الفصل التاسع

الذكرى الأخيرة

كانت الشمس مشرقة على رءوس الجبال وقد دخلت أشعتها من النافذة ساعة استيقظت من رقادي. أهذه هي الشمس التي شيعتها البارحة بنظرات الرجاء والغرام عندما انبسط قرصها كيد صديق يبارك اتحاد قلبينا، ثم هبطت وتوارت كمضمحل الآمال؟ ها هي الآن مشرقة تأتي إليّ كطفل يهنئني بعيد ميمون. لقد عادت إلي حيويتي المعتادة وتنبهت فيَّ الثقة بالله وبنفسي، ترى أأنا هو ذاك الفتى الذي انطرح على الفراش منذ ساعات قلائل مضني الجسد خائر الروح؟

ما حالنا لولا سنة الكرى؟ نحن نجهل إلى أي العوالم يمضي بنا هذا الرسول الليلي حينما نستسلم له بعيون مغمضة وليس من يتكفل بفتحها في الغد ليعيدنا إلى يقظة العمر. لقد تعلق الإنسان بأهداب الشجاعة والإيمان يوم تلقاه الصديق المجهول فنومه النومة الأولى، ولولا ما فطرنا عليه من ثقة وامتثال لأبى الواحد منا، رغم التعب والنصب، أن يغمض عينيه بمحض إرادته ويدخل مملكة النوم. إنما هما الضعف والشقاء تشتد علينا وطأتهما فنلجأ إلى قوة عليا ونرضخ للنظام البديع النافذ في جميع الكائنات، فنسعد إبان الرقاد بحل الروابط التي تقيد ذاتنا الأبدية الخالدة بذاتنا الأرضية الزائلة.

كل ما جرى بالأمس وكان في ذهني مبهمًا كضباب المساء أصبح الساعة جليًا. شعرت بتقاربنا الواحد من الآخر كأننا أخ وأخت، أو أب وابن، أو خاطب ومخطوبة، وأننا لا يحول بيننا انفصال. بحثت عن معنى ما يدعوه البشر «حبًّا» وودت، كالشاعر، أن أكون أخاها أو أباها أو أي قريب لها. وددت أن أهتدي إلى اسم يعرفني الناس به عندها لأن العالم ينكر من لم يحمل اسمًا وكنية. هي قالت إنها تحبني حبًّا طاهرًا يكنه قلبها للنوع الإنساني بأسره وهو مصدر كل صنوف الحب. غير أنها خافت وتألمت لسماع اعترافي، وهذا الألم وذاك الخوف اللذان أتعساني البارحة هما اليوم في عيني حجةٌ راسخة على عاطفة تخصني بها. لماذا نحن نسعى في تفهم نفوس الآخرين ونفوسنا مغلقة على بحثنا؟ ولماذا يستأسرنا ما لا نحسن تمييزه في الطبيعة والأفراد والقلوب؟ أما الأشخاص الذين نعرف منهم جميع الحركات النفسية والبواعث الفكرية فلا ننفعل بتأثيرهم ولا نعيرهم التفاتًا، ولا شيء يكلح البهجة والرونق من محيا الحياة كزعم أولئك الماديين الذين يشرحون المعاني ويحللونها تحليلًا علميًّا لينفوا عجائب النفوس وأسرار الأفئدة. إن في كل كائن غموضًا يستحيل إدراكه ويتعذر تعريفه: أهو إلهام، أو قدر أو خلق؟ لا الفرد يعي معنى ذلك الغموض المستتر فيه ولا اهتدى الباحثون إلى تفسير مقنع مرضي. وهكذا كل ما حملني بالأمس على القنوط صار اليوم ينبوع أمل. وما زلت بقلبي أعلله حتى تبددت الغيوم من جو مستقبلي السعيد.

خرجت إلى الهواء الطلق وإذا برسول يحمل من الكونتس كتابًا. عرفت خط يدها الجميل الرزين فرجوت في تلك اللحظة أعز ما يرجوه العاشق. ويا لسرعان ما خابت آمالي! سألتني في الرسالة أن لا أزورها بعد الظهر لأنها تنتظر ضيوفًا من المدينة، ولم تخط كلمة مودة أو كلمة تطمين، وإنما أضافت حاشية معناها أن الطبيب يأتي غدًا فاللقاء إلى بعد غد.

