوره على الأرض، وتطورت تدريجيًّا إلى مقاطع وكلمات — واستخدام الآلة من الحجارة والأخشاب ثم المعادن — نحو خمسة آلاف سنة — واكتشاف الزراعة — نحو عشرة آلاف سنة — بدلًا من الصيد وجمع الثمار والحبوب البرية، واستخدام الطاقة الميكانيكية بدلًا من الطاقة الجسدية للحيوان وطاقة الرياح لتحريك السفن، واكتشاف كل أشكال الطاقة المستخدمة حاليًّا ومستقبليًّا.

  • كثرة استخدام الوقود الحفري والغازات في عصر الصناعة أدى إلى إشكاليات مناخية معاصرة على رأسها الأمطار الحمضية وثقب الأوزون وتدمير رئات العالم الغابية، وكلها عوامل تؤدي إلى التأكيد بأن الإنسان يقود المناخ إلى عصر احتباس حراري؛ مما يؤدي إلى كوارث بيئية تصيب أسس الحياة المعاصرة من الإنسان والحيوان والنبات ما لم يتداركها قبل فوات الأوان!

(١-٢) الإنسان وتغيير البيئة

  • إن النظام البشري يبدو وكأنه ميدان صراع يتنافس فيه اتجاهات وطبائع البشر:

    figure
  • حاول الإنسان الصانع دائمًا وأبدًا أن يحول الشيء النادر الوجود إلى اعتيادي الوجود، وهو في المجتمع المعاصر يسعى لتحويل المحتوى إلى الشكل والعقلانية إلى روتين والفن إلى تقنية.

  • في الشرق والغرب نرى ظهور طبقة جديدة من النخبة elite هم «مديرو المجتمع» الذين لا يستمدون قوتهم من المصادر التقليدية للطبقات. وهذه النخبة ليست دائمة الوجود، إنما هي مجموعات عابرة ومتشعبة، وهي غالبًا المجموعات الغامضة المسئولة عن «اتخاذ القرار» في الدوائر البيروقراطية العليا من الإدارات في الهيئات الخاصة والعامة، والتي تدفعها استحداثات التقنية إلى الإمساك بدفة الأمور.
    إن الصراع بين البيئة الطبيعية والبيئة صناعة الإنسان قد تعدى نقطة اللارجوع. فنمو المدن الكبرى «ميجابولس» قد دمر الصفات التي كانت حيوية في النظرة السلفية التقليدية لكل من الأفراد والمجتمع.١ ينعكس ذلك في مدى وشكل العقلانية والتنظيم في المجتمع المعاصر بنمو الأنماط القياسية الموحدة في السلع والخدمات، وكذلك النمو المتسارع للإعلام وتدفق المعلومات، وارتفاع نسب الضوضاء والاختناقات في المرور والحركة.
  • والنتيجة هي ما نراه أحيانًا من توقف أو انهيار مؤقت للخدمات في المدن الكبرى الحديثة، كنيويورك أو القاهرة؛ لأنها محملة بأكثر من طاقتها بالحركة والاتصالات السلكية والطاقة الكهربية.

  • ومن الناحية الاجتماعية يزداد التوتر الذي يشتعل مرات إلى أعمال شغب واسعة النطاق بين فئات أو طبقات أو مجموعات إثنية مختلفة، كما يحدث بين السكان من أصول أو ثقافات مختلفة في كثير من الدول.

  • وقد انعدم الشبه بين المدينة المعاصرة وبين المدن القديمة التي كانت تتميز بنسيج مترابط لفئات السكان وأحيائها.

  • وإزاء ذلك يعلن الساسة في الشرق والغرب أنهم يسعون إلى استعادة روح الجماعة ومضمونها، لكن الدراسات الاجتماعية تظهر أننا نتباعد عن ذلك الهدف باستمرار، ربما لأن تكنولوجية المواصلات والانتقال قد ساعدت على هذا التباعد وفقدان الولاء للمدينة التي نشأنا ونعيش فيها كما كان الحال في الماضي. لهذا لا نجد كثيرًا من الأفراد ينظرون للمدينة على أنها «مدينته»؛ بل يهرب منها إلى الضواحي الجديدة على أمل الالتقاء بالخضرة المفقودة، سواء كان الهروب هو للسكن في الضواحي أو للتنزه فيها، وهو بذلك يعزل نفسه عن التفاعل المعيشي وإن كان لا ينعزل عنها وظيفيًّا أو خدميًّا.

    وبصيغة العموم نقول: إن الترف والثراء قد ساعد على انعزال الفرد عن الجماعة التي يعيش من خلالها. وقد كان ذلك حقيقة بالنسبة للأغنياء في الماضي، لكن التكنولوجيا الحديثة قد مدت بساط الرخاء لطبقات كثيرة من المجتمع، وتحول «الاستغراب» — العزلة والاغتراب عن المدينة — إلى ظاهرة جماعية في الطبقات العليا والدنيا على السواء. فالطبقة العليا بما لديها من موارد تنتقل إلى فيلات وقصور خارج المدينة. والطبقة الدنيا تتحول إلى سكن الوحدات الاقتصادية التي تمولها مشروعات خاصة أو حكومية خارج المدينة. أما الطبقة الوسطى فالأغلب أنها تستقر في المدينة؛ لأنه ليس لديها ميزات الطبقة العليا ولا مواصفات الطبقة الدنيا في القدرة على الحركة. فالأغنياء يملكون المال والفقراء لا يفقدون شيئًا إذا انتقلوا، بينما تتمسك الطبقة الوسطى بمقدرات العيش ضمن إطار أحيائها.

  • ونتيجة للرخاء العام في البلاد المتقدمة، وبخاصة أمريكا وأوروبا الغربية أصبح الأفراد «يموتون» من الملل نتيجة الترف الذي بلغ درجات لم يعد وراءها تطلعات جديدة. لهذا فإن الانحرافات بين المراهقين قد أصبحت شائعة، خاصة بين أبناء الأسر الغنية. ومثل ذلك بين الفقراء، فالملل يقتلهم والانحراف يشدهم ويثير مشاعرهم، وينطبق هذا على أبناء مثل هذه الأسر في مدن العالم الثالث.

  • هناك أيضًا وقت فراغ جبري يسمى الآن البطالة. قد يتمكن المتخصصون من المواءمة بين الإنسان والآلات، لكن فائض العمالة البشرية سيظل مشكلة ضخمة. قد تكون هناك حلول اجتماعية — ضمانات وتأمينات البطالة في الدول المتقدمة بصفة خاصة — لسد احتياجات مادية للعاملين الذين يفقدون وظائفهم، والإبقاء بذلك على قوتهم الشرائية في السوق، الذي يتأثر كثيرًا من حرمانه من تعامل جزء من الناس. وفي أمريكا يفكر البعض في ضمان دخل سنوي بغض النظر عن العمل المؤدى من عدمه، وذلك كرد على استمرار البطالة — بل وتزايدها — في تركيب العمالة الحديثة. ولكن ذلك لا يفي باحتياج الناس أدبيًّا ومعنويًّا أن يكونوا عاملين ومتطلعين إلى مراتب ومواقع مشاركة في الحياة. ولهذا فإن مجتمع القرن القادم سيواجه مجموعة واسعة من المشكلات الاجتماعية والسيكولوجية، فضلًا عن علاقات الجنسين ونمو دور المرأة عود على بدء …

(٢) خواطر ومخاطر القرن الجديد

جذور هذه الخواطر والمخاطر هي بالأساس وليدة بعض أشكال التقدم خلال القرن العشرين. ولا شك في أن الكثير من الإنجازات العلمية لها آثارها الإيجابية وتطبيقاتها التي ولدت الكثير من التقدم والرفاهية، وساعدت على أن يكتشف الإنسان من الطاقات التي لم يكن يعرفها الشيء الكثير، وبخاصة طاقات الإنسان الخلاقة باقتراب الإنسان من بعضه البعض في المسرح والسينما والتلفاز، والتعرف على غيره بقراءة الرواية والشعر والفنون التشكيلية عبر العالم، ومنجزات العلوم أولًا بأول … ومع ذلك فإننا لا زلنا على عتبة أبواب كثيرة في العلوم الاجتماعية والاقتصادية ومعارف الفلك وعلوم الأرض والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء.

وبفضل الكمبيوتر والإنترنت تفتح عصر المعلوماتية عبر الحدود الوطنية التي سقطت في الواقع أمام هذا السيل العرم من المعرفة والمعلومات. وتوالت اكتشافات وإرهاصات اكتشافات في كثير من العلوم، وبخاصة في مجالات الهندسة الوراثية كخطوة رائدة لا نعرف بعد أبعادها التطبيقية على الأرض والغذاء وصحة الإنسان، وفي مجالات البيئة التي هالنا كم أسرفنا في تجاهلها، حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من العبث — غير المقصود — بالنظام الطبيعي على يابس الأرض، ومحاذير تغيرات المناخ على الغلاف الجوي والبحري.

وفيما يأتي نسوق بعض النماذج من المخاطر؛ علنا نسرع بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجو والبحر والأرض، وفوق كل ذلك وجود الإنسان …

(٢-١) مخاطر تغيرات المناخ وغلاف الأوزون

الهاجس الأول لبحوث الفضاء هو الإجابة على سؤال هام هو هل يوجد ماء على سطح المريخ، وبعض أقمار المشترى وغيره من كواكب مجموعتنا الشمسية؟ وما هي طبيعة الغلاف الغازي على المريخ، أو أحد أقمار كوكب المشترى؟ بعبارة أخرى هل تصلح هذه أو تلك من الكواكب والأقمار لحياة الإنسان كما نعرفها أو مع بعض التعديل؟ أم أن هناك أنواع أخرى من الحياة لا نعرفها ولا نعرف حتى النذر اليسير عن قدراتها وغرائزها وذكائها، بحيث يؤدي إلى تعايشنا معها بتكويننا البشري … أم حرب إبادة كونية؟

فإذا تركنا هذه التساؤلات — وهي مطروحة بقوة — فإن اهتماماتنا الأولية الآن تدور على كوكبنا، وكيف نستعيد صحته ومقوماته التي درجنا واعتدنا عليها بصورتنا البشرية الحالية. فعنصر المناخ على كوكب الأرض هو في الحقيقة العنصر الحاكم الذي ساعد على نشأة كل أشكال الحياة القديمة البائدة، وتطورها إلى الحديثة المعايشة المعاصرة على سطح الأرض ومياهها. ولا شك أن التغيرات المناخية في الملايين الخمسة الأخيرة من عمر الأرض المديد — نحو ٤٫٥ مليار سنة — قد أدت إلى اضطرابات بيولوجية وحياتية على وجه الأرض. وما هو الآن قائم من أشكال الحياة الحالية بجملتها هو نتيجة للتشكيل المناخي الذي بدأ يسود منذ انتهاء العصور الجليدية في القارات الشمالية — أي منذ نحو مليون سنة.

المياه العذبة الحالية في صورة أمطار وأنهار وثلوج هي واحدة من أهم تفاعل عناصر المناخ العالمي، وهي أساس حياة الناس والحيوان والنبات، والآية القرآنية الكريمة تصف ذلك بإحكام بالغ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

وعنصر الحرارة عامل أساسي في المناخ، وكذا توزيعات الضغط الجوي واتجاهات الرياح ودورة الهواء العليا. فبدون الحرارة لا يحدث التبخر من سطح المحيطات ولا تتكون السحب ولا تسقط الأمطار ولا تجري الأنهار ولا توجد حياة كما نعرفها. تتلقى الأرض الحرارة من الشمس بدرجات معينة آمنة نتيجة وجود درع الأوزون الذي يحمي الأرض من الإشعاعات الشمسية الضارة. وقد سمعنا كثيرًا عما شاع باسم فجوة أو ثقب الأوزون. وأكد العلماء كثيرًا أن نحافة طبقة الأوزون فوق أماكن من العالم، إنما ترجع إلى كثرة استخدام الإنسان لمجموعة من الغازات الضارة على رأسها ثاني أكسيد الكربون Co2، الذي ارتفعت نسبة تركزه في الجو من ٣١٧ جزء في المليون عام ١٩٦٠ إلى ٣٦٤ جزء عام ١٩٩٧. وفي هذا المجال نجد أن الانبعاثات الكربونية والإيروسول غازات ضارة معينة نتيجة احتراق أشكال الوقود والطاقة قد ثبتت في الدول الصناعية — مع بعض الذبذبات — منذ ١٩٨٠ حول ٢٦٠٠ مليون طن نتيجة تنفيذ التشريعات البيئية بحزم وأمانة، وانخفضت في دول الكتلة الشرقية السابقة منذ ١٩٩٠ من ١٤٠٠ إلى ٨٠٠ مليون طن، ربما لتقليل استخدام الفحم وتوقف بعض الصناعات الملوثة. وفي مقابل هذا تواصل ارتفاع انبعاثات الكربون من الدول النامية بسرعة من نحو ٤٠٠ مليون طن عام ١٩٦٠ إلى نحو ٢٥٠٠ مليون عام ١٩٩٧، لاتجاهها إلى التصنيع السريع واستخدام مكثف لمصادر الوقود بأشكالها دون كبير اهتمام بالتوازن البيئي.

وهذه دلالة على مدى المخاطر التي تواجهها الدول النامية نتيجة نمو الصناعات الملوثة أو التي تحتاج عمالة رخيصة، تخلت عنها الدول المتقدمة للدول النامية كأنها مقاول من الباطن لحساب العالم المتقدم، ترضى بالقليل لحل مشكلاتها التنموية العام. وللأسف نلاحظ عدم قدرة الدول النامية على تنفيذ قوانين ولوائح المحافظة على البيئة بصورة مرضية؛ نتيجة لعاملين: أولهما: قوة رأس المال الجديد فيها، وارتباطاته عبر الحدود بأشكال من العلاقات التوابع مع تنظيمات وشركات إنتاج وتجارة دولية متعددة الجنسية، وهذا جزء مما نفهمه عن مصطلح الخصخصة. وثاني الأسباب: يلخصه تلهف الدول النامية على دخول المضمار الصناعي، وفتح الطريق أمام وظائف جديدة للمعالجة لتعديل ميزانها المختل بين الناتج القومي ونمو متزايد للسكان والبطالة معًا.

النينو والنينا والتسونامي

ترجح الدراسات أن هذه الغازات إلى جانب عوامل تغيرات مناخية ذاتية تؤدي إلى متغيرات مناخية كظاهرة، «النينو El Nino والنينا El Nina»، على المحيط الباسيفيكي غير المُدركة آثارها على وجه الدقة برغم تتابع رصدها.٢ والخلاصة ارتفاع درجة حرارة المناخ العالمي بعدة أعشار من الدرجة المئوية الواحدة — نحو ٠٫٨ — فقد ارتفع متوسط حرارة الكرة الأرضية من ١٣٫٨ درجة مئوية عام ١٩٥٠ إلى ١٤٫٥ درجة ١٩٩٧. وتميز عام ١٩٩٨ بارتفاع كبير قدر بنحو ١٧ من مائة من الدرجة مقابل ارتفاع ١٢ من مائة في العام السابق. هذا التغير الطفيف له آثار كبيرة، كذوبان جزء من الجليد العالمي في القطبين وجرينلاند وثلاجات الجبال العالية، مما قد يؤدي استمرارها بعد بضعة عقود إلى رفع منسوب البحر عالميًّا.٣ وقد أكدت الدراسات أن منسوب البحر كان يرتفع سنويًّا خلال القرن العشرين بمعدل ١٫٢ مليمتر، مع ملاحظة زيادة كبيرة إلى ٥٫٥ مليمترات في العقد ١٩٥٠–١٩٦٠. وأفادت الدراسات الأخيرة — مؤتمر باريس ٢٠٠٧ — أن منسوب البحر عالميًّا ارتفع بمقدار ١٠٠ مليمتر منذ عام ١٩٥٠ (من ناقص −٥٠ملم إلى +٥٠ملم)، واستمرار ذلك المعدل ستكون له أخطار فادحة على المدن والمنشآت الساحلية هي محل درس وعناية البحث العلمي المعاصر. ويكفي أن نعرف أن ارتفاع منسوب البحر ١٫٥ متر سيؤدي إلى غرق مساحات شاسعة من محافظات البحيرة وكفر الشيخ والدقهلية والشرقية، وربما تصبح الإسكندرية ودمياط وبورسعيد جزرًا إذا ما تحصنت بالأسوار ضد غزو البحر!
figure
المساحات التي تغرق من دلتا النيل لو ارتفع سطح البحر.
نقلًا عن: Atlas of the Environment, Prentice Hall press, New York, 1990.

