الفصل الرابع

الذكرى الرابعة

نجتاز من العمر أعوامًا يماثل تتابعها ممرًا طويلًا قامت على جانبيه أشجار الحور تحجب عنا استدارة الأفق فنظل جاهلين أي الأنحاء نجوب، ولا نحفظ منها سوى كئيب الذكر أننا قطعنا من الأيام مراحل وتقدمنا في السن. ونلهو في حدائقنا بمراقبة المد المنبسط من نهر الحياة فيلوح لنا المشهد واحدًا وإن تغيرت منه المناظر وتجددت على الشطين، فإذا ما بلغنا شلالات الحياة، شلالات الجهاد والعناء والألم، كان عملها في نفوسنا شديد الأثر، وكلما ابتعدنا عنها زاد تعالي صخبها وهديرها وضجيجها. حتى إذا أخذنا في الدنو من أوقيانس الأبدية اجتلى في ذهننا معناها، ووضحت لنا أهميتها، فشعرنا بأن القوة التي ما فتئت تمدنا بالنشاط والفطنة والحكمة وما زالت تسوقنا إلى الأمام نحو غاية سامية إنما تلك الشلالات أصلها ومصدرها، ومنها منهلها الذي لا ينضب.

انقضت مدة دراستي ومضت معها أوقات السرور والخلو وذوى من أحلامي الجميلة كثير، على أنه بقي لي إيماني بالله وحسن ثقتي بالبشر. رأيت الحياة شديدة الاختلاف عما صورته مخيلتي، ولكن الشئون بدت لإدراكي كبيرة مهمة تزينها المعاني الرفيعة السامية. وما أشكل منها وجلب غمًّا وألمًا صار في تقديري أقوى شاهد على أن يد الله تدير حركات الكون فليس لعقولنا المحدودة أن تحصر تلك الحكمة المتناهية. «لا يقع شيء إلا بإذن الله وسماحه» غدا هذا المبدأ الفلسفي موضع راحتي وتعزيتي.

عدت في عطلة الصيف إلى بلدتي. فرح العودة وفرح اللقاء، من ذا منا يشرح أسبابه؟ من ذا الذي يتفهم لذة نتذوقها في أن نرى مرة أخرى ما رأيناه من قبل، وأن نجد من جديد ما سبق وعرفناه قدمًا؟ يكاد يكون التذكار سر كل تمتع وكل مسرة. قد يكون ما نراه ونسمعه ونذوقه لأول مرة جميلًا مُرْضِيًا لذيذًا على أنه يدهشنا بجدته وغرابته فلا يتم الهناء به لأن مجهود السرور يجيء غالبًا أقوى من السرور نفسه. ولكن إذا سمع المرء بعد مرور أعوام نغمة قديمة كان يزعم أنه نسي كل نبرة من نبراتها فعرفتها روحه وعانقتها كأنها صديق عزيز، أو وقف أمام صورة العذراء ناظرًا في عيني طفل تحمله فتنبهت فيه عواطف اعتادها عند هذا المشهد في صغره، أو استنشق زهرة، أو ذاق طعامًا لم يذكره منذ زمن الحداثة، شعر بلذة لا يدري لعمقها أهي آتية من السرور الحاضر وحده أم هي جمعت بين أطايب الساعة المارة وتذكارات عهد مضى.