يومان يمزقان من كتاب حياتي! ويا ليتهما لم يكونا فلا أحتملهما فوق رأسي كسقف سجن مظلم. عليّ أن أصبر عليهما ولست مخيرًا في التصدق بهما على ملك عوجل بالخلع عن عرشه، أو في التبرع لمتسول يدور حول أبواب المعابد. أطرقت وطال إطراقي، فذكرت صلاة الصبح لأن اليائس أحوج ما يكون إلى الإيمان، وكالفارس يرى الهوة أمامه فيحكم شد اللجام، قلت: «فليكن ما لا مناص منه! ولأقبلنه طائعًا دون تذمر فالله لم يخلقنا للغم والمراثي.»

ولماذا لا أتعزى بهذه السطور التي خطتها يدها؟ ولماذا لا أتعزى بأمل الاجتماع القريب؟ سل من عالج السباحة يشر بوجوب رفع رأسك فوق الأمواج، وإلا فاغطس ولا تدع من فمك وعينيك للماء سبيلًا. إن لم ترضنا الحياة كواجب فلنقبلها ونعالجها كفن. كلنا هنا أطفال، ولكن ما أغباه طفلًا يستسلم للغضب أو يركن إلى العبوس كلما شعر بألم أو حبط له مسعى! وما أحبه طفلًا إن بكى ظلت شمس السرور مشرقة في عينيه شروق الزهرة الناضرة وراء غيث نيسان، فلا يطول حتى تنفتح أوراقها ويفوح طيبها لأن حرارة الشمس تمتص عنها قطرات المطر.

وعادت إلي خاطرة فبدأت أنفذها: ذاك أني طالما تمنيت تدوين كل كلمة سمعتها منها وإثبات ما ائتمنتني عليه من جميل الآراء. وها قد حان الوقت الملائم، فصرفت اليومين مستحضرًا ساعات اللقاء محييًا آثارها. وكنت قريبًا منها شاعرًا بحبها كأني ممسك بيدها.

وما أغلى تلك الصفحات لدي! كم من مرة قرأتها وأعدت قراءتها! هذه شهود سعادتي الغابرة، يطل من بين سطورها عليَّ وجهٌ معروف وينظر إلي صامتًا وسكوته أفصح من الفصاحة. يتلو علي ذكريات الأسى والهناء فيرجعني إلى الماضي وأنطرح على مجموعة حوادثه كالأم على ضريح ولدها الميت منذ أعوام ولا رجاء لها بضمه إلى صدرها مرة أخرى، هذه العاطفة نسميها حزنًا، ولكن في الحزن غبطة يعرفها الذين أحبوا كثيرًا وتألموا كثيرًا.

سل الوالدة عما تشعر به عندما تسدل على وجه ابنتها العروس نقابًا لبسته يوم زواجها، مفكرة في زوجها الذي أخذته المنية فحرمتها منه. سل الشاب عما يشعر به إزاء وردة ذابلة جاءته من حبيبته المتوفية وكان أهداها إليها قبل أن يفرق بينهما العالم. كلاهما يبكي وليست دموعهما دموع فرح ولا دموع ترح، بل هي دموع ضحية قدمت آلامها إلى الله بخورًا بعد فناء الآمال، وقنعت بالإيمان والثقة بحكمته غير المتناهية.

ولنعد إلى التذكارات التي تجعل الماضي حاضرًا: انقضى اليومان وجوانحي تختلج حبورًا كلما ولت ساعة فآذنت بقرب اللقاء. وقد كثرت المركبات في اليوم الأول وجاء الفرسان من المدينة فامتلأ القصر بالضيوف والزائرين وخفقت فوق قببه الألوية وصدحت الموسيقى في ساحاته. وعندما أرخى الظلام سدوله ازدحمت الزوارق والقوارب في البحيرة وترددت على صفحة الماء أصداء الأناشيد والأغاني، فأطلت الإصغاء لعلمي أنها هي الأخرى مصغية من نافذتها. وظلت الحركة والجلبة في القصر إلى ما بعد ظهر اليوم التالي حيث عاد الضيوف أدراجهم، وآخر مركبة عادت في المساء إلى المدينة كانت مركبة الطبيب.