هذا بالإضافة إلى أن التغير الحراري يؤدي إلى زيادة الجفاف العالمي، بحيث تلتحق مساحات كبيرة من الأراضي المنتجة إلى حالات مختلفة من التصحر تزيد من انكماش المجال الأرضي والغذائي للسكان، وهو مجال ضيق حقًّا من سطح الأرض. ويزيد من التغيرات المناخية غير الملائمة اقتطاع أجزاء من البقية الباقية من غابات الأمازون وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، بواسطة تجارة الأخشاب الاحتكارية العالمية، والرغبة في الحصول على أرض تستزرع أو تنمى فيها مراعي الأبقار في البرازيل والهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا المدارية.

علمًا بأن هذه الغابات تمثل المخزون الأرضي المتبقي لإنتاج الأوكسجين في الجو العالمي — وأقرب الحالات لنا هو ما يحدث في السودان من إشكالات دموية في دارفور؛ لأن الصراع على المراعي وحقول الزراعة في ظل تناقص الأمطار وارتفاع الحرارة، هو واحد من جذور المشكلة، إلى جانب أشياء أخرى سياسية وقبلية واجتماعية.

والخلاصة: هي ما يعرف علميًّا بظاهرة، البيت الزجاجي، أو الصوبة التي ترتفع فيها درجة الحرارة برغبة الإنسان في إنتاج نبات في غير بيئته المناخية. فإذا كان العالم كله سوف يواجه مناخ «الصوبة» التي تحتبس فيها الحرارة في معدلات أعلى من المعدلات الحالية، فإن ذلك كفيل بتغير المناخ على وجه شديد الضرر بالحياة على الأرض.

وفي أوائل التسعينيات نبه مجموعة من العلماء إلى مخاطر مناخية كثيرة ناجمة عن ممارسات بشرية، معلنين أن استخدام الطاقة والموارد بالصورة الحالية ثقيلة الأثر على البيئة العالمية، وتهدد باختلال التوازن في العمليات الطبيعية، وخاصة في دورة الكربون والنيتروجين في الجو. وفي باريس — يناير ٢٠٠٧ — عقد مئات العلماء اجتماعًا أعادوا فيه التأكيد بأن مناخ العالم يتغير إلى الأسوأ، مطالبين الولايات المتحدة بالذات المصادقة على اتفاقية كيتو المناخية — تنتهي صلاحياتها ٢٠١٢ — لكن الرد الأمريكي الرسمي كان باردًا!

ودعا هؤلاء العلماء إلى إنقاص استخدام موارد الطاقة الحفرية: فحم وبترول وغاز بقدر يصل إلى أكثر من ثلاثة أرباع المستخدم منها في الدول الصناعية. ولكن قوة شركات الفحم والبترول الضخمة لا تجعل هذا الأمل قريبًا. فالفحم المستخدم ما زال ينمو بنسبة نحو ١٢٥٪ للفترة ١٩٧٧–١٩٩٧، نتيجة لقوة شركات الفحم الأمريكية وحملاتها الدعائية عن أن مملكة الفحم هي الباقية. بينما الحقيقة أن مشكلة الفحم هي مشكلة اجتماعية؛ لأن البطالة سوف تهدد جانبًا كبيرًا من العاملين في مناجم الفحم، وهم كثر ولهم نقابات قوية، فضلًا عن اعتماد دول كثيرة صناعية ونامية على الفحم في إنتاج الكهرباء. ونموذج ذلك أن نحو ٥٥٪ من الكهرباء المنتجة في الولايات المتحدة وألمانيا ما زال مصدرها الفحم، وترتفع إلى نحو ٧٥٪ في الصين وأستراليا والهند وإلى أكثر من ٩٠٪ في بولندا وجنوب أفريقيا. وللفترة ذاتها (٧٧–٩٧) كان نمو استخدام البترول يتزايد بنسبة أقل من الفحم بلغت ١١٨٪، بينما ارتفع استخدام الغاز الطبيعي إلى نحو ١٧٢٪؛ وذلك لأنه أقل تلويثًا من البترول ومشتقاته، ولأن مناطق إنتاجه متعددة وموزعة بتعادلية نسبية عالميًّا، عكس حقول البترول التي تحتكرها أقاليم محدودة من العالم.

ويأمل البعض في إمكان تخفيض المستخدم من الطاقة والمعادن بمقدار النصف دون مشقة كبيرة بوسائل كثيرة وتشريعات قانونية. مثلًا تحسين أداء الوقود في السيارات، وتخفيض وزن السيارات وجعلها أكثر انسيابية — إيروديناميك — لتقليل الاحتكاك بالهواء ومن ثم تقليل استهلاك الوقود، تحسين تقنية بناء الطرق أيضًا لتقليل استهلاك الوقود، والتحول التدريجي إلى السيارة الكهربائية، وغيرها من الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

وفي هذا المجال نذكر أن الطاقة الكهربائية المولدة بالرياح ارتفعت بمعدل واحد إلى عشرة آلاف للفترة ١٩٨٥–١٩٩٧، وأن مبيع تجهيزات استخدام الطاقة الشمسية ارتفع بمقدار ٤٣٥٪ للفترة ذاتها؛ نتيجة إدخال هذه التجهيزات في المباني أثناء بنائها أو المباني سابقة التجهيز. وغني عن البيان أن إنتاج غالبية هذه الطاقة النظيفة يتم في مجموعة الدول المتقدمة.

وأمام مخاطر الطاقة النووية فالملاحظ أنها تكاد تتوقف عن النمو عما هي عليه عالميًّا. ففي كل التسعينيات كان نموها هو الرقم المتواضع ١٠٤٪ فقط!

تطبيق هذه المتطلبات سيؤدي إلى تقليل انبعاث الغازات الضارة، وتقليل أثر مناخ «الصوبة» عالميًّا. أما الوصول إلى نتائج أفضل فتقتضي خيار الانتقال الفردي بوسائل النقل العام أو التشارك في ملكية سيارة أو استخدام الدراجة الهوائية — أو الدراجة الكهربائية التي لا تزال في بداياتها في اليابان، ومن ثم فهي غالية الثمن — أو كل هذه مجتمعة.

(٢-٢) أزمة المياه العذبة في مصر

موقع مصر في قلب النطاق الصحراوي يجعلها أكثر الدول اعتمادًا على مياه النيل. وبافتراض أن الأمطار الموسمية على إثيوبيا — التي هي المصدر الأساسي لمياه النيل في مصر والسودان الشمالي — سوف ينتابها تغير طفيف أو تغير كبير، فإن الحاجة الملحة تدعو مصر إلى ترشيد حازم وفوري لاستعمالات الماء منذ الآن. وهناك قائمة طويلة من أجل الترشيد يعرفها الجميع، من الرجل العادي إلى الفنيين في أمور هيدرولوجية النيل، وإلى رجال الدولة القائمين بوضع السياسات وتقنينها تشريعًا.

وفوق ذلك يقتضي الأمر إدراج موضوع «المياه» كمقرر مستمر يدرس في جميع مراحل التعليم، ليس فقط لإشاعة المعرفة بخطورة الموقف، ولكن أيضًا لممارسة ذلك الترشيد في البيت والري ودور العبادة وجميع الأعمال الهندسية والصناعية وأعمال التنظيف … إلخ. وجنبًا إلى جنب يجب إعادة استخدام المياه بعد معالجتها؛ لكي تصبح مصدرًا يضاعف حصة مصر من مياه النيل. هذا فضلًا عن ضرورة عقد اتفاقية شاملة بين دول حوض النيل على ضوء المبادئ الدولية المعترف بها، وحق كل الناس حسب أعدادهم واحتياجاتاهم في تلك الدول ومراحل التنمية التي تمر بها.

ومن الأمور العاجلة ضرورة تكثيف البحوث حول المياه الجوفية في الصحاري المصرية، والدراسات في هذا المجال متوفرة بكثرة لدى خبراء المياه والجيولوجيا. وكل ما علينا استعادة الرؤية بإضافة استخدام الوسائل العلمية الجديدة، وبخاصة الاستشعار من بعد والصور الفضائية لاختيار أوفق الأماكن لعمل آبار الاستكشاف، وكل ما هو معروف لكل المختصين في هذه الشئون. تجربة شرق العوينات يمكن أن تكون رائدًا في هذا المجال مع الترشيد، وكذلك ترشيد استخدام المياه الجوفية الوفيرة في واحتي الفرافرة والداخلة. الشيء الهام هو عدم المبالغة في تخطيط مشروعات التنمية؛ حتى لا نضخ من المياه ما يؤدي إلى سرعة نضوبها، كما حدث في واحة الخارجة. وبعبارة أخرى إقامة مشروعات زراعية متوسطة إلى صغيرة، غالبها خاص وليس حكوميًّا، تسمح باستخدام أمثل وأطول مدى. المشروعات الكبرى كما حدث في السعودية وليبيا ليست هي النموذج؛ لأنها مكلفة وغالبًا هي قصيرة الأجل لبضع عشرات من السنين فقط. التوازن البيئي يجب أن يراعى من أجل استخدام كل نقطة ماء في محلها. فالعالم الآن في أزمة مياه، والبحوث كثيرة حول المياه الجوفية في أنحاء مختلفة، حتى تلك التي تتمتع بقدر وفير من الأمطار والأنهار كالولايات المتحدة والهند. ذلك أن عهد استخدام الأنهار للري أوشك على الانتهاء؛ لكثرة ما أقيم على الأنهار من السدود، وعهد القنوات والترع والجريان السطحي بالجاذبية والري بالغمر هو الآخر أوشك على الانتهاء، وما زالت مشروعات تحلية مياه البحر شديدة التكلفة وشديدة الاحتياج إلى طاقة رخيصة، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسقاية مدينة أو مستوطنة صغيرة على ساحل البحر في المناطق الصحراوية.

هذا فيما يختص بالماء عنصر الحياة الأول. أما حول تلوث الهواء نتيجة استخدام الوقود الحفري، فإن مصر، لحسن الحظ، تفتقر إلى وجود الفحم باستثناء فحم المغارة في شمال سيناء، الذي هو من نوع رديء لا يساوي ما أنفق على استخراجه. كما أن مصر تشهد توفيقًا جيدًا في تحويل الكثير من محطات توليد الكهرباء إلى الغاز الطبيعي بدلًا من مشتقات البترول.

وحول ارتفاع منسوب البحر العالمي نتيجة للاحتباس الحراري العالمي، فإننا في مصر قد نفقد مساحة كبيرة من الدلتا الشمالية إذا ارتفع المنسوب البحري مترًا واحدًا، وموضوع تآكل الشواطئ المصرية يجب أن يدرس من خلال هذه العملية العالمية، وأيضًا دراسة أثر احتباس طمي النيل في أعالي بحيرة السد العالي. لكن العمليات الطبيعية لا تصل ذروتها بواسطة متغيرات في عامل واحد. فربما تحدث عمليات جيولوجية تؤدي إلى حركة رفع أرضي — عكس حركة الانخفاض التاريخية — وهو ما قد يساعد على التقليل من هذه المخاطر في الدلتا، أو غيرها من سواحل العالم.

وفي النهاية يجب أن نتذكر أن مصر صحراوية المناخ، تتمتع بإمكانات كبيرة في مجال إنتاج الطاقة النظيفة من الشمس الوفيرة والرياح شبه الدائمة. هناك محاولات جيدة في هذين المجالين لماذا لا ننميها بقوة، فهي مصادر طبيعية مجانية هبة من الله، تمامًا كهبة النيل! لماذا لا يفتتح المستثمرون بقوة واقتدار مجالات في صناعة خلايا الطاقة الشمسية وتجهيزات مراوح وأبراج الرياح، وهي صناعات لا تحتاج إلى تكنولوجية عالية بدلًا من، أو إضافة إلى، الصناعات التي يقومون بإنشائها في مجالات بعض أسواقها مغرقة محليًّا! لماذا لا يدرج المهندسون والمقاولون تجهيزات الطاقة الشمسية في مخططات البناء الجديد، حكومي أو خاص، لتقليل استخدام التسخين والتهوية التي تتم الآن، بواسطة مئات الآلاف من أجهزة التكييف والسخانات الكهربية والغازية لتوفير استهلاك الكهرباء والغاز وتقليل انبعاث غازاتها الضارة والملوثة للهواء؟ صحيح أن ذلك ينطوي على تكلفة زائدة في البناء، لكن المحصلة النهائية مناخ صحي، وانخفاض فاتورة الطبيب والدواء والمستشفى. أليس ذلك جدير بالتفكير الجاد لمستقبل أفضل في القرن القادم؟

(٢-٣) الأغذية المعالجة بالهندسة الوراثية

منذ حوادث الأبقار المجنونة في بريطانيا وأوروبا بدأ الرأي العام لدى الناس في معارضة الأغذية المعالجة وراثيًّا، وأخذ العلماء في تقصي الأمر محاولين فهم كم هو الضرر الناجم عن تلك الأغذية النباتية والحيوانية والداجنة والسمكية على صحة الإنسان والكائنات الأخرى. فالأعلاف الموجهة للحيوان والمستخدمة في مزارع الأبقار والدجاج والأسماك تحتوي على مكونات وبروتينات معالجة بالهندسة الوراثية، من أجل الإكثار في صفات معينة.

وقد ترتب على إحجام الناس عن شراء هذه الأطعمة أن اثنين من أكبر شركات العالم الغذائية، وهما: نسله، ويونيليفر، بدأت في تخفيض المعروض للبيع من منتجات تحتوي على معالجات وراثية في بريطانيا. وكذلك تعهدت شركات بيع الأغذية في أوروبا وبريطانيا بسحب السلع المعالجة من أرفف جميع فروع سلسلة السوبر ماركت التي تديرها، مثل سنسبري، وسيف واي، وكادبري، وكارفور، وميجروس، في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.

تنامى الاهتمام بهذه القضية في أوروبا منذ قليل من السنين، بحيث تضمن حركة قوية ضد الأغذية المعالجة، وصلت أقصاها في فبراير الماضي حين أعلن مجموعة من الباحثين أن فئرانًا أجريت عليهم تجارب تغذية ببطاطس معالج تجريبي غير موجود بالسوق، قد أصيبوا بضمور في الأعضاء وعانوا من نقص في المناعة. وعلى الرغم من أن الباحثين لم يدركوا تمامًا أسباب ذلك، فقد أصبحت مجالًا لمزيد من التقصي والبحث. إلا أن النتيجة أن ٩٠٪ من المتسوقين أصبحوا ينتقلون من سوبر ماركت لآخر تجنبًا للأغذية المعالجة من حبوب ودقيق وخضر ولحوم وأسماك وطيور وغير ذلك، غير عابئين كم من المسافة يقطعون للحصول على مبتغاهم.

فغير معروف على وجه الدقة أثر الأغذية المعالجة على صحة الإنسان، لكن الباحثين يرون أنها تحتوي على بروتينات لم تكن جزءًا من عناصر الغذاء الإنساني أبدًا، ومن ثم وجب الحذر اتقاء لضرر مجهول، وبخاصة انعكاسات ذلك على نمو الحساسية الغذائية أو السميات في الجسم البشري.

ومنذ عام كانت هناك حملة دعائية واسعة لشركات صنع الأغذية المعالجة، واصفين إياها بأنها خطوة شجاعة إلى الأمام. ومقابلها كان رد الفعل شديدًا بأن هذه الأغذية لم تجرب على المدى الآمن لضمان صحة الإنسان من ناحية وعدم الإضرار بالبيئة الطبيعية في الحقول التي تزرع ببذور معالجة من ناحية أخرى. وقامت سلسلة سنسبري بنشر إعلانات في صفحات كاملة في صحف كبرى تؤكد فيها لزبائنها أنها لن تعرض أبدًا أية أغذية معالجة على أرففها.

وتجنب هذه الأغذية أصبح أمرًا صعبًا؛ لأنه لا يوجد حظر بواسطة القانون على مثل هذه السلع الغذائية، ولعدم وجود ملصقات على الأوعية التي توجد داخلها هذه الأغذية تشير إلى أنها عولجت وراثيًّا بقدر معين ونوع معين. أرفف المحلات في كثير من دول العالم توجد فيها مثل هذه الأغذية، رغم أن الأغلب الأعم من الدول لا تنتجها؛ وذلك لأن الولايات المتحدة هي أكبر المصدرين لهذه الأغذية.

