الكتاب الثالث

في ظل سيف الدولة

(١) شعر المتنبي في سيف الدولة

وقد صحب المتنبي سيف الدولة تسع سنين أو ما يقرب من تسع سنين، مدحه فِي جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين بالميمية التي أولها:

وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْع أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ
بِأَنْ تُسْعِدَا وَالدَّمْعُ أَشْفَاهُ سَاجِمُهْ

وأنشده لآخر مرة سنة خمس وأربعين الميمية التي أولها:

عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ
مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إِقْدَامِكَ القَسَمُ

ومدحه كالمودع له سنة خمس وأربعين أَيْضًا بالأبيات التي أولها:

أَيَا رَامِيًا يُصْمِي فُؤَادَ مَرَامِهِ
تُربِّي عِدَاهُ رِيشَهَا لِسِهَامِهِ

ولم ينشده إياها، وإنما أرسلها إِلَيْهِ حين انصرف من حلب مغاضبًا، وقد أظهر الذهاب إلى إقطاع له قريبًا من معرة النعمان، وكأنه لم يمدحه بهذا الشعر إلا ليخدعه عما أزمع من الهرب، وليكف الطلب عن نفسه، ولم تكن القصيدة التي مدحه بها فِي أنطاكية سنة سبع وثلاثين أول شعر قاله فيه، فقد رأيت أنه مدحه فِي عهد الشباب سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بميمية أولها:

ذِكْرُ الصِّبَا وَمَرَاتِعِ الْآرَامِ
جَلَبَتْ حِمَامي قَبْلَ وَقْتِ حِمَامِي

ولم يختم المتنبي شعره فِي سيف الدولة حين أنشده أو حين ودَّعه سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، بل ذكره فِي مصر تصريحًا حينًا وتعريضًا حينًا آخر، ثم مدحه فِي الكوفة ورثى أخته، وكان آخر ما مدحه به البائية التي أولها:

فَهِمْتُ الكتابَ أبَرَّ الْكُتُبْ
فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ الْعَرَب

أرسلها إِلَيْهِ من الكوفة فِي ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فهو إذن قد عرفه فِي الثامنة عشرة من عمره ومدحه فِي الثامنة والأربعين من عمره، عرفه عن بعد فمدحه عن بعد، ثم عاشره وفارقه ومدحه عن بعد أيضًا.

وليس من الإسراف فِي شيء أنْ يقال: إنَّ للمتنبي فِي سيف الدولة ديوانًا خاصًّا يمكن أنْ يستقل بنفسه، وهو إنْ جُمع فِي سِفْر مستقل لم يكن من أجمل شعر المتنبي وأروعه وأحقه بالبقاء، بل من أجمل الشعر العربي كله وأروعه وأحقه بالبقاء، وقد مدح المتنبي عددًا ضخمًا من أشراف الناس وأوساطهم، ثم اتصل بالأمراء والحكام، ثم اتصل بعد ذلك بالممتازين من أمراء الدولة الإسلامية فِي الشرق والغرب، ووفق للإجادة وللروعة أحيانًا فِي كثير مما قال فِي هؤلاء الناس.

ولكن شعره فِي سيف الدولة ممتاز بما لم يمتز به سائر شعره: امتاز بالكثرة؛ فالديوان يحفظ لنا من قول المتنبي فِي سيف الدولة نيفًا وثمانين قصيدة ومقطوعة، وهو مقدار ضخم لم يجتمع فيما أظن لشاعر من الشعراء القدماء فِي خليفة أو ملك أو أمير، ولم يجتمع للمتنبي نفسه فِي أحد من ممدوحيه غير سيف الدولة، وليس فِي ذلك شيء من الغرابة؛ فقد انقطع المتنبي لسيف الدولة تسعة أعوام كاملة لم يمدح أثناءها أحدًا غيره، ولم يقل أثناءها شعرًا إلا وهو يتمثل سيف الدولة، فيتحدث عنه ويتحدث.

وقد انقطع جماعة من كبار الشعراء المتقدمين منذ العصر الجاهلي إلى عصر المتنبي، لجماعة من الخلفاء وأشراف الناس، ولكنهم لم يقفوا أنفسهم على هؤلاء الخلفاء والأشراف كما فعل المتنبي مع سيف الدولة، وكما كان يفعل مع غيره من الأمراء والأشراف الذين حموه وأظلوه.

فلم يشغل زهير بهرم عن غيره، ولم يشغل به عن الشعر الخالص، ولم يشغل الحطيئة بعلقمة بن عُلاثَة، ولا بالزبْرِقان، ولا بالوليد بن عقبة عن غيرهم من الذين كان يتناولهم بالمدح أو بالهجا، وقد انقطع الأخطل ليزيد بن معاوية، ولكنه كان يقول الشعر فِي غير يزيد، وانقطع لعبد الملك بن مروان، ولكنه كان يقول فِي غير عبد الملك بن مروان، ومن قبل ذلك انقطع النابغة للنعمان، ثم فِي أيام الأخطل فرغ جرير للحجاج دهرًا، وفرغ الفرزدق لسليمان بن عبد الملك حينًا، وانقطع الكميت لبني هاشم، وانقطع السيد الحميري لهم أيضًا، واتصل بشار بجماعة من الخلفاء، واتصل أبو نواس بجماعة منهم كذلك، وانقطع للأمين أثناء خلافته، وانقطع مروان بن أبي حفصة للمهدي والرشيد، وأكثر البحتري شعره فِي المتوكل، ولكن واحدًا من هؤلاء أو من غير هؤلاء لم يقف حياته الفنية وغير الفنية تسعة أعوام كاملة على مولاه، وإنما كانوا يُصْفون سادتهم وحماتهم بعناية خاصة، ولكنهم يبيحون لأنفسهم أن يمدحوا غيرهم من جهة، ويبيحون لأنفسهم أن يقولوا فِي غير المدح من جهة أخرى.

والرواة يتحدثون بما كان من انقطاع جرير للحجاج وإغراقه فِي مدحه، حَتَّى كره ذلك عبد الملك، فأعرض عن جرير ولم يسمع له إلا بعد سعي وشفاعة وإلحاح.

والرواة يروون هَذَا على أنه من الأشياء النادرة، وذلك يدل من غير شك على أنَّ انقطاع الشَّاعِر لخليفة أو عامل أو أمير فِي القرون الثلاثة الأولى لم يكن معناه نزول الشَّاعِر لمولاه عن نفسه وشخصيته وحريته كما فعل المتنبي غير مرة فِي حياته، وكما فعل مع سيف الدولة بنوع خاص، وتعليل هَذَا يسير فيما يظهر إذا لاحظنا تغير الحياة السياسية والاقتصادية، وما نشأ عن هَذَا التغير من التنافس العنيف بين الأمراء والحكام فِي القرن الرابع، فقد كان هذا التنافس يقوم على أنْ يؤثر كل أمير أو حاكم نفسه ودولته بالخير، وبكل ما من شأنه نشر الدعوة لهما والإشادة بذكرهما، فلم يكن من اليسير لشاعر من الشعراء أنْ يمدح أميرين أو حاكمين إلا أن يكون أحدهما ظلًّا للآخر ومتصلًا به، بحيث يكون مدحه وسيلة لا غاية وسببًا لا غرضًا.

ولو أنَّ المتنبي همَّ يمدح أحد غير سيف الدولة فِي أثناء اتصاله به فِي حلب، أو بمدح أحد غير كافور فِي أثناء اتصاله به فِي الفسطاط، لما كانت عاقبة ذلك عليه إلا وبالًا ونكرًا.

فلنلاحظ هذه الظاهرة فِي نفسها؛ فقد ينتهي بنا درسها واستقصاؤها إلى نتائج قيمة فِي تحقيق التاريخ الأدبي لهذا العصر، ولنلاحظ هذه الظاهرة بالقياس إلى شخصية المتنبي؛ فهي تقفنا على أخص ما يمتاز به هَذَا الرجل من التناقض الغريب بين رأيه فِي نفسه وسيرته بين الناس، فهو قد كان فِي شبابه لا يطمح إلا إلى الحرية، ولا يطمع إلا فِي الاستقلال، وهو قد ألقى نفسه فِي السجن، وعرَّض نفسه للموت فِي سبيل حريته واستقلاله، ولكنه لم يكن يظفر برعاية أمير من الأمراء أو سيد من السادة، إلا نزل عن نفسه، وضحى فِي سبيله بهذه الحرية وذلك الاستقلال، وأغرب من هَذَا أنَّ سيف الدولة لم يشغل المتنبي عن غيره من الأمراء والملوك فحسب، وإنما شغله أَيْضًا عن الشعر الخالص، فقد رأيت أنَّ غير المتنبي من فحول الشعراء لم يكونوا يفنون أنفسهم وفنهم فِي سادتهم وحماتهم، وقد كان رجل كأبي نواس يستطيع أنْ ينقطع للأمين، ولكنه مع ذلك يقول فِي الخمر أو فِي الوصف أو فِي الهجاء أو فِي غير ذلك من فنون الشعر، كانت له حياته يتصرف فيها كما يحب، فأما المتنبي فإنه لا يعرض لفن من فنون الشعر، ولا يلم بلون من ألوان الكلام، إلا إذا كان متصلًا بسيف الدولة اتصالًا قريبًا، وهو قد فعل هَذَا نفسه حين اتصل ببدر بن عمار، وكاد يفعل ذلك حين اتصل بالأمير الإخشيدي الشاب فِي الرملة، لولا أنْ ألح عليه الأمير نفسه فِي مدح صديقه العلوي، ولما انقطع لكافور بعد انقطاعه لسيف الدولة، وقف شعره عليه أثناء اتصاله به، ولم يمدح فاتكًا إلا بعد مشقة وجهد واستئذان فيما يقال: ولو إنه رضي عن كافور رضاه عن سيف الدولة، لما فكر فِي فاتك، ولما فكر فِي الشعر الخالص الذي لا يتصل بشخص كافور، فهذا كله يدلنا على أنَّ المتنبي كان يتخذ الشعر وسيلة لا غاية، وعلى أنه كان عبدًا للطمع والمال، لا للجمال والفن.

ويمتاز شعر المتنبي فِي سيف الدولة بشيء آخر غير الكثرة هُوَ التنوع، فمع أنَّ سيف الدولة هُوَ الموضوع الذي يدور حوله شعر المتنبي أثناء هذه الأعوام التسعة، فقد كان هَذَا الشعر مختلف الأنواع والألوان والفنون، ولم يكن هَذَا الاختلاف ناشئًا عن رغبة الشَّاعِر فِي التنويع والافتنان، وإنما كان ناشئًا عن أنَّ حياة سيف الدولة نفسه كانت مختلفة الأنحاء والوجوه، فقد كان سيف الدولة أميرًا عربيًّا، شريف الأصل، كريم النسب، جواد اليد، بعيد الهمة، وهو من أجل هَذَا يتقاضى المتنبي مدحه، كما يمدح أمراء العرب الذين يتصفون بهذه الصفات.

وكان سيف الدولة مجاهدًا يناضل عن الإسلام، ويحمي ثغور المسلمين من قبل الروم، وكانت له مع هؤلاء مواقع حسن بلاؤه فيها منتصرًا ومنهزمًا؛ فكان من هذه الناحية يتقاضى المتنبي مدحه كما يُمْدح المجاهدون والحامون للثغور والزائدون عن حوزة الدين، وكان سيف الدولة أميرًا ينافس أمراء آخرين، ينافس قومًا فِي العراق، وقومًا فِي مصر، فكان يتقاضى المتنبي أنْ يمدحه مدحًا يقدمه على منافسيه، وكانت لسيف الدولة رعية بدوية قليلة الشعور بحب النظام، شديدة النقص للسلطان القوي، كثيرة الجنوح إلى الشغب والخروج والانتقاض، وكان سيف الدولة يردها إلى الطاعة، ويأخذها بالإذعان، فكان يتقاضى المتنبي أنْ يمدحه كما يمدح الأمير الذي يأخذ رعيته بالحزم والعزم، ويحملها على الشدة، وحينًا إلى اللين، وكان سيف الدولة صاحب دعابة ولهو، وصاحب ترف ونعيم حين تسمح له السلم بالاستمتاع من ذلك بحظ قليل أو كثير، فكان يتقاضى المتنبي أنْ يكون له نديمًا مواتيًا، يصرف شعره على ما تقتضيه المنادمة من اختلاف ألوان الحياة واختلاف ألوان القول، ثم كان سيف الدولة بعد ذلك يكبر المتنبي ويؤثره ويختصه بما لا يختص به غيره من ندمائه وشعرائه والعاملين فِي قصره والمختلفين إليه، فكان ذلك يثير حسدًا وكيدًا، وكانت غطرسة المتنبي تزيد هَذَا الكيد وذلك الحسد تلظِّيًا واضطرامًا.

وكان سيف الدولة يفي للمتنبي ما وسعه الوفاء، ولكنه كان كغيره من الأمراء، يسمع للوشاة، ويميل إلى الكائدين، فكان المتنبي مضطرًّا إلى أنْ يدافع عن نفسه بالعتاب والاستعطاف وهجاء الخصوم والمنافسين، ثم كان سيف الدولة رجلًا من الناس تمتحنه الأيام بما تمتحن به الناس جميعًا من فقد الأبناء والأقرباء والأحباء، فلم يكن بُدٌّ للمتنبي من أنْ يعزّيه ويرثي له من تستأثر به المنية من دونه.

وإذن فقد كان فِي تنوع هذه الحياة التي كان يحياها سيف الدولة تنوع للشعر الذي كان يقوله أبو الطيب فيه، ونشأ عن ذلك أنَّ سيف الدولة قد شغل المتنبي بنفسه عن كل شيء، وعن كل إنسان، ولكنه أتاح له أنْ يلمّ بطائفة من الفنون الشعرية، لم يكن ليلم بها لو أنه قصر نفسه على المدح الخالص، فما نفقده من حرية المتنبي فِي فنه تعوِّضه علينا عبودية المتنبي لسيف الدولة، إن صح هَذَا التعبير.

ونحن إذن نستطيع أنْ نعتبر هذه الأعوام التي قضاها المتنبي عند سيف الدولة خير أعوامه، وأخصبها وأغناها وأكثرها حظًّا من الإنتاج المختلف المتنوع.

وخصلة ثالثة يمتاز بها شعر المتنبي فِي هَذَا الطور، وهي أنه قد استطاع، لا أنْ ينشئ فنًّا جديدًا من فنون الشعر، بل أنْ يُنمي فنًّا من هذه الفنون ويقويه، ويكثر القول الجيد فيه، حَتَّى يمنحه من الامتياز والاستقلال ما يجعله فنًّا قائمًا بنفسه.

أريد بهذا الفن وصف الجهاد بين المسلمين والروم، فمن الحمق أنْ يقول قائل أو يظن ظان أنَّ أبا الطيب قد ابتكر هَذَا الفن أو خرج به عما ألف القدماء، فوصفُ الجهاد بين المسلمين والروم قديم منذ كان الجهاد بين المسلمين والروم، وقد امتاز جماعة من الشعراء فِي هَذَا الوصف، ويكفي أنْ نذكر ما قاله أبو تمام، وما قاله البحتري، ولكن أبا تمام والبحتري وغيرهما من الشعراء الذين سبقوا المتنبي لم يفرغوا لهذا الفن كما فرغ له، ولم يقفوا عليه أكثر جهدهم كما وقف عليه أكثر جهده، ثم هم لم يشتركوا فِي الجهاد كما اشترك فيه المتنبي، ولم يشهدوا مواقعه كما شهدها المتنبي، ولم ينعموا كما نعم المتنبي، ولم يشقوا كما شقي المتنبي، بما كانت هذه المواقع تعقب من انتصار أو اندحار، فهم كانوا يقولون الشعر فِي وصف هَذَا الجهاد متأثرين بفنهم وحده، أو قل بفنهم وأملهم، وكان المتنبي يقول متأثرًا بما يرى قبل كل شيء، ثم بالفن والأمل بعد ذلك.

ومن هنا تفهم السبب فيما تحسه من تأثر خاص حين تقرأ وصف المتنبي لهذا الجهاد بين المسلمين والروم: تأثر لا تجده حين تقرأ ما كان يقوله أبو تمام للمعتصم أو البحتري للمتوكل.

فأنت تجد عند هَذَا وذاك فنًّا وجمالًا، ولكنك تجد فنًّا وجمالًا لا يكادان يخلوان من الحرارة والنشاط.

فإذا قرأت وصف المتنبي لهذا الجهاد وجدت فيه نارًا تضطرم، ولا تكاد تمس قلبك حَتَّى تشيع فيه، وإذا قلبك يضطرم أَيْضًا حماسة ونشاطًا.

ومصدر هَذَا أنَّ المتنبي فِي هَذَا الوصف لم يكن يصدر عن مدح سيف الدولة والرغبة فِي إرضائه وإثارة إعجابه بنفسه وإعجاب الناس به، كما كان يفعل أبو تمام والبحتري، وإنما هُوَ يصدر عن هَذَا ويصدر معه عما كان يثور فِي نفسه من العواطف، وما كان يدور فِي رأسه من الخواطر حين كان يشهد الموقعة ويتبع العدو منتصرًا أو يولى أمامه منهزمًا. وكان يصدر مع هَذَا وذاك عن انفعالات المسلمين التي كانت تثور حوله أثناء الاستعداد للحرب، وأثناء الاشتراك فِي المعركة، وبعد الانتصار أو الفرار.

ثم كان المتنبي يصدر بعد هَذَا كله عن هَذَا الانفعال الآخر الذي كان يشهده حين كان يثور فِي نفس العدو منهزمًا ومنتصرًا، فقد كان المتنبي يمدح سيف الدولة من غير شك بهذا الشعر، ولكنه لم يكن يصور سيف الدولة وحده، وإنما كان يصور معه نفسه، ويصور جماعة المسلمين المجاهدين، ويصور جماعة الروم أيضًا.

ومن هنا نجد فِي وصف المتنبي لحروب سيف الدولة عند الثغور فتوة عربية اجتماعية، إنْ صح هَذَا الوصف، وترى هذه الفتوة العربية الاجتماعية تشيع فِي وصف المتنبي حية قوية مضطربة شديدة الاضطراب، كأنها الكهربا لا تكاد تتصل بهذا الشعر حَتَّى ينتقل إليك ما صوَّر فيه المتنبي من حياة هؤلاء المجاهدين، وما كان يملؤها من نشاط فيه الأمل والابتهاج، وفيه الاكتئاب والابتئاس، وفيه الثقة بالنفس والإيمان بالحق والارتفاع عن صغائر الأمور دائمًا.

ونحن نستطيع أنْ نفهم عجز الأستاذ بلاشير عن أنْ يذوق جمال هَذَا الفن من شعر المتنبي، وأنْ نعلله وإن لم يكن فِي حاجة إلى هَذَا التعليل، فجنسية الأستاذ واختلاف مزاجه وطبعه، وأخشى أنْ أذكر دينه أيضًا، كل هَذَا يجعل تأثره بهذا النحو من شعر المتنبي قليلًا ضئيلًا، وربما جعله تأثرًا عكسيًّا، وربما دفع الأستاذ إلى الغض من هَذَا الشعر، والازدراء له،١ أما نحن فإن هَذَا الشعر يثير فِي نفوسنا عواطف أخرى، ويستتبع فيها حركات لا تنتظر من نفس الأستاذ بلاشير وأمثاله من العلماء الأوربيين.

وقد يقال: إنَّ المتنبي أغرق وأسرف، وعظم من أمر هذه المواقع أكثر مما ينبغي، وأضاف إِلَيْهَا من الخطر أكثر مما تستحق، وأعرض عن تصوير الهزيمة، ولم يُعنَ إلا بتصوير الانتصار، ولكن يجب أن نتفق، فلم يكن المتنبي مؤرخًا ولا محققًا، وإنما كان شاعرًا، وشاعرًا ليس غير، أستغفر الله، بل كان شاعرًا يشترك فِي الجهاد، يذوق لذته ويشقى بآلامه، فالذين يطالبون هَذَا الشَّاعِر بالتاريخ وتصوير الحق كما وقع، يسرفون عليه، ويسرفون على أنفسهم، ويسرفون على الشعر نفسه، وأين كانت تقع حرب طروادة التي وصفت الإلياذة طورًا من أطوارها من هذه الحروب التي شهدها المتنبي ووصفها تسعة أعوام كاملة! أفيعاب شعراء الإلياذة بأنهم لم يصفوا التاريخ كما كان، أم يحمد من هؤلاء الشعراء أنهم صوروا نفوس الجماعات والأفراد التي اشتركت فِي هذه الحرب أبدع تصوير وأروعه؟

وبعدُ، فهل من الحق أنَّ المتنبي أسرف كل الإسراف، وتكثَّر حين كان يجب الاقتصاد؟ يجب أنْ نلاحظ أنَّ معظم البلاد الإسلامية فِي ذلك الوقت كانت منصرفة إلى نفسها، مشغولة بأمورها الخاصة عن هذه الثغور الرومية، وأنَّ هَذَا القسم من شمال سوريا والجزيرة كان وحده الناهض بحماية هذه الثغور، ينهض بذلك على ضآلته وقلة مصادره المالية والعسكرية، وينهض بذلك نهوضًا حسنًا يلقى فيه النصر، ويلقى فيه الهزيمة أحيانًا، ولكن أمام أي قوة كان هَذَا القسم من شمال سوريا يثبت أثناء هَذَا الجهاد المتصل العنيف؟ أمام الإمبراطورية البيزنطية الضخمة التي مهما يكن من أمرها، فليس من الممكن أنْ نفكر فِي الموازنة بينها وبين هَذَا الطرف الصغير اليسير من أطراف المسلمين.

فإذا نظر أبو الطيب فرأى دولة ضخمة كالدولة الإسلامية ساهية لاهية، مشغولة بما يفسد حياتها من اللهو والعبث ومن الخصومة والاضطراب، ورأى فتًى عربيًّا قد ثبت مع من حوله من هؤلاء العرب الذين أقصوا عن ملكهم ورُدُّوا عن سلطانهم لهذه الإمبراطورية الضخمة، فحمى منها الثغور وذادها عن حوزة الإسلام، واقتحم عليها ملكها حَتَّى أبعد فِي الغارة أحيانًا — إذا نظر المتنبي فرأى هَذَا كله، وامتلأت نفسه به إعجابًا وتيهًا فتغناه أروع غناء وأبقاه، أيمكن أنْ يوصف بأنه مسرف متكثر يتجاوز الحق ويفسد التاريخ؟! كلا! إنه لا يتجاوز الحق ولا يفسد التاريخ بالقياس إلى الذين لا يحسنون استنباط التاريخ من الشعر، ولا يفرقون بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين.

ولنعد إلى ما أخذنا فيه نقول: إنَّ المتنبي إذن لم ينشئ بشعره فِي وصف الجهاد بين المسلمين والروم فنًّا جديدًا، وإنما ارتقى بهذا الفن حَتَّى انتهى به إلى أقصى ما كان قد قدر له من كمال، وأنت تشعر بهذا شعورًا قويًّا واضحًا حين تقرأ شعر المتنبي وشعر أبي فراس فِي وصف هَذَا الجهاد، فكلا الشاعرين قد شهد المواقع واشترك فيها وذاق لذاتها وآلامها، ثم وصف ما تركت فِي نفسه وفي نفس غيره من الأثر، ولكنك واجد فِي وصف المتنبي قوة وفتوة ونشاطًا وعنفًا، لا تجدها فِي شعر أبي فراس الذي ظهرت فيه دقة الحس ورقة العاطفة، فهو لا يخلو من فتور لا يلائم هذه الحياة العنيفة التي كان يحياها هؤلاء العرب من المسلمين، فِي ذلك الوقت، ولعله يلائم الترف الذي كان يشمل القصرين فِي أوقات السلم، قصر سيف الدولة فِي حلب، وقصر أبي فراس نفسه فِي منبج، أنت واجد حين تقرأ هذين الشاعرين، فرق ما بين القوة التي ترتفع بك إلى أقصى ما تستطيع أن تبلغ من أمل وثقة وعنف، والضعف الذي ينحط بك إلى الحضيض، ولكنه يحتفظ بك معلقًا فِي الهواء، لا تبلغ الأرض فتمشي عليها، ولا تبلغ أعلى الجو فتحلق فيه تحليق النسر.

