العلامة اللغوي مكس مولر

المقتطف
عدد تشرين الثاني/نوفمبر، سنة ١٩٠٠
figure
فريدريخ مكس مولر.

كان «مكس مولر» عالمًا من شيوخ العلماء وأستاذًا جليل الشأن طبقت شهرته الخافقين وكان له اليد الطولى في وضع علم اللغات وتسهيل الاطلاع على عقائد الأمم الشرقية. وهو ألماني المولد إنكليزي الموطن ولد بدساو من دوقية انهلت سنة ١٨٢٣ وأبوه شاعر ألماني أورثه قريحته ومخيلته فامتاز من صغره بالذكاء وسرعة الخاطر وقوة الخيال حتى يكاد نثره يكون شعرًا لما فيه من الصور الخيالية. وقد قال في هذا الصدد: «إني ابن شاعر وقد بذلت جهدي العمر كله لكي لا أكون شاعرًا.» لكن الطبيعة لا تغلب ولله در من قال:

وأسرع مفعول فعلت تغيرًا
تكلف شيء في طباعك ضده
وكيف تغلب وقد ربي على ما ينميها ويقويها فقد كان بيت أبيه ناديًا لرجال الأدب من الشعراء والمغنين حتى إنه علق صناعة الغناء وصار غرضه الأكبر أن يصير من كبار الموسيقيين وبقي على حبه لها العمر كله. درس في ليبسك وبرلين وباريس وامتاز وهو في كلية برلين بالاجتهاد وسرعة التحصيل وذهب مذهب «كنت» الفيلسوف الألماني ولم يمل عنه. ثم مال إلى درس اللغات الشرقية فنال منها النصيب الأوفر وبرع في السنسكريتية والفارسية وترجم الهيتوبادسا (كتاب قصص الهنود) من السنسكريتية ونشرها وهو في العشرين من عمره. ثم انتقل إلى باريس ودرس على العلامة المستشرق الأستاذ «إيجن برنوف» ولم يكن على سعة من العيش لكن كان من حسن بخته أن صادقه البارون «بنصن» العالم الكبير فمد إليه يد المساعدة وكتب عنه إلى الأرتشديكن كارل الإنكليزي يقول:

لقد أوصاني بعض ذوي المقامات العليا بشاب عمره اثنتان وعشرون سنة له مقام كبير في عيني شلنغ (فيلسوف ألماني) أشهر نفسه بترجمته الهيتوبادسا من السنسكريت، وهو واسع الاطلاع بارع في كل شيء، ويود أن يقيم في إنكلترا بضع سنوات، وهو ابن الشاعر اللغوي المشهور «وليم مولر» الذي أعلمه من أمره أنه رائع الآداب رزين العقل.

ويقال إن أعظم اكتشاف اكتشفه البارون «بنصن» لفائدة اللغات الشرقية هو اكتشافه «مكس مولر». وقد ساعده البارون «بنصن» والأستاذ «ولسن» على الشروع في العمل الذي بقي عاكفًا عليه إلى أن أدركته الوفاة فوكلت إليه شركة الهند الشرقية ترجمة «الرغ فيدا» كتاب ترانيم البراهمة وهو أساس الآداب السنسكريتية. وقال له «بنصن» حينئذ: «لقد وكلت بعمل يكفيك العمر كله قطعة كبيرة لا تنحت ولا تصقل إلا في سنوات كثيرة، لكن لا بد لك من أن تعطينا نتفًا منها من وقت إلى آخر.» فجعلت هذه النتف تنهال من قلمه كالمطر. وبقى عشرين سنة في تحرير «الرغ فيدا» لكنه لم يقتصر عليه بل اشتغل بمواضيع كثيرة وبرع فيها كلها، فدرس اللغة الإنكليزية وصار من البلغاء فيها كلامًا وإنشاءً، وله الخطب الرنانة التي كان الناس يتقاطرون لاستماعها، ولو كانت في أعوص المواضيع اللغوية والفلسفية، لبلاغة عبارتها وسهولة مأخذها. والكتب الكثيرة التي أعيد طبعها مرارًا لرغبة الناس فيها. ومن هذه الكتب: «لغات دار الحرب» (أي بلاد الهند) طبعه سنة ١٨٥٤، و«عقائد الأمم» طبعه سنة ١٨٥٦، و«تاريخ الآداب السنسكريتية» طبعه سنة ١٨٥٩، و«خطب في علم اللغات» طبعها بين سنة ١٨٦١ و١٨٦٣، و«خطب في علم الدين» طبعها سنة ١٨٧٠، وكتاب النتف في أربعة مجلدات طبعت بين سنة ١٨٦٨ و١٨٧٥، وخطب في أصل الدين ونحوه طبعت سنة ١٨٧٨، ومقالات مختارة طبعت سنة ١٨٨١، ومقالات في ترجمات المشاهير من أصدقائه ومن معلمي بلاد الهند طبعت سنة ١٨٨٣، وكتاب في الدين الطبيعي طبع سنة ١٨٨٩. وحرر «الرغ فيدا» في ستة مجلدات كبيرة فيها ثمانية آلاف صفحة متنًا وشرحًا، وقد فحصه سبع مئة من البراهمة فحكموا أنه أفضل نسخة وأصلحوا نسخهم عليه. وحرر كتب المشرق الدينية وهي خمسون مجلدًا. وله غير ذلك من الكتب والمقالات ومن آخر مقالاته مقالة في أديان أهالي الصين نشرت في جزء شهر (نوفمبر سنة ١٩٠٠) من مجلة القرن التاسع عشر.