تتركز زراعة البذور المعالجة بالهندسة الوراثية عام ١٩٩٨ في الولايات المتحدة (٧٤٪ من العالم، ونحو ٤٩ مليون فدان)، والأرجنتين (١٥٪ ونحو عشرة ملايين فدان)، وكندا (١٠٪ ونحو ستة ملايين ونصف مليون فدان)، ومساحات قليلة في أستراليا والمكسيك وإسبانيا وجنوب أفريقيا وفرنسا. وكانت أول ممارسة لهذه الزراعات في الولايات المتحدة عام ١٩٩٤، وانتشرت بسرعة البرق مشتملة على فول الصويا (٥٢٪ من المحصول العالمي الذي تدخل زيوته في حفظ الأغذية المعالجة المعدة للبيع)، والذرة (٣٠٪)، والقطن — داخل الولايات المتحدة فقط — واللفت في كندا.

والملاحظ أن هذه الأغذية تتركز في أمريكا، بينما تعارضها دول العالم من أوروبا إلى آسيا وغيرهما. وقد مارست كثير من الحكومات التحوط ضد هذه الأغذية من أجل صحة الإنسان والبيئة. فقد وضح أن بعض البذور المعالجة ضد نمو الأعشاب الضارة أدت إلى الإضرار بحشرات غير مقصودة. ولأن بقايا الجينات المعالجة تظل في التربة، مما قد يترتب عليه اكتساب أنواع من الحشائش غير المرغوبة مناعة كما حدث في كندا ١٩٩٨.

وفضلًا عن ذلك فإن الشركات المنتجة لهذه البذور المعالجة بالهندسة الوراثية، مثل شركة مونسانتو، قد أصبح لها قبضة حاكمة على المزارعين ونوع المحصول، وتنص اتفاقيات بيع هذه البذور على عدم منع إعادة بيع البذور أو الاتجار بها. ولمزيد من إحكام القبضة أصبحت الشركات المنتجة تضيف تعقيمًا للبذور يمنع بذور المحصول الجديد من أن تصبح صالحة لإنتاج محصول ثان. بمعنى أن الزرع لا يتمتع بالخصوبة كما هو الحال في بذور المحصولات العادية غير المعالجة.

هناك عشرات البحوث والمقالات والكتب التي تنبه إلى مخاطر صحية وبيئية للبذور المعالجة، ومن أهمها مخاطر توحيد أنواع البذور تمنع التنوع الغني الذي كان سائدًا في المحاصيل العادية، والذي كان له الفضل في الإكثار من أنواع محصولية وتحسينها وإدخال أنواعٍ أخرى. مثل ذلك القطن البري الذي تعددت أنواعه بالبحث والتحسين والانتقاء. ومن المخاطر الأخرى أن توحيد البذور يعرض المحصول للتدمير في مساحات شاسعة بعد أن كان خطر الآفات قاصرًا على أنواع، والباقي قادر على المقاومة.

والخلاصة: أن المعالجات بالهندسة الوراثية خطوة علمية للأمام تعالج آفات زراعية من منظور محدد، أو تسعى لتقليل استخدام الأسمدة الكيميائية التي تضر بشدة بنوعية مياه التربة، أو ترمي إلى زيادة إنتاجية الأرض من الغذاء الذي أصبح يشكل هاجسًا كبير الأبعاد في الشئون السياسية من أجل إطعام غالبية سكان الأرض والفقراء منهم بوجه خاص. لكن الرأي العام ورأي كثرة من العلماء في مجالات البيئة والنبات وصحة الإنسان ترى أن فترة التجريب هي من القصر بحيث تدعو إلى التريث في استخدامها. فأي ضرر يظهر نتيجة استخدامها قد تصعب معالجتة، سواء كان ذلك على التربة الزراعية أو صحة الإنسان، وهو أغلى هدف تسعى إليه كافة العلوم والأبحاث ومن بينها الهندسة الوراثية.

وفي وزارة الزراعة المصرية برامج مشابهة لإنتاج أنواع من البذور المعالجة لأهداف محددة، مثل تقليل كلفة الأسمدة، وتثبيت الأزوت الذي يحتاجه النبات، واستنباط نباتات مقاومة للملوحة أو الجفاف وغير ذلك. والأمل كبير في فترة تجريب معقولة حتى لا نقع في محاذير كان القصد تجنب آثارها السيئة على التربة والإنسان. فلسنا في عجلة شديدة، وعلينا أن ندرس لماذا تعارض أوروبا على سبيل المثال هذا النوع من الأغذية. خاصة أن الموضوع يمس بشدة الزراعة التي كانت وستكون عماد الحياة والحضارة في مصر منذ ثمانية آلاف سنة وحتى المستقبل البعيد.

  • ملحق ١: في العام الماضي (٢٠٠٦) بدأت في مصر اتهامات بتسهيل وصول وزرع بذور معالجة وراثيًّا بواسطة وسطاء في وزارة الزراعة، وبلغ الأمر منتهاه بوصف بعضها بأنها «متسرطنة»، وبالغ بعض وسائط الإعلام بربط هذه وتلك بتفشي أمراض عديدة في مصر، لكن الموضوع برمته — لخطورته — يحتاج إلى قضاء مستند إلى تحاليل ووقائع إلى جانب إجراءات التقاضي الجنائي!
  • ملحق ٢: حول لحوم وألبان الحيوانات المستنسخة وراثيًّا Cloned في يناير ٢٠٠٧ أصدرت إدارة الأغذية الأمريكية FDA تقريرًا مفاده: أن لحوم وألبان المستنسخات مماثلة تمامًا للحيوانات المرباة طبيعيًّا. وإذا صح هذا فإنه خبر سعيد لنجاح العلم في الاستنساخ. وقد تلقته الدوائر المهتمة في اليابان وأستراليا بالكثير من التقبل باعتبار أن منتجات المستنسخات سوف تدخل أسواق الاستهلاك في مستقبل ليس بعيدًا. لكن هناك محاذير أولها: أنها لم تجرب بكفاية على البشر، حكمها في ذلك حكم النباتات المعالجة وراثيًّا. والأمر الثاني: أن الاستنساخ ما زال عملية باهظة التكلفة، ومن ثم فإن لحومها وألبانها تصبح أغلى أضعافًا بالقياس إلى منتجات الحيوانات العادية التربية والتوالد، فضلًا عن أن عمر الحيوان المستنسخ — حتى الآن — قصير ومعرض للموت لأسباب كثيرة لا نعرفها الآن. لهذا قيل: أن تقتصر عملية الاستنساخ على المحافظة على الأنواع النادرة المعرضة للانقراض.

وهكذا يكسب العلم خطوة ويتردد أو يخسر في سوق التعامل مع النتائج خطوة. فالبشر هم أعقد الخلق جميعًا، وأكثرهم إلحاحًا وسؤالًا قبل أن يلقوا بأنفسهم للتهلكة، وذلك رغم أنهم يفتعلون التهلكة في الحروب التي اعتادوها منذ البداية!

(٢-٤) مصايد الموت

الموت حق على كل الكائنات البيولوجية من نبات وحيوان وإنسان، نتيجة وهن المكونات العضوية لتلك الكائنات في أعمار مختلفة. لكن في بنية الطبيعة أحيانًا مخاطر تؤدي إلى الهلاك المفاجئ كالرمال المتحركة، أو الزلازل والبراكين والعواصف الهوج والأعاصير المدمدمة والفيضانات الكاسحة والحرائق المدمرة، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية المنتظمة وغير المنتظمة.

ولقد حاكى الإنسان بعض طبائع الحيوان في التربص بالفرائس. ولأنه كائن لاحم — أي آكل لحوم إلى جانب النبات — فقد زاد على طبائع الحيوان عمل الفخاخ والمصايد سواء كانت حفرًا مغطاة أو حواجز يمد بينها شباك، أو توجيه الفرائس إلى هاوية تدق الأعناق، وذلك من أجل الحصول على لحوم الحيوان وفرائها وجلودها. ورويدًا طبق الإنسان هذه الوسائل في صراعاته الفردية وحروبه القبلية والأممية.

حقول الألغام

وظل الإنسان يطور أسلحته وتقنياته في الخداع والتصيد إلى أن وصلنا إلى اختراع المتفجرات بأشكالها، فنشرت القيادات العسكرية مصايد مميتة هي عبارة عن حقول من ملايين الألغام تظل تعمل حتى بعد عشرات السنين من انتهاء الحروب. والأمر ليس بعيدًا عنا ففي الصحراء الغربية وسيناء حقولًا من الألغام لا تزال تهدر حياة مئات الأبرياء. وهناك اتفاقيات لتطهير الأرض من هذه الألغام لكن تنفيذها يتطلب وقتًا ومالًا، وفوق ذلك صدق المتحاربين على تسليم خرائط الألغام.

فإذا كانت الألغام مصايد عسكرية فإننا نعاصر اليوم مصايد أخرى بعضها عسكري الطابع، ولكن أخطرها هي المصايد التي يتسلل تأثيرها إلى بني الإنسان من خلال تطبيقات متعجلة في تكنولوجيا الغذاء غير مؤكدة النتائج بالنسبة لصحة الإنسانية. لعل ذلك أشبه بصندوق «باندورا» في الأسطورة الإغريقية حين حدت الرغبة باكتشاف ما في الصندوق، فانفلت إلى العالم آلاف الشرور التي كانت حبيسة بالصندوق، فأفسد بذلك عالمًا كان خاليًا من الشر والأشرار، والشيء الوحيد الذي تبقى هو الأمل. فهل ما زال هناك أمل؟!

النفايات النووية

المصايد العسكرية الطابع غالبًا ما يمكن ضبطها. فهي لا تطلق إلا في حالة نشوب الحرب. ولكنها مع ذلك هي من الخطورة بحيث يمكن أن تؤدي بمستقبل البشرية على سطح الأرض، والتي عبر عنها بعض الروائيين الذين يستشرفون المستقبل فيما أسموه «الشتاء النووي» أو «اليوم بعد الكارثة النووية». فإذا كان الردع النووي قد أصبح حقيقة قائمة الآن بحيث يكاد أن يستحيل معه قيام حرب نووية عالمية، فإن المخاطر الكبرى حقيقة واقعة تحت أنظارنا تتمثل في إشكالية التصرف في النفايات النووية الناجمة عن استخدامات عسكرية ومدنية كإنتاج الطاقة. وهي إشكالية أكثر خطورة من الحرب؛ لأن إشعاعات النفايات تتسرب إلى باطن الأرض، وغالبًا ما تؤثر على المياه الجوفية، والكثير من مدن العالم ومزارعه تستمد مياهها من الطبقات الحاملة للمياه في جوف الأرض. ونموذج هذا — وإن كان على مقياس آخر من المسببات والمخاطر — ممارس لدينا حيث نعرف — ونحاول أن نعالج — تسرب مياه الصرف الصحي والصرف الزراعي — بما فيها من بقايا أسمدة ومبيدات كيماوية — إلى المياه الجوفية في الوادي والدلتا، مما يتسبب في أمراض كثيرة تأتي مباشرة وغير مباشرة.

إن قراءة مجهودات الدول الكبرى في التخلص الآمن من النفايات الذرية تجعلنا نشعر بشيء مخيف قد أطلقه العلم واستخدمه العسكر على عجل من أجل ضمان الانتصار في الحرب أو التلويح به كقوة ردع، لقد بدأت الدول المتقدمة في دفن النفايات في أراضي الدول النامية باتفاقات سرية مع قادة تلك الدول. وحين افتضح الأمر — غالبًا بواسطة أنصار السلام، ومجموعات السلام الأخضر — كانت كما نقول: «فضيحة بجلاجل»، وأصبح التخلص من تلك النفايات أمرًا بالغ التعقيد باهظ التكاليف.

وكنموذج نأخذ مجهودات الولايات المتحدة في التخلص بطرق آمنة من النفايات باعتبارها أكبر دول العالم استخدامًا للطاقة النووية عسكريًّا ومدنيًّا. — المعلومات الآتية عن أمريكا مستمدة من المجلة الجغرافية الأمريكية National Geographic، عدد يوليو ٢٠٠٢.
تصنف مخاطر إشعاع النفايات على النحو الآتي:
  • (١)

    نفايات ذات إشعاع عالٍ من نفايات الطاقة المستخدمة في المفاعلات (٥٢ ألف طن)، ونفايات سائلة وصلبة ناجمة عن إنتاج البلوتونيوم (٩١ مليون جالون).

  • (٢)

    نفايات عالقة بمعدات وآلات وملابس ومواد أخرى انتقلت إليها الإشعاعات أثناء المعالجات المختلفة — إشعاعات البلوتنيوم وعناصر إشعاعية أخرى صناعة الإنسان، وكلها أثقل من اليورانيوم — وتقدر ١١٫٣ مليار قدم مكعب مدفونة في أماكن معدة خصيصًا.

  • (٣)

    نفايات ذات إشعاع منخفض من المستشفيات ومراكز الأبحاث ومحطات إنتاج الطاقة الملغاة.

  • (٤)

    بقايا خام اليورانيوم بعد استخلاص الركائز، وهي أكبر النفايات حجمًا (٢٦٥ مليون طن)، ولكنها أقلها إشعاعًا.

وتخزن النفايات في براميل متفاوتة الأحجام بعضها يحتوي على ١٧٫٥ طنًا وسمك جدران البراميل تسع بوصات (نحو ٢٣ سم) مصنوعة من صلب الكربون. ويطالب البعض أن تصنع البراميل من سبيكة صلب يدخل فيها النيكل لمزيد من العمر قد يصل إلى عشرة آلاف سنة. لكن هذا لا يمنع من وجود براميل مخزنة في العراء قد أصابها الصدأ وأصبحت خطرة، كما هو الحال في بادوكا (ولاية كنتكي)، ولوس ألاموس (ولاية نيو مكسيكو). وأخطر المدافن هي تلك في هارتفورد بولاية واشنطن (شمال غرب الولايات المتحدة)، حيث ٥٢ ألف طن من نفايات الإشعاع العالي مدفونة بعناية تحت الأرض.

وهناك مشروع ضخم لعمل مدافن للنفايات على عمق ٣٠٠ متر تحت سطح جبل يوكا Yucca في ولاية نفادا، يحتوي على ٥٠ ميلًا من الأنفاق الداخلية، ويستطيع أن يخزن ٧٧ ألف طن من النفايات تنقل بواسطة ناقلات كهربية ومجموعة من الإنسان الآلي. ويتكلف المشروع نحو خمسين مليار دولار، وتطلب حكومة الولاية ضمانًا أن تظل النفايات آمنة عشرة آلاف سنة، وبالرغم من تأييد البعض إلى أن هناك من الخبراء من لا يستبعد حدوث انبعاثات إشعاعية تتخلل شقوق الجبل وتتسرب إلى المياه الباطنية. هذا بعض من كل. ففي الولايات المتحدة مئات من المفاعلات لكافة الأغراض، فضلًا عن الأسلحة والصواريخ في الأساطيل والغواصات والطائرات. وسواء كان عمر الإشعاعات الضارة عشرة آلاف سنة أو ٢٤ ألف سنة — وهو ما يساوي نصف عمر العناصر المشعة — فإن المخاطر تهدد الإنسان اليوم وباكرًا في عقر دار أكثر أقاليم الدنيا استخدامًا للطاقات الإشعاعية. فالنفايات المستخدمة في أوروبا يعاد معالجتها ثم تنقل في براميل ضخمة زنة مائة طن إلى مكامن آمنة لفترة انتقالية تتراوح بين ٢٠ إلى ٣٠ سنة، حيث تنخفض درجة حرارتها من نحو ٤٠٠ درجة مئوية إلى ٢٠٠ درجة، فيمكن التعامل معها بتخزينها نهائيًّا في أعماق مناجم غير مستخدمة.