على أني أخشى أنْ يخدع القارئون لهذا الفن من فنون المتنبي عن أنفسهم بعض الشيء، فيظنوا أنَّ هَذَا الفن هُوَ القصص، كما نجده فِي الإلياذة وأشباهها من آيات الشعر القصصي القديم والحديث، وقد خدع الأستاذ بلاشير نفسه عن هَذَا الشعر وعن الشعر الحماسي كله، فسماه قصصًا، والواقع أنَّ فِي شعر هَذَا المتنبي كثيرًا من مميزات الشعر القصصي، فيه قوة المعنى، وفيه جزالة اللفظ، وفيه روعة الوصف للحرب وأهوالها وبلاء الأبطال فيها، وفيه الإشادة بنفس الجماعة وما ترتقي إِلَيْهِ حين تبلي فتحسن البلاء، وحين تمتحن فتحسن احتمال المحنة، ولكن فيه عنصرًا يميزه من الشعر القصصي ويرده إلى الغناء ردًّا قويًّا ويلزمه مكانه من الشعر العربي المألوف، وهو أنَّ الشَّاعِر لا ينسى نفسه لحظة ولا بعض لحظة، وإنما هُوَ يذكرها دائمًا حَتَّى حين يغرق فِي وصف سيف الدولة، أو حين يغرق فِي وصف الحرب والمحاربين، فشخصية المتنبي ظاهرة قوية فِي شعره الرومي، لا يستطيع القارئ وإنْ بعد العهد بينه وبين الشَّاعِر أنْ ينساها أو يعرض عنها، وإنما هي تفرض نفسها عليه فرضًا، وقد لا يكتفي المتنبي بحضور شخصيته فِي ذهنه وفي ذهن سامعيه وقارئيه، فإذا هُوَ يذكرها تصريحًا ويحدث عنها فِي غير لبس ولا التواء، وأخص ما يمتاز به الشعر الغنائي من الشعر القصصي هُوَ هَذَا العنصر بالضبط، هَذَا العنصر الذي يمثل الشَّاعِر أمامك فِي كل لحظة، ويقنعك بأن الشَّاعِر لا يصف وإنما يتغنى، فإذا وصف فوصفه أداة من أدوات الغناء ووسيلة من وسائله، فليس شعر المتنبي فِي وصف الجهاد بين المسلمين والروم قصصًا، وإنْ اشتمل على كثير من مميزات القصص، ولكنه غناء؛ لأنه يشتمل على أخص مميزات الغناء.

ومن هنا يخطئ من يوازن بينه وبين شعر الإلياذة فِي غير تحفظ ولا احتياط، ومن هنا يخطئ كذلك من يزعم أنَّ المتنبي قد أدخل فِي الشعر العربي فنًّا لم يكن فيه، وهو الفن القصصي، فالمتنبي لم يزد على أنْ أخذ فن الحماسة القديم فنماه وقواه حَتَّى انتهى به إلى أرقى أطواره.

وخصلة رابعة يمتاز بها شعر المتنبي فِي هَذَا الطور أيضًا، وهي أنه قد وثب بشعره حين اتصل بسيف الدولة وثبته الأخيرة التي رفعته إلى الأوج وضمنت له مكانه بين الفحول من شعراء العرب، لا لأنه استحدث فنًّا جديدًا، فقليل من شعراء العرب من استحدث فنًّا جديدًا، وقد كان ذلك فِي صدر الإسلام وفي أول أيام العباسيين، ولا لأنه قد جدد من أوزان الشعر وقوافيه ما قدم وطال عليه العهد، ولا لأنه قد أضاف إلى هذه الأوزان وزنًا لم يكن معروفًا من قبل، فليس للمتنبي فِي شيء من هَذَا حظ ما؛ بل لأنه ملك ناصية الفن حقًّا، وجعل يتصرف بألفاظه ومعانيه كما كان يتصرف بها الفحول، وأثبت شخصيته قوية واضحة ممتازة من غيرها، وأصبح مرآة لنفسه لا لأبي تمام ولا للبحتري، وأصبحنا نستطيع أنْ نقرأ القصيدة من شعره، فنقول: إنها قصيدته هُوَ لم يتأثر بها هَذَا الشَّاعِر أو ذاك، على حين كنا قبل هَذَا الطور من أطواره، نقرأ القصيدة من شعره فنحس وراءها المثل الذي احتذاه، والنموذج الذي اتبعه، فمرة نحس أبا تمام، ومرة نحس البحتري، وحينًا نلمح الحطيئة، وحينًا نلمح الأعشى، وربما خيل لنا أننا نرى زهيرًا، ولست أذهب فِي هَذَا الكلام مذهب القدماء من خصوم المتنبي، حين كانوا يزعمون أنه أخذ هَذَا المعنى من هَذَا الشَّاعِر أو أخذ هَذَا اللفظ من ذاك، وإنما أذهب مذهبًا آخر، وهو أنَّ المتنبي كان أحيانًا يجعل الشَّاعِر القديم أمامه، أو يجعل قصيدة بعينها من قصائد شاعر بعينه أمامه حين ينظم هذه القصيدة أو تلك، فيظهر أثر هَذَا فِي شعره، أراد ذلك أم لم يرد، ويظهر هَذَا الأثر شائعًا فِي الوزن والقافية، وفي اللفظ والمعنى، وفي روح القصيدة، إنْ جاز لنا أنْ نستعمل هَذَا اللفظ، بحيث تحس هَذَا الأثر، ولا تكاد تحصره أو تحدده أو تدل عليه. فأنت حين تقرأ داليته التي أولها:

أَقَل فَعَالِي بَلْهَ أَكْثَرَهُ مَجْدُ

لا تذكر الحطيئة أثناء قراءة الأبيات الأولى، فما أكثر الشعر العربي الذي يقوم على وزن كهذا الوزن، وقافية كهذه القافية، ولكنك لا تكاد تمضي فِي قراءة القصيدة حَتَّى تفرض عليك دالية الحطيئة فرضًا، وكذلك الأمر فِي لاميته التي أولها:

لَا تَحْسَبُوا رَبْعَكُمْ وَلَا طَلَلَهْ

متكلفة الغزل على جمال فيه، محتفظة بشخصية المتنبي فِي أولها وفي وسطها وفي آخرها، ولكن امض فِي قراءة القصيدة فستتراءى لك على كره منك لامية الأعشى، وستقرأ قوله:

وَالنَّجْلُ بَعْضُ مَنْ نَجَلَهْ

فلا تملك نفسك أنْ تذكر قول الأعشى فِي لاميته:

والشيءُ حَيْثُ مَا جُعِلَا

فإذا بلغنا طور المتنبي عند سيف الدولة، وقد أنفق الشَّاعِر فِي صحبة هَذَا الأمير عامًا أو عاميْن، وشهد بلاء الأمير، وتأثر بالحياة معه مقيمًا وظاعنًا، فإن هذه الظاهرة تستخفي من شعره استخفاءً تامًّا، وإذن أنت تستطيع أنْ تقول: إنه أخذ هَذَا المعنى أو هَذَا اللفظ من هَذَا الشَّاعِر أو ذاك، ولكنك لا تستطيع أنْ تقول: إنه تأثر فِي هذه القصيدة، قصيدة هَذَا الشَّاعِر أو ذاك.

لفظ المتنبي إذن فِي هَذَا الطول جزل، لا يستطيع المتنبي أنْ يبلغ به جزالةً أجزل مما وصل إليه، ومعناه فخم دقيق مستقيم إلى أقصى ما يستطيع الشَّاعِر أنْ يبلغ من الفخامة والدقة والاستقامة.

وللمتنبي فِي هَذَا الطور عيوبه اللفظية والمعنوية التي لا تأتيه من تقليد غيره، أو لا تأتيه من تعمد التقليد، إنْ أردت دقة التعبير، وإنما تأتيه من تكوين نفسه وذوقه وطبعه ومزاجه الخاص: أدبر عقله وشعوره وحسه على هَذَا النحو، فأدبر تعبيره على هَذَا النحو نفسه أيضًا.

ونحن بعد أنْ يترك المتنبي سيف الدولة نستطيع أنْ نلاحظ فِي شعره هَذَا الشعور أو ذاك وهذا الحس أو ذاك، ولكننا لن نستطيع أنْ نلاحظ أنَّ شعره قد ارتقى أو نما أو تجاوز الطور الذي انتهى إِلَيْهِ فِي حلب، وسنلاحظ أنَّ الناحية الغنائية تقوى جدًّا فِي شعره بعد مفارقة سيف الدولة؛ لأنه سيفرغ لنفسه على نحو ما، وسنلاحظ أَيْضًا أنه قد يقصر عما تعود أن يبلغ من الآماد، وقد يضعف شعره، وقد يصبح تكلفًا وتصنعًا، ولكنه لن يتجاوز الرقي الذي بلغه فِي هَذَا الطور.

وواضح أنَّ رقي شعر المتنبي فِي هَذَا الطور من أطوار حياته ظاهرة طبيعية لا غرابة فيها، فالبيئة نفسها كانت تقتضي أحد أمرين: فإما أنْ يرقى المتنبي ويعلو حَتَّى يمتاز من خصومه ومنافسيه، وإما أنْ يظل حيث كان حين اتصل بسيف الدولة، فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الشعراء.

ولعلك لا تنس ما لاحظناه من أنَّ رقي شعر المتنبي حين لحق ببدر بن عمار، كان نتيجة لأسباب، من أهمها هذه البيئة العراقية الناقدة التي لم يظفر بها المتنبي قبل ذلك، فالبيئة التي كانت تحيط به عند سيف الدولة كانت أرقى جدًّا من البيئة التي أحاطت به عند بدر بن عمار، كانت أرقى، وكانت أشد تنوعًا واختلافًا، ولست فِي حاجة إلى أنْ أصف لك البيئة التي أحاطت بسيف الدولة فِي حلب، فقد كثر كلام الناس فِي وصفها حَتَّى أصبح الوقوف عندها إطالة وإملالًا، وإنما ألاحظ أنَّ بيئة بدر بن عمار كانت بيئة ضئيلة ضيقة تلائم سلطان هَذَا العامل اليسير وما كان يستطيع أن يمنح من المال، وتلائم فِي الوقت نفسه ضآلة عمله وخضوعه لسلطان أمير آخر هُوَ ابن رائق الذي كان يتلقى سلطانه من بغداد، فأما بيئة سيف الدولة فقد كانت تلائم ما كان لهذا الأمير من سلطان مستقل بالفعل، له كل مميزات القوة والثروة والغنى، سلطان لا يتلقّاه صاحبه من بغداد، وإنما يستمده من سيفه ومن بلائه فِي قتال الروم والثبات للإخشيديين، سلطان ينافس به صاحبه أصحاب السلطان فِي بغداد وفي الفسطاط، ويبيح للمتنبي — كما سنرى — أنْ يُعرِّض بالخليفة حينًا، ويصرح بمهاجمته حينًا آخر، سلطان يشبه إذن سلطان بغداد، ويكاد يمتاز منه، بل يمتاز منه بأنه سلطان عربي خالص لا يتسلط عليه الأعجمي ولا يتأثر بالذوق الأجنبي، وما أظنك فِي حاجة إلى أنْ ألفتك إلى أنَّ حال السلطان فِي بغداد كانت سيئة كل السوء فِي هَذَا العصر بالقياس إلى ما تحتاج إِلَيْهِ الحياة الأدبية من التقوية والتنمية والتشجيع، فقد كان الخليفة معسرًا أشد الإعسار فِي أكثر الأوقات، ويكفي أنْ تقرأ كتاب الأوراق للصولي لترى مع كثير من الألم والحزن كيف كان الراضي يعتذر بضيق ذات اليد عن إرضاء حاجة شعرائه وندمائه إلى العطاء، وكان السلطان الفعلي وما يتبعه من الثراء الفعلي إلى جماعة من قادة الأتراك، ثم إلى هَذَا الأمير الديلمي وحاشيته، وواضح جدًّا أنَّ هؤلاء الأتراك والديلم مهما يكن من حبهم للشهرة وحرصهم على المنافسة ورغبتهم فِي تشجيع العلم والأدب، فقد كان لهم من ذوقهم الأجنبي ومن تعصبهم على العرب ومن شعوبيتهم بوجهٍ عام، ما يحول بينهم وبين الفراغ للحياة الأدبية العربية الخالصة، على نحو ما كانت الحال عليه فِي بغداد قبل ضعف الخلفاء وفساد الأمر فِي قصر الخلافة.

وربما كان استعداد السلطان لتشجيع الأدب وحمايته فِي مصر خيرًا من استعداده فِي بغداد، ولكن السلطان على كل حال كان إلى جماعة من الأجانب، من الأتراك والروم والسودان، فهم كانوا يحمون الأدب ويشجعونه؛ لأن طبيعة الحياة كانت تقتضي ذلك، ولأن المنافسة السياسية كانت تفرضه، فأما فِي حلب فقد كان الأمر مختلفًا كل الاختلاف، الأمير عربي متعصب للعرب، مبغض للشعوبية، والبيئة من حوله عربية طامحة إلى المجد، حانقة على الغاصبين فِي العراق ومصر، والذوق عربي قد ورث حب الأدب عامة، وحب الشعر خاصة، عن هذه البادية العربية التي كانت ما تزال حوله تمده وتغذوه، وليست الحاجة إلى المنافسة أقل منها فِي بغداد أو الفسطاط، ولعلها أكثر منها، ثم لم تكن هذه الدولة السورية فقيرة ولا معسرة، وإنما كانت ضخمة الثروة ظاهرة الغنى، وليس من شك فِي أنها كانت تكسب من حرب الروم أكثر مما تنفق فيها.

فلا غرابة فِي أنْ تزدهر الحياة العقلية والأدبية فجأة حول هَذَا الأمير العربي الفتى، وفي أنْ يسرع إِلَيْهِ العلماء والأدباء والشعراء يلتمسون فضله وحمايته، فيجدون عنده ما يلتمسون وفوق ما يلتمسون، ولعله كان يدعوهم إِلَيْهِ ويرغبهم فِي جواره ترغيبًا.

وأنا أعلم أنَّ هذه النهضة العقلية والأدبية لم تكن طبيعية ولا متوطنة فِي سوريا الشمالية، وقد رأينا فِي صدر هَذَا الحديث أنَّ البيئة العربية فِي شمال سوريا كانت جاهلة فِي شباب المتنبي، وأنَّ جهلها قد أثَّر فِي شعر المتنبي آثارًا ظاهرة نكاد نلمسها بأيدينا، إنما طرأت هذه النهضة على سوريا الشمالية طروءًا وظهرت فيها فجأة حين نهض فيها هَذَا الفتى العربي، فازدحم حوله الكُتَّاب والشعراء والعلماء والفلاسفة.

ولم يكن اتصال هذه الدولة الناشئة بالروم فِي غير انقطاع ليضعف من هذه النهضة أو ليحد آفاقها، وإنما كان خليقًا أنْ يزيدها قوة، بما يثير من نشاط فِي النفوس، وبما يحدث من اختلاط مستمر بين العرب والروم أثناء الحرب والسلم؛ لكثرة ما كان يقع فِي إسار المسلمين من الروم، ومن كان يقع فِي إسار الروم من المسلمين.

ولست أزعم أنَّ حلب كانت فِي ذلك الوقت أرقى من بغداد، أو أنها كانت تعدل بغداد فِي حظها من الحضارة والترف العقلي والمادي، فهذا مخالف لطبيعة الأشياء، وليس من المعقول أنْ تشبه مدينة نهضت فجأة بمدينة هي مستقر النهضة الإسلامية منذ عهد بعيد، كانت فيها آثار الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل والمعتضد، وكانت عاصمة مادية ومعنوية لهذه الدولة الضخمة، وهي الآن قد فقدت سلطانها المادي، ولكن سلطانها المعنوي ما يزال قويًّا بعيد الصوت فِي الآفاق.

ولكن ليس من شك فِي أنَّ شاعرنا قد لقي فِي حلب بيئة لم يلق مثلها من قبل، فيها غذاء لعقله، وإرهاف لحسه، وتقوية لشعوره، وفيها قبل كل شيء وبعد كل شيء ملاحظة متصلة، ونقد مستمر، وحسد وكيد، وتنافس فِي الظفر برضا الأمير.

وإذن فمن الحق على المتنبي لنفسه أنْ يعنى بفنه أشد العناية وأدقها، وأنْ ينتفع بكل ما حوله لتصبح هذه العناية خصبة منتجة حقًّا، وقد فعل المتنبي من غير شك، فتأثر عقله وشعوره وذوقه بهذه البيئة الجديدة، وظهرت آثار هَذَا كله فِي شعره الذي قاله فِي هَذَا الطور.

(٢) بيئة سيف الدولة

وكانت ثقافة سيف الدولة نفسه واسعة عميقة فيما يظهر؛ فقد كان على احتفاظه بكثير من خصال البداوة أبعد الناس عن حياة البدوي الجاهل الذي لا يعرف الشجاعة والبأس والكرم والجود، وكانت بيئته الخاصة التي نشأ فيها تهيئه لحياة مثقفة لها حظ لا بأس به من المشاركة فِي العلم والأدب، والأخذ بأسباب الحضارة الراقية الزاهية التي كانت مسيطرة فِي بغداد.

فهو لم يخرج من البادية فجأة، وإنما سبقت أسرته إلى شيء غير قليل من المجد، وشاركت فِي الحياة السياسية، ونهضت ببعض المناصب العامة، ثم انحازت إلى فكرة القومية من جهة، وتأثرت بالطمع وحب النفس من جهة أخرى، ففكرت فِي الاستقلال، وسعت إليه، وظفرت به، وأيسر النتائج لهذا أنها أخذت بأسباب الترف، وعاشت عيشة المتسلطين، ولم ترسل أبناءها هملًا بغير تربية ولا تثقيف، وإنما اتخذت لهم الأساتذة والمؤدبين، علمتهم ما لم يكن بُدٌّ من تعلمه للنهوض بمثل ما كانت تنهض به من جلائل الأعمال، وثقافة سيف الدولة تظهر فِي أحاديثه ومحاوراته ومشاركته فيما كان يخوض فيه جلساؤه من العلم والأدب والفن، وقدرته على التمييز الدقيق بين ما كان يقال فِي مجلسه من الصواب والخطأ، ومن الجيد والرديء، ورغبته فِي أنْ تحفل حلب بأضخم عدد ممكن من العلماء والأدباء والكتاب والشعراء، وفي أنْ تتفرغ فيها الثقافات، فتوجد الفلسفة إلى جانب العلم، وتوجد علوم الدين إلى جانب علوم اللغة والأدب.

وما كان الرجل يصنع هَذَا عن جهل، ولا عن غرور، ولا عن رغبة فِي المنافسة للمنافسة من حيث هي، بل عن بصيرة وحسن رأي، وعلم بما يأتي وما يدع، وتقدير صحيح لأثر الحياة العقلية المزدهرة فِي نشر الدعوة، وإعلان ما كان يريد لملكه ودولته من أبهة وجلال.

وكانت مجالس سيف الدولة فِي أوقات السلم كمجالس أمثاله من الأمراء وأصحاب السلطان، مدارس يتثقف فيها الجاهل، ويتهذب فيها ذو الطبع الغليظ، وتشتد فيها عناية كل واحد من الذين يشتركون فيها ويختلفون إِلَيْهَا بأن يعظم حظه من الثقافة، ويزداد علمه سعة وعمقًا، ويزداد طبعه رقةً وتهذيبًا، ويزداد لسانه مرونة ولباقة، ولعل سيف الدولة نفسه كان أشد الناس انتفاعًا بهذه المدرسة، واستفادةً مما يُلقى فيها من العلم ويدار فيها من الحديث، فكانت ثقافته تزداد وعلمه ينمو من يوم إلى يوم، ولست أستبعد أنْ يكون سيف الدولة قد أضاف إلى مشاركته فِي الثقافة الشائعة لوقته، مشاركة فيما هُوَ أعمق من هذه الثقافة وأدنى إلى الجد، فما أظن فِي أنه حمى الفارابي، ويسَّر له أسباب الحياة لمجرد الرغبة فِي الفخر والتكثر، وما أستبعد أنْ يكون سيف الدولة قد ألمَّ شيئًا باليونانية وثقافة اليونانيين، لاتصاله اليومي أثناء حياته كلها باليونان وشئون اليونان، فمن الحق على الشَّاعِر الذي يريد أنْ ينقطع لأمير كهذا الأمير، ويشارك فِي مجلس كمجلس سيف الدولة، أنْ يهيئ نفسه لذلك أحسن تهيئة، ويعدها له أقوى إعداد.

والرواة يحدثوننا، والديوان يحدثنا، بأن المتنبي قد جد فِي ذلك فأحسن الجد، وأتيح له فِي ذلك أحسن التوفيق، فلم يكن المتنبي كما عرفت صاحب مجون ولهو، ولم يكن محبًّا للراحة والفراغ، فلا غرابة فِي أنْ تتحدث الأخبار بأنه كان كثير القراءة، يطيل مصاحبة الكتب، حَتَّى يمضي عليه فِي ذلك أكثر الليل.

وإذن فلم يكن رقي شعر المتنبي فِي هَذَا الطور شيئًا مفاجئًا، ولا أثرًا من آثار المصادفة، وإنما كان شيئًا طبيعيًّا، ونتيجة لازمة لهذه الحياة الجديدة التي انغمس فيها، ولما كان قد ركب فِي طبعه من ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وحدَّة الذهن، وقوة العقل والشعور معًا.

رُكب طبعه على هَذَا النحو، ووجد عند سيف الدولة راحة من الجهد، وفراغًا للجد من الأمر، وصادف بيئة خصبة مثقفة ذكية ناقدة، وأميرًا ليس أقل من هذه البيئة خصبًا ولا ذكاءً ولا ثقافةً ولا ميلًا إلى النقد، فلم يكن له بد من أنْ يلائم بين نفسه وبين هذه البيئة، ومن أنْ يجعل نفسه خليقًا بصحبة هَذَا الأمير، فإذا أضفت إلى ذلك نشاط الأمير الذي لا يفتر، وحسن بلائه فِي سبيل المجد، وحسن جهاده فِي حماية الإسلام والمسلمين، وحسن سخائه بالمال، لم تنكر من هذه الوثبة التي وثبها المتنبي فِي هَذَا الطور من حياته قليلًا ولا كثيرًا.

(٣) مدح المتنبي لسيف الدولة

وكان شعر المتنبي كما رأيت متنوعًا كحياة الأمير الذي انقطع له، فوقف نفسه وجهده على مدحه والإشادة به والثناء عليه، وما أحتاج إلى أنْ أتكلف ما كنت أتكلفه من قبل فِي توقيت القصائد والمقطوعات وتاريخها، فالديوان يكفينا هذه المهمة، فهو يوقت هذه القصائد ويؤرخها، ولا يكاد يهمل إلا توقيت المقطوعات القصار وتأريخها؛ لأنها فيما يظهر كانت متصلة منتشرة فِي الأعوام التي اصطحب فيها الشَّاعِر والأمير، فلم يكن فِي توقيتها وتأريخها كبير عناء، وما أحتاج كذلك إلى تأريخ حياة سيف الدولة، فإني لا أريد الحديث عن هَذَا الأمير ولا تصوير سيرته، بل أنا لا أعرض له إلا من حيث الحاجة إِلَيْهِ فِي تصوير حياة المتنبي والحديث عن شعره، ولم يقصر المؤرخون القدماء والمحدثون فِي إنصاف هَذَا الأمير وتصوير ما كان يمتاز به من قوة، أو ما كان يعنيه من ضعف وتقصير.