كذلك يعود الطالب منا إلى وطنه بعد غياب أعوام فتخوض نفسه بحر خواطر تحمله منه الموجات المترنحة نحو شواطئ الأيام القصية، وإذ يسمع ساعة البرج يضطرب خوفًا من التأخر عن ميعاد الدرس ثم يعود من رعبه جذلًا بانقضاء أيام الدراسة. يرى كلبًا يعبر الشارع هو الكلب الذي طالما لاعبه في الماضي، وها هو الآن قد كبر وشاخ حتى قام الفراغ مكان أنيابه. وهاك بائع السلع المتجول الذي طالما جربتنا تفاحاته وما زالت في حكمنا، رغم غبار يلتصق بها ويغلفها، أشهى صنوف التفاح في العالم. وهناك هدم منزل قديم وشيد غيره مكانه. ذاك كان منزل معلم الموسيقى. ما كان أبهج الوقوف تحت نوافذه في ليالي الصيف والإصغاء إلى ما يبتكره ارتجالًا للتسلية بعد ساعات العمل الطويلة، فتنطلق الألحان كأنها بخار تجمع في نفسه خلال النهار فأنشأ يعتقه ليلقي عنه حملًا ثقيلًا. وهنا في هذا الزقاق الضيق الذي كنت أخاله أوسع قليلًا، هنا اجتمعت ليلة بابنة الجيران الجميلة. لم أكن فيما مضى لأجرأ على محادثتها والنظر إليها. على أننا نحن الصبيان كنا نتناقل أخبارها في المدرسة ونسميها «الفتاة الحسناء»، فإن رأيتها آتية في الشارع عن بعد اغتبطت لهذه المصادفة دون أن أطلب الدنو منها. وكان أنها مرة في هذا الزقاق المؤدي إلى المقبرة اتكأت على ذراعي وسألتني أن أسير بها إلى البيت. مشينا ولم ننبس بكلمة طول الطريق. كنت صامتًا وظلت هي ساكتة، ولكن سروري كان من الشدة بحيث إني الآن بعد مرور أعوام، إن ذكرت تلك البرهة تمنيت انقلاب الزمن ورجوع ما لا يرجع ليتسنى لي السير مرة أخرى صامتًا سعيدًا تستند على ساعدي «الفتاة الحسناء».

وهكذا تتوارد خاطرة إثر خاطرة حتى تعج موجات التذكار فوق رءوسنا، ونرسل زفرة تلفتنا إلى أن الهجس أقلق انتظام التنفس منا، فيختفي عالم الأحلام بغتة كما تتلاشى الأشباح عند صياح الديك في الضحى.

ولما مررت أمام القصر القديم المحاط بأشجار الليمون ورأيت الحراس على خيلهم عند الدرجات العاليات توافدت التذكارات متلازبةً في خاطري واكتأبت لدوران الأيام. لم أدخل هذا القصر منذ أعوام عديدة. لقد توفيت الأميرة، واعتزل الأمير خدمة الحكومة وسكن منزلًا منفردًا في إيطاليا، وصار نجله الأكبر الذي نشأت وإياه نائبًا عنه. يقيم في هذا القصر تحف به بطانةٌ من شبان الأشراف والقواد يتمتع بحديثهم ويهنأ بعشرتهم، فكيف لا يحسب أصدقاء طفولته غرباء عنه؟ ومما رغبني في الابتعاد أنني ككل شاب ألماني عرف احتياج الشعب الألماني من جهة وخطأ الحكومة الألمانية من جهة أخرى، كنت انضممت إلى حزب الأحرار واعتنقت نظرياته المغايرة لنظريات بلاط الملوك كل المغايرة.

نعم، منذ أعوام لم أصعد على ذلك الدرج. ورغم ذلك ألفظ كل يوم اسمًا قطنت صاحبته في هذا القصر ومثلت صورتها في ذهني لا تبتعد عني. اعتدت فراقها الجسدي لأنها نمت خيالًا جميلًا وثقت من أن لا أصل له في الواقع. صارت ملكي الحارسي وذاتي الأخرى، أحادثها ساعة أحادث نفسي، وأستشيرها وأعمل بنصيحتها. لست أدري كيف تجسمت فيَّ إلى هذا الحد على قلة معرفتي بها. ولكن كما أن النظر يبدع من السحب أشكالًا كذلك حفظت ذكرى طفولتي رؤياها اللطيفة وكونت من خطوط الحقيقة الضعيفة الواهية صورة كاملة بارزة. أصبح تعاقب أفكاري محاورة بيني وبينها، وما هو حسن فيَّ، وكل ما أتوق إليه، وأسعى في سبيله، وأومن به، كل ذاتي المثلى كانت تخصها، كانت مهداةً إليها كما أنها آتية من روحها، من روح ملكي الحارس الأمين.

أقمت في بيتي العتيق أيامًا فجاءني في ذات صباح رسالة مكتوبة بالإنجليزية من الكونتس ماري، وهذا نصها:

صديقي العزيز

بلغني أنك ستقيم هنا زمنًا. نحن لم نلتق منذ أعوام طويلة. فإن أرضاك أن نلتقي مرة أخرى فإني أسر كل السرور بمشاهدة صديق قديم تجدني وحدي بعد ظهر اليوم في الكوخ السويسري.