عندئذ ضاق صبري وفكرت «ها هي وحدها، أشعر أنها تفكر فيَّ وتتمنى وجودي معها. أأترك ليلة أخرى تمر دون أن ألمس يدها فرحًا بانتهاء الفراق وابتداء التلاقي الجديد؟ أرى في نافذتها نورًا فهل أدعها هناك بلا رفيق؟ ألا يصح أن أتمتع ولو هنية بحضورها العذب؟» وجدتني فجأة أمام بابها وقد ارتفعت يدي لقرع الجرس، فتوقفت قائلًا: «ألا سحقًا للضعف والتبذل! إن أنا دخلت عليها الآن وقفت أمامها خجلًا كسارق يتوارى بالظلام. سآتي إليها صباح غد، سأعود إليها كبطل استحق أن تضفر لجبينه إكليل الحب.»

جاء الصباح وذهبت إليها. أواه! لا تقولوا، أيها الروحيون، إن الروح تحيا بلا جسد! الحياة الحقيقة والسعادة التامة لا يجتمعان إلا حيث يتوحد الروح والجسد فيصيران روحًا جسديةً وجسدًا روحيًّا. الروح بلا جسد شبح، والجسد بلا روح جثة. وهل تخلو زهرة الحقل من الروح؟ أليس إنها تبرز بقدرة الفكر الباري الذي ينيلها الحياة والجمال؟ ذلك الفكر هو روحها ولكنه أبكم فيها بينا هو ناطق في الإنسان. الحياة الحقيقية حياة الروح والجسد معًا، والاجتماع الحقيقي اجتماع الأرواح الأجساد جميعًا. أما العالم الذي عشت فيه سعيدًا يومين كاملين فقد اضمحل الآن كالخيال، أو كتنهد العدم، لأني الساعة أراها بالروح والجسد.

تمنيت أن أضع يدي على جبهتها وألمس أجفانها لأتثبت من وجودها بالذات وليس بالصورة الحائمة حول روحي ليل نهار، بل كشخص غير شخصي يحبني ويتوق إلي، شخص أثق به ثقتي بنفسي، بعيد عني إنما أقرب إلي من نفسي وبدونه ليست حياتي بالحياة، ولا موتي بالموت، وما أنا سوى لهاث ضائع في الفضاء غير المتناهي.

استقرت عليها طويلًا أنظاري وأفكاري فشعرت بتكامل الحياة فيَّ ولم يعد يرهبني الموت لأنه لا يقوى على إفناء هذا الحب العظيم إنما هو يكسبه متانة ونبلًا.

ما أعذب السكوت قربها وقد تجلت نفسها في وضع أعضائها ومجموع هيئتها وتتابعت السرائر في عينيها! بقيت صامتًا وشيء فيَّ يصغي كأني سمعتها تهمس في قلبها: «إنك تؤلمني.» ثم بعد هنيهة: «هل اجتمعنا مرة أخرى؟ كن هادئًا ولا تيأس، لا تسل ولا تستفهم، إني أرحب بك فلا تسخط علي.» كل هذا قرأته في عينيها ولكنها لم تتلفظ بكلمة منه. وفتحت شفتيها أخيرًا وقالت بصوت متهدج: «ألم يصلك كتاب من الطبيب؟»

أجبت: «كلا.»