وما أحتاج كذلك إلى أنْ أتعمق فِي درس كل الشعر الذي قاله المتنبي فِي سيف الدولة، فإن هَذَا شيء يطول ويوشك ألا ينقضي، وما أشد حاجتي إلى أنْ أفرغ من هَذَا الحديث، وأدع المتنبي وحياته إلى موضوع آخر من هذه الموضوعات الكثيرة التي أنا مشغوف بقراءتها والكتابة فيها، فحسبك وحسبك أنْ نقف وقفات قصارًا عند نماذج مختلفة من هذه الفنون التي طرقها المتنبي فيما قال من الشعر لسيف الدولة، على أنْ تكون هذه النماذج التي نلم بها مغنية عما لا ندرسه ولا نقول فيه.

ولننظر قبل كل شيء إلى المدح الخالص الذي قاله المتنبي فِي سيف الدولة، والذي اشترك فيه سيف الدولة مع غيره من الأمراء الممدوحين، أو اشترك فيه المتنبي مع غيره من المادحين.

ولنختر أول ما قاله المتنبي فِي مدح سيف الدولة من الشعر حين اتصل به فِي أنطاكية سنة سبع وثلاثين، فنحن نلاحظ أنه أكثر من قوله الشعر فِي سيف الدولة أثناء هذه السنة الأولى، فقد مدحه فِي أنطاكية نفسها بقصائد ثلاث، إحداها هذه الميمية التي سنطيل الوقوف عندها شيئًا، والأخريان قالهما حين عزم سيف الدولة على الرحيل، وحين أخذ فيه، ثم ماتت أم سيف الدولة فرثاها، ثم أسر ابن سيف الدولة واستنقذه الأمير، وقال المتنبي فِي ذلك شعرًا، ثم تعرض أخو سيف الدولة لخطر من قِبَل البويهيين، وهمَّ سيف الدولة بنصره، فقال المتنبي فِي ذلك شعرًا، ثم أراد الأمير شاعره على أنْ يصحبه فِي هذه الحملة التي همَّ بها، فقال المتنبي فِي ذلك شعرًا، ومن المحقق أنَّ أسبابًا عارضة لم يحدثها المتنبي قد دعته إلى الإكثار من قول الشعر فِي هَذَا العام أو فيما بقى من هَذَا العام، ولكن من المحقق أَيْضًا أننا نحس فِي هَذَا الشعر كله، ولا سيما فِي القسم الأول منه، أنَّ المتنبي كان حريصًا كل الحرص على أن يرضي أميره ويظفر بمودته واصطناعه وإياه، وأنه قد ظفر من ذلك بما كان يريد، فأصبح شاعرًا رسميًّا، وأصبح الأمير حريصًا على صحبته، يهم بالسفر فيدعوه إلى مرافقته.

فلننظر إذن فِي بعض هَذَا الشعر، ولنختر منه الآن هذه القصائد الثلاث التي قالها المتنبي لأميره بمجرد أنْ أتصل به فِي أنطاكية، حين كان الأمل وحده هُوَ الذي يدفعه إلى المدح والثناء، والنظرة السريعة فِي القصيدة الأولى تترك فِي أنفسنا أثرًا غريبًا، فالفرق عظيم جدًّا بين لهجة الشَّاعِر فيها ولهجته فِي القصيدة الأولى التي مدح بها بدر بن عمار، كان مدحه لبدر بن عمار كما رأيت مندفعًا شديد الاندفاع لا يكاد يملك نفسه، ولا يسيطر على ما يثور فيها من عواطف الفرح والابتهاج، وكان كما رأيت يلائم بين شعوره وشعره، فيصطنع البحر المتقارب الذي ينحدر به انحدارًا، ويصور إسراعه إلى الأمير، واندفاعه إلى هذه الواحة الخضراء التي لاحت له فِي صحراء مجدبة.

أما ميميته الأولى فِي سيف الدولة، فلا تصور اندفاعًا ولا إسراعًا، وإنما تصور أناة ومهلًا وتعمدًا لطول الروية والإمعان فِي التفكير، وأنا أقدِّر أنَّ المتنبي كان فِي الخامسة والعشرين حين اتصل ببدر بن عمار، وكان فِي الرابعة والثلاثين حين اتصل بسيف الدولة، وأنا أقدر أثر الشباب فِي ذلك الاندفاع، وأثر الكهولة فِي هذه الأناة، بل أنا أقدر أَيْضًا أنَّ المتنبي كان بائسًا يائسًا حين أتيح له الاتصال ببدر، وأنه كان راضيًا مطمئنًّا حين اتصل بسيف الدولة، بل أنا أقدر بعد هذا وذاك أنَّ المتنبي كان قليل الشهرة، ضئيل الحظ من نباهة الذكر حين اتصل ببدر بن عمار، وكان بعيد الصوت مرتفع المكانة حين اتصل بسيف الدولة.

وكل هَذَا كاف لتعليل اندفاعه فِي طبرية، وأناته فِي أنطاكية، ولكني لا أستبعد مع هَذَا أنْ تكون تجربة المتنبي عند بدر قد علمته الاحتياط حين يتصل بالملوك والأمراء، وألقت فِي روعه أنَّ الخير أنْ يصطنع الأناة والروية، فلا يلقى بين يدي ممدوحيه بنفسه كلها وأمله كله، وإنما يعطيهم من ذلك بمقدار، ويدخر لنفسه منه ما قد ينفعه حين يحتاج إليه، بل أنا أرجح أنَّ تجربة المتنبي عند بدر وعند غيره من الناس قد علمته ألا يكشف عن نفسه كلها لأحد، وأنْ يقسم حماسته قسمين، ويحتفظ لنفسه بأحدهما، ويجعل الآخر مادة يأخذ منها ليعطي ممدوحيه.

ومهما يكن من شيء فقد كان للمتنبي حين أقبل على سيف الدولة فِي أنطاكية مظهران متناقضان: فأما أحدهما فمظهر الأناة والحذر، وأما الآخر فمظهر الحرص على إرضاء أميره العظيم.

وشيء ثالث لا بُدَّ من تقديره فيما أظن، وهو أنَّ المتنبي قد حقق فِي نفسه الفرق بين ممدوحه الجديد وممدوحيه السابقين، وحقق فِي نفسه الفرق بين البيئة التي كانت تحيط بسيف الدولة والبيئات التي كانت تحيط بممدوحيه الآخرين، فأقدم على مدح سيف الدولة والتحدث إلى بيئته، لا فِي شيء من الأناة والحذر فحسب بل فِي شيء من التهيب والإشفاق أيضًا.

وما أرى إلا أنه استعد لمقامه هَذَا بين يدي سيف الدولة وأصحابه، فأحسن الاستعداد وأطاله، وتقدم إلى فنه أن يمده بكل ما يملك من قوة وخصب وغناء، وحرص على أن تكون قصيدته الأولى لهذا الأمير خليقة بمقامه الأول بين يديه، وعلى أن يقرأ أصحاب الأمير وندماؤه هذه القصيدة أو يسمعوها، فإذا هم مضطرون إلى أن يقدروها ويحسبوا لصاحبها حسابًا، ويعترفوا بأن الشَّاعِر وشعره خليقان حقًّا بالعناية والتفكير.

من أجل هَذَا كله كظم المتنبي عواطفه، وأخضع آماله وأهواءه لنظام دقيق شديد حقًّا، وادخر إرسال نفسه على سجيتها، لمواقف ومقاومات أخرى حين تزول الكلفة بينه وبين الأمير، وحين تؤمن له البيئة الجديدة بنباهة الذكر وارتفاع الشأن والمهارة فِي الفن، وإذن فليصطنع المتنبي لهذا المقام الخطير ما يلائمه من فخامة الوزن وضخامة القافية، وجزالة اللفظ، ودقة المعنى وارتفاعه أيضًا.

وأنت واجد هذه الخصال كلها فِي هذه القصيدة الميمية، ويكفي أن تقرأ مطلعها لتعرف أن الشَّاعِر قد تعمده تعمدًا، وقصد إِلَيْهِ مع سبق الإصرار — كما يقول أصحاب القانون — لا لشيء إلا ليبهر ويسحر ويصدم السامعين، ويفرض عليهم نفسه، ويكرههم على الاعتراف بأن هَذَا الشَّاعِر الجديد ليس شاعرًا ما، ليس أول مقبل كما يقول الفرنسيون، وإنما هُوَ شاعر يعرف كيف يدير رأيه فِي رأسه، وكيف يدير لسانه فِي فمه، وكيف يقول البيت من الشعر، فيكلف سامعيه وقارئيه كثيرًا من الجهد والعناء ليفهموه ثم ليذوقوه، ولن يقنعني أحد بأن المتنبي قد أرسل نفسه على سجيتها فِي هَذَا البيت، وقاله فِي غير تكلف وتعمد، والمتنبي عندي أعقل وأذكى وأعلم بالشعر، وأبرع فيه من أن يندفع إلى هَذَا البيت اندفاع الذي لا يعلم ما يأتي وما يدع، وإنما أراد المتنبي أن يُعَنِّيَ خصومه الذين عرفهم أو افترضهم، وأن يكلفهم التفكير فِي تفسير هَذَا اللغز الذي استفتح به قصيدته، أو هذه الألغاز التي مضى فيها أثناء القسم الأول من هذه القصيدة:

وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْع أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ
بِأَنْ تُسْعِدَا وَالدَّمْعُ أَشْفَاهُ سَاجِمُهْ

من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن المتنبي أراد أن يعبر عما فِي نفسه، فلم يجد وسيلة إلى هَذَا التعبير إلا هَذَا البيت الذي اشتد فيه الالتواء والتعقيد؟!

ولنلاحظ أن المعنى الذي قصد إِلَيْهِ متكلَّف فِي نفسه،لم يصدر عن نفس سمحة مرسلة مع طبعها، وإنما صدر عن شاعر يريد أن يأتي بشيء جديد، لم يتعود الناس والمثقفون منهم خاصة أن يسمعوه، يريد أن يفجأ سامعيه، ويأتيهم بشيء لا عهد لهم به، فمتى سمع الناس تشبيه وفاء الأصدقاء بربع الأحباء؟ وأي علاقة بين هذين الطرفين من أطراف التشبيه؟ وإذن فهذا المعنى الغريب محتاج إلى تعبير غريب، ولا بد للشاعر من أن يتأنق فِي لفظه كما تأنق فِي معناه، ولا بد من أن تكون الغرابة مظهر هَذَا التأنق اللفظي، كما كانت الغرابة مظهر ذلك التأنق المعنوي، وما دام قد شبه الوفاء بالربع، فليفسر هَذَا التشبيه بما يزيده غرابة وطرافة وإمعانًا فِي البعد عن المألوف، فكما أنَّ الربع يكون أشجى للنفس وأبلغ فِي إثارة الحزن كلما أمعن فِي الدروس وامِّحَاء الآثار والدنو من البلى، فوفاء صاحبيه أشد إثارة للحزن كلما ضعف وقل وتضاءلت آثاره، والمتنبي يؤدي هَذَا المعنى الغريب فِي تعقيد قد قصد إِلَيْهِ وتكلفه، فهو كان يريد أن يقول: وفاؤكما بمساعدتي كالربع أشجاه طاسمه، فأخر الجار والمجرور عمدًا، وأخبر عن المبتدأ قبل أنْ يتم وصفه بهذا الجار والمجرور، ثم لماذا اصطنع كلمة الطاسم وعدل عن الكلمة الشائعة المألوفة وهي الطامس؟ أتراه فعل ذلك لأن القافية أعيته وهو لم يأخذ بعدُ فِي القصيدة؟ كلا؟ هُوَ أقدر على اللفظ والقافية من ذلك، ولكنه تعمد الإغراب، وتعمد أنْ يثير حاجة النحويين إلى الاستطلاع والبحث، وأنْ ينبئهم بأنهم إنْ كانوا ريحًا فقد لاقوا إعصارًا، وأنهم سيجدونه حين يذكرون الغريب ويخوضون فِي حل المشكلات النحوية واللغوية.

ثم اقرأ البيت الثاني:

وَمَا أَنَا إِلَّا عَاشِقٌ كُلُّ عَاشِقٍ
أَعَقُّ خَلِيلَيْهِ الصَّفِيَّيْنِ لَائِمُهْ

فالشاعر لم يقلع بعد عن التكلف والرغبة فِي الإغراب، يعمد إلي ذلك فِي معناه ثم يعمد إِلَيْهِ فِي لفظه أيضًا، فانظر أولًا إلى هَذَا الفصل الذي تعمده «وما أنا إلا عاشق»، ثم يقطع الحديث ليستأنف تصوير شأن العاشق على نحو طريف فِي الشعر يألفه أصحاب المنطق أكثر مما يألفه الشعراء: «كل عاشق أعق خليليه الصفيين لائمه»، وهذا النحو الملتوي من الأخبار عن هَذَا العاشق قد تعمده الشَّاعِر ليثير استطلاع النحويين وينبئهم بمكانه من القدرة على تصريف الكلام، وأي صعوبة كان يجدها الشَّاعِر لو أراد أن يؤدي هَذَا المعنى على نحو مألوف، فقال: كل عاشق يسوءه أصفى أخلائه ويعقه بلومه والزراية عليه، ثم يقول المتنبي:

وقَدْ يَتَزَيَّا بِالْهَوَى غَيْرُ أَهْلِهِ
وَيَسْتَصْحِبُ الْإِنْسَانُ مَنْ لَا يُلَائِمُهْ

وكأنه قد رحم سامعيه وقارئيه، وأراد أنْ يُريحهم من هَذَا الإغراب ويرفه عليهم بعض الترفيه، فألقى عليهم هَذَا البيت مثلين سائرين يؤديهما فِي أعذب لفظ وأوجزه، وأشده إمعانًا فِي الاستقامة والاعتدال، حَتَّى يدهش سامعيه من أنْ يكون قائل هَذَا البيت السهل الجزل الصحيح المستقيم، هُوَ قائل ذينك البيتين الممعنين فِي العسر والغرابة والالتواء.

انظر بعد ذلك إلى هذين البيتين اللذين يستأنف فيهما الحديث استئنافًا، كأنه قد قطعه مع أنه لم يقطعه، فهو مَا زَالَ يتحدث إلى صاحبيه، وهو يزعم لهما أنه سيقف بالأطلال، وسيطيل فيها الوقوف، وسينظر إلى الآثار وسيمعن فِي النظر إِلَيْهَا برغم بخلهما عليه بالإسعاد وتعريضهما له باللوم، ولكن انظر كيف يؤدي هَذَا المعنى فيعدل عن الخبر إلى الإنشاء، وعن النبأ إلى الدعاء، وانظر إلى قوله: «بليت بلى الأطلال» ولائم بينه وبين قوله لصاحبيه: «وفاؤكما كالربع»، ثم انظر إلى الشطر الثاني من هذا البيت، واستحضر ما سمعت وعلمت من عناية القدماء به وإكثارهم القول فيه، وقل لنفسك ما قلته لك آنفًا: إنَّ الشَّاعِر لم يقصد إلا أنْ يفجأ سامعيه ويبهرهم بالإغراب فِي المعاني والألفاظ:

بَلِيتُ بِلَى الْأَطْلَالِ إِنْ لَمْ أَقِفْ بِهَا
وُقُوفَ شَحِيحٍ ضَاعَ فِي التُّرْبِ خَاتَمُهْ

وقد أرضى الشَّاعِر حاجته إلى الإغراب ومفاجأة السامعين به، وأحس أنه قد ملأ نفوسهم إعجابًا به وتهيبًا له، فصور ذلك تصويرًا جميلًا رائعًا لا يخلو من التحدي فِي هَذَا البيت الجميل الرائع:

كَئِيبًا تَوَقَّانِي الْعَوَاذِلُ فِي الْهَوَى
كَمَا يَتَوَقَّى رَيِّضَ الْخَيْلِ حَازِمُهْ

فهو إذن عاشق عنيف فِي عشقه، محب خشن فِي حبه، لا يحفل بتقصير صاحبيه عن إعانته، ولا بإلحاحهما فِي لومه، وهو شديد على عواذله حَتَّى إنهن ليتوقينه ويجتنبن عذله، ولا يدنون منه إلا حذرات مشفقات مترفقات كما يدنو الحازم من الفرس الجموح الشموس ليدير عليه الحزام، أتراه يصور نفسه لسيف الدولة، ويعطيه فكرة عن أخلاق هَذَا الشَّاعِر الذي يقف الآن بين يديه مادحًا ويريد أن يكون أثيرًا عنده ومقصورًا عليه؟ أتراه ينذر أصحاب سيف الدولة هؤلاء الشعراء والأدباء وينبئهم بأنه ليس من اليسر والسهولة بحيث ينتظرون أو يرجون، وإنما هُوَ فرس جامح عنيف؟ كلا الأمرين ممكن، ولكن هناك شيئًا محققًا لا شك فيه، وهو أنَّ الشَّاعِر برغم حرصه على الاتصال بسيف الدولة لا يلقي نفسه عليه إلقاء، ولا يظهر التهالك على القرب منه، وإنما هُوَ — كما قدمت — يدنو حذرًا محتاطًا مشترطًا لنفسه، وهذا يفسر ما رواه القدماء من أنه لم يتصل بسيف الدولة إلا بعد أنْ احتاط واشترط لنفسه ما لم يتعود الشعراء أنْ يشترطوه على الأمراء.

ولست أدري أصحيح ما روى الرواة من هذه الشروط أم هُوَ متكلف منحول؟ ولكن الذي ليس فيه شك عندي هُوَ أنَّ المتنبي أقدم على مدح سيف الدولة فِي شيء من العزة لم يألفه حين كان يمدح غيره من الأمراء والرؤساء.

ثم انظر إِلَيْهِ كيف ينحرف عن صديقيه المقصرين فِي الوفاء له، وعن عواذله المشفقات من القرب منه، إلى صاحبته التي تعذِّبه وتضنيه، فيتحدث إِلَيْهَا فِي لهجة يريدها على أنْ تكون لهجة غناء وحنين، فلا يكاد يبلغ ذلك؛ لأن فِي نفسه بقية من قوة، وفضلًا من عنف، وحاجة إلى التكلف والإغراب:

قِفِي تَغْرَمِ الْأُولَى مِنْ اللَّحْظِ مُهْجَتِي
بِثَانِيَةٍ وَالْمُتْلِفُ الشَّيْءَ غَارِمُهْ

أتراه يريد أنْ يبهر الفقهاء من أصحاب سيف الدولة كما بهر النحاة واللغويين؟ وإلا فما هذه القضية الفقهية التي صورها فِي هَذَا البيت: فزعم أنَّ صاحبته قد أضاعت عليه مهجته بالنظرة الأولى، فلابد من أنْ تردها عليه بالنظرة الثانية؛ لأن من القضايا المسلمة عند الفقهاء أنَّ المتلف الشيء غارمه، ولكنه لا يطيل فِي مداعبة الفقهاء كما أطال فِي مخاشنة اللغويين والأدباء، وإنما يندفع إلى الغناء الهين اليسير، فيبلغه فِي غير مشقة ولا جهد، بل يبلغه فِي شيء من العذوبة والظرف فِي هَذَا البيت على أقل تقدير:

سَقَاكِ وَحَيَّانَا بِكِ الله إِنَّمَا
عَلَى الْعِيسِ نَوْرٌ وَالْخُدُورُ كَمَائِمُهْ

واقرأ هَذَا البيت الآخر، فليس هُوَ أقل من سابقه ظرفًا، وإنْ كان معناه قريبًا كل القرب مألوفًا كل الإلف، وإنْ كان الشطر الثاني منه لا يخلو من تأنق فِي اللفظ ما أشك فِي أنه يداعب به فريقًا من أصحاب سيف الدولة:

وَمَا حَاجَةُ الْأَظْعَانِ حَوْلَكِ فِي الدُّجَى
إلى قَمَر مَا وَاجِدٌ لَكِ عَادِمُهْ

وما أرى إلا أنه قد قصد بهذا الطباق بين الوجود والعدم إلى مداعبة المتكلمين، كما قصد بالإتلاف والغرم إلى مداعبة الفقهاء، فهذه الأبيات وحدها، إنْ صح فهمي لها وتفسيري لما قصد إِلَيْهِ المتنبي بها، تصور لنا الحاشية التي كانت تصحب سيف الدولة وتحضر مجلسه، حين أنشده المتنبي هذه الميمية فِي أنطاكية.

على أنَّ الشَّاعِر لم يقف عند هؤلاء الناس وحدهم من أصحاب سيف الدولة، وإنما أراد أن يرضي فريقًا آخرين ليسوا من أصحاب النحو واللغة، ولا من أهل الفقه والدين، ولا من رجال الفلسفة والكلام، وإنما هم من أهل البادية وأصحاب الحرب والمشغوفين بالجمال والبأس معًا، والمحتفظين بالسنة البدوية القديمة فِي سيرتهم العملية والعقلية جميعًا، فانظر إِلَيْهِ كيف عاد إلى المألوف من سنة امرئ القيس والفرزدق وابن أبي ربيعة، فِي وصف صاحبته، وما يدل عليها من الطيب، وما يقوم دونها من البأس والسلاح:

حَبِيبٌ كَأَنَّ الْحُسْنَ كَانَ يُحِبُّه
فَآثَرَهُ أَوْ جَارَ فِي الْحُسْنِ قَاسِمُهْ
تَحُولُ رِمَاح الْخَطِّ دُونَ سِبَائِهِ
وَتُسْبَى لَهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُهْ
وَيُضْحِي غُبَارُ الْخَيْلِ أَدْنَى سُتورِهِ
وَآخِرُهَا نَشْرُ الْكِبَاءِ المُلَازِمُهْ

ثم يعود الشَّاعِر إلى نفسه بعد أن فرغ من الناس، فيستأنف ما ألف من الغناء الفلسفي الذي يصوره — فيما يذكر — من شدة الدهر عليه وحسن احتماله لهذه الشدة وصبره على ما يلقى من المكروه، وفي إرسال الأمثال السائرة والحِكَم الشائعة التي تجد النفس راحة فيها حين تقولها وحين تسمعها.

وقِفْ وقفة خاصة عند هَذَا البيت، فلست أدري لماذا أجد فيه حلاوة مرة لا آخر لها، إنْ جاز مثل هَذَا القول، وهذا البيت عندي هُوَ خير ما فِي القسم الأول من القصيدة:

فَلَا يَتَّهِمْنِي الْكَاشِحُونَ فِإِنَّنِي
رَعَيْتُ الرَّدَى حَتَّى حَلَتْ لِي عَلَاقِمه

وقد فرغ المتنبي من الناس وفرغ من الأشياء ومن الزمان، وفرغ من نفسه إنْ كان يستطيع أنْ يفرغ من نفسه، وانتهى إلى سيف الدولة، فماذا قال له؟ لا شك أنه شهد استعداد المدينة لاستقبال الأمير قبل مقدمه بزمن بعيد، ورأى هذه الفازة أو هَذَا السرادق الذي نصب ليستقبل الأمير فيه وفود المرحبين به والمهنئين له بما أحرز من فوز وظفر، ولا شك فِي أنَّ هذه الفازة قد أعجبته وراقته وراعه ما صور عليها من المناظر التي تمثل الحياة والأحياء، وتمثل الحرب والسلم أيضًا، ولا شك فِي أنَّ هذه الخيمة كانت بعض الغنائم التي أخذت من الروم، فليصفها المتنبي، وليجعل وصفها أول سبيل يسلكه إلى مدح سيف الدولة.

والخطأ كل الخطأ أنْ يظن قارئو هَذَا الوصف لما كان على الخيمة من تصاوير، أنَّ المتنبي قد ارتجل هَذَا الوصف ارتجالًا، فليس فِي هذه القصيدة شيء مرتجل، وإنما هي قصيدة مصنوعة قد هيئت للأمير قبل مقدمه، ولا شك فِي أنَّ المتنبي قد اختلف إلى هذه الخيمة التي نصبت قبل مقدم الأمير، فرأى ما كان عليها من الصور وتفكر فيه، ثم قال فيه ما قال.