وفي ألمانيا حدث اتفاق بين الحكومة وحركة السلام الأخضر يتم بموجبه إغلاق محطات الطاقة النووية كلما بلغ عمر استخدام الواحد منها ٣٢ سنة. وبعبارة أخرى فإن جميع المحطات اﻟ ١٩ في ألمانيا سوف تغلق بعد نحو عشر وخمس عشرة سنة. وقد جاء هذا الاتفاق نتيجة المظاهرات العديدة التي كانت تسعى لإيقاف القطارات المحملة بالنفايات بعد إعادة معالجتها في معامل معينة في فرنسا وبريطانيا. وقد كلفت مظاهرات مارس ٢٠٠١ الحكومة ٢٢ مليون دولار تكلفة ١٥ ألفًا من الشرطة الخاصة لتفريق المتظاهرين على طول الطريق الحديدي. ومثل هذه التظاهرات موجودة في فرنسا وهولندا وبريطانيا والسويد. ولأن المحطات النووية في الاتحاد الأوروبي تنتج نحو ٣٠٪ من الطاقة المستخدمة، فإن هناك جدلًا كبيرًا حول مصير محطات إنتاج الطاقة النووية: هل تغلق لتكفي المستقبل شرورها؟ أم تبقى لتظل الدول الأوروبية أكثر استقلالًا، وأقل اعتمادًا على مصادر الطاقة الأخرى المستوردة، وبخاصة الغاز الروسي الذي يصل وسط وغرب أوروبا في شبكات ضخمة من الأنابيب؟

مشكلات النفايات موجودة في أراضٍ مختلفة من الاتحاد السوفيتي السابق، وقد لا تكون فيها إمكانات مماثلة لتجنب الإشعاعات لتكلفتها العالية. ومثل ذلك غالبًا موجود في الصين. وعلى الأغلب يكون الأمر أشد بؤسًا نتيجة المنافسة القاتلة بين الهند وباكستان. والخلاصة: أنه في انتظار طاقة بديلة نظيفة، فإن التقدم التكنولوجي المبهر في مجالات استخدام الذرة في شتى النواحي الحياتية والصحية أصبح له من الآثار الجانبية ما قد يهدد بقاء البشرية، ويحتاج إلى اتفاقات ملزمة كاتفاقية كيوتو ضد التأثيرات الصناعية والطاقة الملوثة على حالة مناخ الأرض، والذي تنصلت منه الولايات المتحدة من أجل مصالحها الخاصة!٤

مصايد وفخاخ أشد فتكًا

أوسع مصايد الموت انتشارًا هي تلك التطبيقات المعاصرة لتكنولوجيا إنتاج الغذاء، مثل مزارع الدواجن ومزارع الأسماك والبذور المعالجة وراثيًّا لمحاصيل غذائية واسعة الاستهلاك كالذرة وفول الصويا وبعض الفواكه. فبالرغم من أن نتائج هذه التطبيقات تعد بالأمل في إطعام الشعوب وبخاصة الفقيرة، إلا أننا نجد جدلًا شديدًا بين المؤيدين والمعارضين، سواء كانوا من العلماء أو الاقتصاديين والساسة الذين يمولون بعض البحث العلمي ليطوعوا العلماء والعلم لمصالحهم الخاصة. فالعلم بطبيعته يبني على مهل ويفسر الظواهر على قدر المعرفة ويترك الباب مفتوحًا لقدر آخر من المعلومات يأتي فيما بعد، وبالتالي فالعلم لا يعرف القرارات الحاسمة التي يصدرها الساسة وأصحاب المصالح والاستثمارات الرأسمالية.

وبين المؤيدين والمعارضين تساؤلات وفجوات، نلخص بعضها في النقاط الآتية:
  • (١)

    لا شك في أن إنتاج البذور المعالجة وراثيًّا ضد الكثير من أمراض النبات وأوبئته أعلى من إنتاج البذور غير المعالجة، ولكنه يوفر الكثير من الإنفاقات على مكافحة الأوبئة والأعشاب الضارة، وربما يوفر دخلًا أكبر للمزارعين.

  • (٢)

    إن زيادة الإنتاج الزراعي في دول العالم الثالث سوف تقلل من فاتورة استيراد الأغذية الأساسية لدول العالم الثالث، وتساعد على مكافحة الجوع الذي يسبب الكثير من أمراض سوء التغذية بين الشعوب الفقيرة. مثال ذلك «الذرة ب ت»، كما أن إنتاج فول الصويا والأقطان المعالجة سوف ترفع دخل الفلاح في العالم المتقدم والنامي على حد سواء. وهناك مساعٍ أخرى لإنتاج أرز معالج — الأرز الذهبي — لمكافحة نقص فيتامين «أ» لدي المستهلكين.

  • (٣)

    يمكن للبذور المعدلة وراثيًّا للأغذية الأساسية المساعدة على زيادة البروتين أو علاج نقص الفيتامينات في النبات، وربما أيضًا معالجة جينات الحساسية.

  • (٤)

    إن تكنولوجيا الهندسة الوراثية ما زالت تحبو في مدارجها الأولى، ولا شك في أنها ستتحسن باستمرار الأبحاث لتنطلق إلى آفاق أرحب وأصح.

وفي مقابل ذلك نرى آراء أخرى معارضة منها:
  • (١)

    إن جينات البذور المعدلة قد تنتشر على حساب التنوع البيولوجي للنبات، مما يقضي على مخزون الطبيعة من أنواع قابلة للاستخدام المستقبلي، وتلزم الناس بأنواع محددة قد يصعب التعامل معها حين تتهدد بأمراض وأوبئة جديدة. وقد أدى ذلك بحكومة المكسيك إلى منع زراعة الذرة المعدلة؛ خوفًا من التنوع البيولوجي للذرة باعتبار أنها كانت الموطن الأول للذرة في العالم.

  • (٢)

    البذور المعاجة بمضادات الحشرات «ب ت» قد تساعد في مستقبل قريب على ظهور حشرات مقاومة لهذه المضادات، فتفسد بذلك ميزات هذه الهندسة الوراثية.

  • (٣)

    يخشى أن تمتد سموم «ب ت» إلى التربة فتعدل النظام الإيكولوجي للتربة، وبالتالي أنظمة الحياة النباتية لغير الأحسن.

  • (٤)

    الأوضاع الحالية تمثل احتكارات هائلة لشركات محدودة تسعى إلى السيطرة العالمية على مقدرات الغذاء التي عرفها الإنسان طيلة آلاف السنين منذ ابتكار الزراعة. فهذه الشركات مثل «مونسانتو»، و«كون آجرا»، و«دي بونت»، و«نوفارتس»، و«كارجيل»، تمارس إنتاج بذور «معقمة» لا تصلح لإكثار بذور جديدة، بل لا بد من شراء البذور كل موسم زراعي، فضلًا عن احتكارها لبنوك التسليف الزراعي والأسمدة وغالبًا تسويق المحصول، وكلها إجراءات تجعل المزارع الأمريكي في قبضة الشركات، ولا مهرب له إلا أن يهجر الزراعة. فما بالنا بالمزارعين في البلاد النامية؟

  • (٥)

    كما أن هذه الممارسات المتقدمة تكنولوجيًّا تجد تحذيرًا قويًّا من جانب عدد كبير من العلماء في أوروبا وأمريكا، باعتبار أن مردودها على صحة الإنسان غير مؤكد؛ لأنه لم يمر من الوقت ما يكفي لمراقبة نتائج استهلاكها على البشر ومن ثم للحكم عليها؛ لذا فإن هناك رجعة قوية إلى الزراعة العضوية الخالية من سموم الأسمدة الكيماوية وبذور الهندسة الوراثية، وتجد محصولاتها مستهلكين متزايدين في العالم المتقدم.

لقد عرف الإنسان الثروة الداجنة والأسماك منذ عشرات آلاف السنين، لكن الاتجاه الذي شاع منذ عقود قليلة لإنتاج اللحوم البيضاء على نطاق كمي في صورة مزارع كبيرة للدواجن والأسماك قد أتى بنتائج طيبة للمنتجين، وأشاع هذه الأغذية والبيض على مائدة جمهرة كبيرة من الناس. لكن في الفترة الأخيرة حدث كساد نسبي لكثرة المعروض محليًّا واستيرادًا. واتضح — بين ما ظهر من دراسة ارتباطات مرضية وتلك المنتجات — أن طبيعة محابس الدجاج مثلًا تؤدي إلى إصابة الدواجن ببكتريا «إي كولاي E coli 0157 H7» وغيرها مثل Listeria والسالمونلا. وبعضها يمكن تجنبه بالطهي في درجات عالية (+٨٠ درجة)، وبعضها لا يتأثر بالتبريد العالي. والخلاصة: أننا لا نرى أو نشم أو نذوق البكتريا، وأن الأطفال وكبار السن والحوامل أكثر تعرضًا لهذا أو ذاك من البكتريا المُمرِضَة. ومثل هذه المحاذير تطلق على مزارع الأسماك التي تتعرض مياهها للصرف الزراعي، بما تنقله من سموم ومبيدات مثلها في ذلك مثل الخضر المروية بمثل هذه المياه الملوثة، وأيضًا لحوم الأبقار التي تصاب بأمراض شتى أشيعها جنون البقر، نتيجة تغذيتها بأعلاف مصنعة تدخل فيها بقايا عضوية حيوانية وسمكية كثيرة.
ليس معنى هذا التخويف والتهويل، وليس معناه أيضًا الدعوة إلى العودة إلى نظام تربية الدواجن والحيوان التقليدية، فليس هناك متسع مكانيًّا في ظل أعداد السكان المتزايدين وخاصة في العالم الثالث الذين يمثلون مصيدة أخرى للتعاسة والمرض، فلماذا لا نترك الخيار للمنتجين إما التربية التقليدية أو المحابس الحديثة، وبالتالي نترك الخيار للمستهلك لهذا أو ذاك؟! ولكن هناك من المحاذير ما ظهر من دراسات في أمريكا أن ربع السكان يعانون سنويًّا من أمراض سمنة وتخمة التغذية، ومنهم حوالي ثلث مليون شخص يعالجون بالمستشفيات والقليل يموتون. بطبيعة الحال فإن نمط الأغذية السريعة Take away في الحياة الأمريكية غالبًا ما تتحمل جانبًا كبيرًا من المسئولية. وفي الدانمرك تضطر مؤسسات البيض الكبرى إلى تسليط أشعة فوق البنفسجية للتخلص من البكتريا العالقة بسطح البيض. وتسعى مطاعم مشهورة عالميًّا إلى ضمان صحة ما تقدمه بمراقبة تعرض اللحوم لحرارة عالية للقضاء على الكثير من البكتريا الضارة. ولعلنا نتذكر صحة ممارساتنا الشرقية في طهي الكباب على النار كوسيلة تقليدية للمذاق الطيب مع رائحة الشواء، لكنها في الواقع وسيلة نفعية تجريبية لآلاف من السنين للتخلص من احتمالات الأمراض، وهناك حكايات لا نهاية لها عن الغذاء النباتي والحيواني والسمكي وضرورة غسله جيدًا وأحيانًا بالصابون وغيره من المطهرات.

فالعالم اليوم يأكل من مصادر مجهولة — عصابات يرأسها فاقدو الضمير لاستيراد وبيع أغذية فاسدة — وسكان المدن يأكلون ويشربون من مصادر بعيدة، قد لا تتوافر في نقلها الاشتراطات الصحية سواء كانت «بودرة» ألبان أو لحوم مجمدة وخضروات وفاكهة مبردة.

ملحق: إنفلونزا الطيور هي وباء وخيم مميت ينتشر تدريجيًّا في العالم، رغم المضادات التي ينتجها العلماء للحد من تأثيره القاتل. وربما كان إبادة الطيور غير المعالجة، وخاصة في بلاد العالم الثالث ومصر، وسيلة وقاية أكثر منها علاج. والأغلب أن هذا الوباء هو نتيجة غير محسوبة لتمادي الإنسان في «تصنيع» الغذاء بصورة أكبر من تحمل نتائجها. ومثل ذلك تمامًا عن مزارع الأسماك في مصر التي تعيش في مياه ترع ومصارف، وبحيرات مسممة ببقايا الأسمدة الكيماوية في الأراضي الزراعية، وأشياء أخرى يكشف مزيد التقصي والبحث.

(٢-٥) العولمة ومنظمة التجارة العالمية

تسير العولمة بخطى سريعة لكنها غير عادلة في أنحاء العالم المختلفة. وفي تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP عام ١٩٩٥، أن العولمة سريعة وتصل إلى أعماق مهمة، إلا أن معظم العالم غير مشارك فيها. فقوانين العولمة واللاعبين الأساسيين فيها يركزون أعمالهم على اندماج وتكامل الأسواق العالمية، متجاهلين الأسواق التي لا تستطيع التوافق معها، ومتجاهلين احتياجات الناس لكيلا يندمجوا في محيط عملية أكبر منهم أو لم يستوعبوها بعد. والواقع حتى الآن أن العملية بمجموعها هي تركيز القوة في أيدٍ محدودة، وتهميش الفقراء إلى حدود بعيدة.

اللاعبون في ميدان العولمة هم المؤسسات والهيئات العالمية التي تشتمل على المؤسسات المالية والبنكية، والشركات الكبرى متعددة الجنسية، والاتحادات الإجرامية مثل المافيا، وصناع السياحة، والجمعيات الأهلية، وأخيرًا الطلب على العمالة الماهرة. وكل هؤلاء يعبرون الحدود القومية والإقليمية وحدود الأعمال التقليدية بحرية تامة. فالحدود القومية اختفت بصورة كبيرة أمام المنظمات المالية المتكاملة مع الأنشطة الاقتصادية والشركات الكبرى، واختفت أمام شبكات الإنترنت للمعلومات الصناعية وتجارة الاستثمارات، واختفت أمام الأفراد ذوي الكفاءات في شتى عالم الأعمال والعلوم التطبيقية من بلاد العالم المختلفة، حيث يشتد عليهم الطلب في أوروبا وأمريكا وتفتح أمامهم الحدود، بينما تفقد أوطانهم الأصلية هذه الثروة الفكرية والعلمية، سواء كانت هذه الأوطان من بلاد شرق أوروبا أو آسيا أو العالم العربي أو أفريقيا وأمريكا اللاتينية. أما بقية الناس الذين لا يتصفون بهذه المهارات فإنهم لا يتمتعون بمزايا العولمة، ولا تمتد إليهم حرية الحركة والعمل، وقد ترتب على ذلك أن كثيرًا من الأسر قد انقسمت عبر الحدود نتيجة قوانين الهجرة التي تحبذ المهرة وتمنع غيرهم.

وعلى هذا فطبقة «النخبة والصفوة» العالمية تتمتع بحدود مفتوحة ومنافع وخدمات وافرة، بينما مليارات الناس يجدون الحدود مغلغة دونهم. وفي رأي كثير من المفكرين أن العالم كان أكثر عولمة في القرن الماضي، حينما كانت الهجرة مفتوحة أمام الناس من المهرة وغير المهرة. فلكل وظيفة. أما الآن فالوظائف قاصرة على احتياجات معينة، مما يقع تحت مسمى «استنزاف العقول».

ظاهرة العولمة في الحضارة والتاريخ

كثرت الكتابات عن العولمة الراهنة فيما بين التأييد والمعارضة حسب المنطلقات الفكرية في المجتمعات المتقدمة، وفي المجتمعات التقليدية التي تمر بأطوار من التحولات والتغيرات، إلى أشكال أخرى من التكنولوجيات والمفاهيم المعاصرة من أجل اللحاق بمسرى التاريخ وحركته السياسية والاقتصادية والمجتمعية.

وللحقيقة فإن العولمة المحدثة ليست إلا إحدى علامات طريق في تنظيمات حياة الأمم والشعوب على مر التاريخ. لكن الذي يجعل منها همومًا كبرى بالنسبة لكثير من المجتمعات أننا نعيش عصر المعلوماتية، وكل ما حدث في أي مكان من الكرة الأرضية له صدى أو دوي حسب القرب أو البعد المكاني والإيديولوجي، سواء كان هذا الحدث أمر طبيعي كالبراكين والأعاصير والجفاف، أو حدث مجتمعي كالأمراض الفتاكة الجديدة والمجاعات والبطالة وحقوق الإنسان، أو حدث اقتصادي كارتفاع سعر الطاقة، أو كانهيار بورصة مضاربات مالية مفتعلة أو حقيقية، مما يؤدي إلى آثار وخيمة على النشاط الاقتصادي في إقليم معين أو على مستوًى عالمي، أو حدث سياسي كالعنصرية والحروب المدمرة الأهلية أو الدولية. وفي كل هذه الحالات وغيرها يصحب الحدث أنواع من الإعلام غالبها موجه وغير موضوعي، من أجل تعبئة الرأي العام في دولة أو إقليم أو العالم، بحيث يقع الناس ضحية غسيل مخ قد يلبس الحدث الضار ثوبًا غير حقيقته. أو قد يكون الغرض الإعلامي تخويف الآخرين، على منوال المثل العربي «إياك أعني واسمعي يا جارة!»