فقالت: «الأفضل إذن أن تسمع الخبر مني. اعلم يا صديقي أننا نلتقي اليوم للمرة الأخيرة، فلنفترق بلا تذمر. لقد أسأت إليك عن جهل إذ كيف أعلم أن للنسيم العليل من القوة ما يسقط عن الزهرة وريقاتها! كنت قليلة الخبرة فلم أتوقع أن توحي إليك فتاة بائسة نظيري سوى عواطف الرحمة والإشفاق. ولقد أنزلتك على الرحب والسعة لأنك صديقي منذ أعوام طويلة، وسعدت بلقياك، لماذا أخفي الحقيقة؟ لأني كنت أحبك. إنما المجتمع لا يفهم هذا الحب ولا يسمح به. لقد فتح الطبيب عيني وأخبرني أن حكايتنا شائعة تتفكه بتفاصيلها أندية المدينة، وكتب إلي أخي الأمير يسألني أن أقطع كل علاقة بيني وبينك. إن أسفي لألمك شديد. ولكن قُلْ إنك تعفو عني، ولنفترق صديقين كما التقينا.»

قالت هذا وأسبلت أجفانها لتخفي عني دموعها. فأجبت: «لي يا ماري حياة واحدة وهي قربك، وإرادة واحدة وهي إرادتك. أحبك بحرارة الحب وحرقته، ولكني لست أهلًا لك. أنت أرفع مني مقامًا وشرفًا وطهرًا فكيف أرجو أن أدعوك يومًا زوجتي؟ وليس ثمة من وسيلة أخرى لنسير معًا في سبيل الحياة. ماري، أنت حرة ولا أريد أن تضحي لأجلي شيئًا ما. العالم واسع وإن أردت الفراق فلن نجتمع. ولكن إذا شعرت بحب لي وبأنك خاصتي فأعرضي عن المجتمع وانسي أحكامه البلهاء، ودعيني أحملك على ذراعي إلى الهيكل فأجثو هناك وأقسم أن أكون لك في الحياة والموت.»

فأجابت متمهلة: «تَمَنِّي المستحيل حرام يا صديقي. لو شاء الله أن يجمع بيننا لما بعث إليّ بهذه الأوجاع التي تجعلني طفلة عاجزة بائسة. لا تنس أن ما ندعوه قضاءً وقدرًا، أو ظروفًا، أو فروقًا اجتماعية إنما هو في الحقيقة إرادة الله، ومن طمع في التغلب عليها فقد عصى الله وكان غرًّا داعيًا إن لم يكن شاذًّا أثيمًا. إنما الناس على الأرض كالكواكب في عرض الفضاء يسلكون سبيلًا خطتها يد الله فإن تواجه فيها اثنان فذاك إلى حين ثم يفترقان مسيَّرين. وباطلًا يحتجان ويقاومان فنظام الكون باق على ما هو إلى الأبد. أنا لا أرى موضع الخطأ في حبي لك. غير أن الآخرين يرونه فحسبي يا صديقي. ولنمتثل بتواضع وإيمان.»

كان صوتها هادئًا يئن فيه الألم العميق، ولم أشأ أن أتخلى عن الجهاد منذ الخطوة الأولى، فضبطت انفعالي ما أمكن لئلا أتهور مجازفًا بكلمة تزيد في ألمها وقلت: «تقولين إن هذه مقابلتنا الأخيرة فدعيني أعلم لمن نضحي ذواتنا. لو خالف حبنا نظامًا علويًّا لامتثلت معك بتواضع وإيمان. ولكن الحب هو إرادة الروح السامية وتسخير تلك الإرادة هو إنكار إرادة الله. طالما حاول الإنسان مخادعة الله كأن دهاءه كفيل بتضليل الحكمة الربانية. وهذا محض جنون، نَصيبُ من اقتحمه نَصيبُ قزم يبارز جبارًا فليس أمامه من عاقبة سوى أن يسحق ويتلاشى. لا شيء يقوم في وجه حبنا غير التقول والافتراء، فما هو التقول والافتراء؟ أنا أحترم أنظمة المجتمع، أحترمها حتى في تشعبها وارتباكها الحالي لأن الجسم العليل لا يشفى بغير العلاج المركب. وبدون الفروق الاجتماعية والاصطلاحات والعادات التي كثيرًا ما نضحك منها يستحيل ترابط البشر فيما بينهم والتعاون لبلوغ غاية وجدنا على الأرض لننتهي إليها، فيتحتم إذن تضحية الشيء الكثير لتلك الآلهة الكاذبة، وكأهل أثينا الذي كانوا يرسلون كل عام سفينة مشحونة بالشبان والفتيات يقدمونهم قربانًا، علينا أن ننحر الضحايا على هيكل الحيوان المسيطر على تركيب نظامنا الاجتماعي. ولكن ثقي أنه ليس من قلب حساس رقيق إلا تعذب وتفطر، ولا من رجل ذي إدراك وشعور إلا وأرغم على إطباق جناحي حبه ليسجنه في القفص الاتفاقي الضيق وذلك حادث أبدًا قديم جديد. أنت لا تعرفين المجتمع. ولكني لو قصرت الكلام على أصحابي لأسمعتك من المفجعات ما يملأ أسفارًا: أحب أحدهم فتاة فأحبته هي كذلك. ولكنه كان فقيرًا وكانت هي غنية، فتخاصم الأهل والمعارف وتقاذفوا السباب والشتائم وكانت النتيجة انسحاق القلبين. لماذا؟ لأن المجتمع يرى منتهى الحطة والذل في أن ترتدي السيدة ثوبًا مصنوعًا من صوف النبات الأمريكي وليس من نسيج الدودة الصينية.