والخطأ كل الخطأ أَيْضًا أنْ يظن ظان أنَّ المتنبي قد ابتكر هَذَا الوصف وجاء به من عند نفسه، فالشعراء قد سبقوا إلى وصف الصور منذ عهد بعيد، والناس كلهم يذكرون وصف أبي نواس للكئوس العسجدية التي صُوِّر كسرى فِي قرارتها، وصوِّرت فِي جنباتها مهًا تذريها بالقسيِّ الفوارس، ثم ملئت بالخمر الممزوجة بالماء:

فَلِلْخَمْرِ مَا زُرَّتْ عَلَيْهِ جُيُوبُهَا
وَلِلْمَاءِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلَانِسُ

والناس كلهم يذكرون أَيْضًا وصف البحتري لما كان على الإيوان من تصاوير قد برع الفن فِي تصويرها وإشاعة الحياة والنشاط فيها، حتى:

تَصِفُ الْعَيْنُ أَنَّهُمْ جِدُّ أَحْيَا
ء لَهُمْ بَيْنَهُم إِشَارَةُ خُرْسِ
يَغْتَلِي فِيهِمْ ارْتِيَابِي حَتَّى
تَتَقَرَّاهُمُ يَدَايَ بِلَمْسِ

وقد ألمَّ المتنبي نفسه فِي شبابه بوصف الصور التي صُوِّرت على الخيام، ولكنه ألم بهذا الوصف إلمامًا سريعًا جدًّا حين قال فِي نونيته التي يمدح بها بدر بن عمار ويعتذر فيها إليه:

سَلَكَتْ تَمَاثِيلَ الْقِبَابِ الْجِنُّ مِنْ
شَوْقٍ بِهَا فَأَدَرْنَ فِيكَ الْأَعْيُنَا

ولست أرتاب فِي أنَّ الشَّاعِر قد استحضر وصف القدماء للصور والتماثيل حين وصف هذه الخيمة التي ضربت لسيف الدولة، وانتفع بهذا الوصف فِي كثير من المعاني التي ألم بها، ولكن ذلك لم يضعف من شخصيته ولم يغض من فنه؛ لأنه احتفظ فِي هَذَا الوصف بروحه القوي ولفظه الجزل، واستغل عظمة سيف الدولة والخصومة القائمة بينه وبين الروم.

ومذهب المتنبي فِي هَذَا الوصف يسير لا جهد فيه ولا عناء، أو قل لا يظهر فيه الجهد ولا العناء، وهو مذهب مأخوذ عن القدماء أيضًا، قد سلك فيه الشَّاعِر طريق الشعراء من قبله، يرى صور الرياض فيقول: إنها رياض لم ينشئها السحاب، ويرى صور عقود الدر فيقول: إنه در لم يثقبه ثاقب ولم ينظمه ناظم، وهو مذهب القدماء حين كانوا يقولون: إنَّ عيون الحسان سهام لم يرشها رائش، وإنها مرضى ولكنها صحاح:

صَوَّبْنَ حِينَ أَرَدْنَ أَنْ يَرْمِينَنِي
نَبْلًا بِلَا رِيشٍ وَلَا بِقِدَاحِ
وَرَمَيْنَ مِنْ خَلَلِ السُّتُورِ بِأَعْيُنٍ
مَرْضَى مُخَالِطُهَا السقَام صِحَاح

فإظهار الاختلاف بين الحقائق المحكية والصور الحاكية، وإظهار التشابه الدقيق بين هذه الحقائق وهذه الصور، هَذَا التشابه الذي ينشأ من دقة الصنعة وبراعة الفنان، هما سبيل المتنبي ومذهبه إلى إجادته الفنية فِي هَذَا الوصف، وظاهر أنه مذهب يسير قد كان يبهر القدماء ويخلبهم، ولكنه إنْ أرضانا فهو يثير على ثغورنا ابتسامًا فيه كثير من الحب لهذه السذاجة والعطف على أصحابها، ثم للمتنبي مذهب آخر مأخوذ من القدماء أخذًا هُوَ إشاعة الحياة فِي صور الأحياء، فهذه الوحوش التي تتحارب حينًا وتتسالم حينًا آخر حين تعبث الريح بالخيمة، تُذكِّر جدًّا بالجيوش التي كان يزجيها كسرى تحت الدرَفْس فِي شعر البحتري، لولا أنَّ صور البحتري كانت تستمد حياتها ونشاطها من قوة الفنان لا من تحريك الريح لجدران الإيوان،كما كانت تحرك خيمة سيف الدولة؛ لأن جدران الإيوان كانت أثبت من أنْ تهزها الريح، ولأن صور الإيوان كانت أنشط من أنْ تحتاج إلى معونة خارجية لتخيل إليك أنَّ الحياة شائعة فيها، فشخصية المتنبي فِي هَذَا الوصف لا تأتي من معناه، وإنما تأتي من هذا اللفظ الضخم الذي تشيع فيه القوة والجزالة، ثم من تصوير سيف الدولة عظيمًا مهيبًا يذلُّ أمامه ملك الروم، وتضطر الملوك إلى أنْ تقبل البساط بين يديه؛ لأن أعناقها تتقاصر عن تقبيل كمه أو لثم يديه، فإذا فرغ المتنبي من وصف هذه الخيمة وتصوير عظمة الأمير وهيبته وهو يستقبل فيها الوفود، خلص الأمير نفسه، فوصفه مطلقًا لا تحصره خيمة ولا يحتويه مكان، فانظر إلى هَذَا البيت:

لَهُ عَسْكَرَا خَيْلٍ وَطَيْرٍ إِذَا رَمَى
بِهَا عَسْكَرًا لَمْ يَبْق إِلَّا جَمَاجِمُه
فالمعني الذي ألم به الشَّاعِر قديم بعيد العهد بالقدم، لم يبتكره الشَّاعِر من عند نفسه، وإنما سبق إِلَيْهِ النابغة٢ فِي مدح الغسانيين، وسبق إِلَيْهِ أبو نوّاس٣ فِي مدح بعض الأمراء العباسيين، ولكن شخصية المتنبي مع ذلك ممتازة من شخصيتي هذين الشاعرين وغيرهما من الذين ألموا بهذا المعنى مجملين أو وقفوا عنده مفصِّلين، ذلك أنَّ القدماء كانوا يزعمون أنَّ سباع الطير قد عرفت حسن بلاء الممدوحين فِي الحرب، فهي تتبعهم لتأكل ممن يقتلون، وهذا المعنى نفسه لم يبتكره الشعراء، وإنما سبقت إِلَيْهِ البلاغة الشعبية حين كان العرب فِي جاهليتهم يزعمون أنَّ الضباع تتباشر بالحرب لما ستنجلي عنه من جيف القتلى، وذلك قول الشنفري:
لَا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَبْشِرِي أُمَّ عَامِرِ

فمن تباشر الضباع بالحرب تباشرت طير الشعراء بها أيضًا، ثم عرفت الأبطال الذين يحسنون البلاء فيها، فتبعتهم ثقة بأنها ستجد من صرعاهم ما يكفل لها الغذاء.

أما المتنبي فإنه قد انتفع بهذا كله، ولكنه لم يجعل طير سيف الدولة طفيلية تتبعه لتعيش، وإنما جعلها بعض جنوده، فهي تتبعه محاربة لا متطفلة، وليس هَذَا هُوَ المهم، على أنه فِي نفسه قيم، بل المهم أنَّ المتنبي قد جعل للأمير جيشين، جيشًا فِي الأرض تحمله الخيل، وجيشًا فِي السماء يحمله الجو، ومن قبل سيف الدولة لم يتأمر الخلفاء والملوك والأمراء على جيوش تطير فِي الجو، فالفكرة نفسها جديدة، والصورة التي تثيرها هذه الفكرة طريفة، والعظمة التي يخرج بها الممدوح منهما رائعة وشخصية المتنبي لا تضعف ولا تتضاءل أمام الفحول الذين سبقوه، ولكنها تثبت لهم وتقوى عليهم، وكذلك الأمر فِي البيت الذي يأتي بعد هَذَا بقليل:

سَحَابٌ مِنَ العِقْبَانِ يَزْحَفُ تَحْتَهَا
سَحَابٌ إِذَا اسْتَسْقَتْ سَقَتْهَا صَوَارِمُهْ

فالمعنى فِي هَذَا البيت هُوَ المعنى نفسه فِي البيت الذي سبقه، ولكن التصوير فيه يبلغ بالمتنبي أرفع ما يستطيع أنْ يسمو إِلَيْهِ من الروعة والجمال الفني المخيف، أترى إلى هذه السحاب من العقبان تسعى تحتها سحاب من الجيش، أترى إلى العدو وقد رأى هذه السحب التي يركب بعضها بعضًا، ويدفع بعضها بعضًا، وتزدحم بها الأرض والجو معًا، ثم لا تقف براعة المتنبي عند هذا، ولكنه يقلب الأوضاع المألوفة فِي عرف الناس، فإذا السحب العليا تستسقي ما دونها من السحب، وقد ألف الناس أنْ يستسقي الأسفل الأعلى، فإذا الأعلى هنا يستسقي الأسفل، والصوارم هي التي تسقي السحب العليا بما تريق لها من الدماء، قل: إنَّ المتنبي لم يبتكر أصل المعنى، فلن ينازعك فِي ذلك أحد، ولكن لا تنازع أنت فِي أنه قد ألم بهذا المعنى القديم اليسير فاستثمره أحسن استثمار، وارتفع به إلى جوهر الشعر، واستطاع أنْ يروع سامعيه وقارئيه بالتعبير والتصوير جميعًا.

ودع هذين البيتين، واقرأ معي هذين البيتين الآخرين، فسترى فيهما جمالًا يأتيهما أكثره من اللفظ وأقله من المعنى، وسترى فيهما جزالة حلوة يذوقها الذين يحبون النحو ويألفون ما فيه من العلل والتأويل:

فَقَدْ مَلَّ ضَوءُ الصُّبحِ مِمَّا تُغِيرُهُ
وَمَلَّ سَوَادُ اللَيْلِ مِمَّا تُزَاحِمه
ومَلَّ الْقَنَا مِمَّا تَدُقُّ صُدُورَهُ
وَمَلَّ حَدِيدُ الْهِنْد مِمَّا تُلاطِمُه

فهذا الفعل الذي يتكرر أربع مرات ويضيف الملل إلى الصبح، وإلى الليل، وإلى الرماح، وإلى السيوف، يروع السامع ويكرهه على أنْ يتبع الشَّاعِر فِي شيء من الدهش والنشاط، فما تعود الناس أنْ يجدوا من الصبح والليل والرماح والسيوف مللًا أو سأمًا، وأنت فِي غير حاجة إلى أنْ أنبهك إلى جزالة اللفظ وضخامته، ولكن انظر إلى قوله:

فَقَدْ مَلَّ ضَوْءُ الصُّبحِ مِمَّا تُغِيرُهُ

يريد مما تغير فيه. وإلى قوله:

وَمَلَّ حَدِيدُ الْهِنْدِ مِمَّا تُلَاطِمُهْ
يريد مما تلاطم به، فإلغاء حرف الجر ووصل الضمير بالفعل مباشرة وبغير وساطة — كما يقولون — مذهب من مذاهب الفصحاء من الأعراب له جمال حلو يذوقه الذين يحسنون علل النحو ويجيدون تخريج الكلام، وإذا لم تكذبني الذاكرة فِي هَذَا المكان الأجنبي البعيد عن المراجع والكتب، فقد استحسن المبرد٤ قول الشَّاعِر القديم:
تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِن صَبَابَة
وَأُخْفِي الذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي

يريد لقضى عليَّ، فألغى الحرف ووصل الضمير.

انظر بعد ذلك إلى هذين البيتين اللذين يطغى فيهما المتنبي على شعراء سيف الدولة، الذين كانوا يمدحونه فبل أن يعرف المتنبي طغيانًا عظيمًا:

غَضِبْتُ لَهُ لما رأيتُ صِفَاتِهِ
بِلَا وَاصِفٍ وَالشعرُ تَهذِي طَمَاطِمُه
وكنتُ إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا بَعِيدَةً
سَرَيتُ فَكُنْتُ السِّرَّ وَالليل كَاتِمُهْ

أترى إِلَيْهِ وقد أحس أنَّ الشعراء سيمكرون به، ويكيدون له حين يضيقون بمقدمه على الأمير ومكانه عنده، فآثر أنْ يبدأ بالهجوم، وبالهجوم الصريح الذي لا كيد فيه ولا التواء، فهو قد سمع بسيف الدولة وصفاته الغرِّ حين كان بعيدًا عنه شديد البعد، ومعنى هَذَا أنَّ شهرة سيف الدولة قد طبقت الآفاق، ونظر المتنبي فلم يجد لهذه الصفات واصفًا يلائم ما هي أهل له من العظمة والجلال، وإنما سمع شعرًا سخيفًا يهذي به المتشاعرون الذين لا يحسنون العربية، ولا يجيدون التصرف بفصيح الكلام، فغضب لهذه الصفات الغر التي لا تجد واصفًا، ولهذا الأمير الماجد الذي لا يجد شاعرًا يلائم مجده، فأقبل من مكان بعيد جدًّا، ولكنه أقبل مستخفيًا لا يحسه أحد ولا يشعر به أحد، كأنه السر الذي طوى الليل عليه ضميره طيًّا، ثم ظهر فجأة بين يدي الأمير فأنشده فأرضاه وبهر من حوله، وأفحم الذين تعودوا أن ينطقوا بين يديه، هُوَ الشمس التي تخفي الكواكب، وهو النسر الذي يلتهم صغار الطير، والمعنى كما ترى قديم قد أكثر فيه الفرزدق وجرير والأخطل، ولكن الصورة التي صاغه فيها المتنبي ساحرة باهرة من جهة، ومحنقة مثيرة للسخط من جهة أخرى.

فهذا السر الذي يكتمه الليل جميل، وهذا الاعتداد بالنفس والازدراء لغيره من الشعراء خليق أنْ يحفظ الصدور ويملأها ضغينة وحقدًا، وقد فعل، ولكن المتنبي آثر أنْ يكون مهاجمًا على أنْ يكون مدافعًا، وقد جرب موقف الدفاع عند بدر بن عمار فلم يغن عنه شيئًا، فليجرب عند سيف الدولة خطة الهجوم، وقد أغنت عنه، فاستطاع أنْ ينعم بالحياة فِي ظله تسعة أعوام.

لم يمض المتنبي فِي مدح الأمير ويسلك إلى هَذَا المدح مذهبًا يظهر لنا يسيرًا كل اليسر، ولكنه فيما أظن كان طريفًا فِي عصره كل الطرافة، فالأمير يلقب سيف الدولة، فما يمنع المتنبي أنْ يجعله سيفًا، ويضيف إِلَيْهِ ما يضاف إلى السيف حينًا، ويرفعه عن المألوف من صفات السيف حينًا آخر؟! فالمجد هُوَ الذي سل سيف الدولة، والخليفة هُوَ الذي تقلد هَذَا السيف، والله هُوَ الذي أخذ بقائمه وجعل يضرب به الأعداء، والسيوف تقطع حينًا وتنبو آخر، ولكن سيف الدولة قاطع دائمًا، والسيوف تقطع الأجسام وتضرب الهام، ولكن سيف الدولة أكبر من الهام والأجسام، فهو يقطع شدائد الدهر ولزبات الزمان.

واقرأ هذين البيتين وانظر إلى الجمال الذي يأتي فيهما من حسن الملاءمة والمتابعة بين الطباق والمبالغة:

تُحَارِبُهُ الأَعداء وَهْيَ عَبِيدُهُ
وَتَدَّخِر الأَموالَ وَهْيَ غَنَائِمهْ
ويستكبرون الدَّهرَ والدهرُ دُونهُ
ويَسْتَعْظِمونَ المَوتَ والموتُ خادمُهْ

وما أرى إلا أنَّ المتنبي قد بهر وراع وملأ القلوب والأسماع بهذه القصيدة الفذة، ولكن هَذَا شيء، والوصول إلى قلب سيف الدولة شيء آخر، فليس سيف الدولة يكفيه أنْ يمدح برائع الشعر وبارع القصيد، ولكنه ملك يحتاج إلى أنْ يشعر بأن أتباعه وصنائعه خدم له لا يكبرون أنفسهم ولا يسرفون فِي المغالاة بها، كما يفعل المتنبي أو كما فعل فِي هذه القصيدة.

وإذا كان المتنبي قد بهر سيف الدولة فهو محتاج إلى أنْ يبلغ حبه ورضاه، وقد بلغ من ذلك ما كان يريد، فيما أرجح، بالقصيدتين اللتين مدحه بهما حين همَّ بالرحيل وحين أخذ فيه، فالمتنبي فِي هاتين القصيدتين مخالف كل المخالفة للمتنبي الذي رأيناه فِي هذه الميمية: هُوَ خادم من خدم الأمير، ورجل من رجال القصر قوام حياته الذلة والملق، ولست أريد أنْ أطيل بتحليل هاتين القصيدتين فهما أيسر وأهون وأوضح من أنْ تحتاجا إلى تحليل، ولكن اقرأ هَذَا الشعر واقرنه إلى ما قرأت فِي الميمية، فسترى براعة المتنبي فِي الكبرياء حين يريد الكبرياء، وفي الذل حين يحتاج إلى أنْ يكون ذليلًا:

لَيْتَ أَنَّا إِذًا ارْتَحَلْتَ لَكَ الْخَيـْ
ـلُ وَأَنَّا إِذَا نَزَلْت الْخِيَامُ

وما رأيك فِي هَذَا الشَّاعِر العظيم الذي يفاخر الشعراء ويستعلي عليهم، ويسرف فِي الكبرياء والخيلاء، يتمنى أنْ يكون فرسًا يحمل الأمير إذا سار، أو خيمة تظل الأمير إذا أقام؟ ولكن لا ينبغي أنْ ننسى أنَّ المتنبي منافس ومنافس فِي رضا الأمير، وأنَّ الذلة والملق أقرب الطرق وأيسرها إلى بلوغ هَذَا الرضا.

فأنت ترى فِي آخر الأمر أنَّ المدح الخالص الذي أقبل به المتنبي على سيف الدولة ليس شيئًا فذًّا مبتكرًا معجزًا إنْ قسته إلى ما كان الفحول يمدحون به الخلفاء والأمراء، ولكنه ليس مدحًا ساقطًا زريًّا متهالكًا ككثير من المدح الذي كان يقوله المتنبي نفسه لغير سيف الدولة من الناس، ولعله خليق أنْ يكون كغيره من مدح الفحول فِي القرن الأول والثاني، وهو من غير شك أرفع وأبرع وأرقى مما تعوَّد الشعراء المعاصرون أنْ يعرضوه على الأمراء والرؤساء وعلى سيف الدولة نفسه، فلا غرابة فِي أنْ يحس الأمير أنه يسمع مدحًا جديدًا لم يتعود سماعه من قبل، وكانت شهرة المتنبي قد سبقته إلى الأمير، وهذا المتنبي نفسه قد أقبل مادحًا مجيدًا للمدح، متملِّقًا بارعًا فِي التملق.

فليصطنعه الأمير لنفسه، وليتخذه شاعرًا يستعلي به على الملوك والأمراء.

(٤) رثاؤه لأقارب سيف الدولة وخاصته

وقد ألمت بسيف الدولة أحداث امتحن بها فِي نفر من أقربائه وخاصته، ولم يكن بدٌّ للمتنبي من أنْ يقول فِي ذلك شعرًا، نهوضًا بما يجب أنْ ينهض به شاعر القصر من العزاء والرثاء، ووفاءً بما يجب أنْ يفي به الصديق للصديق من حقوق المودَّة والحب والإخاء، فقد ماتت أم سيف الدولة فِي السنة التي اتصل به المتنبي فيها، فرثاها الشَّاعِر باللامية التي مطلعها:

نُعِدُّ المَشْرَفِيَّة وَالعَوَالِي
وَتَقْتُلنا المنونُ بِلَا قِتَالِ

وفي أوائل سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وفي شهر صفر بالضبط، مات لسيف الدولة طفل، هُوَ أبو الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة، فرثاه المتنبي باللامية التي مطلعها:

بَنَا مِنْكَ فَوْقَ الرَّمْلِ مَا بِكَ فِي الرَّمْلِ
وَهَذَا الذِي يُضْنِي كَذَاكَ الذِي يُبلِي

وفي هذه السنة نفسها مات ابن عم لسيف الدولة كان عاملا له على حمص، وهو أبو وائل تغلب بن داود بن حمدان، وسنعود إلى ذكره بعد حين، فرثاه المتنبي بالدالية التي يقول فِي أولها:

مَا سَدِكَتْ عِلَّةٌ بموْلودِ
أَكرَمَ مِنْ تَغْلِبَ بْنِ داوُودِ

وفي رمضان من سنة أربعين وثلاثمائة فقد سيف الدولة خادمه وقائده التركي يماك، فعزَّاه المتنبي بالبائية التي أولها:

لَا يُحْزِنِ اللهُ الْأَمِيرَ فَإِنَّنِي
لَآخُذُ مِنْ حَالَاتِهِ بِنَصِيبِ

وفي رمضان من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة ماتت أخت سيف الدولة الصغرى، فعزّاه عنها المتنبي باللامية التي يقول فيها:

إِنْ يَكُن صَبْر ذِي الرَّزيئَةِ فَضْلًا
فَكُنِ الأَفْضَل الأَعَزَّ الأَجَلَّا

ثم فارق الشَّاعِر أميره، واختلفت بينهما الخطوب، ومضت على ذلك أعوام حَتَّى كانت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، فماتت أخت سيف الدولة الكبرى خولة التي كانت تعرف بست الناس، والمتنبي حينئذ فِي الكوفة، فأنفذ إلى الأمير مرثيته البائية التي أولها:

يَا أخْت خَيْرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبِ
كِنَايَةً بِهِمَا عَن أَشرَفِ النَّسَبِ

فقد قال المتنبي إذن لسيف الدولة مراثي ستًّا، رثي فيها أمه وابنه وأختيه وابن عمه وخادمه التركي، وهذه القصائد أكثر ما قال المتنبي فِي هَذَا الفن من فنون الشعر، فقد رأيناه قبل ذلك يرثي جدته، ويرثي بعض التنوخيين على لسان قومه، وسنراه بعد ذلك يقول رثاء آخر ولكنه قليل، ولكن هذه القصائد إنْ كانت لا تخلو من جيد الشعر ورائعه، فليست هي خير ما قال المتنبي فِي الرثاء، ومصدر ذلك فيما يظهر أنَّ المتنبي قال أكثرها أداء للواجب ونهوضًا بالحق، لا استجابة للعاطفة، ولا إعرابًا عن الضمير، فهو قد لجأ فيها إلى فنه وعقله أكثر مما صدر فيها عن قلبه وشعوره، ومن هنا نحس فيها كثيرًا من البرد، فإن لم يكن برد فنحن نحس فيها الفتور، لا نكاد نستثني منها إلا القصيدة التي رثى فيها خولة ست الناس بعد أنْ طال فراقه للأمير، واشتد حنينه إليه، وألمت به وبالأمير خطوب جعلت كل واحد منهما فِي حاجة إلى صاحبه، ولعل التجارب التي امتحن بها المتنبي بعد فراقه لسيف الدولة، ولعل تقدم سنه وطول تفكيره فِي الحياة والأحياء! لعل هَذَا كله قد أثر فِي هذه القصيدة الأخيرة، فأشاع فيها حزنًا أيسر ما يوصف به أنه كان عميقًا حقًّا.