لك بإخلاص
ماري

فجاوبت فورًا بالإنجليزية أني سأزورها في الموعد المضروب. ولم يكن الكوخ السويسري سوى جناح من القصر ينفتح على الحديقة ويتيسر الوصول إليه دون المرور في ساحة القصر الكبرى. ولما أزفت الساعة الخامسة اجتزت الحديقة متغلبًا على انفعالي، متهيئًا لمقابلة رسمية، مؤكدًا «لملكي الحارس» في داخلي أن لا شأن لي مع هذه السيدة. ولكن ما معنى قلقي واضطرابي، ولماذا لا يوحي إلي «ملكي الحارس» ما أتطمن به وأرتاح إليه؟ أخيرًا تشجعت هامسًا لنفسي بكلمات سخرية بالحياة، وطرقت بابًا كان نصف مفتوح.

وجدت في الغرفة سيدة لا أعرفها خاطبتني بالإنجليزية وقالت إن الكونتس آتية في الحال. ثم خرجت وتركتني وحيدًا ولدي الوقت الكافي لألقي نظرة على ما يحيط بي.

كانت جدران الغرفة من خشب السنديان يدور حولها نقشٌ برزت فيه وريقات اللبلاب وتصاعدت معرشةً في السقف. كذلك كانت الطاولات والكراسي وأرض الغرفة من خشب السنديان وقد تحاذى فيها الحفر والنقش. وتوزع هنا وهناك كثير من أمتعة ألفتها في غرفة ألعابنا القديمة وقد أضيف إليها أمتعة جديدة، لا سيما الصور والرسوم. وكانت هي الصور بعينها التي اخترتها لتزيين غرفتي في الجامعة: ففوق البيانو صور بتهوفن وهيندل ومندلسهن، وفي إحدى الزوايا زهرة ميلو وهو في تقديري أتم وأبدع تمثال أبقته لنا المدنية القديمة. وعلى الطاولات كتب دانتي وشكسبير، ومجموعة مواعظ تولر، وكتاب «اللاهوت الألماني» وأشعار روكرت وتنسن وبورنز، وكتاب كارلايل «الماضي والحاضر»، وهي الكتب نفسها التي كنت أقلبها قبل أن أجيء إلى هذا المكان. فاجتذبت إلى دائرة التأمل، بيد أني حاولت التملص منها ووقفت أمام صورة الأميرة المتوفاة. عندئذٍ فتح الباب ودخل الرجلان اللذان عهدتهما في حداثتي يحملان الكونتس على سريرها.

يا لعذوبة تلك الرؤيا! كانت صامتة لا تتحرك وبقي وجهها هادئًا كصفحة البحيرة حتى غادر الرجلان الغرفة. إذ ذاك حولت نحوي عينيها، تينك العينين القديمتين اللتين لا يدرك غورهما، وتألق وجهها فانقلبت كل هيئتها ابتسامًا. ثم قالت: «كنا صديقين ولا أظننا تغيرنا في صداقتنا. لذلك لا يمكنني أن أقول «أنتم». وحيث إن العادة لا تسمح بأن أقول «أنت» بالألمانية فلنتخاطب بالإنجليزية.١ أليس كذلك؟»

لم أتأهب لمقابلة كهذه. رأيت أن لا تمثيل هنا، ولا مجاملة ولا رياء. هنا روح تتوق إلى روح أخرى. هذا ترحيب صديق عرف عيني صديقه وراء الوجه العارية ورغم التنكر الاتفاقي. فأخذت يدها التي مدتها إليَّ وقلت: من حادث الملائكة لا يقول «أنتم».

ولكن ما أعظمها قوة سبكت في قوالب الحياة واصطلاحاتها! وكم يتعذر التكلم بلغة القلب حتى مع أشبه الأرواح بأرواحنا! تعذر ذلك علينا فاضطرب حديثنا وتضعضعت أفكارنا وشعرنا بارتباك مزعج حاولت التخلص منه بما حضرني من الكلام فقلت: «لقد اعتاد الناس عيشة الأقفاص منذ الحداثة فإذا ما وجدوا نفوسهم فجأةً في الهواء الطلق لا يجرءون على تحريك أجنحتهم، ويتخوفون الاصطدام بالصخور إذا هم حلقوا في الفضاء الوسيع!»