أحب آخر فتاة فأحبته أيضًا. ولكنه كان بروتستانيًّا وكانت هي كاثوليكية، فقامت عليهما قيامة الكهنة والأمهات وانسحق القلبان. لماذا؟ لأنه حصلت مناورات سياسية بين تشارلس الخامس وفرنسيس الأول وهنري الثامن منذ ثلاثة قرون.

وأحب غيره فتاة فأحبته هي أيضًا. ولكنه كان شريفًا ولم تكن هي ذات حسب، فتصلبت كبرياء أخوته وألهبت الغيرة أخواتها وانسحق القلبان. لماذا؟ لأن جنديًّا قتل آخر كان يتهدد حياة الملك وعرشه منذ عشرات أو مئات الأعوام فأغدق عليه مولاه الألقاب والرتب، وها إن حفيده اليوم يكفر عن ذلك الدم المسفوك بخلق نخره الفساد وصحة ترعى فيها العلل.

يقول علماء الإحصاء إن عدد القلوب المتفطرة يوازي عدد الساعات. وأنا أميل إلى التصديق، لماذا؟ لأن المجتمع ينكر كل حب بين غريبين إن لم يرتبطا برباط الزواج، فإن أحبت فتاتان رجلًا ضحيت إحداهما، وإن أحب رجلان امرأة تحتم أن يضحي أحدهما أو أن يضحيا معًا. لماذا؟ لماذا يحظر على رجل حب فتاة ليس له أن يقترن بها. أكل الحب في أن يهرب الرجل بالمرأة كأنها غنيمة حربية؟ أراك تغمضين عينيك فأدرك أني أطلت الكلام. لقد دنس المجتمع أقدس معاني الحياة، فاسمعي يا ماري، فلنستعمل لغة العالم عندما نكون فيه متكلمين ممثلين فاعلين. ولكن فلنحفظ بعيدًا عنه محرابًا طاهرًا يختلي فيه قلبان صادقان ليتكلما بلغة الحب والإخلاص دون أن يتأثرا بغضبه أو يكترثا لصواعقه. والمجتمع يكبر هذه المقاومة العنيفة من قلب أدرك حقوقه وعرف عظمته فآثر على الأحكام البلهاء. لا بأس بالاصطلاحات والعادات في حل اعتدالها لأنه حسن أن تعرش «اللبلابا» بألوف الأغصان والحبال على الجدار القوي. ولكن حذار من الإفراط لئلا يجد النبت الطفيلي منفذًا إلى داخل البنيان فيفسد إحكام أجزائه ويهدم متانة أركانه. إن حبنا لا يضر بشرًا ولا يؤذي أحدًا بل يسعد نفسينا ويرفعنا إلى عرش مبدعنا. فاتبعي مشورة قلبك واصغي إلى صوت ضميرك ثم أجيبي. ماري، كوني لي! اعلمي أن الكلمة المرتعشة الآن على شفتيك إنما هي حكم علي وعليك بالسعادة أو بالشقاء.