ونحن فِي حاجة إلى أنْ نقف عند بعض هَذَا الشعر وقفات قصيرة، لا لشيء إلا لنتبين المذهب الفني الذي اصطنعه المتنبي فِي هَذَا الرثاء، ولنلاحظ قبل كل شيء ظاهرتين نجدهما فِي هَذَا الرثاء:

  • إحداهما: تفيض عليه شيئًا من قوة وتشيع فيه حظًّا من حرارة، وتجعله خليقًا أنْ يبعث الحزن ويدعو إلى الروية والتفكير، وهي اعتماد المتنبي فِي هَذَا الرثاء على عقله وعلى عقله الفلسفي خاصة، والتجاء المتنبي إلى كثير من الحكمة الشائعة فِي الأمم على اختلاف البيئات والعصور، ومهارته فِي صوغ هذه الحكم صوغًا قوامه الدقة والإيجاز معًا، ثم إرسالها أمثالًا سائرة تصلح لتعزية الناس وأخذهم بالصبر والإذعان فِي كل زمان ومكان.
  • والظاهرة الأخرى: كانت تنفع المتنبي فِي حياته الواقعة، وكانت ترضي الأمير حين كان يستمع لهذا الرثاء، ولكنها فِي حقيقة الأمر تفسد الرثاء على الشَّاعِر إفسادًا وتصور قصور الشَّاعِر وعجزه ونضوب قريحته، وهي مدحه المستمر للأمير، واتخاذ الرثاء وسيلة إلى هَذَا المدح، فهذه الظاهرة تُلقي فِي رُوعك أنَّ الشَّاعِر لم يصدر فِي رثائه عن حزن ولا عن ألم، ولم يصطنع فِي رثائه لهجة صادقة، وإنما أدى واجبًا لم يكن له بدٌّ من أدائه، وكان يضيق بأداء هَذَا الواجب أحيانًا، فيستعين عليه بهذا المدح الذي يتملق الأمير ويلهيه عما يكون فِي رثائه من القصور أو التقصير، ونحن ننظر قبل كل شيء فِي رثاء المتنبي لأم الأمير سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وما أظن إلا أنك ستوافقني على أنَّ الشَّاعِر اعتمد على فنه أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر، وتأنق فِي هذه القصيدة تأنقًا خاصًّا؛ لأنه كان حديث العهد بالأمير، حريصًا على أنْ يرضيه، ويتمكن من نفسه، ويقهر حساده ومنافسيه.

وأول هذه القصيدة فلسفة عامة، يعتمد فيها الشَّاعِر على هَذَا اليأس الشائع الذي ألفه الناس حين يفكرون فِي قسوة الموت وشموله، وأنه لا محيد عنه ولا وقاء منه، وليس فِي هَذَا الكلام شيء جديد إلا صيغته، وهذا الروح الحزين الشاحب الذي يترقرق فيه؛ وذلك حيث يقول:

نُعِدُّ المَشْرَفِيَّةَ وَالْعَوَالِي
وَتَقْتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ
وَمَا يُنْجِين مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي
وَمَنْ لَم يَعْشَقِ الدُّنيا قَدِيمًا
وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إلى وِصَالِ
نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ
نَصِيبُكَ فِي مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ

فإذا فرغ المتنبي من هَذَا الكلام العام الذي لاحظ له من شخصية ولا من ابتكار، تغني نفسه وما ألمَّ به من المحن، وما تتابع عليه من الخطوب، وما تلقى به هذه المحن والخطوب من حسن الصبر والاحتمال، فِي هذين البيتين اللذين شاعا، وامتلأت بهما النفوس، وانطلقت بهما الألسنة، حَتَّى خرجا أو كادا يخرجان عن ملك المتنبي، وأصبحا ملكًا أو ترجمانًا عن كل من ألحت عليه الأحداث، وتتابعت عليه الأرزاء والخطوب، وهما قوله:

رَمَانِي الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى
فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ
تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ

ومع ذلك فأصل المعنى الذي قصد إِلَيْهِ الشَّاعِر شائعٌ مألوف لا طرافة فيه ولا ابتكار، فكل الناس يحس إذا كثرت الأحداث عليه أنه قد استفاد من ذلك تجربةً وصبرًا، ومرن على احتمال الآلام والأرزاء، وإنما الطرافة فِي هذه الصورة التي عرض المتنبي فيها هَذَا المعنى حين جعل الأرزاء التي ألحت عليه نبالًا قد ثبتت فِي قلبه ودارت حوله، حَتَّى أصبحت له غشاء ووقاء، وحتى أصبح قلبه بمأمن من أن تبلغه النبال الطارئة إذا رُمي بها؛ لأنه فِي درع من النبال الأولى، فالأرزاء تفلُّ الأرزاء، والنصال تتكسر على النصال.

ولست أدري لماذا لا يبلغ هَذَا التصوير من نفسي شيئًا، ولا أرى فيه إلا براعة شاعر، ومهارة فنان قد واتته طبيعته، واستجابت له ألفاظه، فجاء بصورة ربما تروق ولكنها لا تبلغ القلب ولا تؤثر فِي النفس، وربما كانت هذه الألفاظ التي تذكر بالحرب وتصورها قد أشاعت فِي هذين البيتين من القوة والفتوة والجلد، ما حببهما إلى الناس حين تلح عليهم النوائب، وتأخذهم الأرزاء من كل مكان، وحين يحتاجون إلى الشجاعة والتحدي، وتكلف الرجولة، والثبات للخطوب، على أنَّ المتنبي لم يكد يحاول إتمام هَذَا المعنى حَتَّى قصر به لفظه، فتورَّط فِي شيء من الاضطراب يثقل احتماله، ويثقل التمثل به أيضًا، وذلك قوله:

وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا
لِأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي

وقد كان نفس المتنبي فِي هَذَا الغناء قصيرًا، فلم يستطع أنْ يتعمق النفوس ولا أنْ يثير أشجانها.

ثم انظر إِلَيْهِ حين وصل إلى الفقيدة التي أراد أن يرثيها كيف ضعف وتهالك وأدركه الخور والفتور، فلم يصنع شيئًا ولم يأت بجديد، وذلك قوله:

وَهَذَا أَوَّلُ الناعِينَ طُرًّا
لِأَوَّلِ مَيْتَةٍ فِي ذَا الْجَلَالِ
كَأَنَّ الْمَوْتَ لَم يَفْجَعْ بِنَفْسٍ
وَلَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلُوقٍ بِبَالِ
صَلَاةُ اللهِ خَالِقِنَا حَنُوطٌ
عَلَى الْوَجْهِ المُكَفَّنِ بِالْجَمَالِ

فالبيت الأول من هذه الأبيات على يسر معناه وسهولته، وقرب مأخذه وابتذاله بين الناس جميعًا، غامض لا يخلو من سخف، والبيت الثاني منها محتمل على ابتذاله، فأما البيت الثالث فقد أحس القدماء سماجته، وما أظن المحدثين أقل لهذه السماجة إحساسًا، وهي سماجة تأتي فِي اللفظ، وتأتي من المعنى جميعًا، ولعلها كذلك تأتي من العجز عن إقامة الوزن والاضطرار إلى لفظ «خالقنا» وصفًا لله لا لينزهه عما لا يليق به، ولا ليبسط سلطانه على ما قد يشك الناس فِي أنَّ سلطانه شامل له مبسوط عليه، بل ليقيم وزن البيت ليس غير، ثم انظر إلى قوله:

فَإِنَّ لَهُ بِبَطْنِ الْأَرْضِ شَخْصًا
جَدِيدًا ذِكْرُنَاهُ وَهْوَ بَالِي

فأنت واجد فيه سماجة لفظية فِي قوله «ذكرناه»، فهذا الكلام إنْ أقره النحو لا يقبله الشعر، وأنت واجد كذلك سماجة معنوية فِي هَذَا الطباق بين الجديد والبالي، فما كان ينبغي لشاعر يعزّي الأمير عن أمه أن يتعجل ذكر البلى، ولا أنْ يلم به، وحسبه من فقد الأمير أمه داعيًا إلى الحزن اللاذع والألم الممض، والشاعر يعزي، فما يحسن به أنْ يذكر البلى والانحلال، وما إلى ذلك من الأعراض التي تلم بأجسام الموتى، والتي لا يحب الأحياء أنْ يتمثلوها.

ولست أطيل التعليق على ما فِي هذه القصيدة من الرثاء، فكله فاتر أو قريب من الفتور، ولكن انظر إلى هَذَا البيت:

وَأَفْجَعُ مَنْ فَقَدْنَا مَنْ وَجَدْنَا
قُبَيْلَ الْفَقْدِ مَفْقُودَ المِثَالِ

فما رأيك فِي هذه الفأفأة، وفي هذه القفقفة، وفي هذه الدأدأة؟ ثم ما رأيك فِي هَذَا الجهد العنيف الذي يتكلفه الشَّاعِر ويفرض علينا أنْ نتكلفه، ليؤدي هُوَ ونفهم نحن معنى مبتذلا لا خطر له ولا غناء فيه؟ فالشاعر لا يزيد على أنْ يقول: إنَّ أم الأمير لم يكن لها نظير فِي حياتها، ففقدها من أجل ذلك أفجع الفقد وأشده أذى، والمعنى أيسر كما ترى من أنْ يتكلف لفهمه وأدائه هَذَا العناء، على أنَّ المتنبي يثب من هَذَا البيت السخيف إلى هذين البيتين اللذين يروع معناهما وإنْ أدرك لفظهما شيء من التقصير، وهما قوله:

يُدَفِّنُ بَعْضُنَا بَعْضًا ويمشي
أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الْأَوَالِي
وَكَمْ عَيْنٍ مُقَبَّلَةِ النَّوَاحِي
كَحِيلٌ بِالْجَنَادِلِ وَالرِّمَالِ

وما أراني فِي حاجة إلى أن أنبهك إلى أنَّ هذين البيتين قد أثرا فِي التشاؤم العلائي، وما نشأ عنه من فلسفة تأثيرًا بعيدًا عميقًا، ولكن أي فرق فِي الأداء، فاقرأ هذين البيتين، ثم اقرأ دالية أبي العلاء، وانظر كيف استطاع شاعر المعرة أنْ يستغل هَذَا المعنى وبصورة فِي أروع الشعر:

صَاحِ هَذِى قُبُورُنا تَمْلأُ الرَّحـْ
ـبَ فَأَيْنَ القُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الـْ
أَرْضِ إِلا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ الْعَهـْ
ـدُ هَوَانُ الْآبَاءِ وَالْأَجَدادِ

وهل أنا فِي حاجة إلى أنْ أقف بك عند هذين البيتين اللذين طارت شهرتهما فِي الآفاق، وهما قوله فِي آخر القصيدة:

رَأَيْتُكَ فِي الذِينَ أَرَى مُلُوكًا
كَأَنَّكَ مُسْتَقِيمٌ فِي مُحَالِ
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ
فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ

وفي البيت الأول عندي تعريض بأصحاب الملك فِي الفسطاط وبغداد، والبيت الثاني ليس جديدًا، وإنما سبق المتنبي نفسه إِلَيْهِ قبل أن يتصل بسيف الدولة، فلما اتصل به نزل له عنه ونقله إليه، وذلك قوله:

وَمَا أَنَا مِنْهُم بِالْعَيْشِ فِيهِم
وَلَكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ

والمتنبي على كل حال حر فِي أن يسرق نفسه ويكرر معناه. وليس رثاء المتنبي لابن سيف الدولة خيرًا من رثائه لأمه، وإنما هُوَ كلام متكلف يظهر فيه الجهد، وتبدو فيه السماجة بين حين وحين، وتحس وأنت تقرؤه أنَّ الشَّاعِر عيال على الذين سبقوه من الشعراء، وعلى أبي تمام خاصة، ولن أقف بك فِي هَذَا الرثاء لذلك الطفل إلا على أربعة أبيات، فِي اثنين منها عاد المتنبي إلى ذوقه المريض، فذكر الأب بما سيصيب ابنه من البلى والانحلال، وذلك قوله:

بِنَا مِنْكَ فَوْقَ الرَّمْلِ مَا بِكَ فِي الرَّمْلِ
وَهَذَا الذِي يُضْنِي كَذَاكَ الذِي يُبْلِي

وقوله ملحا فِي هَذَا المعنى:

أَيَفْطِمُهُ التَّوْرَابُ قَبْلَ فِطَامِهِ
وَيَأْكُلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلى الْأَكْلِ

وأما البيتان الآخران، فقد وثب فيهما إلى معنى فلسفي رائع، فتح به لأبي العلاء بابًا من الشعر أتى فيه بالأعاجيب، وأكبر الظن أنَّ المتنبي قد ظفر بهذا المعنى فِي بعض قراءته الفلسفية، وذلك حيث يقول:

إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ الزمَانَ وَصَرْفَهُ
تَيَقَّنْتَ أَنَّ الْمَوْتَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَتْلِ
وَمَا الدَّهْرُ أَهْلٌ أَن تُؤمَّلَ عِنْدَهُ
حَيَاة وَأَنْ يُشْتَاقَ فِيهِ إلى النسلِ

ونمرُّ مسرعين برثاء المتنبي لخادم سيف الدولة وقائده التركي، فليس فيه ما يحتاج إلى الوقوف عنده، لولا أنَّ المتنبي يتركنا نشعر بأنه يرثي هَذَا التركي على كره منه، فهو مضطر إلى إرضاء الأمير، ولو خلى بينه وبين حريته لأعرض عن هَذَا الرثاء.

فانظر إِلَيْهِ كيف يقول:

لَأَبْقَى يَمَاكٌ فِي حَشَايَ صَبَابَةً
إلى كُلُّ تُرْكِيِّ النِّجَارِ جَلِيبِ
وَمَا كُلُّ وَجْهٍ أَبْيَضٍ بِمُبَارَكٍ
وَلَا كُلُّ جَفْنٍ ضيِّقٍ بِنَجِيبِ

فهذا الخادم التركي فذ بين الترك، ومع ذلك خليق ألا يجزع الأمير عليه؛ لأنه سيجد عوضًا منه فِي العرب النزارية:

وَإِنَّ الَذِي أَمْسَتْ نِزَارُ عَبِيدَهُ
غَنيُّ عَنِ اسْتِعْبَادِهِ لِغَرِيبِ

ومع ذلك فما أريد أنْ أدع هذه القصيدة دون أنْ أثبت هذين البيتين اللذين فتح بهما المتنبي أَيْضًا بابًا من أبواب الفلسفة المحزونة المتشائمة لشعر أبي العلاء:

سُبِقْنا إلى الدُّنيا فلو عاش أهلُها
مُنعنا بها من جيئة وذُهُوبِ
تملَّكها الآتي تملك سالب
وفارقها الماضي فراق سليب

ولما رثي المتنبي أخت سيف الدولة الصغرى، عزَّاه ببقاء أخته الكبرى فقال:

قَاسَمَتْكَ الْمَنُونُ شَخْصَيْنِ جَوْرًا
جَعَلَ القِسْمُ نَفْسَهُ فِيهِ عَدْلَا
فَإِذَا قِسْتَ مَا أَخَذْنَ بِمَا أَغـْ
ـدَرْنَ سَرَّى عَنِ الْفُؤَادِ وَسَلَّى
وَتَيَقَّنْتَ أَنَّ حَظَّكَ أَوْفَى
وَتَبَيَّنْتَ أَنَّ جَدَّكَ أَعْلَى

وسنرى أنه ذكر هَذَا المعنى واستدرك رأيه فيه حين رثى أخته الكبرى سنة اثنتين وخمسين، ولكن لا ندع هذه القصيدة دون أنْ نلاحظ أنها من أجزل ما قال المتنبي لسيف الدولة من رثاء، ودون أنْ نرى هذه الأبيات التي تصور أحسن تصوير علم المتنبي بطبائع الناس، وحرصهم على الحياة، وتفتح لأبي العلاء بابًا من أبواب الفلسفة والتفكير، وذلك قوله:

وَلَذِيذُ الْحَيَاةِ أَنْفَسُ فِي النَّفـْ
ـسِ وَأَشْهَى مِنْ أَنْ يُمَلَّ وَأَحْلَى
وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مـَ
ـلَّ حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَّا
آلَة الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابٌ
فَإِذَا وَلَّيَا عَنِ المَرْءِ وَلَّى
أَبَدًا تَسْتَرِدُّ مَا تَهَب الدُّنـْ
ـيَا فَيَالَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا
فَكَفَتْ كَوْنَ فُرْحَة تُورِثُ الْغـَ
ـمَّ وَخِلٍّ يُغادِر الوَجْدَ خِلَّا
وَهْيَ مَعْشُوقَةٌ عَلَى الْغَدْرِ لَا تَحـْ
ـفَظُ عَهْدًا وَلا تُتَمِّمُ وَصْلَا
كُل دَمْعٍ يَسِيلُ مِنْهَا عَلَيْها
وَبِفَكِّ الْيَدَيْن عَنْها تُخَلَّى
شِيَمُ الغَانِيَاتِ فِيهَا فَمَا أَدْ
رِي لِذَا أَنَّث اسْمَهَا النَّاسُ أَمْ لَا
وليس من شك فِي أنَّ أجمل ما قال المتنبي من رثاءٍ لسيف الدولة، إنما هي القصيدة الأخيرة التي رثى بها أخته خولة، ومصدر ذلك — كما قدمنا — ما تصوره هذه القصيدة من الحب الذي امتحنه الدهر فثبت للامتحان، ومن هَذَا الحنين المتصل بين الصديقين، وما أرى أنَّ هذه القصيدة تدل على صلة قريبة أو بعيدة، أو على شبه صلة قريبة أو بعيدة بين المتنبي وهذه الفقيدة، وكل ما يمكن أن يفهم منها أنَّ الشَّاعِر يتحدث بأن هذه الفقيدة برَّته وأحسنت إِلَيْهِ عن بعد، كما كانت تحسن إلى غيره من القصاد وأهل الأدب، وقد يكون هَذَا حقًّا، وقد يكون كلام شاعر، والفرق عظيم على كل حال بينه وبين رأي من رأى أن قد كان بين الشَّاعِر وبينها حب أو ما يشبه الحب.٥

وأول هذه القصيدة شعر مألوف تأنق فيه الشاعر، وقصد به إلى المدح أكثر مما قصد به إلى الرثاء، وذلك قوله:

يَا أُخْتَ خَيْر أَخٍ يَا بِنْتَ خَيْر أَبِ
كِنَايَةً بِهِمَا عَن أَشْرَفِ النَّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أَنْ تُسْمَيْ مُؤَبَّنَةً
وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمَّاكِ لِلْعَرَبِ

وبيتان آخران قد أحسن الشَّاعِر فيهما الملاءمة بين مدح الأحياء ورثاء الموتى كل الإحسان، وهما قوله:

غَدَرْتَ يَا مَوْتُ كَمْ أَفْنَيْتَ مِن عَدَدٍ
بِمَنْ أَصَبْتَ وَكَمْ أَسْكَتَّ مِنْ لَجَبِ
وَكَمْ صَحِبْتَ أَخَاهَا فِي مُنَازَلَةٍ
وَكَم سَأَلْتَ فَلَم يَبْخَلْ وَلَم تَخِبِ

فرائعٌ حقَّا لوم الموت على هَذَا الغدر القبيح الذي تورَّط فيه حين خان الصديق وعقَّ المحسن إليه، فكم صحب الموت سيف الدولة فِي الحروب، وكم جاد سيف الدولة على الموت بما كان يريد من نفوس، فكان من الحق عليه ألا يخون صديقه هَذَا الجواد الوفي الذي لم يبخل عليه بنفس ولم يخيب له أملًا.

ثم انظر إلى هذين البيتين اللذين أودعهما الشَّاعِر كل ما كان قلبه يستطيع أنْ يحتمل من حزن ودهش وجزع، فامتلآ روعة وجمالا، حَتَّى سارا مسير الأمثال فِي حياة المتنبي نفسه، إنْ صح ما يقول الرواة:

طَوَى الجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ
فَزِعْتُ فِيهِ بِآمَالِي إلى الْكَذِبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلًا
شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرَقُ بِي

ونحن نفهم أنْ يشرق المتنبي بالدمع، ونعجز عن أنْ نفهم كيف يشرق الدمع بالمتنبي، ولكنها نفثة المصدور وصيحة المحزون، تنطقه بغير الصواب أحيانًا.

وهل ترى أروع فِي تصوير العطف على الصديق والرفق به والحنين إِلَيْهِ من قوله:

أَرَى الْعِرَاقَ طَوِيلَ الليلِ مُذْ نُعِيَتْ
فَكَيْف لَيْلُ فَتَى الْفِتْيَانِ فِي حَلَبِ

ثم انظر كيف يدفع عن نفسه سوء الظن به، ويؤكد اشتراكه فِي الحزن واللوعة وسفك الدمع، وبأرق اللفظ وأعذبه وأبرعه فِي تصوير الألم والوفاء:

يَظُنُّ أَنَّ فُؤَادِي غَيْرُ مُلْتَهِبٍ
وَأَنَّ دَمْع جُفُونِي غَيْرُ مُنْسَكِبِ
بَلَى وَحُرْمَةِ مَنْ كَانَتْ مُرَاعِيَةً
لِحُرْمَةِ المَجْد وَالقُصَّادِ وَالْأَدَبِ
وَمَنْ مَضَتْ غَيْر مَوْرُوثٍ خَلَائِقُهَا
وَإِنْ مَضَتْ يَدُها مَوْرُوثَة النَّشَبِ

ويعجبني من وصفه للفقيدة قوله:

وَإِنْ تَكُنْ خُلِقَتْ أُنْثَى لَقَدْ خُلِقَتْ
كَرِيمَةً غَيْرَ أُنْثَى الْعَقْلِ وَالْحَسَبِ

وهو عندي خيرٌ من قوله فِي أم سيف الدولة:

وَلوْ كَانَ النساء كَمَنْ فَقَدْنَا
لَفُضِّلَت النِساءُ عَلَى الرِجالِ
وما التأنِيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ
وَلَا التَّذكِيرُ فضلُ للهِلالِ

ففي هذين البيتين تكلف وتأنق يخرجان التفكير عن طوره فِي وقت ينبغي أنْ تسترسل فيه النفس مع الحزن، وألا تشغل عنه بوضع الدعاوى وإقامة الأدلة عليها.

وقد يعجب الناس إعجابًا شديدًا بهذين البيتين، ولكني أراهما كلامًا من كلام الشعراء، ولعل مصدر الإعجاب بهما جمال اللفظ ليس غير، وهما قوله:

فَلَيْتَ طَالِعَةَ الشمْسَينِ غَائِبَةٌ
وَلَيْتَ غَائِبَةَ الشمْسَينِ لَم تَغِبِ
وَلَيْتَ عَيْنَ التي آبَ النهَارُ بِهَا
فِدَاء عَيْنِ التي زَالَتْ وَلَمْ تَؤبِ

ثم ذكر المتنبي عزاءه لسيف الدولة عن أخته الصغرى ببقاء أخته الكبرى منذ ثماني سنين، فاستدرك رأيه فِي هذه التعزية، فقال:

قد كان قَاسَمَكَ الشَّخْصَيْنِ دَهْرُهُما
فَعاش دُرُّهُما الْمَفْدِيُّ بِالذَّهَبِ
وَعَادَ فِي طَلَبِ الْمَتْرُوكِ تَارِكُهُ
إِنا لَنَغْفُلُ والأَيامُ فِي الطَّلَبِ
مَا كَانَ أَقْصَر وَقتًا كَانَ بَيْنَهُمَا
كأنهُ الوقتُ بَينَ الْوِرْدِ وَالْقَرَبِ

ثم ينتهي المتنبي بهذه القصيدة إلى فلسفة مظلمة حزينة أقل ما يقال فيها: إنها تصوِّر شكه فِي خلود النفس، وانحرافه بهذا الشك عن طريق المسلمين، وإحساسه التعب من هَذَا الشك والارتياب، وتفتح بابًا فلسفيًّا آخر لشعر أبي العلاء.

وأحب أنْ تلاحظ أنَّ المتنبي يصطنع فِي هذه الأبيات لغة أصحاب الكلام أكثر مما يصطنع لغة الشعراء، وسيقلده أبو العلاء فِي هَذَا النحو من التعبير، كما يذهب مذهبه فِي هَذَا النحو من التفكير.