والكثير من تحليلات ظاهرة العولمة الحالية تذهب إلى واحد من النتائج الآتية:
  • (١)

    الغرض النهائي هو الهيمنة السياسية للقطب الواحد الراهن أو أقطاب أخرى تساندها وتشاركها في الغنيمة، كالاتحاد الأوروبي أو دول الثمانية الصناعية أو نمو الصين إلى جانب هؤلاء جميعًا.

  • (٢)

    الهدف الأساسي ليس الهيمنة السياسية التي تكلف كثيرًا في ردع أية دولة مهما كان حجمها، كما نلاحظه في تكلفة وترتيبات الحرب ضد أفغانستان والعراق. ولكن الهدف هو سيطرة اقتصادية عالمية بواسطة المؤسسات متعدية الجنسية. والردع في هذه الحالة لا يكلف سوى أنواع من العقاب كالضغط أو الحصار الاقتصادي للدولة «المتمردة». وبعبارة أخرى أن يكون هناك نوع من «الحكومة» الاقتصادية العالمية تشرف وتراقب أداء الدول المختلفة، ومدى تقبلها أو معارضتها للشروط التجارية العالمية السائدة. وحين تبدو بوادر «تمرد» في دولة ما، يلصق بها قائمة من الاتهامات أبسطها عدم تطبيق حقوق الإنسان، أو معاملة الأقليات العرقية والدينية والفكرية على غير معاملة غالبية السكان، ومؤخرًا الاتهام بالارهاب. وحين تعاقب دولة ما تحجب الأسباب الرئيسية الاقتصادية، وتعلن بدلها أسباب أكثر قبولًا وشعبية لدى الرأي العام في الدول المهيمنة، كاضطهاد الأقليات، أو كبت التنظيمات المعارضة، والتضييق على حرية الرأي.

والغالب أن كلًّا من التحليلين صحيح، فالسياسة والاقتصاد تشكل عناصر متفاعلة مندمجة بحيث يصعب معها تطبيق مبدأ السببية إلى أبعد الحدود.

وفي الماضي البعيد والقريب تجارب كثيرة للعولمة. لكن كل منها كان يحتوي ويضم مساحة من الأرض على قدر تكنولوجية السلاح السائد، وسرعة الحركة وانتقال الأخبار ونوع الفكر، والإيديولوجية التي تتمنطق بها مساعي عولمة ما تريد فرضها على الشعوب الأخرى. قد نشأت دول الحضارات الأولى في مصر وسومر والصين والسند على الزراعة في الوديان النهرية في شبه عزلة، دون أن تكون لديها مساعٍ لمد نطاق هذه الحضارات وفرضها على المناطق المجاورة، ولكن هذه الحضارات كانت من الغنى بحيث تعرضت لهجوم الشعوب المتحركة الطامعة في ضمان الغذاء الدائم والوفرة التي تقدمها المنتجات الزراعية لهذه الحضارات. ربما كانت حركات الشعوب في الألفية الثالثة والثانية ق.م من وسط آسيا ناجمة عن مجموعة من التغيرات المناخية التي زادت فقر أواسط آسيا، ودفعت الناس إلى السند والهند والصين وواحات إيران وسهول الرافدين والنيل وسهول الدانوب وأوروبا. وقد أدت التحركات العنيفة لهذه الشعوب إلى أن تترك دول الحضارات القديمة عزلتها وتكون إمبراطوريات منظمة عسكريًّا لصد الطامعين. وهنا تبرز أسماء ملوك محاربين مثل ملوك الدولة الحديثة في مصر الفرعونية، وبالأخص تحتمس الثالث ورمسيس الثاني والثالث، ودولة الشانج في الصين في الألفية الثانية ق.م، وكذلك ظهور دولتي أشور، ثم بابل الثانية في الألفية الأولى ق.م، بعد سقوط دولتي الحيثيين في الأناضول، والميتاني في أعالي الرافدين. هذه الدول المتعددة على مر الزمن لم تكن حضاريًّا ودينيًّا متعصبة، فالكثير من العلاقات التبادلية التجارية والثقافية كانت تربطها ببعض، ومن خلالها انتقلت تكنولوجيات متعددة على رأسها استخدام الحديد بدلًا من البرونز، واستخدام عربة الخيول الحربية وسلاح الفرسان إلى جانب قوة المشاة التقليدية، وبناء الحصون وآلات تدميرها … إلخ. وبرغم أن هذه الاستحداثات سلمية أغنت المركب الحضاري للعالم آنذاك.

وربما كانت أولى مساعي الهيمنة على العالم ذي الأهمية الإنتاجية والتجارية قد بدأ بنشأة ممالك إيرانية متعددة — ميديا وبارثيا وفارس — منذ نحو ٥٥٠ق.م، امتدت حدودها في عهد الأخمينيين — جهود قمبيز وداريوس — من السند وأطراف وسط آسيا إلى مصر وشمال اليونان، متضمنة سهول الرافدين وبلاد الشام والأناضول. وبذلك سيطرت على كل تجارة الشرق من الهند والصين، وتجارة الشمال من سهول روسيا والبحر الأسود، وتجارة الجنوب والغرب من الشام ومصر وأعالي النيل، ولكن الإمبراطورية الإيرانية تحطمت في الغزوة الأسطورية الخاطفة للإسكندر المقدوني في ٣٣٠ق.م، في فتوحات زادت في اتساعها على مساحة الإمبراطورية الإيرانية. وبالرغم من تفكك إمبراطورية الإسكندر بسرعة إلى ثلاث ممالك، إلا أن أكبر الأثر لهذه الممالك هو نشر الثقافة الهلينية — الإغريقية — في الأرجاء، وكانت الكتابات العلمية والفلسفية بهذه اللغة هي التي حفظت التراث القديم، الذي نقل إلى العربية في عصر الخلافة العباسية، ومن ثم إلى اللاتينية ولغات أوروبية فيما بعد.

ومنذ القرن الأول الميلادي تصارعت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية على حكم العالم ذي الأهمية. خط الصراع كان دائمًا سهول الرافدين. وبذلك لأول مرة نرى عالمين متعولمين على مساحات كبيرة: الفارسية في الشرق إلى الهند ووسط آسيا، والرومانية في الغرب من الشام ومصر إلى أوروبا الغربية. وقد كانت عولمة الإمبراطورية الفارسية إيرانية هندية الطابع، بينما عولمة الإمبراطورية الرومانية إغريقية لاتينية. كل الثروات بما فيها تجارة الصين وبلاد البلطيق وأفريقيا كانت تنصب في عاصمتي فارس وروما. وقد فرض كل منهما هيمنته العسكرية في تنظيمات إدارية محكمة أشهرها ما عرف في التاريخ باسم «السلام الروماني Pax Romana». وهو المصطلح الذي استعارته الإمبراطورية البريطانية فيما بعد Pax Britanica، ويستعمله البعض الآن لوصف الهيمنة الأمريكية Pax Americana بدعوى أنهم خلفاء روما — فيا للعجرفة ومنتهى الغرور!

وفي القرن السابع الميلادي سقط العالم الفارسي تمامًا أمام الحضارة الإسلامية، وكذلك سقط الجزء الأكبر من بيزنطة — خليفة روما — وامتد العالم الإسلامي من حدود الصين والهند إلى وسط آسيا والقوقاز، وإلى الشام ومصر وكل أفريقيا الشمالية والأندلس. وبذلك انتهت ازدواجية القوى الشرقية والغربية إلى قوة واحدة ذات حضارة إسلامية واحدة متعددة اللغات، وإن ظلت اللغة العربية هي لغة الكتاب والثقافة لفترة طويلة. لقد استوعبت العولمة الإسلامية في أرجاء هذا العالم كل الأصول الإيرانية الهندية التركمانية من ناحية، والكثير من الثقافات الإغريقية والتنظيمات الرومانية المنتشرة في حوض البحر المتوسط. كما امتدت إلى شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأنشأت علاقات تجارية مباشرة مع الصين وبلاد الروس والبلطيق وأوروبا.

وفي القرن ١٣ تكونت إمبراطورية المغول العسكرية من الصين إلى شرق أوروبا، وأغارت على البقية الباقية من الخلافة العباسية، وربما كانت بذلك أكبر إمبراطورية متكاملة على يابس أوراسيا، لكنها سرعان ما انقسمت بتأثير الحضارات التي ضمتها: فالمغول في الشرق صاروا صينيين، وفي الغرب والجنوب صاروا مسلمين، وفي شرق أوروبا تحولوا تدريجيًّا إلى المسيحية الأرثوذكسية. فقد كان العالم المغولي مجرد فتوح عسكرية دون عولمة ثقافية متأصلة الجذور، ودون تنظيم اقتصادي شامل، بل كان يعتمد على النظم السابقة إلى أن ابتلعتهم الثقافات والحضارات التي حكموها.

ويمثل المغول آخر العوالم الكبرى في العصور الكلاسيكية. فقد أخذ العالم يتفتت إلى إمبراطوريات وأمم محدودة المساحة، ومبنية على مؤسسات ثقافية محدودة كاللغة أو الدين فقط، مثل ذلك الإمبراطورية العثمانية يقابلها ممالك أوروبية في طور النمو والتقدم، أهمها إمبراطوريات النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، إلى جانب إسبانيا والبرتغال اللتان سعيا للخروج من غلالة الحضارة الإسلامية طوال القرنين ١٤ و١٥، ثم راحت تبحث عن طرق التجارة العالمية بعيدًا عن احتكار العالم الإسلامي. وبذلك تأصلت نظرية «الدولة القومية»، وهي عكس أفكار العولمة القائمة على تخطي مؤسس حضاري واحد كاللغة أو السلالة والعرق أو الدين والمذهب. فكأن العالم دار دورة كاملة وعاد من حيث أتى دولًا صغيرة كدول الحضارات الأولى!

ولكن المنافسات المميتة بين الدول القومية من أجل الهيمنة على طرق التجارة العالمية كتبت تاريخًا طويلًا من الصراع بين أساطيل هذه الدول وأساطيل شركاتها الكبرى: صراع وحروب بين الأسبان والبرتغال والهولنديين والفرنسيين والإنجليز في بحار الهند والعرب وجنوب شرق آسيا والبحار الأمريكية. وفي النهاية فازت بريطانيا بالجزء الأكبر، وأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. والخلاصة: أنه أصبحت هناك ثلاثة عوالم: الإنجليزية — بما في ذلك الولايات المتحدة — والفرنسية والإسبانية. وبعد استقلال المستعمرات في النصف الثاني من القرن العشرين حلت مؤسسات قانونية لتجمعات سياسية محل العوالم السابقة، فأصبح هناك رابطة الكومنولث البريطاني، والتجمع الفرانكوفوني، والروابط الثقافية بين دول أمريكا اللاتينية وبين إسبانيا والبرتغال.

وفي ذات الوقت كانت روسيا تتقدم ببطء منذ القرنين ١٧ و١٨ على المحاور البرية المؤدية إلى اتجاهات: هي الاتجاه جنوبًا في البلقان والقوقاز على أنقاض الدولة العثمانية، والاتجاه جنوبًا بشرق إلى وسط آسيا صوب إمارات سمرقند وبخارى وغيرهما، والاتجاه شرقًا مع غابات سيبيريا حتى المحيط الهادي قبالة الصين واليابان، ثم عبروا المحيط واستعمروا ألسكا — إحدى ولايات أمريكا الآن — والجزر القريبة من الساحل الكندي الغربي، وبذلك كونت روسيا دولة شاسعة تشابه الدول الكلاسيكية في الأزمان الماضية، وحين تفكك الاتحاد السوفيتي صار هناك كومنولث يربط روسيا والدول التي انسلخت عنها — تمامًا كما حدث للإمبراطورية البريطانية. فالسوابق واللواحق واحدة، انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية في ستينيات القرن العشرين لحقه بعد أربعة عقود الانهيار السوفيتي قرب نهاية القرن!

والآن تبدأ الولايات المتحدة عولمة جديدة بقوتها الاقتصادية والعسكرية. والولايات المتحدة، وإن شابهت أوروبا كدولة قومية، إلا أنها أكثر شبهًا بدول العوالم الكلاسيكية، وبخاصة العولمة الإسلامية. فكلاهما — العالم الإسلامي الماضي والأمريكي الحالي — منفتح على العالم يستقطب الأفكار والعلماء والمبتكرين والفنانين والمبدعين، بغض النظر عن أصولهم ولغاتهم ودياناتهم. فأسماء البخاري، والترمذي، والبيروني، والمسعودي، وابن خلدون، والمتنبي، والمعري، وشوقي، والأفغاني، ومحمد عبده في تاريخ الحضارة الإسلامية دليل عولمة قوية عربية اللغة والثقافة. وأينشتاين، وأحمد زويل، ومحمد عبده، دليل على نهج مماثل في الولايات المتحدة، يستقطب العلماء من أي مكان، بفضل توافر إمكانات بحثية هائلة متطورة، وهو الأمر الذي يسمى في الدول النامية على وجه الخصوص بظاهرة «استنزاف العقول».

وقد كانت القيم الإسلامية حول حرية الفكر سائدة بين علماء «دار الحكمة» أيام الخليفة المأمون، ومن قبله ومن بعده، فإن مثل هذه القيم تنقص مساعي العولمة الأمريكية الحالية برغم الديموقراطية الداخلية؛ ولهذا فقد قادت مظاهر القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية إلى مزالق كثيرة، أدت سياسيًّا إلى شيوع صورة «الأمريكي القبيح»، الملتجئ أبدًا إلى القوة المفرطة في العالم النامي والمتقدم على السواء، وذلك برغم وجود قيم جيدة كثيرة بين الأمريكان كشعب وأفراد.

والغطرسة الأمريكية ليست ظاهرة فريدة، بل سبقتها غطرسة السيادة والعنصرية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبل. وعلى أي الحالات فإن عدم انصياع أمريكا للكثير من مقررات الأمم المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، ونقض الاتفاقات الدولية بتفضيل مصالحها، ولو أدى إلى ضرر عالمي بيئي، مثل انسحابها من اتفاقية كيوتو، والالتجاء إلى القوة كما حدث في الصومال، وما يحدث في أفغانستان الآن «والعراق»، والإصرار على تنفيذ اتفاقية التجارة العالمية، كلها أمور تعتم صورة أمريكا، وتجعل دعوى العولمة الحالية مثار جدل عنيف في كثير من دول العالم، برغم ما قد يكون فيها من بعض الميزات تراها أوروبا ولا تراها قوميات أخرى أو عوالم الإسلام والكنفوشية والهندوسية.

والخلاصة: أن دعوى العالمية الحالية ليست نهاية المطاف. فقد سبق أن استوعب العالم عولمات سابقة وطوعها إقليميًّا وطرح جانبًا ما فيها من خشونة واستبداد. وستظل مثل هذه التوجهات العالمية مستمرة ما بقي التطور الفكري والتنظيري لدى الإنسان من أجل عالم أفضل، تقل فيه فروق الشعوب، وتكبر فيه قيمة الإنسان ساكن هذا الكوكب.

(٣) احتياجاتنا لكي نشارك في عصر المعلومات

بعد الانبهار الذي صاحب زيارة رئيس الدولة للصين وبخاصة مدن الإلكترونيات، تصاعدت التصريحات حول إنشاء مدينة مماثلة لصناعة الإلكترونيات في مصر، قيل: إنها ستكون على الأغلب في مكان قرب مدينة ٦ أكتوبر، ولكن قبل ذلك كانت هناك أيضًا أقوال كثيرة عن القرية الذكية «مدينة مبارك»، وأيضًا «وادي التكنولوجيا» قرب الإسماعيلية. وكان وادي التكنولوجيا في أواسط التسعينيات مخصص له قطاع أرضي من شمال ٦ أكتوبر، أزيح عنه من أجل استثمارات عقارية أو نحو ذلك، والآن يعود الوادي المقترح إلى ٦ أكتوبر مرة أخرى.

