الفصل الثاني

الذكرى الثانية

كان على مقربة من بيتنا وإزاء الكنيسة ذات الصليب المذهب بناية شاهقة تعلوها قبب كثيرة. عظمت حتى صغرت حيالها بناية الكنيسة ذاتها. وكانت قببها شهباء قديمة كقبب الكنيسة، إنما لم تظهر فوقها الصلبان المذهبة، بل قامت على الجوانح نسورٌ حجرية وخفقت رايةٌ زرقاء على القبة العليا المطلة على المدخل، وقد امتد أمامه سلم يمنة وآخر يسرة ووقف جندي يحرس كلًّا منهما.

نوافذ المنزل عديدة تجللها من الداخل الحرائر القرمزية تتدلى منها الطرر الذهبية. وأشجار الليمون المنتصبة في الساحة الفيحاء تغطي الجدران بوريقاتها الغضة وتنشر على العشب أريج أزهارها.

كثيرًا ما كنت أرفع عيني إلى هناك عند المساء إذ تطلق أشجار الليمون أعذب أنفاسها وترسل النوافذ أبهى أنوارها فأرى خيالات تجيء وتروح، وأسمع أنغام الموسيقى مترددة من أعالي القصر. ثم تمر المركبات إلى القصر فيرتجل الرجال والنساء ويصعدون على الدرجات وعلى وجوههم سيماء الصلاح والنبل، بينا نجوم الأوسمة تشع على صدور الرجال والورود والرياحين ترقص بين شعور النساء، فأفكر في بساطتي: «لماذا لا أذهب أنا كذلك؟»

أخذني والدي بيدي يومًا وقال: «ها نحن ذاهبان إلى القصر، فتأدب. وإذا كلمتك الأميرة أجب باحتشام وقبل يدها.» وكنت في عامي السادس ففرحت فرح أهل هذا العمر. وكنت أسمع الثناء الكثير على أخلاق الأمير والأميرة صاحبي القصر وما فطرا عليه من ميل إلى الإحسان وعطف على الفقراء، فضلًا عن عدل وإنصاف بهما يمثلان الله تعالى على الأرض في معاقبة الأشرار والمعتدين. فحسبتني أعرفهما، وحسبتهما نظير الصورة التي وضعتها لهما مخيلتي. بل هما كانا من معارفي القدماء لا كلفة بيننا ولا تكلف كأنهما بعض ألاعيبي وجنودي الخشبية.

صعدت في السلم وقلبي يدق بسرعة. وأخذ أبي يوصيني أن أقول «سموك» في مخاطبة الأميرة. ففتحت الأبواب ورأيت أمامي امرأة طويلة القامة ذات عينين براقتين نافذتين، تخال آتية توًّا إليّ تمد يدها لأضع فيها يدي. ولملامحها هيئة ألفها ذهني ونصف ابتسامة محجوبة تلعب حول ثغرها بلطف، فلم أتمكن من ضبط نفسي. وفي حين ظل أبي واقفًا قرب الباب ينحني (لا أدري لماذا؟) انحناءً عميقًا خففت أنا إلى السيدة الجميلة وقلبي يقفز إلى شفتي، ثم طوقت عنقها بذراعي وقبلتها كما أقبل والدتي، فظهر الارتياح على وجهها وداعبت شعري ضاحكة. إلا أن أبي مسك بيدي ودفعني بجفاء قائلًا أني صبي شرير وأني لن أرافقه مرة أخرى. فأخذتني الحيرة وصعد الدم إلى وجنتي وشعرت بسهم يخترق فؤادي الصغير وأن أبي يظلمني. نظرت إلى الأميرة أستمد دفاعًا فلم أر في محياها غير الرصانة واللطف. وأدرت ببصري في القاعة ومن فيها من رجال ونساء لعلي أجد من يشاركني في ألمي فإذا بهم جميعًا يضحكون، فهطلت الدموع من عيني وسرت نحو الباب وهبطت السلم مسرعًا تحت أشجار الليمون حتى وصلت المنزل والتقيت بأمي، فرميت بنفسي بين ذراعيها والشهيق يقطع صدري.

فقالت: «ماذا جرى لك يا بني؟»

قلت: «آه لو تعلمين! ذهبت إلى الأميرة فوجدتها جميلة لطيفة مثلك يا أماه فلم أتمالك أن طوقت عنقها بذراعي وقبلت وجنتيها.»

فقالت: «وكيف فعلت! هؤلاء الناس أشراف أماثل وهم غرباء عنا.»

قلت: «ماذا يهمني كونهم غرباء؟ أليس لي أن أحب كل من نظر إليّ بعينين معسولتين باسمتين؟»

قالت: «لك أن تحب من تشاء يا بني. ولكن عليك أن تكتم حبك ولا تظهر منه شيئًا.»

قلت: «إن لم يكن حب الغرباء جريمة فلماذا يحظر علي إظهاره؟!»

فتنهدت أمي وقالت: «إنك لمصيب يا بني. لكن عليك أن تطيع والدك. وعندما تكبر سنًّا وفهمًا تعلم لماذا لا يجوز أن تطوق عنق كل سيدة جميلة ذات عينين جذابتين.»