وأحب أنْ ألاحظ آخر الأمر أنَّ البيت الذي يختم المتنبي به قصيدته صورة رائعة مظلمة لليأس الفلسفي المهلك الذي يؤذن بالشيخوخة وما يتبعها من العجز والإعياء، وهذا كله حيث يقول:

تَخَالَفَ الناسُ حَتَّى لَا اتِّفَاقَ لَهُمْ
إِلا عَلَى شَجَب وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَبِ
فَقِيلَ تَخْلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالمَةً
وَقِيلَ تَشْرَكُ جِسْمَ اْلمَرْءِ فِي الْعَطَبِ
وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي الدُّنْيَا وَمُهْجَتهِ
أَقَامَهُ الْفِكْرُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالتَّعَبِ

فأنت ترى من درس هَذَا الرثاء كله أنَّ المتنبي لم يبتكر فِي هَذَا الفن شيئًا عند سيف الدولة، ولعله انتهى بين حين وحين إلى معنى غريب أو فكرة قيمة، ولكن رثاءه على كل حال عادي دون المتوسط، وخير ما فيه هذه الإلمامات القصيرة ببعض الآراء الفلسفية، التي كانت بذورًا صالحة لفلسفة أبي العلاء.

(٥) وصفه لحروب سيف الدولة الداخلية

وقال المتنبي لسيف الدولة قصائد خمسًا، يصف فيها ما كان من اضطراب البادية عليه، وما كان من رَدَّه هذه البادية إلى الهدوء والنظام بالقوة حَتَّى تذعن له، ثم بالعفو والحلم حَتَّى تأمن له القلوب وتخلص فِي حبه النفوس.

وقد عرضنا لواحدة من هذه القصائد الخمس فيما مضى من هَذَا الحديث، وهي الميمية التي مدحه بها حين كانا شابين فِي الثامنة عشرة من عمرهما ولم ينشده إياها، وذلك حين أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس وبني ضَبةَ، وأولها:

ذِكَر الصِّبا ومَرَاتع الآرامِ
جَلَبَتْ حِمَامِي قَبْلَ وَقْتِ حمَامِي

ولسنا فِي حاجة إلى أنْ نعيد القول فِي هذه القصيدة، ولم يكد يتصل المتنبي بسيف الدولة حَتَّى خرجت جماعة من القرامطة فِي السماوة، فأغاروا على حمص وأخذوا عامل سيف الدولة عليها، وهو ابن عمه أبو وائل تغلب بن داود بن حمدان، وأبوا أنْ يردُّوه إلا أنْ يأخذوا من أخيه فداءًا عظيمًا، فأطمعوا فِي الفداء كسبًا للوقت، ونهض إليهم سيف الدولة فأوقع بهم، واستنقذ منهم ابن عمه الأسير، ولكنه استنقذه جريحًا، فلم يلبث أنْ مات، ورثاه المتنبي كما علمت.

وقد قال المتنبي فِي هذه الواقعة لاميته التي أولها:

إِلامَ طَمَاعِيَة العاذِلِ
ولا رَأيَ فِي الحُبِّ للعاقل

وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة أحدث بنو كلاب حدثًا وارتحلوا، فلحقهم سيف الدولة وردَّهم إلى الطاعة، ثم شملهم بعفوه، فقال المتنبي فِي ذلك بائيته التي أولها:

بِغَيْرِكَ رَاعِيًا عَبِث الذئَابُ
وَغَيْرَكَ صَارِمًا ثَلَمَ الضرَابُ

وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة فِي أغلب الظن تجمعت قبائل من قيس وثارت على ملك سيف الدولة، فنهض لها الأمير، وتتبعها حَتَّى لحقها عند تدمر، فصنع بها صنيعه بكلاب، ولم يشهد المتنبي هذه الواقعة، ولكنه قال فيها قصيدتين، أولاهما القافية التي أولها:

تَذَكَّرتُ مَا بَينَ العُذَيبِ وبارِقِ
مَجَرَّ عَوالينا وَمَجْرى السَّوَابِقِ

وكأن هذه القصيدة لم تشف نفس سيف الدولة، فوصف القصة لشاعره، وتقدَّم إِلَيْهِ أن يستأنف القول فيها، فقال الرائية التي أولها:

طِوالُ قَنًا تُطَاعِنها قصارُ
وَقَطْرُكَ فِي نَدًى وَوَغًى بِحارُ

وأيسر ما يستخلص من هذه القصائد الأربع أنَّ الحياة الداخلية فِي ملك سيف الدولة لم تكن كلها أمنًا ولا هدوءًا، وإنما كانت تضطرب وتفسد من حين إلى حين، وليس من شك فِي أنَّ أهل البادية قد أحدثوا أحداثًا أخرى لم يصفها المتنبي؛ لأنها لم تكن ذات خطر، ولأن سيف الدولة لم ينهض بنفسه لقمعها، ومعنى هَذَا كله أنَّ ما كان سيف الدولة يلقاه من المشقة ويحتمله من الجهد ويظهره من حسن البلاء فِي جهاد الروم، لم يكن ليردَّ عنه كيد الذين كانوا يكيدون له من وراء ظهره فِي الحاضرة والبادية جميعًا، والذين يدرسون تاريخ هَذَا العصر درسًا مفصلًا دقيقًا يعلمون أنَّ أثرة الملوك والأمراء وتنافسهم فِي السيادة والقوة، قد تجاوزا فِي ذلك الوقت كل حد معقول حَتَّى تغلبا أو كادا يتغلبان على الشعور الإسلامي الخالص، فضلًا عن اجتماع الرأي على مذهبٍ بعينه من المذاهب الإسلامية.

فقد كان من هؤلاء الملوك من لا يكره أنْ يعين الروم على خصمه سرًّا أو جهرًا برغم أنه كخصمه مسلم، وأنَّ الروم عدو له ولهذا الخصم، وكان من هؤلاء الملوك من لا يكره أنْ يعين القرامطة على خصمه سرًّا أو جهرًا برغم أنه متفق مع خصمه فِي بغض النظام القرمطي والفساد القرمطي فِي السياسة والدين جميعًا.

ومن هَذَا كله نفهم المذهب الفني الذي قصد إِلَيْهِ المتنبي فِي هذه القصائد الأربع، فهو من جهة يعيب الثائرين على الأمير، ويظهر ألمه لتمرُّدهم عليه، ومحاولتهم بهذا التمرد أنْ يصرفوه عن جهاد الروم، وهو من جهة أخرى يمدح الأمير بالبأس والحزم اللذين يصطنعهما فِي تأديب هؤلاء الثائرين وردِّهم إلى الطاعة وتوقير السلطان والنظام، ثم يمدحه بالحلم والعفو اللذين يصطنعهما لتأليف القلوب والاحتفاظ بهؤلاء العرب الذين هم قوَّته على عدوِّه المنافسين له من المسلمين، ومادته فِي حرب عدوه المخاصمين له من الروم.

ونحن نقف وقفة قصيرة عند لاميته التي قالها فِي ثورة القرامطة بعامل الأمير فِي حمص، لنرى كيف تحول المتنبي عن مذهبه الذي كان يراه فِي الشباب، وأخذ يذم الآن ما كان يحمده أمس، ويحرِّض الأمير على قوم لم يزيدوا على أنْ ساروا سيرته التي دفعته إلى السجن، ولم يكد يتجاوز العشرين من عمره، وأنت إذا قرأت هذه القصيدة معجب بما وفق له المتنبي فيها من البراعة الأدبية والسياسية معًا، فهو فِي القسم الأول من هذه القصيدة ناسب متكلف على عهده فِي النسيب، ولكنه تكلف خفي جدًّا نكاد نحسه فِي المعنى، ولا نحسه فِي اللفظ بحال من الأحوال، وغزله فِي هَذَا القسم حلو حقًّا يصلح للغناء، بل هُوَ غناء خالص ليس فيه شك، فإذا فرغ من هَذَا الغزل الرقيق الجميل خلص إلى أبي وائل أسير القرامطة من أهل بادية السماوة وتغيرت لهجته، فإذا هُوَ شاعرٌ بدويٌّ خالصٌ، تجد فِي شعره جزالة اللفظ البدوي دون أنْ تلقى غلظة أو خشونة أو شططًا، وأنت لا تجد هذه الجزالة فِي اللفظ وحده، ولكنك تجدها فِي المعنى أيضًا، فالشاعر يصف الخيل ومسيرها فِي طلب العدو وما قطعت إِلَيْهِ من طريق، ثم يصف إيقاعها بالعدو وظهورها عليه، وانهزام العدو أمامها، ثم يهزأ بهذا العدو فِي لباقة ورشاقة تجمعان خفة الحاضرة إلى رصانة البادية، وقد اصطنع الشَّاعِر هَذَا الوزن السريع المتحدر، وزن المتقارب الذي يلائم اندفاع الخيل وإسراعها فِي طلب العدو، وما يكون بينها وبينه من كرٍّ وفرٍّ، ومن إقدام وإحجام، ويلائم كذلك إسراع الأمير إلى نجدة ابن عمه واستنقاذه من يد العدو.

وكم كنت أحب أنْ أقف عند ما فِي هذه القضية من جمال الغناء فِي أولها، ومن جمال الوصف فِي سائرها، ولكن هَذَا يطول، فلنقف عند بعض أبياتها لنرى ما أشرت إِلَيْهِ من انحراف المتنبي فِي سهولة عن رأيه القديم واستهزائه بالذين يرون ما كان يرى ويفعلون ما همَّ أنْ يفعل، ثم رجوعه بعد هَذَا كله إلى شيء من الحسرة والحزن لما يصيب أصحاب الهم البعيد من إخفاق قبل أنْ يبلغوا ما هموا به، فانظر إلى قوله:

فَلُقِّينَ كُلَّ رُدَيْنِيَّةٍ
وَمَصْبوحَةٍ لَبَنَ الشائِلِ
وَجَيْشَ إِمَام عَلَى نَاقَةٍ
صَحِيحِ الإِمامةِ فِي البَاطِلِ

وانظر إلى قوله:

خُذُوا مَا أَتَاكُمْ بِهِ وَاعْذِرُوا
فَإِنَّ الْغَنِيمَةَ فِي الْعَاجِلِ
وَإِنْ كَانَ أَعْجَبَكُم عَامُكم
فَعُودَوا إلى حِمْصَ فِي قابل
فَإِنَّ الحُسَامَ الخَضِيبَ الذِي
قُتِلتُم بِهِ فِي يَدِ الْقَاتِلِ

ثم يعود إلى الاستهزاء بزعيم هؤلاء القرامطة فيقول:

وإِنِي لأعْجَبُ مِنْ آمِلٍ
قِتَالًا بِكُمٍّ عَلَى بَازِلِ
أَقَالَ لَهُ اللهُ لَا تَلْقَهُمْ
بِمَاضٍ عَلَى فَرَسٍ حَائِلِ
إِذَا مَا ضَرَبْتَ بِهِ هَامَةً
بَرَاهَا وَغَنَّاكَ في الكاهِلِ

وانظر إلى هذيْن البيتيْن الآتيين، فما أشك فِي أنَّ المتنبي يذكر فيهما نفسه وأشباهه من المغامرين:

وَلَيْسَ بِأَوَّلِ ذِي هِمَّةٍ
دَعَتْهُ لِمَا لَيْسَ بِالنَّائِلِ
يُشَمِّرُ لِلُّجِّ عن سَاقِهِ
وَيَغْمُرُهُ الموجُ فِي الساحِلِ

وانظر إلى هَذَا البيت، فإنه عندي تعريض بل تصريح باتهام بغداد بالإعانة على سيف الدولة، وما أستبعد أنْ تكون السياسة البغدادية هي التي أغرت هؤلاء القرامطة بالشام ليفسدوا فيها الأمر على الحمدانيين والإخشيديين معًا، كما ستفعل بعد ذلك لتفسد الأمر على الفاطميين، ولكن المتنبي حريص حذر فِي هَذَا التعريض أو التصريح، وما أرى إلا أنه يستمد حرصه وحذره من سيف الدولة نفسه.

وانظر إِلَيْهِ كيف يعزّي الأمير فِي آخر القصيدة عن خيانة الخائفين، وغدر الغادرين، وكيد الكائدين له من أهل العراق:

فهنَّأَكَ النَّصْرَ مُعْطِيكَهُ
وأرضاهُ سَعْيُكَ فِي الآجِلِ
فَذِي الدارُ أَخْوَنُ مِنْ مُومِسٍ
وَأَخْدَعُ مِنْ كَفِّة الحابِلِ
تَفَانَى الرِجَالُ عَلَى حُبِّها
وَمَا يَحْصُلونَ عَلَى طائِلِ

وفي هذين البيتين الأخيرين بذرة من بذور الفلسفة العلائية، وهذه القصيدة عندي من أجود شعر المتنبي، وهي من القصائد النادرة التي تحلو فيها روح الشاعر، ويخف ظله على القارئين والسامعين، وما أرتاب فِي أنها ضمنت له حب سيف الدولة؛ لأنه وجد فيها جمال الفن، وقوة الوصف وذكاء القلب، واللباقة السياسية التي تمكنه من أنْ يغيظ الخصوم دون أنْ يضطر إلى الحرج.

وليست البائية التي قالها المتنبي لسيف الدولة حين أدَّب الكلابيين بأقل جودة وروعة ورشاقة ولباقة من هذه اللامية، فقد وفق فيها المتنبي أحسن التوفيق للملاءمة بين جزالة اللفظ وسهولته، وبين دقة المعنى وبراعته، وأحسن اختيار الوزن فعمد إلى الوافر، وهو كما تعلم يسير سهل سريع لا يكاد يتأنَّى فيه الوقوف، وليس أقل من المتقارب ملاءمة للسير السريع اليسير فِي الفضاء الواسع السهل الذي لا تقوم فيه الجبال ولا تنبث فيه العقبات، ولا يريد من المغير إلا أن يجد فِي الطلب ويخلي الأعنة للخيل، فإذا انتهى إلى المطلوبين أخذهم بهجوم لا عسر فيه من طبيعة الأرض، ولا مشقة فيه تحتاج إلى أناة أو مهل، وإنما هو الانقضاض على العدو كما تنقضَّ الصاعقة، والاندفاع إِلَيْهِ كما يندفع السيل، ثم الظفر به كأن لم تكن حرب ولا قتال.

وقد أعرض المتنبي فِي هذه القصيدة عن الغزل والغناء؛ لأن نشاط الحرب فِي هذه الموقعة البدوية الخالصة كان قد ملأ قلبه من جهة، ولأن هذه القصيدة الحماسية غناء كلها من جهة أخرى، فالشاعر يصف بأس الأمير وسطوته وإسراعه إلى قمع الثورة وتأديب الجناة، ويصف إمعان الثائرين فِي الهرب، وإمعان السلطان فِي الطلب، وهو فِي هَذَا كله يصطنع لغة الحماسة والفخر، كما تعوَّد القدماء من شعر البادية أنْ يصنعوها، لولا أنَّ فِي هذه اللغة روحًا عذبًا سهلًا يدنيها من الحضارة ولا ينأى بها مع ذلك من البداوة، فإذا ظفر الأمير بهؤلاء الثائرين فأسر الرجال وسبى النساء وأتاحت له القدرة أنْ يبطش بالأسرى والسبايا، عاد بالعفو على هؤلاء البائسين فرد إليهم الحرية والحياة، وعاد بالرحمة والكرامة على هؤلاء البائسات فردهنَّ إلى أوليائهن لم يمسسهن أذى، ولم يلحق بهن السباء مكروهًا؛ فهن يعدن إلى أوليائهن حرائر قد ظفرن من كرم الأمير بالزينة والنعيم والطيب، وأي عار فِي أنْ يقعن فِي أيدي الأمير، وهنَّ إنما يخرجن من يد وليٍّ كريم ليقعن فِي يد ولي كريم، لهن الأمن والحصانة عند هذا، كما كان لهن الأمن والحصانة عند أولئك.

والمتنبي يؤدي هذه المعاني كلها فِي لفظ رشيق ليس فيه التصريح المؤذي ولا التعريض المريب، وإنما هُوَ الحديث يملؤه الصفو والطهر والبراءة من كل ما يؤذي النفوس، ثم يصل المتنبي إلى الاستعطاف، فيذكر الأمير بمكان هؤلاء الناس منه فِي النسب، ونفعهم له حين تشتد الخطوب، وهو لبقٌ حقًّا يلحُّ فِي الاستعطاف، حَتَّى يظهرهم كلابًا أذلة خاضعين لسلطان هَذَا الأمير العظيم، ثم يعود عليهم بالفخر فيظهرهم أعزة قاهرين لغيره من الأمراء لو قصد إليهم، فهو يرضي حاجة كلاب إلى العفو، كما يرضي حاجتها إلى الكرامة، وهو يرضي حاجة سيف الدولة إلى الحلم كما يرضى حاجته إلى تصوير بأسه وشدته، وهو فِي أثناء هَذَا كله لا يقصر فِي التعريض الرفيق جدًّا بالذين شبُّوا هذه الثورة وأضلوا هؤلاء الثائرين، واقرأ هذه الأبيات:

تَرَفَّقْ أَيُّهَا المَوْلَى عَلَيْهِمْ
فَإِنَّ الرِّفْقَ بِالْجَانِي عِتَابُ
وَإِنَّهمُ عَبِيدُك حَيثُ كَانوا
إِذَا تَدْعُو لِحَادِثَةٍ أَجَابوا
وَعَيْنُ الْمُخْطِئِينَ هُمُ وَلَيْسُوا
بِأَوَّلِ مَعْشَرٍ خَطِئُوا فَتَابُوا
وَأَنْتَ حَيَاتُهُمْ غَضِبَتْ عَلَيهمْ
وَهَجْرُ حَيَاتِهمْ لَهُمُ عِقَابُ

ثم اقرأ هذه الأبيات:

وَلَوْ غَيْر الْأَمِيرِ غَزَا كِلابًا
ثَنَاهُ عَنْ شُمُوسِهِم ضَبَابُ
وَلَاقَى دُونَ ثَأْيِهِمُ طِعَانًا
يُلَاقِي عِنْدَهُ الذئْبَ الْغُرَابُ
وَخَيْلًا تغتذى رِيحَ الْمَوَامِي
وَيَكْفِيهَا مِنَ المَاءِ السَّرَابُ

واقرأ بين هذه الأبيات وتلك تعريضه بالكائدين فِي هَذَا البيت:

وجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ
وَحَلَّ بِغَيْرِ جَارِمِه العَذابُ

وأنت تذكر أن قد كان للمتنبي عهد بالكلابيين فِي صباه، فقد نزل بهم ومدح سيدًا من ساداتهم بمنبج حين أقبل من العراق، وشهد مجالس لهوهم أيضًا، فلست أستبعد أنْ يكون المتنبي قد وفى لهؤلاء الناس، وعرف إحسانهم إليه، وبرَّهم به، فجزى خيرًا بخير، وإحسانًا بإحسان.

لست أقف من القافية التي قالها فِي ثورة المتألبين من قيس إلا عند القسم الأول منها؛ لأن فيه حنينًا، لا أقول إلى وطنه الذي وُلد فيه، ولكن إلى البادية العراقية التي ذهب إِلَيْهَا فِي صباه، فأقام فيها حينًا، ثم عاد إلى الكوفة، ولهذا الحنين عندي خطره؛ لأنه يرجح ما أفترضه من أنَّ البيئة البدوية التي ارتحل إِلَيْهَا فِي ذلك العهد وأقام فيها كانت بيئة قرمطية، فاقرأ هذه الأبيات:

تَذَكَّرْتُ مَا بَيْنَ العُذَيْب وبارِقِ
مَجَرَّ عَوَالينَا وَمَجْرَى السوابِقِ
وَصُحبةَ قَوْمٍ يَذْبَحُونَ قَنِيصَهم
بفَضْلات ما قد كَسَّرُوا فِي المفارِقِ
وليلًا تَوَسَّدْنَا الثَّوِيَّةَ تحتَه
كَأنَّ ثَراها عَنْبرٌ فِي المَرَافِقِ

واقرأ هذه الأبيات التي يحدث فيها الطباق والتقسيم ظرفًا خفيف الدعابة، محببًا إلى الذوق والسمع جميعًا:

سَقَتْنِي بِهَا القُطْرُبُّليَّ مَليحَةٌ
عَلَى كَاذِبٍ مِنْ وَعْدِهَا ضَوْءُ صَادِقِ
سُهَادٌ لِأَجْفَانٍ وَشَمْسٌ لِنَاظِرٍ
وسُقْمٌ لِأَبْدَانٍ وَمِسْكٌ لِنَاشِقِ
وَأغْيَدُ يَهْوَى نَفْسَهُ كُلُّ عَاقِلٍ
عَفِيفٍ وَيَهوَى جِسْمَهُ كُلُّ فاسقِ

ولهذا البيت الأخير خاصةً قيمته؛ لأنه يصور طرفًا من رأي المتنبي فِي لون من ألوان الإثم كان الشعراء يتهالكون عليه، ويسرفون فيه، ويتنافسون فِي وصفه منذ فتح لهم بابه أبو نواس ومعاصروه، وهو اللهو بالغلمان.

فلم يكن المتنبي يكره — فيما يظهر من هَذَا البيت — أنْ يجد الأنس عند الشباب من الغلمان إذا اجتمع لهم الجمال والأدب، ولكنه كان يرتفع عما دون ذلك من الإثم، ولعل هَذَا يعلل إعراض المتنبي عما يسمونه الغزل المذكر فِي شعره.

وقف كذلك عند هذين البيتين اللذين يصوران أسف الشَّاعِر لاشتغال الأمير بثورة البادية عن حرب الروم:

فما حَرَمُوا بِالرَّكْضِ خَيْلَكَ رَاحةً
وَلَكِنْ كَفَاهَا البَرُّ قَطْعَ الشواهقِ
ولا شَغَلوا صُمَّ الْقَنَا بِقُلُوبِهِم
عَنِ الرِّكْز لَكِنْ عَنْ قُلُوبِ الدَّمَاسقِ

ولا تدع القصيدة دون أنْ تقرأ هذه الأبيات التي يروعك الشَّاعِر فيها بتصوير الخضوع والطاعة وتأثيرهما فِي نفس سيف الدولة حين تقدمت بهما نمير مؤثرة لهما على الثورة والخروج:

لَوَفْدُ نُمَيْرٍ كَانَ أَرْشَدَ منهمُ
وقد طَرَدُوا الْأَظْعَانَ طَرْدَ الْوَسَائِقِ
أَعَدُّوا رِمَاحًا مِنْ خُضُوعٍ فَطَاعَنُوا
بِهَا الْجَيْشَ حَتَّى رَدَّ غَرْبَ الفَيَالِقِ
فَلَمْ أَرَ أَرْمَى مِنْهُ غَيْرَ مُخَاتِلٍ
وَأَسْرَى إلى الْأَعْدَاءِ غَير مُسَارِقِ
تُصِيبُ المَجَانِيقُ الْعِظَامُ بِكَفِّهِ
دَقَائِقَ قَد أَعْيَتْ قِسِيَّ الْبَنَادِقِ

والرائية التي قالها المتنبي فِي هذه الثورة نفسها رائعة خليقة بالتحليل، مستوجبة للإعجاب كالبائية، ولكني لا أقف عندها تجنُّبًا للإطالة وكراهةً للإعادة، وإنما أحب أنْ تقرأ هذين البيتين لترى إلحاح المتنبي فِي الأسف لتحوُّل الأمير مضطرًّا عن قتال عدوه من الروم إلى قتال أوليائه من العرب:

وَكُنْتَ السَّيفَ قائمُهُ إِلَيهِم
وَفِي الْأَعْدَاءِ حَدُّكَ والغِرارُ
فَأَمْسَت بِالبُدَيَّةِ شَفْرَتَاهُ
وَأَمْسَى خَلْفَ قَائِمِهِ الحِيَارُ

وأحب أنْ تقرأ أَيْضًا هذين البيتين اللذين يرفق الشَّاعِر فيهما أجمل الرفق حين يريد أنْ يُهوِّن على المنهزمين ما أدركهم من الهزيمة أمام الأمير:

بَنُو كَعْبٍ وَمَا أَثَّرْتَ فِيهِمْ
يَدٌ لَمْ يُدْمِهَا إِلا السِّوارُ
بِهَا مِنْ قَطْعِهِ أَلَمٌ وَنَقْصٌ
وَفِيهَا مِنْ جَلَالَتِهِ افتخارُ

(٦) وصفه لحروب سيف الدولة الخارجية

ولما اتصل المتنبي بسيف الدولة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة لم يعرض لما كان بينه وبين الروم من حرب إلا لمامًا؛ لأنه لم يكن قد شهد مواقعه مع الروم من جهة، ولأن هذه المواقع لم تكن ملهمة للفخر والحماسة من جهة أخرى، فقد انهزم المسلمون للروم فِي تلك السنة، وغلب هؤلاء على حصن الحدَث فدمروه.