وفيما بين هذه الاتجاهات الكثيرة والآمال الطموحة كانت هناك بعض صناعات الاتصالات الإلكترونية في غرب الإسماعيلية، ونواحٍ أخرى من مصر. وفي ذات الوقت انتشرت استخدامات الكومبيوتر على مستوى هيئات حكومية وخاصة كثيرة كالبنوك والأعمال المالية والائتمانية والسكك الحديدية ومصر للطيران وهيئة الكهرباء وكثير من الوزارات، جنبًا إلى جنب كليات الحاسب الآلي في الجامعات الكبرى والمعاهد الخاصة، وشيوع أجهزة الكومبيوتر الشخصي لدى عدد لا بأس به من الأفراد والمكاتب، وظهور شركات خاصة لشبكات المعلومات العالمية «إنترنت»، وشاعت أيضًا معاهد ومراكز خاصة لتعليم الكمبيوتر، وأيضًا ما يسمى «مقهى الإنترنت» للذين لا يملكون هذه الخدمة المعلوماتية العالمية كطلبة البحوث العليا.

بطبيعة الحال كل هذه أمور جيدة، لكنها ما زالت في مرحلة استخدام المتاح من المعلومات دون المشاركة في إنتاجها؛ أي إننا ما زلنا مستهلكين إلى حدود عالية. بعض الهيئات والشركات تنشئ لنفسها مواقع على الإنترنت، لكنها إسهامات ضعيفة بالمقارنة بعالم المعلومات المطلوب لبناء شبكة قومية أو عربية من ناحية، وشبكة تجارية اقتصادية من ناحية ثانية، وشبكة معلومات ثقافية حضارية علمية وأدبية من ناحية ثالثة.

ولا شك في أن هناك حساسيات مرتبطة بمعلومات عن الأمن القومي والداخلي، وهذه بالقطع غير مطلوبة للشبكات المعلوماتية إلا بقدر ضئيل، ولكن إلى جانب ذلك هناك معلومات عادية كثيرًا ما توصف بالسرية، وغالبها ناتج عن هاجس يسيطر على البيروقراطية دون مبرر حقيقي سوى الخوف من المساءلة، علمًا بأن الكثير من هذه المعلومات الموصوفة بالسرية هي معلومات متاحة في العالم الخارجي! متى نكف عن هذه الممارسات البيروقراطية البشعة، وننفتح على أنفسنا قبل أن ننفتح على الخارج. وبدلًا من أن نطلب المعرفة والمعلومات من الشبكات الأخرى — وقد يكون بها توجهات سياسية معينة — نطلبها من الشبكة القومية، رغم أنها هي الأخرى قد تكون ذات توجهات معينة.

إذا نجحنا في إنشاء مدينة لإنتاج الإلكترونيات وأجهزة الاتصالات فإن ذلك سيكون له نظريًّا عائد تصديري معقول ومرغوب في العالم العربي. لكن العائد الأكبر هو القدرة على اتخاذ القرار داخل البلاد العربية، لكن علينا أن نلاحظ أننا ندخل هذا الميدان متأخرين، وبهذا فنحن منطقيًّا غير قادرين على منافسة الكم الهائل من إنتاج الأجهزة في شرق آسيا أو الصين أو الهند. والأمل أن يسعفنا الوقت لنبني لأنفسنا مكانًا صغيرًا في العالم حولنا. وذلك بالتركيز على إنتاج احتياجات السوق المصرية السودانية أو العربية أو هما معًا، ويحتاج مثل هذا الأمر تكاتفًا كبيرًا لرأسمال وطني عربي من أجل استخدام طيب لقاعدة العمل البشري المدرب في هذا المجال من مصر وبقية العالم العربي، هذا هو الجانب المادي من احتياجاتنا من عالم المعلومات؛ أي إنتاج الأجهزة والبرمجة العربية. والتركيز على المشاركة العربية المالية والتكنولوجية أمر حتمي باعتبار السوق العربية سوقًا واحدة. ولا يجب أن نفهم من ذلك أننا سنستغني عن أجهزة المعلومات الأجنبية، بل إن انفتاحنا على شبكاتها أمر ضروري للمزيد المعرفي على المستوى العالمي.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف الذي يساعدنا على أن نتشارك علميًّا وعمليًّا مع عالم المعلومات، فنحن في حاجة إلى تنفيذ ما تفرضه احتياجات السوق بإنشاء شبكة معلومات باللغة العربية. وأول المفروض هو الحصول على معلومات على النطاقات الوطنية العربية؛ لكي نزود بها قاعدة المعلومات والبيانات العربية بطريقة محدثة باستمرارية تزويد الشبكة بمعلومات أحدث. وتنفيذ مثل هذه القاعدة ليس واجب الحكومات، وإنما كان يمكن لها أن تسهل قيامها بالمساعدة في تغذيتها بالبيانات، ووضع الأطر واللوائح القانونية لعمل مؤسسات وشركات المعلومات. وإذن فإن شركات خاصة هي التي تقوم بإنشاء الشبكات المعلوماتية وتتولى تغذيتها وتحديث معلوماتها ضمن إطار لوائح لا تخل بما تعتبره الدولة مساسًا بالسيادة والأمن العسكري والاقتصادي. ولكن ما نتحرز منه قد حدث مرارًا في الولايات المتحدة، فقد أمكن اختراق السرية رغم كل أشكال التأمين للمعلومات.

والخطوة الكبرى في هذا المجال تتولى فيها الحكومات العربية — وربما بالاشتراك مع مؤسسات من القطاع الخاص العربي والأجنبي — إنشاء قاعدة معلومات خاصة تهتم بالعالم العربي. وستكون هذه الأقمار المصدر الذي سيحيل صناعة المعلومات العربية، إلى أن تصبح جزءًا من المعلومات العالمية. كما أنها سوف تساعد الدول العربية على حسن إدارة مواردها الطبيعية بما يتلاءم مع إيكولوجية البيئة العربية، ويحافظ عليها من الإهلاك، مع إمكانية التنمية الاقتصادية دون أضرار مستقبلية.

كيف يمكن ذلك؟

أن تتخصص الأقمار العربية في موضوعات تصبح معه — بالاشتراك مع بقية العالم — مصدرًا معلوماتيًّا له آفاق دراسية وتنموية. مثال ذلك أقمار خاصة بدراسة المناطق الجافة والصحاري التي تشغل الجزء الأكبر من البلاد العربية، فإن تتبع أشكال السطوح الصحراوية الرملية والصخرية وتباين تضاريسها ومكوناتها الجيولوجية، ومكونات تربة المنخفضات والأودية الجافة ورسم خرائط دقيقة نقلًا عن المرئيات الفضائية، وربما أيضًا تتبع التكوينات المعدنية، كلها تشكل إسهامات علمية جبارة ترشدنا إلى أين يمكن أو لا يمكن إحداث هذا الشكل أو ذاك من أشكال الاستخدام البشري لبعض المسطحات الشاسعة في الصحاري العربية.

صحيح أن بعض هذه المعلومات موجودة ولكن على نطاق عام أو على نطاق دقيق محدود. فالصورة الشاملة قد تعطينا مفتاح ألغاز في انفصال أو ترابط بعض الظاهرات الصحراوية وتاريخ تكوينها. ففي غيبة بعض المعلومات أو نقص تقنية البحوث الراهنة فقد أمت محاولات الإنسان لاستعادة بعض أرض الصحاري وتعميرها إلى أضرار بالغة، ساعدت على تدهورها وأسرعت بتصحرها من جديد. مثل ذلك المشروعات الزراعية المعتمدة على حفر آبار عميقة في مصر والجزيرة العربية وشمال أفريقيا، أو حفر آبار في النطاق الهامشي الجنوبي من الصحراء الكبرى لمساعدة الرعاة على ضمان مياه لسقي حيواناتهم. فقد أدت هذه النهاية إلى تفكيك التربة الهشة حول الآبار لكثرة تجمع قطعان الحيوان حولها، وبالتالي لم تعد الأرض تنتج الأعشاب القليلة التي كان يتغذى عليها الحيوان، وهو ما يضطر الإنسان في النهاية من هجر المنطقة لتتكرر العملية الهدمية مرة أخرى. لقد كان حفر الآبار يتم بنوايا حسنة، سواء لتأمين النشاط الزراعي أو الرعوي، لكن النتائج مؤسفة. ومن ثم فإن مخططات التنمية والتعمير يجب أن تدعمها معلومات معمقة عن البيئات لتجنب التصحر وفشل مشروعات أنفق عليها الكثير وعلقت عليها آمال كبار في البدايات غير المدروسة بكفاية. وباختصار يجب أن يكون هناك تقويم بيئي حقيقي لكل المدخلات الطبيعية والبشرية وتفاعلاتها، قبل الإقدام على إنشاء متغير تنموي في البيئة الصحراوية الهشة.

وحيث إن العالم العربي تحده بحار كثيرة من الأطلنطي إلى الهندي مرورًا بالبحر المتوسط والأحمر والخليج العربي، وحيث إن الكثير من المدن والمواطن العمرانية العربية تقع على السواحل العربية، فإن دراسة السواحل أمر ضروري ومطلوب؛ لأن هناك بعض التغيرات المناخية العالمية التي تؤدي إلى ارتفاع سطح البحر تدريجيًّا وببطء مما يهدد هذه المدن؛ ومن ثم فإن الأقمار الصناعية يمكن أن تعطينا معلومات جيدة عن أشكال كثيرة من عمليات نحر البحر في أماكن مختلفة على ذات البحر، أو اختلاف العمليات بين ساحل عربي وآخر على بحار مختلفة. والأدلة التاريخية والجيولوجية كثيرة عن هبوط الأرض وارتفاع البحر في سواحل مصر الشمالية. مثل المدينة الغارقة في الإسكندرية التي تشكل جزءًا من إسكندرية البطالمة، أو نمو وتراجع شاطئ الدلتا وتكوين البحيرات الساحلية. نحن نعرف ذلك من تاريخ عمران هذه الأماكن منذ بضعة آلاف السنين، مثل بيلوزيوم (بالوظة)، والفرما (شرق بورسعيد الحالية)، وبي رمسيس (صان الحجر) … إلخ؛ ولهذا فإن المرئيات التي تبثها الأقمار يمكن أن تساعدنا على تفهم حقيقة الأوضاع، ومن ثم ننشئ أو لا ننشئ مشروعات كمشروع ميناء حاويات شرق التفريعة (بورسعيد).

مدن دول الخليج الكبرى مبنية على البحر مباشرة: الكويت والدمام والمنامة والدوحة وأبو ظبي ودبي والشارقة ورأس الخيمة ومسقط. وعلى هذا نعود مرة أخرى إلى ضرورة الحصول على معلومات شاملة من أجل حسن إدارة الشواطئ العربية، يراعى فيها تقييم الظروف الطبيعية والبشرية والآثار المترتبة على مشروعات لم تدرس بعناية شمولية الأبعاد. ليس الغرض التوقف ولكنه الحفاظ على البيئة من أجل الأجيال القادمة، فيما تبقى من النطاقات الساحلية على البحار العربية.

وفي داخل كتلة المعمور المصري في الدلتا والصعيد يمكن رصد النمو السكني خارج الكوردون المسموح، بغرض المزيد من المحافظة على الأرض الزراعية. صحيح أن هذا الواجب يمكن إتمامه بالصور الجوية، لكنها عملية شاقة ومكلفة وبطيئة. بينما يمكن للأقمار الصناعية عمل المسح اللازم بسرعة أكبر وتكلفة ربما تكون مساوية أو أرخص من الصور الجوية. وفوق هذا يمكن عمل مسح عدة مرات في السنة حسب الطلب، وهو ما يساعدنا على كشف التلاعب في التعدي على الأرض الزراعية بسرعة فائقة. كما أن مثل هذه المرئيات تعطينا فرصة للتعرف على ديناميات الحركة والنشاط في الريف المصري، مثل الحرائق وحريق القش النباتي، ومسار المياه في الترع، وانسياب أو عرقلة الحركة على الطرق البرية نتيجة حوادث، أو تجمهر سوق أسبوعي … إلخ.

(٣-١) أقمار الرصد المناخي

لكن الأقمار المناخية هي من أهم المنجزات العلمية الحالية. فليس كالمناخ عنصر طبيعي آخر له من الآثار المباشرة في جبهة عريضة من الأرض، ونحن نحس ذلك في التغيرات الموسمية واليومية للحرارة والرياح والعواصف المتربة والأعاصير الممطرة والسيول المرتقبة. أقمار الرصد المناخي تعطينا كل هذا لنترجمه على النشاط البشري في الزراعة وصيد البحر والصناعة والسياحة والنقل الجوي، وعلى اليابس وفي البحار وحالات الفيضانات النهرية، وغير ذلك من الخدمات. وباختصار فالأقمار المناخية تبشر وتنذر.

وبرغم القول الذائع أن مصر بصفة خاصة ذات أجواء معتدلة، إلا أن المدقق يعرف أن هذا تعميم لا يرقى إلى الدقة العلمية. صحيح أن مصر الآن لا تتعرض لفيضانات مدمرة ولا برودة شديدة ولا أمطار كثيرة، إلا أننا نعاني من درجات حرارة مرتفعة أكثر من نصف السنة، ونعاني جفافًا طويلًا وشمسًا مبهرة وأحيانًا رطوبة عالية، وخماسين متربة ونوات ممطرة وسيولًا جارفة في أحيان ومواسم مختلفة.

(٣-٢) أشكال الطاقة المتجددة

وفي مقابل تلك المنغصات الجوية فإن مصر والعام العربي يتمتعان بسطوع الشمس ساعات طوال، وبرياح شمالية — بدرجات ميل مختلفة — معظم السنة. وهذان عنصران مناخيان لهما في التكنولوجيا الحديثة ترجمة إنتاجية مرغوبة كمصادر متجددة لطاقة نظيفة. مصر والبلاد العربية إجمالًا لا تشكو من قلة مصادر الطاقة. فهنا مصادر ضخمة من الطاقة الحفرية متمثلة في الغاز والبترول، فضلًا عن الطاقة الكهرومائية النظيفة في مصر بصفة أساسية. وحيث إن البترول أكثر مصادرنا العربية تلويثًا، فقد اتجهنا إلى محطات الغاز الأقل تلويثًا، ولكنه لا يرقى في النظافة إلى الكهرباء المولدة من الطاقة المائية، ولا إلى الطاقة المولدة من الرياح والشمس. كما أن هذه الطاقات متجددة بينما البترول والغاز مصادر طاقة غير متجددة. ولهذا فإن الاتجاه العالمي الآن هو نحو طاقة ودودة للبيئة، ومن ثم هناك أبحاث وتطبيقات كثيرة لطاقة الرياح والشمس في بلاد العالم المتقدمة. فهل نتخلف عنهم علمًا بما لدينا من مصادر هائلة من هذه الطاقات النظيفة؟

وربما كانت طاقة الرياح أكثر تطبيقًا وتقدمًا بالقياس إلى استخدام الطاقة الشمسية. فمعظم الدول المتقدمة لا تسطع فيها الشمس بالقدر الذي يوجد في العالم العربي، ومن ثم كان تقدم أبحاث طاقة الرياح؛ لهذا تقدمت توربينات المراوح الهوائية المولدة للكهرباء، وتنوعت أحجامها وقوتها. وفي معظم بلاد العالم المتقدم لجان ومجالس متخصصة وهيئات لوضع الخطط اللازمة لتنفيذ محطات إنتاج هذه الطاقة ودراسة تكنولوجيات الإنتاج وتوزيع الكهرباء المنتجة. وفي عام ١٩٩٩ كان إنتاج العالم من هذه الطاقة يقدر بنحو عشرة آلاف ميجاوات، وكان٨٠٪ منها يولد في أربعة دول متقدمة إضافة إلى الهند، ولم يكن ذلك بالرقم الكبير، فإنتاج مصر حاليًّا هو نحو ١٥ ألف ميجاوات من جميع مصادر الطاقة: الغاز والبترول وكهرباء السد العالي. وقد ارتفع الإنتاج العالمي من هذه الطاقة بعد سنتين إلى أكثر من ٢٠٠٠٠ ميجاوات. وبعبارة أخرى فإن كهرباء طاقة الرياح شهدت نموًّا غير مسبوق من بين مصادر الطاقة الأخرى. ففي ١٩٨٩ كان إنتاج ألمانيا ٨٠٠ ميجاوات، قفز إلى أكثر من عشرة أضعاف في ١٢ سنة بحيث بلغ ٨٧٥٠ ميجاوات عام ٢٠٠١. وفي ذات السنين ارتفع كهرباء الرياح في الولايات المتحدة من ١٥٠ إلى ٤٣٠٠ ميجاوات، وإسبانيا من ٤٠٠ إلى ٣٣٠٠ ميجاوات، والدانمرك من ٣٠٠ إلى ٢٥٠٠ ميجاوات. وتسعى كندا إلى إنشاء محطات لطاقة الرياح سوف تنتج عام ٢٠٠٥ نحو خمس كل الطاقة المستخدمة في ذلك التاريخ. وكذلك تسعى الولايات المتحدة إلى مضاعفة إنتاجها إلى ١٠٠٠٠ ميجاوات بإنشاء محطات معظمها في السهول الوسطى. وبلغ عدد المشتركين في الاتحاد الأوروبي في كهرباء طاقة الرياح مليونًا ومائتي ألف مشترك عام ٢٠٠١، ويهدف مخطط دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الإنتاج إلى ٤٠٠٠٠ ميجاوات عام ٢٠١٠، وهي ربما تساوي ١٢٪ الكهرباء المنتجة من كل المصادر الآن في دول الاتحاد الأوروبي.