وكان ذلك اليوم كئيبًا. عاد أبي إلى البيت وكرر أني أسأت التصرف. وفي المساء سارت بي أمي إلى سريري فجثوت وصليت. غير أني لم أنم إلا بعد أرق طويل متسائلًا: من هم الغرباء الذين لا تجوز محبتهم؟

وا لوعتاه عليك يا قلب الإنسان! إن أوراقك لتجف في ربيع أيامك والريش يتساقط عن جناحيك قبل الأوان. عندما يبزغ فجر الحياة في أفق النفس ينتشر فيه عبير الحب. نحن نتعلم السير والوقوف والكلام والقراءة لكننا لا نتعلم الحب، لأن الحب جوهر الروح وجميع قوى الروح تناديه بأصواتها المختلفة. وقوة الحب أهم أصل غرسته الطبيعة في أعماق الكيان. فكما تجذب الأجرام السماوية بعضها بعضًا بالجاذبية الأبدية كذلك تجذب الأرواح المتآلفة بعضها بعضًا وترتبط الواحدة بالأخرى برباط الحب الأبدي. هيهات للزهرة أن تعيش بلا شمس وللإنسان أن يحيا حياةً عظيمة بلا حب.

أليس أن قلب الطفل يكاد ينسحق انسحاقًا إذ تهب عليه من الجفاء النسمات الباردة الأولى في هذا العالم الزئبقي؟ ولكن ها إن حب والديه يظل لامعًا في ألحاظهم كأنوار سماوية وأشعة إلهية.

حنين الطفل أطهر أنواع الحب وأبعدها غورًا وأشملها طبيعةً لأنه يحتضن العالم بأسره منسكبًا على كل نظرة ودودة، ويهتز لسماع كل نغمة عذبة. هو بحر عميق زاخر لا قرار له، وهو ربيع كنوز لا تقدر وخيرات لا تحصى. وكل من اختبر الحب عرف أنه لا يقاس ولا يكال ولا يوزن ولا زيادة فيه ولا نقصان، وإن الذي يحب صادقًا يحب بكلية قلبه وروحه وبمجموع قواه وأفكاره.

لكن وا حسرتاه! ما أقل ما يبقى من هذا الحب بعد الوصول إلى نصف رحلة الحياة! عندما يعلم الطفل أن في العالم «غرباء» ويفهم من هم أولئك الغرباء تنتهي أيام طفولته، فيختفي ينبوع الحب وتسحقه أقدام الأعوام والاختبار. ويوم يتلاشى لمعان العين الطاهرة فتحل محله خيالات التعب والريب ينظر الإنسان إلى أخيه نظرة الغريب إلى الغريب ويتحاشى الدنو منه في الشارع المزدحم. يمر غير مسلم خوفًا أن لا ترد التحية فتتوجع روحه، لأن الإنسان ذاق مرارة الهجر من أصدقاء طالما بادلهم تحية الرءوس وابتسام الشفاه ولمس الأيدي. الريش البهي يتساقط عن جناحي النفس، وتجف وريقات الزهرة منها وتتمزق، ولا يبقى من منهل الحب سوى قطرات قلائل لإرواء غليل التائه في صحراء الحياة. تلك القطرات نظل ندعوها حبًّا، فأين هي من حب الطفل الفياض الجواد؟

ليس ذاك سوى حبٌ مُزِجَ بالشك والغموم ونار الانفعال المضطرم. حبٌّ يُفني ذاته بذاته كقطرات المطر على الرمال الحارة. حبٌّ يطلب دوامًا ولا يبذل يومًا. حبٌّ يسأل «أتريد أن تكون لي؟» ولا يقول «يجب أن أكون لك.» حب يستغرق نفسه، ويذيب نفسه، ويلاشي نفسه، وهو معذب يائس. هذا هو الحب الذي تترنم بوصفه الشعراء ويتوق إليه الفتيان والفتيات. شعلة تلتهب ثم تنطفئ ولا تدفئ، وتذهب تاركة بعدها الدخان والرماد. نحن نزعم يومًا أن هذه الأسهم النارية إنما هي آية الحب الدائم، ولكن كلما استعرت تلك النار وعظم لهيبها الموقوت قرب خبوها وحلكت ظلمة الليل الذي يتبعها.

وساعة يسود الأفق ويدلهم حول الواحد منا فيرى نفسه وحيدًا شريدًا بين السائرين يمنةً ويسرةً دون أن يعيروه التفافًا، إذن تنهض عاطفةٌ منسية وتتمشى في صدره ذهابًا وإيابًا، ولا يدري أهي عاطفة حب أو عاطفة صداقة، ويود أن يصرخ لكل من أولئك الغرباء «ألا تعرفني؟»

إذ ذاك يشعر بأن الغريب أدنى إلى الغريب من الأخ إلى أخيه ومن الأب إلى ابنه ومن الصديق إلى صديقه، ويدوي في طبقات ذاكرته صوت مجهول قائلًا إن هؤلاء «الغرباء» أقرب أصدقائنا وأعزهم لدينا وأحبهم عندنا.

إذن لماذا نمر بهم صامتين؟ ذاك سرٌّ لا يدرك وما علينا سوى الامتثال. عندما يمر قطاران وأنت في أحدهما وفي الآخر وجه يود أن يبتسم لك، حاول مد يدك لمصافحة الصديق المبتعد عنك قهرًا. حاول ذلك وجربه لعلك تعلم لماذا يمر الإنسان بالإنسان صامتًا.

قال فيلسوف قديم: رأيت بقايا سفينة أغرقتها العاصفة عائمة على صفحة البحر. يتلامس بعضها ويتلاقى إلى حين. ثم تهب الريح فتفرقها شرقًا وغربًا دون أمل في اللقاء. وذاك مصير بني الإنسان في بحر الحياة، ولكن ليس بينهم من شهد غرق السفينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