فقنع المتنبي إذن فِي مدحه الأمير بالتعريض والإلمام اليسير، حَتَّى إذا كانت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة شهد المتنبي مع سيف الدولة غزوه للروم، وكانت هذه الموقعة خطيرة حقًّا، فقد انتصر فيها سيف الدولة انتصارًا مؤزرًا أول الأمر، فاقتحم الحدود، وأمعن فِي بلاد الروم حَتَّى أبعد وملأ يديه من الغنيمة، ثم استحالت إلى هزيمة، فقد صعب القفول على الغزاة، أثقلتهم الغنائم والأسرى، ولصق بهم العدوُّ، وأخذ عليهم الطرق، وأبلى سيف الدولة فِي الدفاع عن المسلمين بلاءً حسنًا، ولكنه لم يبلغ من التوفيق ما كان به خليقًا، فتفرق عنه أصحابه، ولم ينج هُوَ إلا بعد جهد، وقال المتنبي فِي هذه الموقعة قصيدتين: أولاهما الجيمية التي قالها حين عرض الأمير جيشه قبل الهجوم، وأولها:

لِهَذَا الْيَوْم بَعْدَ غَدٍ أَرِيجُ
وَنَارٌ فِي الْعَدُوِّ لَهَا أَجِيجُ

والأخرى العينية التي قالها بعد الهزيمة يُسلي بها الأمير، وينذر بها الروم، وأولها:

غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا الناسِ يَنْخَدِعُ
إِنْ قَاتَلُوا جَبُنُوا أَوْ حَدَّثوا شَجُعُوا

وفي سنة أربعين وثلاثمائة نهض سيف الدولة للقاء الروم، وكانت نيته أن يغسل عن المسلمين وعن نفسه وضر الهزيمة التي أصابتهم فِي العام الماضي، فتهيأ للزحف من المكان نفسه الذي عرض فيه الجيش سنة تسع وثلاثين، ولكن المسلمين علموا أنَّ جيش العدو ضخم كثير العدد فهابوه، وتقدم الأمير إلى الشَّاعِر أنْ يثبت قلوبهم ويحرضهم على القتال، فقال نونيته التي أولها:

نَزُورُ دِيَارًا مَا نُحِبُّ لَهَا مَغْنَى
وَنَسْأَلُ فِيهَا غَيْرَ سَاكِنِهَا الإِذْنَا

وأنشدها المتنبي لا بين يدي الأمير وحده، بل أمام جماعة المسلمين، فرد إلى قلوبهم الثقة وأثار فيهم الحماسة، ثم اندفع بهم سيف الدولة كأنه السيل، فأكتسح العدو أمامه اكتساحًا، وأمعن فِي الغزو، وكان يريد أن يصل إلى خَرشنة، ولكن الشتاء أقبل وسقط الثلج، فلم يستطع الأمير أنْ يتقدم، فعاد بجيشه مظفرًا هذه المرة، ولم يستطع الروم أنْ يضايقوه، ولا أنْ يأخذوا عليه الطريق، فقال المتنبي فِي ذلك داليته التي أولها:

عَوَاذِلُ ذَاتِ الْخَالِ فِيَّ حَوَاسِدُ
وَإِنَّ ضَجِيعَ الخَوْدِ منِّي لَمَاجِدُ

وفي أوائل سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة زحف سيف الدولة على مَرْعَش فأزال عنها الروم وأقام حصنها، وعاد مظفرًا فقال المتنبي فِي ذلك بائيته التي أولها:

فَدَيْناكَ مِنْ رَبْعٍ وَإِنْ زِدْتَنَا كَرْبَا
فَإِنكَ كُنْتَ الشَّرْقَ لِلشَّمْسِ والغَرْبَا

وقد كثر الأسرى من الروم عند سيف الدولة، وكثر أسرى المسلمين عند الروم، وأقبل رسول ملك الروم فِي آخر هذه السنة يَسفر فِي الفداء، فاستقبله سيف الدولة فِي حفل فخم يريد أن يُلقي به الرعب فِي نفسه، وجاء غلمان الأمير بلبؤة مقتولة فألقوها فِي طريق السفراء ومن حولها أشبالها أحياء، وأقبل المتنبي لينشد قصيدته التي أعدها للحفل، فلما رأى اللبؤة وأشبالها ارتجل هذه الأبيات الثلاثة:

لَقِيتَ العُفاةَ بِآمَالِها
وزُرْتَ العُداةَ بِآجَالِهَا
وأقْبَلَتِ الرُّومُ تمشِي إلَيـْ
ـك بين الليوثِ وأشبالها
إِذا رأتِ الأسدَ مَسْبِيَّة
فأيْنَ تَفِرُّ بِأطْفالِهَا

ثم قام بين يدي الأمير، فأنشد القافية التي هيأها لهذا المقام، ومطلعها:

لعَينَيْكِ ما يَلْقَى الفؤاد وما لقِي
ولِلْحُبِّ ما لم يَبقَ منِّي وما بَقِي

وفي سنة اثنتين وأربعين عبر سيف الدولة الفرات، وزحف من عنتاب على بلاد الروم، فاجتاز الحدود، وأمعن حَتَّى أغار على مَلطيةَ، ثم عاد مظفرًا غانمًا بعد خطوب أحسن فيها البلاء، فلما انتهى إلى آمد بلغه أنَّ الروم قد أغاروا على أنطاكية، فخفَّ إليهم وأغذَّ فِي السير حَتَّى لحقهم قافلين عند مرعش، فأوقع بهم وغنم منهم، وأسر قسطنطين ابن قائدهم برداس فوكاس وعاد موفورًا، فقال المتنبي فِي ذلك لاميته التي أولها:

لَيالِيَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ
طِوالٌ ولَيْلُ العَاشِقِين طَوِيلُ

وفي سنة ثلاث وأربعين أقبل سفراء الروم، وأدخلوا على سيف الدولة فِي حفل فخم، فأنشد المتنبي فيه رائيته التي يقول فيها:

ظُلْمٌ لذا اليَوْمِ وَصْفٌ قبلَ رُؤيتِه
لا يَصْدُقُ الوَصْفُ حَتَّى يَصْدق النَّظرُ

وكأنه لم يعلم بما كان السفراء يحملون فِي هذه السفارة، فلما انتهى الحفل عرف أنهم كانوا يسعون فِي هدنة، فقال لاميته التي مطلعها:

دُرُوعٌ لمَلْكِ الرُّوم هَذِي الرسائِلُ
يَرُدُّ بِهَا عن نَفْسِهِ ويُشَاغِلُ

وفي هذه السنة نفسها نهض سيف الدولة بعد فراغه من ثورة الكلابيين إلى حصن الحدث، وكان المسلمون قد انهزموا عنه للروم سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة — كما قدمنا — فأراد سيف الدولة فِي هذه السنة أنْ يستردَّه ويقيمه، وعلم الروم بمسيره إليه، فأسرعوا فِي جيش ضخم اشتركت فيه أمم مختلفة ليردُّوه عنه، ولكن سيف الدولة سبقهم إليه، على أنه لم يكد يستقر حَتَّى ظهرت جيوش الروم، فلقيهم المسلمون، وكانت الصدمة الأولى عنيفة عليهم، فتضعضعوا شيئًا وكادوا ينهزمون، لولا أنَّ الأمير أقدم لا يلوي على شيء، ومضى يشق الصفوف حَتَّى انتهى إلى مكان القائد العام برداس فوكاس، فانهزم الروم هزيمة منكرة، وأقام سيف الدولة الحصن وعاد مظفرًا، فقال المتنبي ميميته التي أولها:

عَلَى قَدْرِ أَهْل العَزْم تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ المَكَارِمُ

وفي المحرم من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أقبل سفراء ملك الروم على سيف الدولة يطلبون الهدنة فأدخلوا عليه، وأنشده المتنبي بحضرتهم ميميته التي أولها:

أَرَاعَ كَذَا كُلَّ الْأَنَامِ هُمامُ
وسَح لهُ رُسْلَ الملوكِ غَمامُ

ومن إلحاح المتنبي على الأمير فِي هذه القصيدة أنْ يمنح السفراء ما يطلبون من الموادعة، أستخلص أنَّ الأمير نفسه كان راغبًا فِي هذه الهدنة ليقمع ثورة القبائل القيسية التي رجحتُ فيما مضى أنها كانت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.

وفي هذه السنة نفسها نقض الروم الهدنة فيما يظهر، وأغاروا على حصن الحدث يريدون أن يستردُّوه، ولكن سيف الدولة نهض لهم، فلما علموا بمقدمه جلوا عن الحصن وعادوا أدراجهم، فقال المتنبي لاميته التي أولها:

ذِي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ من تَعالَى
هَكَذَا هَكَذَا وإِلا فَلا لا

وفي المحرم من سنة خمس وأربعين وثلاثمائة علم سيف الدولة أنَّ الروم قد هموا بالغارة على آمد، فنهض إليهم، فلما علموا بمقدمه عادوا أدراجهم، ولكنه تبعهم وأمعن حَتَّى هزمهم على تل البطريق، ودمر حصونًا وقلاعًا وعاد، ولكنه وجد الدروب قد أخذت عليه، فكانت بينه وبين الروم موقعة عظيمة كتب له فيها النصر وانهزم الروم، وقد تركوا ألوفًا من القتلى وعددًا ضخمًا من الأسرى، وعاد سيف الدولة ظافرًا إلى آمد، فأنشده المتنبي نونيته التي يقول فيها:

الرَّأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُّجعانِ
هُوَ أَوَّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثانِي

وفي هذه السنة نفسها أعيد حديث الوقعة الماضية فِي مجلس سيف الدولة، وما كان الروم قد قدَّروا من أخذ الطريق عليه والإيقاع به، ثم ما كان من إخلاف ظنهم، فأنشد المتنبي ميميته التي أولها:

عُقْبَى اليَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ
مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إِقْدَامِكَ القَسَمُ

وهي كما يقول الديوان آخر ما أنشد المتنبي من الشعر بين يدي سيف الدولة فِي حلب، وتاريخ هذه القصائد كلها مفصل أحسن تفصيل فِي كتاب الأستاذ بلاشير، وفي بحوث الأستاذ جبريلي عن حياة المتنبي، وفي كتاب الأستاذ كنار عن سيف الدولة، وعلى هذه الكتب مع الديوان كان اعتمادنا — فيما قدمنا — من التاريخ، وكنا خليقين ألا نعيد فِي هَذَا الإيجاز ما فصلوه فأحسنوا تفصيله، لولا أنهم كتبوا فِي الفرنسية والإيطالية، وأنَّ كتبهم ليست فِي أيدي قراء العربية.

وكل هَذَا الشعر — كما قلنا — فِي أول الحديث عن صلة المتنبي بسيف الدولة، رائع بارع، خليق بالدرس والتحليل، ولكننا سنصنع به ما صنعناه بغيره من شعر المتنبي فِي سيف الدولة، فنكتفي بالوقوف عند نماذج منه تُغني عن الوقوف عند سائره.

(٧) تفصيل لهذا الوصف

ولندع الجيمية التي قالها المتنبي فِي أوائل الحرب سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنها لا تزيد على أن تكون تحريضًا للجيش، وتثبيتًا للمسلمين وحثًّا لهم على الهجوم، وثناء على الأمير بما هُوَ أهله، ثم إنذارًا للنصارى بما سيُصبُّ عليهم من نار الحرب، وكان المتنبي فِي هذه الجيمية القصيرة عظيم الأمل، بل واثقًا كل الثقة بالفوز، ثم كانت سيرة المسلمين بعد هذه القصيدة محققة كل التحقيق لذلك الأمل، مصدقة كل التصديق لهذه الثقة، فقد انتصر المسلمون فِي غزوهم هَذَا الطويل، وهزموا عدوهم أشنع الهزيمة فِي كل موطن لقوهم فيه، حَتَّى انتهوا إلى خرشنة — كما قدمنا — كان الأمير يريد أن يمضي فِي الغزو، ولكن بعض أتباعه سئموا الحرب وأشفقوا من الإبعاد فِي الغزو، فطلبوا الرجوع إلى أوطانهم وألحوا فِي ذلك، فاستمع لهم الأمير، فلما رجعوا مثقلين بالغنائم والأسرى، تبعهم العدو منغصًا عليهم قفولهم، آخذًا عليهم الطرق، حَتَّى كانت الهزيمة التي لم تأخذ من نفس سيف الدولة برغم تعرضه فيها لأشد الأخطار.

وقصيدة المتنبي التي وصف بها هذه الحرب وما كان فيها من نصر مؤزر، ثم من هزيمة منكرة، تصور الحوادث أجمل تصوير وأروعه وأصدقه معًا، ثم هي تصور فوق الحوادث نفس المتنبي، وما ثار فيها من العواطف المختلفة والأهواء المتباينة، ثم هي بعد هَذَا كله تصور نفس الأمير وقد عاد محزونًا كئيبًا نادمًا خائب الأمل، ولكنه مع ذلك يتحرَّق شوقًا إلى الانتقام، ولا يكاد يطمئن ولا يستقر حَتَّى يبلغ منه ما يريد.

وهذه القصيدة تنقسم أربعة أقسام، وقد رُتبت هذه الأقسام فيما بينها أحسن ترتيب وأدقه، كأن القصيدة رسالة ذات أربعة فصول، ولكنها قصة تبدأ من آخرها، إنْ صح هَذَا التعبير، تبدأ من آخرها، ثم تُستأنف من أولها بعد ذلك.

فأما الفصل الأول فيصور لنا المتنبي نفسه، بعد أنْ عاد المسلمون إلى حلب، وقد خلا إلى نفسه وأمعن فِي التدبر لِمَا شهد وما سمع وما وجد أثناء هذه الحوادث الطويلة العنيفة، وإذا هُوَ محزون كئيب، كاسف البال، يائس من الناس، ساخط على هذه الحياة التي صورتهم شجعانًا فِي القوم، جبناء فِي العمل، كرامًا إذا وعدوا، بخلاء حين يطلب إليهم الوفاء، أوفياء إذا تحدثوا، خونة غادرين إذا امتحنوا، ثم هُوَ لا يكتفي بهذا اليأس والسخط، بل هُوَ لا يريد أنْ يستسلم لهذا اليأس والسخط، وإنما هُوَ يجد فِي نفسه بقية خفية من أمل، فليست طبيعة الناس شرًّا كلها، وليس من المستحيل أنْ يخرجوا على هذه الطبيعة فيلائموا بين القول والعمل، وبين الوعد والإنجاز، وإذن فهو يحثهم دون أنْ يصارحهم على أنْ يأخذوا بالثأر، ويغسلوا عنهم هَذَا العار، على أنه لا يتحدث إليهم فِي ذلك مباشرة، وإنما يقيم نفسه مقامهم فيتحدث إليها، حَتَّى إذا فرغ من ذلك، فصور الحزن واليأس، ثم صور الأمل والرجاء، انتقل إلى الفصل الثاني الذي هُوَ فِي حقيقة الأمر نتيجة طبيعية منطقية للفصل الأول.

كان يريد من الناس أنْ يغسلوا عن أنفسهم العار، فأي حافز لهم أبرع من هَذَا الوصف الذي صور به انتصارهم فِي أول الحرب، واستعلاءهم على الروم، واستحواذهم على الأرض وما فيها ومن فيها، ودَفعهم للمحاربين أمامهم يمضون هاربين لا يلوون على شيء، وانتصارهم بعد ذلك كله إلى أرباض خرشنة، وهو فِي أثناء هَذَا الوصف يصطنع أروع ألفاظ الحرب، وأقدر صورها على إثارة الحفيظة، وإشعار النفس العربية بالبأس والقوة، وبالكرامة والعزة، وبالشمم والإباء، فإذا انتهى إلى خرشنة فقد أتم الفصل الثاني من قصته، ولا بد له من أنْ يأخذ فِي الفصل الثالث.

وهذا الفصل الثالث دقيق جدًّا، ففيه تصوير الهزيمة، وقد كانت الهزيمة منكرة حقًّا، فكيف السبيل إلى ذلك دون أنْ يَفت الشَّاعِر فِي أعضاد المسلمين، ويُشمتَ بهم العدو، ويزيد فِي شماتة الروم.

ليس الأمر عسيرًا كل العسر، فقد تعود الشعراء القدماء منذ العصر الجاهلي أنْ يذكروا الهزيمة ويعتذروا منها، ولكن المتنبي يستغني عن وصف الهزيمة، بل يهمله إهمالًا، ويكتفي بالاعتراف بها فِي شيء من الإجمال والغموض، ثم يتحول إلى المنتصرين من الروم، فينذرهم ويوعدهم، ويذكرهم بما أصابهم من الهزائم، ويتنبأ لهم بما سيصيبهم منها، وهو لا يرى الهزيمة إلا امتحانًا للمسلمين، وتمحيصًا لهم، وتنقية لجيشهم من الضعفاء والجبناء، وهو يعترف بأن الروم قد أسروا جماعة من المسلمين، ولكنهم لم يأسروا أحدًا ذا بأس أو حفاظ، وإنما أسروا جماعة من الموتى وأشباه الموتى، من موتى النفوس على كل حال، فالروم ضباع، والضباع لا تظفر بالأحياء، ولا تنعم إلا بالموتى.

فإذا أتم حديثه إلى الروم منذرًا موعدًا، لم يبق له إلا الفصل الرابع والأخير من فصول القصة، وهو تعزية الأمير نفسه من نفسه، وتهوين الأمر عليه، ثم إعلان رأي الأمير فيما كان، وأمل الأمير فيما سيكون.

وقد صور المتنبي هَذَا الفصل تصويرًا مؤثرًا حقًّا، فهو قد رفع الأمير عن اللوم ونزهه عن العار، بل هُوَ قد رفع الأمير فوق الشمس، بحيث لا يستطيع أحد أنْ يرفعه ولا أنْ يضعه، وبحيث لا يستطيع العار أنْ يسمو إليه، إنما العار كل العار على الذين خذلوه وأسلموه وتفرقوا عنه، والمجد كل المجد لهذا الأمير الوحيد الذي انهزم عنه الجيش فثبت للعدو، ولم يَحْمِ منه نفسه وحدها، وإنما حمى منه الجيش المنهزم أيضًا، والأيام دول، والزمان يُخطئ ويُصيب، فقد أخطأ فِي ذات الأمير هذه المرة، وهو مصلح خطأه من قابل، وهل أرض الروم إلا مصطاف الأمير حين يُقبل الصيف، ومرتبع الأمير حين يقبل الربيع، فالسيف معتذر إلى الأمير، والدهر منتظر أمر الأمير، وويل للروم بعد ذلك!

وكذلك تنتهي هذه القصيدة الرائعة من قصائد المتنبي، وقد وُفِّقَ الشَّاعِر فيها كل التوفيق من ناحيتين: من الناحية العلمية، فهو قد وبخ المنهزمين أشد التوبيخ، وعنفهم أقصى التعنيف، ولكنه لم يُصغرهم فِي أنفسهم، ولم يدفعهم إلى اليأس من الظفر والانتقام، وهو قد عرف للروم انتصارهم، ولكنه لم يسرف فِي تعظيم هَذَا الانتصار والتنويه به؛ لأنه لا يريد أنْ يقل من حد المسلمين، ولا أنْ يكسر قلوبهم، ومن الناحية السياسية، فهو قد ضمن للأمير حسن السمعة، وذاد عنه ألسنة السوء، وردَّ عنه شماتة الشامتين به من هؤلاء الملوك المسلمين الذين يتربصون به الدوائر، وينتظرون له المكروه، وهو فِي الوقت نفسه قد حفظ له وفاء الرعية، وأشعرها بأنها قد خذلته وقصرت فِي ذاته، وأنَّ له عليها حقًّا يجب أنْ تؤديه إليه، فتنصره وتفنى فِي نصره إذا استأنف الحرب فِي العام المقبل.

ولم يكن توفيق المتنبي سياسيًّا وعمليًّا فحسب، بل كان توفيقًا فنيًّا قبل كل شيء، فلهجة الشَّاعِر فِي القصيدة صادقة كل الصدق، حارة كل الحرارة، وألفاظه ومعانيه ملائمة أشد الملاءمة لهذا الصدق الحار؛ لأن المتنبي قد شهد الموقعة ورأى أطوارها كلها، واستيقن أنَّ الهزيمة لم تأتِ عن ضعف فِي المسلمين ولا عن تقصير، إنما الحرب سجال يومٌ لك ويومٌ عليك، ولولا أنَّ طبيعة الموقف تقتضي أنْ يلوم المنهزمين شيئًا ليربط على قلوبهم وليحفزهم إلى الجهاد، لما فكر المتنبي فِي لومهم قليلًا ولا كثيرًا.

وأنا أحب الآن أنْ تقرأ أطرافًا من هذه القصيدة، لتحس من جمالها وروعتها بعض ما أحس، فانظر إلى غنائه الحزين فِي أولها:

غَيْرِي بِأَكثَرِ هذا الناس يَنْخَدِعُ
إِنْ قَاتَلوا جَبُنُوا أَو حَدَّثُوا شَجُعُوا
أَهلُ الحَفِيظَةِ إِلا أَنْ تُجَرِّبهُمْ
وَفِي التَّجَارِب بَعْدَ الغَيِّ مَا يَزَع
وَمَا الحياةُ وَنفسِي بَعْدَ مَا عَلِمَتْ
أَنَّ الحياةَ كما لَا تشتَهِي طَبَعُ
لَيسَ الجمالُ لوجه صَحَّ مَارِنُه
أَنْفُ العَزِيز بِقَطْعِ العِزِّ يُجتَدَعُ

ثم انظر إِلَيْهِ بعد هَذَا اليأس كيف يعود إلى استفزاز المسلمين واستنهاضهم للانتقام، فيقول:

أَأَطرَحُ المجدَ عن كِتفِي وأطلبُهُ
وأترُكُ الغَيثَ فِي غِمدي وأنتَجِع

وانظر إِلَيْهِ كيف خلص إلى سيف الدولة فِي هَذَا البيت الذي يجمع الظرف والقوة معًا، فقال:

بِالجَيشِ يمتنعُ الساداتُ كُلُّهمُ
والجيشُ بَابْن أبي الهيجاءِ يمتنِعُ

ثم انظر إِلَيْهِ كيف يصف غارة سيف الدولة حين انقضَّ على الروم كالصاعقة فلم يثبتوا له، وانظر كيف يُلائم فِي السرعة بين الوصف والموصوف، فيصل إلى خرشنة كما وصل إِلَيْهَا الأمير فِي غير مهلٍ ولا أناة، ثم يقيم عليها بعد ذلك كما أقام الأمير عزيزًا منتصرًا مُبَاهيًا بالعزة والانتصار:

قادَ المقانِبَ أقصَى شُرْبِها نَهَلٌ
عَلَى الشَّكيمِ وأدنى سَيْرِها سِرَعُ
لا يَعتَفي بَلَدٌ مسراهُ عن بَلَد
كالموت ليسَ له ريٌّ وَلَاشِبَعُ
حَتَّى أَقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ
تَشْقَى بِه الرُّومُ وَالصُّلْبَانُ وَالْبِيَعُ
لِلسَّبْيِ مَانَكَحُوا وَالْقَتْلِ مَاوَلَدُوا
وَالنَّهْبِ مَاجَمَعُوا وَالنَّارِ مَازَرَعُوا
مُخْلى لَهُ المَرْجُ مَنْصُوبًا بِصَارِخَةٍ
لَهُ المَنَابِرُ مَشْهُورًا بِهَا الجُمَعُ

ثم يمضي المتنبي فِي وصف ما كان للمسلمين من قوة وبأس، وما كان يملأ قلوب الروم من فزع وجزع، وما أحدث المسلمون من قتل، وما تركوا فِي نفوسهم من حزن، يصف هَذَا كله مستأنيًا فِي وصفه، مستلذًّا هَذَا الوصف، مصطنعًا فيه الإطالة والتفصيل؛ كأنه قد أشرف على الروم من أكمة مرتفعة عند خرشنة، فهو يُلقي عليهم فِي ذلك خطبة بشعة قوامها الحديد والنار والضرم والماء.