(٣-٣) وماذا عن مصر في هذا المضمار؟

تعد مصر المركز الإقليمي لتوزيع المعلومات التي يبثها القمر الأمريكي المناخي «متيو سات»، عن الأحوال المناخية لشمال أفريقيا وجنوب أوروبا. وتحلل نتائج هذا البث إلى معلومات في صورة تنبؤ بحالة الطقس لمدة ثلاثة إلى خمسة أيام مسبقًا. وربما ساعد ذلك إلى جانب مجهودات هيئة الأرصاد الجوية المصرية على بدايات استخدام طاقة الرياح في حقول ما زالت محدودة. هناك حقل رأس غارب بطاقة ٤٠٠ كيلووات، وحقل الزعفرانة بقدرة ٨٠ ميجاوات، بينما يستغل حقل الغردقة في تحلية مياه البحر، وهناك أيضًا مشروعات لإقامة خمسة حقول جديدة في مناطق متفرقة. والأغلب إنشاء المحطات قرب الهوامش الساحلية للصحاري وبالقرب من مناطق العمران. وحينما تشيع هذه الاستخدامات فربما يصبح تكلفة الكيلوات من الكهرباء أرخص منه في المحطات الحرارية، وبذلك نوفر قدرًا من الغاز لمزيد من التصدير، أو أن نطيل عمر احتياطي الغاز لاستخدامات مستقبلية.

أما الطاقة الشمسية فهي في الحقيقة الرصيد الكبير للطاقة النظيفة المتجددة. وبغض النظر عن الاستخدامات المحدودة للطاقة الشمسية على مستوى البيوت وبعض الفنادق، فإن هناك مشكلات كثيرة لم تُحَل في تكنولوجية إنتاج الطاقة ونقلها على المنسوب التجاري. وحتى الآن فإن ذلك يحتاج إلى تجهيزات رأسمالية كبيرة لإنتاجها على نطاق توزيعي كبير على غرار البرنامج الضخم الناجح في كاليفورنيا. وهناك برامج بحثية كثيرة في مجال الطاقة الشمسية على رأسها برنامج «ستارت». وتسعى مصر حثيثًا في هذا المجال، وهي الدولة العربية الوحيدة المشاركة ضمن ١٢ دولة أخرى في برامج تطوير التعاون البحثي لتكنولوجية الطاقة الشمسية، وتبادل المعلومات — الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا ومصر وجنوب أفريقيا والبرازيل والمكسيك وإسرائيل وأستراليا.

ولدى مصر مشروع كبير باسم «نور السلام»، تشارك فيه الولايات المتحدة وغيرها بتكلفة مبدئية قدرها ٦٥ مليون دولار، لتوليد الطاقة الشمسية نهارًا ومن الغاز ليلًا. ولا شك في أن نجاح تطبيقات الطاقة الشمسية في مصر والبلاد العربية سيكون له مردودات كبيرة في توزيع طاقة ودودة للبيئة، أقل من الطاقة المولدة حراريًّا الآن في مصر والتي تتوزع مصادرها بنسبة ٣٥٪ بترول، و١٩٪ غاز، و٢٦٪ توربينات غاز وبترول معًا.

وأخيرًا فإن في مصر وبعض البلاد العربية طاقة نظيفة مستخدمة منذ نحو نصف قرن هي الطاقة الكهرومائية المتولدة عند السدود والقناطر. وفي مصر محطتان هما: السد العالي ٢١٠٠ ميجاوات (= نحو ١٥٪ من مجموع الطاقة المصرية)، وسد أسوان ٦٢٢ ميجاوات (= نحو ٤٫٣٪)، إضافة إلى مشروع قناطر إسنا قيد التنفيذ.

الخلاصة: أن في مصر خبرات متعددة تطبيقية في مجالات الطاقة المتجددة النظيفة من الماء والرياح والشمس. لكننا في حاجة إلى مزيد من المعلومات بواسطة أقمار متخصصة في المناخ وغيره، من أجل اختيار أصلح الأماكن لإنشاء حقول طاقة الرياح والطاقة الشمسية، بحيث توفر المردود المناسب للإنفاق على المحطات وتطويرها، ولعقد اتفاقات مع أطراف داخلية وخارجية لمزيد من محطات جديدة، وتحديث القائمة بصفة دائمة تبعًا لتقدم المعرفة العلمية والتطبيقات التكنولوجية المستجدة دائمًا. ولا شك في أن اتساع آفاق العمل في هذه الأنواع من الطاقة المتجددة سوف يخلق كوادر فنية عديدة على مستويات مختلفة، هذه الكوادر غالبًا ما تمهد المناخ لظهور مهارات الابتكار والتحديث والإبداع. ولكن لا يغيب عن الأذهان أن كل أشكال التقدم هذه في مجالات الطاقة هي وليدة عصر المعلومات. كذلك لا ننسى الكثير من الفوائد سالفة الذكر عن التعرف على أشكال النشاطات البشرية، وفي أي الأماكن وبأي التقنيات يمكن استخدامها للمزيد من التنمية غير المناطحة للظروف البيئية.

ولهذا فإنه لا مناص أمامنا إلا أن ندخل هذا العصر بتهيئة مراكز بحثية جادة بدون بيروقراطية، سواء كان ذلك في صورة وادي التكنولوجيا أو القرية الذكية، وللأهمية القصوى للموضوع نورد بعضًا من تفاصيله لعل المعرفة تستحثنا على التفكير والتنفيذ معًا، من أجل مستقبلنا وأجيالنا القادمة.

(٤) مصادر الطاقة الطبيعية المتجددة في مصر منحة وهبة

(٤-١) ميزانيات البحوث أولًا وأخيرًا

بمناسبة الدعوة إلى إقامة الطاقة النووية والعمل الدءوب في استكشاف إمكانية تفعيلها، تحسبًا لنضوب مصادر الطاقة الحفرية الحالية من بترول وغاز طبيعي في وقت ليس بالطويل، فإني أعرض هنا لموضوع الطاقة المتجددة التي يعرفها المتخصصون في دوائر العلوم والتطبيق المصرية. ليس العرض هنا لأن الموضوع غائب عن الأذهان، بل لزيادة التطرق للموضوع بتخصيص أرصدة وفيرة للبحث والتنمية R&D، على كافة المستويات الرسمية والشركات والهيئات الخاصة المهتمة باستخدام هذه المصادر الطبيعية، باعتبارها منحة طبيعية شبه مجانية لكي تشترك مع مصادر الطاقة الحفرية — بما فيها النووية — كمصادر إضافية وتبادلية في الشبكة القومية للطاقة، وربما في النهاية قد تصبح مصادر أولية لإنتاج الطاقة في المناطق المصرية النائية التي يراد تنميتها.

الطاقة هي مرتكز القوة في تقدم الحضارة الإنسانية. بدأت باستخدام طاقات طبيعية كتيارات المياه الجارية، ومياه البحار كوسيط للطفو للنقل والتنقل بمشاركة طاقة الرياح أو طاقة انحدار الأنهار. وإلى جانبها استخدم الإنسان القديم الطاقة البيولوجية متمثلة في القدرة العضلية لنفسه، وقدرة الحيوان المستأنس في الجر ثم الحمل بعد اختراع البردعة والسرج والهودج … إلخ، ثم نقل الأحجام الكبيرة بعد اختراع العجلات وبناء المركبات. قوة الماء المندفع كانت أكبر وأوسع وأكثر انتشارًا، كطاقة تحرك عجلات الطواحين وتروسها لطحن الغلال، بوصفها المصدر الأساسي للغذاء — الخبز — ثم مع التطوير أصبحت قادرة على تطويع بعض الصناعات المعدنية لأغراض مختلفة.

وللماء المندفع مصدران أولهما: مياه الأنهار سواء كانت منحدرة طبيعيًّا أو تصنع لها انحدارات بالبناء الحجري، وثانيهما: قوة مياه المد البحري في خلجان معينة لإدارة الطواحين الذي كان شائعًا في غرب أوروبا. والمصدر الطبيعي الثاني الذي استخدمه الإنسان بكفاءة، هو طاقة الرياح أيضًا لإدارة الطواحين، وهو ما كان شائعًا أيضًا في غرب أوروبا وبخاصة في هولندا.

(٤-٢) مصادر الطاقة المتجددة

تطور الأمر بعد الانقلاب الصناعي إلى مصادر الطاقة الحرارية باستخدام الفحم ثم البترول والغاز، فانتقلنا من عربات الحيوان إلى القطار والسيارة، وتطور استخدام مياه الأنهار إلى بناء السدود لتوليد الكهرباء، وتطور استخدام الرياح مؤخرًا إلى المراوح المنتجة للطاقة. وإذا كانت أشعة الشمس تستخدم من قديم لإنضاج المحاصيل بعمل أجندة فصلية لزراعة أنواع المحاصيل، فقد أضيف إليها الآن تجميع الطاقة الشمسية على سطوح معينة لتسخين المياه وإنتاج الطاقة.

لم يقف الفكر الإبداعي للإنسان، فهو ما زال يفكر في أشكال أخرى من الطاقة المتجددة وبخاصة طاقة أمواج البحر، وتكثيف المياه السطحية الدافئة في البحار الاستوائية والتيارات البحرية إلى بخار يضخ في توربينات تبرد بالمياه البحرية العميقة تتدفق إلى محطات إنتاج الطاقة.

هذا فضلًا عن توليد الطاقة من مصادرها الحرارية في باطن الأرض، المسماه حرارة جوف الأرض «جيوثيرمال Geothermal» من المناطق التي تظهر فيها ينابيع مياه حارة وبراكين غيرها من الظاهرات الطبيعية. والكثير من الإبداع الفكري لا يزال في أطوار البدايات، أكثرها ناجحة، وإن كان ينقصها التطبيق الواسع والربط بشبكات الطاقة.
وهناك فوق ذلك استعادة للطاقة البيولوجية من بقايا المحاصيل في محطات لإنتاج «البيوجاز Biogas»، من أجل الحصول على غازات هامة لتوليد الحركة، وعلى رأسها غاز الميثان شديد الضرر بتركيب الهواء إذا تركت البقايا النباتية للتعفن في حفر أو مياه راكدة. ومن نفس الفصيلة ولكن لغرض آخر أصبحنا نحصل منذ فترة على وقود سائل وبخاصة الإيثانول Ethanol من محاصيل وأعشاب معينة، مثل قصب السكر في البرازيل التي تمثل أعلى الدول في هذا المضمار، تليها الولايات المتحدة التي تنتجه من الحبوب في شمال السهول الوسطى. وهناك البيوديزل Biodiesel المنتج من زيوت الخضروات والحبوب كفول الصويا … إلخ. وقد سبق لي أن كتبت عنهما بعنوان «هل يمكن زراعة الطاقة في مصر» — الأهرام أبريل ٢٠٠٦.

حقًّا إن هذه الطاقات المتجددة لا تزال تشكل نسبة صغيرة من الطاقة على مستوى العالم. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال وبوصفها أكبر منتج ومستخدم للطاقة، نجد أن الوقود الحفري — بمعنى أن له مخزونًا ينضب — ما زال يمثل في ٢٠٠٤ النسبة الكبرى من مصادر الكهرباء المستهلكة، تبلغ ٨٦٪ موزعة على البترول ٤٠٪، ولكل من الغاز والفحم ٢٣٪، بالإضافة إلى ٨٪ من المحطات النووية. ويتبقى ٦٪ من الكهرباء تنتج من مصادر الطاقة المتجددة تتوزع على المصادر التالية: البيوجاز (٤٧٪)، والطاقة الكهرومائية من السدود (٤٥٪)، والجيوثرمال (٦٪)، والرياح (٢٪)، وأخيرًا الطاقة الشمسية (١٪). وفي ألمانيا كانت المصادر الحفرية للطاقة تمثل ٨٤٪، والطاقة النووية (١٢٫٦٪)، وأشكال الطاقة المتجددة ٣٫٤٪، مع ملاحظة أن الليجينايت — الفحم البني قليل الدرجة — يكون ١١٪، لكن استخدامه يتناقص بنسبة ١٫٥٪ سنويًّا. وبالتالي فالاعتماد هو على البترول (٣٦٫٤٪)، والغاز الطبيعي (٢٢٫٥٪)، والفحم الحجري (١٣٫٧٪).

(٤-٣) مستقبل الطاقة المتجددة

وبرغم صغر المساهمة للطاقة المتجددة إلا أن بعض أنواعها تنمو سنويًّا بسرعة أكبر بكثير من الطاقة الحفرية. في الولايات المتحدة أيضًا نمت أشكال الطاقة للفترة ٢٠٠٠–٢٠٠٥ على النحو الآتي: الطاقة الشمسية ٢٩٪، طاقة الرياح ٢٦٪، البيوجاز ١٧٪، مقابل الفحم الذي نما بنحو ٤٫٤٪، والغاز ٢٫٥٪، والبترول ١٫٦٪، والطاقة النووية ١٫١٪. وفي ألمانيا تراجعت الطاقة المائية في ٢٠٠٣ بنسبة ناقص ٦٪ «بسبب جفاف الأنهار»، مقابل نمو ٢٠٪ في استخدام طاقة الرياح، برغم انخفاض قوة الرياح في الصيف، وتفسير هذا النمو الكبير راجع إلى زيادة الاستثمار في إقامة محطات طاقة الرياح. والخلاصة: أن الدول المتقدمة آخذة في الاهتمام بتنمية مصادر الطاقة المتجددة؛ لأن كثيرًا من مصادر الطاقة الحفرية — باستثناء الفحم — مستوردة من بعض دول العالم النامي، وبخاصة دول البترول في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والغاز الطبيعي وبخاصة من روسيا وكندا ودول الخليج العربي.

وأيًّا كانت دلالات هذه الأرقام فإن نتائجها النهائية تظهر واضحة في كم استهلاك الفرد من الطاقة الكهربائية. فحسب أرقام سنة ٢٠٠٠ كان استهلاك الفرد من الطاقة مقومًا بكيلوجرامات فحم حجري مكافئ SKE في بعض الدول كالآتي: +١١ ألف كيلوجرام في كل من كندا والولايات المتحدة، و+٥٠٠٠ في كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا وألمانيا واليابان، مقابل ٩٧٦ كيلوجرام لمصر، و٦٠٢ للصين و٤٥٠ للهند، وكان المتوسط العالمي ١٩٠٠ كيلوجرام/فرد. ودلالة ذلك أن اختلاف الدول في استهلاك الطاقة هو أساس الفجوة الكبيرة بين العالم المتقدم والعالم النامي.

(٤-٤) ماذا لدينا في مصر؟

لا تختلف مصر عن كثير من دول العالم في أن إنتاج الطاقة يأتي من مصادر متنوعة حفرية وطبيعية. وبحكم ظروفنا الجغرافية فإن تركيز إنتاج واستهلاك الطاقة يكاد أن يلتزم تمامًا بالمعمور المصري الأساسي، وهو الوادي والدلتا — نحو ٩٤٪ من الإنتاج، و٦٪ بقية الدولة.