صمتُّ وضغطتُّ على يدها فضغطت على يدي بأنامل ملتهبة وقد بدا التأثر في وجهها وحركاتها. والسماء الزرقاء المنشورة فوق رأسي لم أرها حياتي على جمال ظهرت فيه الآن وقد هددتها الزوبعة وأنفذت إليها الغيوم واحدةً بعد أخرى.

ثم قالت كمن يتعمد تأجيل القرار النهائي: «ولماذا تحبني؟»

أجبت: بل سلي الطفل لماذا ولد، والشجرة لماذا أزهرت، وسلي الشمس لماذا بزغت فأنارت الكون! لماذا أحبك يا بنية، لأنه يجب أن أحبك. وإن شئت إسهابًا فدعي الكتاب الذي تحبين يتكلم لأجلي:

أفضل الناس يجب أن يكون أعز الناس إلينا دون أن نعبأ بما يلحقنا بسببه من ربح وخسارة، أو مساعدة وإهمال، أو شرف وذل، أو ثناء ومذمة، أو أي أمر من الأمور. أحسن الأشياء وأشرفها يجب أن يكون أعزها إلينا لا لسبب آخر سوى أنه الأحسن والأشرف. وعلى هذا المبدأ ينظم المرء حياته الداخلية والخارجية لأن بين الأشخاص تغايرًا فيكون هذا خيرًا من ذاك وفقًا لمقدار ما يظهر فيه من الخير الأسمى الذي يتجلى في أفراد أكثر منه في غيرها. والفرد الذي يكثر فيه تجلي الخير الأسمى هو الأحسن، والذي يقل فيه ذلك التجلي هو الأقل حسنًا، فعلينا أن ننتبه لهذا الاختلاف بين الناس حتى إذا اهتدينا إلى خيرهم أحببناه وأعززناه والتصقنا به طلبًا للاتحاد الدائم.

وأنت، يا ماري، خير من عرفت لذلك أحبك وأنت عزيزة علي. وكلانا يحب الآخر. فقولي الكلمة الواحدة التي تكبر وتحيا فيك؛ قولي إنك لي! لا تخوني قلبك ولا تخدعي عواطفك. أعطاك الله حياةً معذبة ثم أرسلني إليك لأخففها عنك، فألمك ألمي، وسنحمل هذه الآلام معًا بشجاعة كما تخترق البحرَ السفينةُ العظيمة رغم عواصف الحياة وأعاصيرها حاملة الأثقال الباهظة وتوصلها إلى الشط الأمين. تكلمي يا بنية وضعي رأسك على ساعدي.

فهدأ روعها وخضب الاحمرار وجنتيها كما تخضب حمرة الشفق رءوس الجبال؛ ثم فتحت عينيها البراقتين كشموس منيرة وقالت: «أنا لك. أنا خاصتك لأن تلك مشيئة الله. اقبلني كما أنا: فسأظل لك ما حييت وليجمعنا الله في حياة أبهج من هذه وليكافئك خير مكافأة!»

وضعت قلبي قرب قلبها ليخفقا سوية، وأوقفت شفتاي الكلام على الشفتين اللتين نطقتا بدوام سعادتي كما أوقف الزمان دورته، وتلاشى العالم حولنا ولم يمكث فيه غيرنا برهة خلتها دهرًا؛ دهر غرام وهناء. ثم زفرت زفرة عميقة هامسة: «اغتفر لي يا ربي كل هذه السعادة! والآن اذهب ودعني وحدي لعلنا نلتقي مرة أخرى، يا صديقي ومحبوبي ومستودع غبطتي!»

•••

هذه آخر كلمات سمعتها منها. عدت إلى غرفتي ونمت نومًا طويلًا مثقلًا بالأحلام المزعجة. وبعد انتصاف الليل دخل علي الطبيب وقال: «لقد انتقلت ملكنا الطاهر إلى حضن خالقها. وهذه وديعة منها إليك.»