وحالما ظهرت مقدرته في علم اللغات اختير أستاذًا فيه، في مدرسة أكسفورد الجامعة، فأقام فيها نحو خمسين سنة. ولبعض العلماء مثل هكسلي وتندل وفوستر مقدرة فائقة على بسط المواضيع العلمية وهم يخطبون فيها حتى ترى الناس يتقاطرون إلى نوادي الخطابة عن طيب نفس ولو كان الموضوع من المسائل الطبيعية العويصة، فجرى مكس مولر مجراهم وبلغ الطبقة العليا بينهم، فكان يخطب في علم اللغات وقد لا يقول شيئًا جديدًا أو شيئًا لم يذكره أحد قبله، ولكنه كان يفصح عنه على أسلوب يختلب الألباب لم يسبقه أحد إليه حتى ذاع اسمه في البلاد الإنكليزية كلها وصارت خطبه من المواضيع التي يتحدث الناس بها في مجتمعاتهم وولائمهم وذهب كثير من أقواله أمثالًا.

ولم تكن آراؤه كلها مما يقوى على النقد والتمحيص ولا لقي الطاعة العمياء من معاصريه والتسليم التام لمقدماته ونتائجه، بل لقي من علماء عصره كل منتقد عنيد كما ترى في ما ذكرناه في المجلد السادس عن رأيه في أصل اللغات وانتقاد الأستاذ «هوتني» عليه. وكذا مذهبه في اشتقاق الشعوب الأوربية من الشعوب الآرية وتولد الأوروبيين والهنود من أصل واحد ومهاجرة الأوروبيين إلى أوروبا من قلب آسيا، فإن كثيرين من نخبة العلماء يخالفونه الآن في هذا المذهب. ويقال بنوع عام إنه كان متطرفًا في مذاهبه متسرعًا في أحكامه، لكن لا ينكر أحد أن علم اللغات (الفيلولوجيا) الذي وضعه الأستاذ بوب سنة ١٨٣٥ لم يوسعه أحد مثل تلميذه «مكس مولر». وكتابه في «عقائد الأمم» لا يخلو من آراء غير سديدة ولكنه هدى العلماء إلى مكتشفات عديدة في هذا الموضوع وأوضح كثيرًا من الغوامض بذكاء عقله وقوة بداهته.

ولا شبهة عندنا في أنه وسع نطاق علم اللغات ورغب الناس في درسه وعلم الأوروبيين والمشارقة أنفسهم كثيرًا مما لم يكونوا يعلمونه من تاريخ لغاتهم ومعتقداتهم، ولكننا نرتاب كثيرًا في أن ذلك أفاد سكان المشرق سياسيًّا؛ فقد بذل جهده مدة خمسين سنة ليقنع الإنكليز أن الهنود أبناء أعمامهم، لكن هذا لم يغير رأي الإنكليز في الهنود ولا أفاد الهنود مثقال ذرة. ومن لا يقنعه قول الكتاب أن الناس كلهم من أب واحد وأم واحدة لا تقنعه آراء العلماء وأقوال الفلاسفة.

وكان رضي الأخلاق كثير الأصدقاء يقصده الزوار من أقطار المسكونة ويكاتبه الناس بلغات شتى. اختار إنكلترا وطنًا له لكن حب ألمانيا وطنه الأصلي لم يهجر فؤاده، فلما نشبت الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة ١٨٧٠ نشر خمس مقالات في جريدة التيمس دافع فيها عن سياسة «بسمارك» وأقام الأدلة على أنه كان يقصد بها السلم لا الحرب. وبقي العمر كله عالمًا ألمانيًّا بين العلماء الإنكليز. وقد بذل الإنكليز جهدهم في إكرام مثواه وخلقوا له منصب أستاذية اللغات الأجنبية خلقةً لكي لا يحرموا فوائده ولا يدعوه يهجر بلادهم. ثم أبدلوها بأستاذية علم اللغات (الفيلولوجيا). ولما كثرت أشغاله وود أن يعفى من هذا المنصب لأنه لم يعد قادرًا على القيام به عينت المدرسة أستاذًا آخر نائبًا عنه يقوم بأعبائه وأبقت الأستاذية له. ولكن لما خلت كرسي أستاذ السنسكريت وترشح لها هو والأستاذ الإنكليزي «مونير وليمس» فضل المنتخبون «مونير وليمس» عليه، لا لأنه أكفى منه لهذا المنصب بل لأنه إنكليزي و«مكس مولر» ألماني، فاستاء من ذلك لكنه لم يحقد على الذين فضلوا غيره عليه. وود مرارًا أن يترك أكسفورد، وأما أكسفورد فلم تتركه، وقد أكرمته كما أكرمت أشهر تلامذتها وأعظم أساتذتها، وكان الصلة المتينة بينها وبين علماء أوروبا ولا سيما علماء ألمانيا حتى إن إمبراطور ألمانيا كان يبعث إليه بتلغراف التهنئة كلما فازت أكسفورد في سباق أو نحوه.

توفي في الثامن والعشرين من أكتوبر سنة ١٩٠٠ في بيته بأكسفورد على أثر مرض عقام في كبده، واحتفل بدفنه في غرة نوفمبر/تشرين الثاني وحضر الاحتفال الجنرال «غودفراي كلارك» من قبل جلالة الملكة، والهر «شلز ستينورتز» من قبل جلالة إمبراطور ألمانيا، وبعث الإمبراطور بإكليل فاخر من الأزهار البيضاء وضع على النعش وقد كتب عليه «لصديقي العزيز»، وبعث ملك اسوج إكليلًا من الزنابق. وحضر الاحتفال أيضًا ولي عهد سيام ونواب المدارس الجامعة والجمعيات العلمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