وأيضًا بحكم التركيب الجيولوجي الحفرية لدينا مرتبطة بحقول البترول الرئيسية المنتشرة في مياه خليج السويس وحوله، بينما تكاد تتركز حقول الغاز الطبيعي في شمال الدلتا ومياه البحر المتوسط. ولحسن الحظ لم يوجد لدينا من حقول الفحم الحجري ذو الأضرار السيئة بيئيًّا ومناخيًّا، باستثناء فحم المغارة في شمال سيناء وهو من النوع غير الجيد، وربما نضطر إلى استخدامه بتكنولوجية عالية في حال الاحتياج الملح.

وأخيرًا فإن هناك جدل حول مصدر للطاقة النووية في مصر. هناك مواد مشعة كالرملة السوداء، أو ربما معادن مشعة مرتبطة بمعادن أخرى كالفوسفات وغيره. والأمر يحتاج إلى بحوث ومخصصات مالية وكشفية عالية؛ لحسم موضوع اليورانيوم وحجم مخزونه، وتكلفة إنتاجه أو شرائه من الخارج مخصبًا أو لتخصيبه … إلخ. (راجع محمد فريد خميس في الأهرام ٢٥ نوفمبر ٢٠٠٦، بعنوان «الجدل حول اليورانيوم في مصر»).

(٤-٥) مصادر الطاقة المتجددة

أما المصادر الطبيعية المتجددة للطاقة في مصر فهي في الواقع هبة الموقع الجغرافي — على نحو مقولة هيرودوت أن مصر هبة النيل — فتكوين النيل والموقع الفلكي والمناخ الجاف كلها عوامل ظهور أشكال الطاقة المتجددة، هي مصادر كبيرة وتنتشر بتعادليات مدهشة بين أقاليم مصر.

الطاقة الهيدرولوجية مرتبطة بالسد العالي وسد أسوان وكذا قناطر إسنا (الآن أم فيما بعد؟) ومستقبلًا ما بعدها شمالًا في قناطر نجع حمادي وأسيوط. والحقيقة أن الواجب تعويض النقص في إنتاج واستهلاك الطاقة في كل محافظات الصعيد، البالغة ١٢٪ فقط من مجموع الطاقة مقابل ١٨٪ لكل من القاهرة وغرب الدلتا، و٢٣٪ لشرق الدلتا وقناة السويس.

الطاقة الشمسية شاسعة الانتشار على مسطح مصر بأجمعه، ومثلها طاقة الرياح وإن كانت تبرز في نطاقات متعددة في الصحاري والسواحل المصرية، مثل حقل منطقة زعفرانه.

كذلك لدينا مؤشرات للطاقة الحرارية من باطن الأرض — جيوثرمال — متمثلة في الينابيع الحارة الطبيعية، ونعرف منها على وجه التأكيد العيون الحارة في الواحة الداخلة، وحمام فرعون على شاطئ سيناء الغربي. وربما يؤدي المزيد من البحث الموجه إلى اكتشافات أخرى لهذه المصادر الحرارية من باطن الأرض. وأخيرًا فإننا لم نجرب بعد — أو ربما كانت هناك تجارب محدودة لاستخدامات المد البحري والأمواج لإنتاج طاقة محلية. والغالب أن استخدام طاقة المد تحتاج إلى وجود خلجان طويلة ضيقة، وليس في ذهني الآن سوى خليج جمسة — أو جمشة — جنوب رأس غارب عند نهاية خليج السويس، وكذلك بعض الخلجان الضيقة في جزر هذه المنطقة، وبالأخص جزيرة تيران عند مدخل خليج العقبة.

وأخيرًا فمن الطاقات المتجددة ما نهدره في مصر بحرق قش النباتات بعد الحصاد، وهو ما اتُّهم كثيرًا بأنه مسبب للسحابة المغبرة تضيق بها أنفاس ملايين القاهريين. وقد سبق ذكر كيف يمكن الحصول على «البيوجاز»، أو طاقة الغازات الكامنة في بقايا النبات، وأعتقد أن وزارة البيئة وربما الزراعة أيضًا قد أنشأت بعض محطات للتخلص الصحي بدلًا من الحرق المكشوف. وأرجو أن يكون وراء هذا الإجراء تعميم أوسع لإنتاج جانب من الطاقة الرخيصة في أماكن متعددة محليًّا وسط الريف. وفي هذا المجال لا أستطيع الدعوة إلى إنتاج زيوت الوقود، مثل «الإثانول» من قصب السكر، فاستهلاك مصر أكبر من إنتاج السكر المحلي — لماذا وما هو دور بنجر السكر؟

(٤-٦) حرق قش النباتات

ربما يحتاج هذا الموضوع إلى وقفة تدبر. لم نكن نعرف ممارسة حرق المخلفات النباتية من قبل. لماذا؟ الواقع أن الريف، وبخاصة ريف الدلتا، قد دخل منذ عقدين أو ثلاث في مرحلة تغيير ثقافي حضاري، شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات لأسباب كثيرة معروفة. ففي الماضي غير البعيد كانت سطوح البيوت الريفية تستخدم لخزن الحطب و«الجلة» — كعكات روث الماشية المجففة بالشمس — وكذلك الأواني الفخارية المصنوعة من الطين المجفف لخزن الحبوب، هذه المواد كانت تستخدم وقودًا للفرن الفلاحي لطهي الطعام وخبز العيش. وكان معظم الفلاحين من متوسطي الملاك وإلى ما فوقهم لديهم «خان» للبقر والجاموس، أو داخل حوش بيوت فقراء الملاك إذا كان العدد بقرة أو جاموسة واحدة، وكانت تلك الحيوانات ترعى بقايا النبات بعد الحصاد. وباختصار كان هناك نوع من الاقتصاد المنزلي يستوعب معظم القش. كلنا نعرف أن الأمور تغيرت وخاصة بعد:
  • (١)

    دخول المياه والكهرباء.

  • (٢)

    دخول مدخرات العاملين في الدول النفطية المجاورة.

  • (٣)

    التجاء الأجيال التالية — بما فيهم كثير من الإناث — إلى الوظائف ذات الدخل الثابت.

من ناحية ثالثة: حدث انهيار للاقتصاديات المنزلية مع هذا التغيير المجتمعي، ولم يعد الفرن والحطب والجلة من الركائز البيتية مقابل الثلاجات والسخانات وأفران البوتاجاز، وأصبح سهلًا الحصول على الخبز والغذاء من السوق متعدد السلع في داخل القرى والبلدات المجاورة. وعلى الأغلب انحسرت الحيوانات إلى مزارع متخصصة في تربية الحيوان. والنهاية معروفة: لم يعد الناس في حاجة إلى الحطب وقش النباتات. ومن المعروف أن ترك البقايا تتعطن يؤدي إلى تسرب غازات ضارة كالميثان والكربون. ومن ثم فإن حرق القش كان إجراءً صحيًّا محليًّا، لكن دخانه وهبابه كان يغطي مساحات كبيرة حين تحملها الرياح الشمالية صوب القاهرة، فيزيد من كابوس السحابة السوداء.

إذا نظرنا للموضوع على هذه الصورة الشمولية، فالواجب معالجته على ضوء أن القش وبقايا النباتات هو مصدر للطاقة، ومن ثم الدعوة إلى أن يستثمر القادرون أموالهم في إنشاء محطات هذه الطاقة، أو تكوين تعاونيات في هذا المجال؛ لأنه في النهاية عمل رابح وطاقة إضافية منتجة ونشاط بيئي وصحي يحتاجه ريف مصر للمزيد من التنمية بتحديث أشكال جديدة من الأعمال.

(٤-٧) اختلاف منهج وفلسفة التطبيق

على أي الحالات فإن التفكير في الطاقات المتجددة ينبثق من منطلق مبدئي مختلف الفلسفة والتطبيق عن استخدام الطاقة الحفرية من البترول والغاز والفحم واليورانيوم. فقد تدرب العالم منذ أكثر من قرن ونصف على إنتاج الطاقة من مصادرها الحرارية الحفرية والمائية، وإنشاء شبكات الطاقة عبر أقاليم ودول كثيرة. أصبحت هندسة هذه الإنشاءات واقتصاديات تشغيلها واستهلاكها أمرًا يدخل باب الشائع من المعرفة والتطبيق العالمي، وبالتالي أصبح تقليدًا واعتيادًا إنشاء محطات الطاقة المتداولة؛ لأن لها جاذبية المألوف مع قوة قدرات الشركات الكبرى المنتجة لها في جوانب رأس المال والتكنولوجيا والتخطيط والتنفيذ، من أجل ربحية عالية كما هو معروف عن شركات البترول والغاز.

أما استخدام الطاقات الأخرى المتجددة: الشمس والرياح والحرارة الباطنية والأمواج وقوة المد البحري … إلخ. فهي غالبًا تسد حاجات كثيرة محليًّا. فأسطح البيوت والعمارات يمكن أن تغطى بالمنتجات التي تمتص أشعة الشمس وتتولد منها طاقة لتسخين مياه البيت والشقق، ومن ثم وفر كبير استخدام سخانات الغاز والكهرباء. كما يمكن إقامتها في الأماكن النائية كالواحات، أو تقام محطة شمسية معقولة الحجم تغطي احتياجات مشروع عمل في الصحاري، سواء كان تعدينًا أو زراعة أو صناعة. كما يمكن ربطها بغيرها في صورة شبكة مصغرة في إقليم محدود.

طاقة الرياح يمكن إنتاجها في أي مكان يتميز برياح ذات استمرارية على السواحل وفي الوديان وسطوح المناطق الصحراوية … إلخ. وعلى وجه خاص يمكن إقامتها في شمال الدلتا، وإنشاء شبكة كهرباء محلية تقوم بإدارة طلمبات صرف المياه الباطنية المتزايدة التي أصبحت تهدد الخصوبة المتوسطة لحقول الشمال بالبوار، وأيضًا لما تحتويه من ملوثات الأسمدة الكيماوية، وتحويل هذا الشمال إلى مراعٍ للأبقار، كما كان في زمان مضى، ولكن على نمط علمي في الإنتاج وصناعة منتجات الألبان واللحوم على نحو مشابه لمراعي هولندا والدانمرك، وغيرهما في شمال غرب أوروبا. ونموذج صناعات الألبان والأجبان والجلود والصوف في بعض مدن شمال الدلتا معروف من قديم، كدمياط وفوة ورشيد.

الخلاصة: أن الاهتمام بأشكال الطاقة المتجددة لا ينفي استمرار استخدام البترول والغاز الطبيعي، أو مشروع الطاقة النووية إذا أمكن، أو توليد الطاقة من السدود النهرية. عكس ذلك فإنها قد تساعد على تقليل استخدام البترول والغاز؛ تحسبًا لنضوب الأول، وتمكينًا لمزيد من الدخل القومي، حيث ترتفع الأسعار في السوق العالمي. والميزة المحققة أن الطاقة المتجددة سوف تساعد على إيجاد نوع من التعادل بين التركيز الحالي لاستخدام الطاقة في الوادي والدلتا، وبين النقص في كثير من المناطق في أعماق مصر وسواحلها. ولا ننسى أن هذه الطاقات سوف تحتاج إلى عمالة دائمة أكثف من الشبكة الموحدة؛ لأنها سوف تنتج في أماكن متفرقة، وبالتالي قد يكون ذلك واحد من فرص تقليل البطالة بتهيئة عمالة فنية متوسطة، وذلك بتقوية وتركيز مناهج مراكز التدريس، والتدريب على هذه الأنواع من الأعمال الجديدة، بدلًا من التوجهات الحالية التقليدية في مناهج المدارس الصناعية.

١  هناك اتجاه متسارع إلى سكن المدن بدلًا من القرى، وفي الفترة الحديثة بين ١٩٥٠ و٢٠٠٤ زاد سكان المدن في العالم من ٧٣٢ مليونًا إلى ٢٨٤٥ مليونًا بنسبة زيادة نحو أربع مرات وأعلى النسب كانت في أفريقيا — ٩ مرات — وآسيا وأمريكا اللاتينية — ٦ مرات — بينما كانت نسبة نمو السكن المدني في العالم المتقدم نحو مرتين فقط.
٢  النينو باختصار تراكم حركة أمواج كبيرة على المناطق المدارية والاستوائية من المحيط الباسيفيكي، نتيجة التفاوت بين ارتفاع حرارة المياه والتسخين على المياه، فيما بين بيرو وأمريكا الوسطى نتيجة اختلاف الضغط الجوي فتشتد الرطوبة والأمطار الغزيرة على غرب أمريكا وخليج المكسيك، بينما يحل جفاف نسبي على شرق وجنوب شرق آسيا وأفريقيا الجنوبية. أما النينا فهي الظاهرة المعكوسة أي تسخين وضغط جوي منخفض على آسيا الجنوبية الشرقية وأمطار غزيرة وفيضانات جارفة، بينما يحل جفاف نسبي على أمريكا الوسطى والجنوبية. ويتكرر نمط النينو مرة كل ٣ إلى ٧ سنوات وتستمر الظاهرة من ٩ إلى ١٨ شهر، والغالب أن لها تأثيرات بدرجات مختلفة على أجزاء أخرى من المناخ في العالم. ولكل منهما تأثيرات على الزراعة ومياه الأنهار وتوليد الطاقة منها والغابات ومصايد الأسماك والنقل والسياحة ونشاط الناس ونفسياتهم في الجو المتسم بالحرارة والرطوبة أو الشعور بالبرودة. والجفاف والتيارات البحرية تتجه غالبها في المتسع الهائل للمحيط الباسيفيكي إلى السواحل في شرق آسيا. أما ما حدث في المحيط الهندي ٢٠٠٤ فيسمى «تسونامي Tsunami»، وهو مصطلح ياباني بمعنى أمواج الميناء. التسونامي تنشأ عن أحداث جيولوجية في قاع المحيط كالانزلاق بين الألواح القارية أو البراكين، ويؤدي إلى انطلاق الأمواج بارتفاع يتراوح بين ٣٠ مترًا إلى ٨ أمتار وبسرعة ٨٠٠ كيلومتر في الساعة. ولا تظهر ارتفاعاته المخيفة إلا قرب الشواطئ فتضرب وتدمر وتبيد. بلغ ضحايا ٢٠٠٤ نحو ربع مليون قتيل، ومليونين من المشردين، و٣٧٠ ألف بيت و٨٠٠٠ كيلو من الشواطئ و٣٠٠٠ كيلومتر من الطرق دمرت وأبيدت، وآلاف السفن وقوارب الصيد وخسائر قدرت بأكثر من ٦ مليارات دولار، معظمها في إندونيسيا ثم في تايلاند وسريلانكا والهند والصومال وجزر الملاديف وسيشل.
٣  الدراسات المتخصصة حول تغير المناخ متعددة منها دراسة التغيرات الطفيفة في زاوية محور الأرض مما سبب العصور الجليدية المتعددة، كما أن ذوبان الجليد في أعالي الجبال والمحيطين القطبيين — تناقص بلغ ١٫٧٪ من مساحة ١٩٥٠ في نصف الكرة الشمالي — يمكن بدوره إحداث تغير مناخي وتغير مستوى سطح البحر (من −٥٠ملم عام ١٩٥٠ إلى +٥٠ملم عام ٢٠٠٠؛ أي = +١٠ سنتيمتر واحد)، وهناك أيضًا ظاهرات أخرى طبيعية وبشرية ترفع المتوسط الحراري (من ١٣٫٨ عام ١٩٥٠ إلى ١٤٫٥ درجة عام ٢٠٠٠)، وتؤدي إلى تزايد الجفاف مما له تأثير مباشر على اقتصاد الإنسان أو زيادة الأعاصير المدمرة وتغير التبادليات بين مياه أجزاء المحيطات الباردة والدافئة، وتغير التيارات البحرية مما ينجم عنه تغير عالميًّا الدورة الحرارية للمناخ Thermohaline circulation وهي باختصار دورة انتقال مياه المحيطات بين بعضها البعض بما فيها من طاقة حرارية ومواد ذائبة وغير ذائبة وغازات تؤثر بوضوح على مناخ القارات والأقاليم، مثلًا كتأثير تيار الخليج من الأطلنطي الأوسط إلى غرب أوروبا مما يعطيها الدفء المميز لها بالنسبة لعروضها الفلكية الشمالية.
٤  وها نحن في مصر نفكر جديًا في الطاقة النووية في الطبيعة على ساحل البحر المتوسط، فهل نفكر أيضًا في التخلص من النفايات الذرية أم نعلق المسألة إلى أن يصبح التخلص منها عمل شديد التعقيد — إضافة في مايو ٢٠٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