فضضت الكتاب فوجدت فيه ذلك الخاتم المنقوش عليه «كما يشاء الله» وكانت أعطتنيه في طفولتي ثم رددته إليها، وكان ملفوفًا بورقة كتبت عليها الكلمات التي فهمت بها ساعتئذ: «كل ما لك هو لي. خاصتك ماري.»

جلست وجلس الطبيب وغرقنا في بحرانٍ عقلٍّ يعرفه كل من فوجئ بيأس لا رجاء بعده. أخيرًا نهض الشيخ ومسك بيدي قائلًا: «نحن نلتقي اليوم للمرة الأخيرة: أما أنت فعليك أن تغادر المكان، وأما أنا فأيامي معدودة. غير أني أود أن أبوح لك بسر حملته دفينًا في صدري طول الحياة ولم أطلع عليه أحدًا، والآن بي حاجة ماسة إلى إفشائه، فاصغ إلي. إن الروح التي فارقتنا روح شريفة طاهرة والقلب الذي غادرنا قلب صادق عميق. عرفت قلبًا آخر كهذا وروحًا كهذه الروح، بل أبهى منها، هي روح والدتها. عرفت والدة هذه الفتاة قبل زواجها فأحببتها وأحبتني. كنا فقيرين فأنشأت أجد وأكد لأنتشلها من مخالب العوز والفاقة ولأصل إلى مكانة اجتماعية تليق بي وبها. وقبل أن أدرك غايتي اجتمع بها الأمير الشاب وأحبها. ولما رأيت أمير بلادي مولعًا بها يبذل ما في وسعه ليعلي شأنها ويرفعها، هي اليتيمة البائسة، إلى مرتبة الإمارة، شعرت بوجوب تضحية سعادتي لأجلها لأن حبي لها كان أقوى من حبي لنفسي، فغادرت البلدة وتركت لها خطابًا فيه حللتها من وعودها. ولم أرها بعد ذلك إلا وهي على فراش الموت عقب ولادة ابنتها هذه. يمكنك بعد هذا الإقرار أن تدرك مقدار حبي لحبيبتك وإني إنما كنت أحاول إطالة عمرها يومًا فيومًا لأنها كانت الشخص الوحيد الذي يربط قلبي بالأرض. والآن! سر في طريقك يا بني واحتمل الحياة كما احتملتها، ولا تصرف يومًا واحدًا في الغم العقيم. ساعد ما استطعت المحتاجين من إخوانك البشر، وأحببهم جميعًا، واشكر الله الذي أنعم عليك في هذه الحياة الجرداء بقلب كقلبها، وحب كحبها، وروح كروحها، وإن فقدتها»!

فقلت ممتثلًا: «كما يشاء الله.» وافترقنا افتراقًا لم يكن بعده من لقاء.

•••

لقد مرت الأيام والأسابيع والشهور والأعوام سابحة في بحر الأبدية. وطني صار لي أرضًا غريبة وبلاد الغرباء أصبحت وطني. لكن حب فتاتي لا يزال حيًا فيَّ. وكما تسقط دمعة القلب على مياه البحار كذلك غرق حبي لها في بحر حبي للإنسانية بأسرها؛ حبي الذي يشمل ملايين من أولئك الغرباء الذين لا يعرفونني وقد شغفت بهم منذ حداثتي.

•••

إنما في أيام الصيف الساكنة الحارة كهذا اليوم، عندما أخلو بالغابة الخضراء في حضن أمي الطبيعة، وتتوه بي أفكاري فلا أعود أدري ما إذا كان في العالم أناس غيري أم أنا وجدت وحدي على الأرض، ذاك تحدث حركة في مقبرة حافظتي وتنهض الذكريات السحيقة من مدافنها، وترجع قوة الحب القديم قابضة على فؤادي بشدة، فأنادي تلك الفتاة الجميلة، فتأتي إلي وتحدق فيَّ مرة أخرى بعينيها العميقتين اللتين لا قرار لهما. عندئذ يتجمع حبي للإنسانية ويتجسم في حبي لشخصها، لشخص ملكي الحارس، فتخرس أفكاري وتجثو عواطفي أمام سر الأسرار الغامض، سر الحب المتناهي وغير المتناهي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