فقالت: «هو ذلك، وهو عين الصواب وليس نقيضه بالممكن. لا ريب أننا نود أحيانًا أن نكون كالأطيار أحرارًا نتنقل على أشجار الغابات ونلتقي فوق الأغصان ونغرد سويًّا ثم نفترق دون أن يعرف أحدنا الآخر. ولكن اذكر يا صديقي أن بين الأطيار غربانًا يؤثر تجنبها. ولعل الحياة كالشعر: فكما يحسن الشاعر سبك المعاني الجميلة والحقائق الخالدة في أوزان معينة، كذلك على الناس صيانة حريتهم الفكرية والوجدانية رغم قيود المجتمع ودون الإيذاء بها أو التطاول عليها.»

فأجبت مستشهدًا بقول الشاعر بلاتن: «أي شيء أثبت نفسه خالدًا في كل مكان؟ ذاك هو الفكر الحر رغم قيود الألفاظ.»٢

فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت: «نعم. ولكن لي من ألمي ووحدتي ما يخول لي ما ينكر علي سواي. وكم أشفق على الفتيات والشبان الذين لا يربطون فيما بينهم برابطة الصداقة والائتلاف إلا ويفكرون هم أو يفكر لهم ذووهم، بدنو الحب أو ما يسمونه حبًّا. الفتيات يجهلن الجمال المختفي في نفوسهن وقد يكفي لإظهاره حديث جدي مع صديق نبيل. والشبان يتعشقون فضائل الفروسية ويمرنون نفوسهم على المحامد والمكارم إذا هم شعروا بمراقبة امرأة تحوم حول جهودهم ونتائجها سرية كانت أم علنية. ولكن للأسف ذلك لا يكون. لأن الحب لا يلبث أن يقتحم الميدان. الحب أو ما يسمونه حبًّا: أي ضربات القلب المتسارعة المتباطئة، وعواصف اليأس والرجاء، والتلذذ بالوجه المحبوب والتصورات المرضية، وقد يرافق هذه غايات وأطماع جمة. تهجم كلها متعاونة على إقلاق ذلك البحر الهادئ العميق، بحر الصداقة، وهو صورة صادقة للحب الإنساني الطاهر.»

صمتت هنيهة فيها لاحت على وجهها أمارات الألم، ثم قالت: «حسبي اليوم كلامًا فطبيبي لا يسمح لي بالإطالة. والآن أرغب في سماع تلك القطع الموسيقية لمندلسهن، النغمة المزدوجة، وكان صديقي الصغير يعزفها جميلًا فيما مضى. أليس كذلك؟»

لم أحر جوابًا لأنها عندما صمتت وطوت ذراعيها على صدرها كالعادة رأيت في خنصرها ذلك الخاتم الذي أعطتنيه يومًا ثم رددته إليها. وكان تلاطم أفكاري يحول دون البيان، فجلست إلى البيانو وعزفت ما شاءت. ولما فرغت التفت إليها وقلت: «حبذا لو أنيل الإنسان قدرة الإفصاح بالنغمات الموسيقية من غير ألفاظ!»

فقالت: «ذلك واقع لا يحتاج إلى التمني. ولقد وعيت كل ما تهمس به هذه الألحان. غير أني لا أستطيع استماع غيرها هذه المرة لأن ضعفي يتزايد يومًا فيومًا. على الواحد منا أن يقبل بالآخر كما هو على علاته، ولناسكة مسكينة عليلة مثلي أن تتوقع بعض الحلم من صديق مثلك. سنجتمع مساء غدٍ في الساعة نفسها. أليس كذلك؟»

لمست يدها وهممت بتقبيلها. ولكنها أوقفت حركة يدي وضغطت عليها قائلة: «هذا خير. إلى الملتقى!»

هوامش

(١) الألمان كالفرنسيين لا يستعملون ضمير المخاطب المفرد «أنت» إلا بين أفراد العائلة وبين الأصدقاء الأحماء. أما الإنجليز فيخاطبون الجميع حتى الأقربين بالجمع. ولا يستعمل عندهم المخاطب المفرد «أنت» إلا في الصلاة والشعر وما نحوه من مناهج البلاغة. (المعربة)
(٢)
Denn was an alien Orten
Als ewig sich erweist?
Das ist in gebundenen Worten
Ein ungebundenen Geist.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