ثم انظر إِلَيْهِ كيف يتحدث إلى الروم بعد ذلك عن هذه الهزيمة العارضة بعد أن سجل النصر تسجيلًا:

قُلْ لِلدُّمُسْتُقِ إِنَّ الْمُسلمِينَ لَكُم
خَانُوا الْأَمِيرَ فَجَازَاهُمْ بِمَا صَنَعُوا
وَجَدْتُمُوهُم نِيَامًا فِي دِمَائِكُمُ
كَأَنَّ قِتَلاكُمُ إِيَّاهُمُ فَجَعُوا
ضَعفَى تَعفُّ الْأَعادِي عَنْ مِثَالِهِمُ
مِنَ الْأَعَادِي وَإِنْ هَمُّوا بِهِمْ نَزَعوا
لَاتَحْسَبُوا مَنْ أَسَرْتُم كَانَ ذَا رَمَقٍ
فَلَيْسَ يَأْكُلُ إِلَّا الميتةَ الضَّبُعُ
هَلَّا عَلَى عَقَبِ الْوَادِي وَقَدْ صَعدَت
أُسْدٌ تَمُرُّ فُرَادَى لَيْسَ تَجْتَمِعُ
تَشقُّكُمْ بِقَنَاهَا كُلَّ سَلْهَبَةٍ
وَالضَّرْبُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ فَوْقَ مَا يَدَعُ
وَإِنَّمَا عَرَّضَ اللهُ الجُنُودَ بِكُمْ
لِكَيْ يَكُونُوا بِلَا فَسْلٍ إِذَا رَجَعُوا
فَكُلُّ غَزْوٍ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ذَا فَلَهُ
وَكُلُّ غَازٍ لِسَيْفِ الدَّوْلَة التَّبَعُ

وانظر إِلَيْهِ كيف يتحدث إلى سيف الدولة فِي هذين البيتين:

وَهَلْ يَشِينُك وَقْتٌ كُنْتَ فَارِسَهُ
وَكَانَ غَيْرَكَ فِيهِ الْعَاجِزُ الضَّرَعُ
مَنْ كَانَ فَوْقَ مَحَلِّ الشَّمْسِ مَوْضِعُه
فَلَيْس يَرْفَعُهُ شَيءٌ وَلَا يَضَعُ

وانظر آخر الأمر إلى هَذَا البيت، وهو من أروع ما قال المتنبي فِي سيف الدولة، بل فِي غيره من الممدوحين أيضًا:

الدَّهْرُ مُعْتَذرٌ وَالسَّيْفُ مُنْتَظِرٌ
وَأَرْضُهُمْ لَكَ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ

وقد صدق الأمير وَعْدَ شاعره، واعتذر من خطيئته، وظفر السيف بما كان ينتظر، فلم يحل الحول حَتَّى نهض سيف الدولة لقتال الروم وظفر بهم، وكاد يبلغ خرشنة لولا الثلج، وقد قال المتنبي فِي هذه الموقعة قصيدتين أيضًا، يحرض الجيش فِي أولاهما، ويسجل الفوز فِي أخراهما.

ولكني لا أقف عند هَذَا الشعر — فاقرأه إن شئت، فأنت واجد فيه من الجمال والروعة ما يرضيك — ولن أقف كذلك عند قافيته التي قالها حين أدخل السفراء على سيف الدولة، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وإن كانت خليقة بالإعجاب، إنما أصل مسرعًا إلى هذه اللامية التي هي عندي آية المتنبي فِي سيف الدولة؛ لأنها جمعت خصالًا ما أراها اجتمعت فِي غيرها من القصائد التي وصف فيها جهاد الأمير للروم، صاغ الشَّاعِر هذه القصيدة على مثال لامية السموءل التي أولها:

إِذَا الْمَرءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ
فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرتَديه جَميلُ

فاصطنع الوزن نفسه، والقافية نفسها، واللغة نفسها أيضًا، بل هُوَ استعار من هذه القصيدة طائفة من الألفاظ والمعاني والأساليب، ولكنه لم يصنع ذلك تقليدًا ولا احتذاءً، وإنما أعجبه هَذَا المذهب الشعري، فعارض السموءل ولم يتخذه إمامًا، وهو حين ذهب هَذَا المذهب الفني أجرى فِي القصيدة روحًا عذبًا غريبًا، ليس من اليسير وصفه ولا تصويره، ولكنك تحسه إحساسًا قويًّا، بل أنت تقرأ القصيدة، فإذا هَذَا الروح يسبق ألفاظها ومعانيها إلى قلبك، ويُشيع فِي نفسك خفةً وطربًا، لا تجدهما حين تقرأ أي قصيدة أخرى من قصائد المتنبي.

والغريب أن هَذَا الروح العذب الخفيف يحتفظ بعذوبته وخفته فِي القصيدة كلها، ولكنه مع ذلك يتخذ أشكالًا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانًا مختلفة، تتباين بتباين المعاني والموضوعات التي يطرقها الشَّاعِر فِي هذه القصيدة. فهو على عذوبته حزينٌ شاحب كئيب، يثير فِي نفسك الحنان والرحمة والألم الهادئ، حين يتغنى الشَّاعِر فِي هَذَا الغزل الذي بدأ به القصيدة، فإذا انتهى الشَّاعِر إلى المدح ووصف الموقعة خلع عن هذه الروح العذب الخفيف دائمًا حزنه وشحوبه وكآبته، واتخذ ثوبًا زاهيَ الألوان إلى أبعد حدٍّ، يمسه ضوء الشمس، فتضطرب ألوانه وتتموج تموُّجًا ساحرًا، وإذا هُوَ يغلبك على نفسك، وإذا نفسك تتموج معه كما يتموج، والشاعر يصف الحرب وصفًا دقيقًا، وكانت الحركة النشيطة السريعة أخص ما تمتاز به هذه الحرب، بل كانت هذه الحرب تمتاز بخصلة أخرى لعلها نتيجة لهذه الحركة، وهي الجرأة التي لا تسمح بمهلٍ ولا أناة، ولا تبيح روية ولا تفكيرًا، وإنما هي اندفاع متصل إلى أمام، يزداد عنفه من وقت إلى وقت، لا يحفل بالمصاعب ولا يقف عند العقاب، وإنما يقتحم كل ما يعترضه ويكتسح كل ما يلقاه، يصعد حين تعترضه الجبال، وينحدر حين ينتهي من القمة إلى السفح، ويعدو حين ينتهي إلى السهل: حركة وجرأة هما أشبه شيء بنشوة النشوان الذي يأتي ما يأتيه عن فرحٍ ونشاط، لا سعة فيهما لتعقل أو تدبر.

وكذلك فعل سيف الدولة فِي هذه الحرب؛ فقد خطرت له فجأة، فاندفع إِلَيْهَا من حَرَّان، لا يلوى على شيء حَتَّى أمعن فِي بلاد الروم واقتحم ملطية، فلما أراد العودة من درب إرمينية وجد الدرب قد أخذ عليه، وكان خليقًا أن يتدبر، وأن يقدر أنه قد أخذ من ورائه أيضًا، وأن يحتال فِي اقتحام الدرب، ولكنه أبى أن يضيع الوقت، فكر راجعًا فِي سرعة الطير، واقتحم ملطية مرة أخرى غير مبال بما كان العدو قد أعدَّ له من أمامه، وبما كان خليقًا أن يلحقه من وراء، ثم انتهى فِي هذه السرعة الجريئة الغريبة إلى مخرج من بلاد الروم فسلكه، وظن الروم أنه قد انصرف عنهم، ولكنه لم يلبث أن عاد إليهم مرة أخرى، فدمر وخرب وسلب الغنائم والنفوس، ومضى حَتَّى أدرك الفرات، فاقتحمه اقتحامًا على ظهور الخيل، ولم يكد ينتهي إلى آمد ويعلم بعبث الروم حول أنطاكية، حَتَّى خف وأغذ وأخذ الروم عند مَرْعَش وهم قافلون فمزقهم تمزيقًا، وأضاف إلى ما كان عنده من الغنائم والأسرى، وأخذ ابن القائد نفسه وعاد مظفرًا.

كان سيف الدولة نشوان قد أسكرته الحرب، فمضى فيها لا يقف ولا يتدبر، وأتيح له النصر، فإذا هَذَا النصر نفسه يسكر شاعره المتنبي، وإذا هُوَ ينشئ هذه القصيدة صورة دقيقة مطابقة كل المطابقة للأصل الذي أراد وصفه وتصويره، فأنت ستحس، حين تقرأ هَذَا الوصف، الحركة والنشاط اللذين أحسهما المتنبي حين تبع سيف الدولة فِي غارته الجريئة السريعة تلك، لا يكاد يطمئن ولا يستقر ولا يستريح.

وستمضي أنت فِي قراءة القصيدة كما مضى المتنبي فِي اتباع سيف الدولة، مندفعًا من بيت إلى بيت، متنقلًا من مقام إلى مقام، صاعدًا مع الجيش حين يصعد، ومنحدرًا مع الجيش حين ينحدر، ودائرًا مع الجيش حين يدور حول العدو، ثم هاجمًا مع الجيش حين يهجم على العدو، ثم إن هذه الروح العذب الخفيف على احتفاظه بعذوبته وخفته، يخلع هَذَا الثوب ذا الألوان المشرقة المتألقة إذا فرغ من هَذَا الوصف، ليتخذ ثوبًا آخر ليس شديد التأنق والإشراق، ولكنه حالك بعض الشيء، أو قل قاتم يكاد يمعن فِي القتوم، لولا أنَّ شيئًا من البهجة يترقرق فيه بين حين وحين، وذلك حين يلتفت الشَّاعِر إلى ما وراء سيف الدولة من بلاد المسلمين، وإلى من حول سيف الدولة من ملوك المسلمين، فلا يرى إلا ذلًّا وضعة، وإلا خمولًا وجمودًا، وإلا إقبالًا على اللهو، وعكوفًا على اللذات، وضجيجًا وعجيجًا لا غناء فيهما ولا طائل منهما فِي هَذَا الوقت الذي يجدُّ فيه الجد بين سيف الدولة وعدوه من الروم؛ فإذا الظفر الذي ينتهي إلى البطولة حينًا، وإذا الهزيمة التي تنتهي إلى البطولة حينًا آخر، وإذا الثقة بالنفس والنهوض بالواجب والاطمئنان إلى الله على كل حال، فإذا فرغ الشَّاعِر من هَذَا التعريض الحزين الفرح، خلع عن روحه العذب الخفيف ثوبه هذا، وأفاض عليه ثوبًا آخر هُوَ ثوب الفخر بالنفس، والاعتزاز بالكفاية الشخصية والبراعة الفنية، وكأنه رضي عن قصيدته وعن فنه بعد أن سمع قصائد الشعراء الآخرين ورأى فنونهم، وهو ساخط على هؤلاء الشعراء الذين يعجزون عن مجاراته، ويقصرون عن بلوغ غايته، فلا يسعهم إلا أن يسعوا به ويكيدوا له، ويتألبوا عليه، وهو قد أشرف عليهم، وأخذ يرمقهم مزدريًا لهم، محتقرًا لما يقولون ويفعلون.

فالمتنبي يبدأ القصيدة بنفسه حزينًا مفتخرًا، ويختم القصيدة بنفسه مبتهجًا منتصرًا، ويمنح أكثر القصيدة وخير ما فيها لا لسيف الدولة وحده، بل له ولجماعة المجاهدين معه فِي سبيل الله، الذائدين عن حوذة الإسلام وحسب العرب، ولجماعات أخرى من المسلمين لاهية عن الجد، ساهية عن المجد، منصرفة إلى المخازي والآثام، فالشاعر مغنٍّ، والشاعر مادح، والشاعر قاصٌّ، والشاعر هاج، والشاعر مفاخر متحمس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر فِي هذه القصيدة التي لم تُسرف فِي الطول.

قلت لك: إنَّ هذه القصيدة عندي أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة من الشعر، واقرأ معي بعض أبياتها، فترى أني لست مسرفًا فيما أقول:

لَيَالِيَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ
طِوَالٌ وَلَيْل الْعَاشِقِينَ طَوِيلُ
يُبِنَّ لِيَ الْبَدْرَ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ
وَيُخْفِين بَدْرًا مَا إِلَيْهِ سَبيلُ
وَمَاعِشْتُ مِنْ بَعْدِ الْأَحِبَّةِ سَلْوَةً
وَلَكِنَّنِي لِلنائِبَاتِ حَمُولُ

لماذا بدأ المتنبي قصيدته بهذا الغناء الحزين، وقد عرفناه إذا امتلأت نفسه إعجابًا ورضًا يعرض عن النسيب، وينصرف عن الغناء، ويهجم على موضوعه هجومًا لا يبتغي إِلَيْهِ الوسائل، ولا يبسط بين يديه المقدمات؟ ستقول: لأنه شاعر يريد أن يتأنق فِي فنه، وأن يبهر سامعيه، وأن يُهيِّئَهم لاستماع ما سيقص عليهم من أنباء الحرب، وما سيعرض عليهم من أوصافها، وقد يكون هَذَا حقًّا، وما أكثر ما يفعل الشعراء هذا! وما أكثر ما يكون أحدهم ممتلئًا بموضوعه، شاعرًا بأن الناس من حوله ممتلئون بهذا الموضوع، ولكنه مع ذلك لا يسرع إِلَيْهِ ولا يبلغه حَتَّى يدور إِلَيْهِ فِي أنحاء من الغناء! نعم! ولكني أرى فِي نفس المتنبي شيئًا آخر غير هَذَا التأنق الفني، والترفق الذي يعمد إِلَيْهِ الشعراء، فيها حزنٌ دفين، يصدر أحيانًا عن نفس الشَّاعِر التي لم تُدرِك من آمالها شيئًا، أو لم تكد تدرك منها شيئًا، ويصدر أحيانًا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تُبلى فتحسن البلاء، وتجاهد فتحسن الجهاد، ولكنها حيث هي لا تتقدم خطوة، ولعلها تتأخر خطوات، هذه الحرب التي أبلى فيها سيف الدولة كأحسن ما يُبلي الأمراء المجاهدون، ماذا أفاد منها المسلمون؟ وماذا أفاد منها سيف الدولة؟ وماذا أفاد منها المتنبي؟ إذا تعمقت فِي الأمر، ونفذت إلى حقائق الأشياء المسلمون حيث هم لم يمدُّوا حدودهم ولم يؤمنوا من غارة الروم، والمسلمون حيث هم لم تصلح أحوالهم الخاصة، ولم تبرأ سياستهم الداخلية من الإغراق فِي الفساد، وسيف الدولة حيث هُوَ يظفر اليوم ليستأنف الحرب غدًا، وقد ينتصر غدًا، وقد تدور عليه الدائرة، لم يأمن بأس الروم، ولم يأمن مكر المنافسين، والمتنبي نفسه حيث هو، يمدح الأمير اليوم مهنئًا كما مدحه أمس معزيًا، وقد يهنئه غدًا وقد يعزيه، ولكنه سيظل شاعرًا مادحًا على كل حال، وهو مع ذلك محسود يُكاد له، ويؤتمر به، ويدبر له السوء، حياته متشابهة كحياة المسلمين، وكحياة الأمير، وإذن فهذه الليالي المتشابهة فِي الطول، المتشابهة فِي أنها تبدي له البدر الذي لا يريده، وتخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى، ويطمح إِلَيْهِ كل الطموح، ولا يجد إِلَيْهِ مع ذلك سبيلًا، هذه الليالي المتشابهة التي أمضته وثقلت عليه لتشابهها، لم لا تكون رمزًا لهذه الحياة المتشابهة التي تُمض وتثقل بتشابهها؟ لماذا ننظر إلى الشعراء دائمًا كما ننظر إلى الأطفال وهم يلعبون؟ لماذا نبخل عليهم بأن نظن بهم الرجولة والبطولة أحيانًا؟ وأي صفات الناس أدنى إلى الرجولة والبطولة، وأقرب إلى حال الفن الرفيع من هَذَا السأم وهذا الضيق بالتشابه حين يتصل ويطول؟ أحق أنَّ هَذَا البدر الذي تخفيه الليالي على المتنبي هُوَ صاحبته هذه التي يزعم أنها ظعنت عنه، وأنَّ الأسباب قد تقطعت به من دونها؟ لم لا يكون هَذَا البدر شيئًا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسنة والرماح؟ لما لا يكون البدر رمزًا لهذه الآمال النائية وهذه الهموم البعيدة التي تاقت إِلَيْهَا نفس الشَّاعِر منذ أحس الحياة وَقَدَر على النشاط، والتي أنفق ما أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها؟

لو أنك سألت المتنبي نفسه عن هذه الليالي المتشابهة فِي الطول والعقم، وعن هَذَا البدر الخفي العزيز، لما أجابك بغير ما يقول الناس؛ فهو شاعر يتغنى، وهو إنما يجيد الغناء ويبرع فيه؛ لأنه يتغنى بما لا يحققه ولا يحيط به علمًا.

فجائز بل مرجح أن يكون المتنبي بعيدًا كل البعد عن أن يفكر فِي هذه المعاني التي أشرت إِلَيْهَا وأفضت فيها، ولكنه مع ذلك يتغنى هذه المعاني نفسها؛ لأنه شاعر، وأبرع الشعراء من عرض لما يفوته من مطالب الفن، فتعلق بأذياله وطار فِي أثره دون أن يبلغه أو ينتهي إليه.

ما أشد سأم المتنبي وضيقه بهذه الليالي المتشابهة الطوال! ولكنه مع ذلك حي يغدو ويروح ويستمتع بلذات الحياة، أتراه سلا عن أحبته أو زهد فيهم؟ كلا! ولكنه صبور، صبور جَلد، قد تعلم الثبات للحوادث واحتمال الملمات، أفتراه يبكي حقًّا فِي إثر هذه الفتاة الأعرابية؟ أم هُوَ يبكي فِي إثر هذه الآمال التي لا يدنو منها إلا نأت عنه، ولا يطلبها إلا فاتته وعزَّت عليه؟ أو لسنا جميعًا نأمل ثم يدركنا اليأس، ونرجو ثم يصيبنا القنوط، ونحيا مع ذلك يائسين قانطين، كما كنا نحيا آملين راجين! بل قل: إن هَذَا اليأس الذي يدركنا لا يكاد يستقر فِي نفوسنا، وإنما هُوَ يؤذينا ويصيبنا حَتَّى يدفعنا إلى الشكاة، ويثير فِي نفوسنا الحزن، ويُطلق ألسنتنا بالغناء، ثم يتجاوزنا، وإذا الأمل يستقر مكانه، وإذا نحن جاهدون فِي السعي، مستأنفون للنشاط، مجدون للأمل، نسعى فِي إثر ما فاتنا، ونلج فِي تحقيق ما أملنا؛ وإذا نحن نتمنى الفرح والمرح، والفوز والظفر، ثم يبلغنا العجز، ثم يعاودنا اليأس، ثم نستأنف غناء الحزن والأسى، وما نزال كذلك حَتَّى نفرغ من الأمل والحياة، أو يفرغ منا الأمل والحياة.

كل هَذَا أفهمه من هذه الأبيات الثلاثة الحزينة التي بدأ المتنبي بها قصيدته، وما يعنيني أنْ يكون المتنبي قد أراد هَذَا أو لم يرده، فأنا لا أطلب من الشَّاعِر أنْ يُفهمني ما أراد حقًّا، وأنا لا أقيس براعة الشَّاعِر بقدرته على أنْ يفهمني ما أراد حقًّا، وإنما أريد من الشَّاعِر البارع كما أريد من الموسيقي الماهر أنْ يفتح لي أبوابًا من الحس والشعور ومن التفكير والخيال، وما أشك فِي أنَّ المتنبي قد وفق لهذا التوفيق كله فِي هذه الأبيات.

وامض فِي قراءة الأبيات التي تأتي بعد هذا، فسترى أنَّ الشَّاعِر ماض فِي تَغني يأسه الممض، وحزنه اللاذع، وضيقه بهذا التشابه الممل.

ألست ترى أنَّ كل هَذَا الألم الذي يصوره ويشكو منه لم ينشأ إلا عن هَذَا الفراق الذي نشأ عن رحيل واحد فِي الحياة، فراق من الممكن أنْ يعقبه لقاء، ورحيل من الجائز أنْ يعقبه اجتماع الشمل، فكيف إذا أقبلَ الرحيلُ الذي لا عودة منه، والفراق الذي لا لقاء بعده! كيف إذا أقبل الموت فأتم اليأس إتمامًا وقطع الأمل قطعًا!

ثم انظر إلى هَذَا الشاعر، وقد أحس أنَّ أمله قد فاته، وأنَّ غايته قد بعدت منه، وأنَّ الأسباب قد تقطعت به دون غايته، فهو يتعلق بأَرَثِّها وأَوْهاها، وهو يتمنى أنْ يلقى فِي كل يوم روضة تهبُّ عليها ريح الشمال؛ لأن هذه الروضة وهذه الريح، هما اللتان تدنيانه من حبيبته وتقربانه إِلَيْهَا بما تُثيران فِي نفسه من الذكرى، وهو يتعلق بالأسباب الواهية فِي فرحه كما يتعلق بالأسباب الواهية فِي حزنه أيضًا، يبتهج بالروضة وريح الشمال، كأنهما تحملان إِلَيْهِ روحًا من حبيبته، ويَشرَق بالماء؛ لأنه يذكره ماء آخر قد نزلت عنده حبيبته وهو لا يستطيع إِلَيْهِ وصولًا، كذلك هُوَ يبتهج بالنصر؛ لأنه يدنيه من أمله، أو يخيل إِلَيْهِ أنه يدنو من أمله، وكذلك هُوَ يبتئس بالنصر؛ لأنه يثير فِي نفسه صورة ذلك النصر الحق الذي يريد أنْ يبلغه فلا يستطيع:

وَإِنَّ رَحيلًا وَاحدًا حَالَ بَيْنَنَا
وَفِي المَوْتِ مِنْ بَعْدِ الرَّحِيلِ رَحِيلُ
إِذَا كانَ شَمُّ الرَّوْحِ أَدْنى إِلَيكُمُ
فَلا بَرِحَتْنِي رَوْضَةٌ وقَبُولُ
وَمَا شَرَقِي بِالماءِ إِلَّا تَذكُّرًا
لِمَاءٍ بِهِ أهلُ الحبِيب نُزُولُ
يُحرِّمُهُ لَمْعُ الأَسِنِّة فَوْقَهُ
فَلَيْسَ لِظَمْآنٍ إِلَيْهِ وُصُولُ

وانظر إِلَيْهِ كيف يتحدث عن الليل والنجوم، وعن الصبح والحبيب فِي الأبيات التالية، فسترى أنَّ شكاة الشَّاعِر مستمرة ملحة، وأنَّ حزنه عميقٌ بعيدٌ، وأنَّ نفسه ساعية جادة فِي هذه الطريق التي تُظلم فتغمرها باليأس، وتضئ فتثير فيها الرجاء:

أَما في النُّجُومِ السائراتِ وَغَيْرِها
لعَيْني عَلَى ضَوءِ الصَّباحِ دَلِيلُ
أَلَمْ يَرَ هَذَا اللَّيلُ عَينَيك رُؤيتي
فتَظهَر فيهِ رِقة ونُحُولُ
لقيتُ بِدَرْب القُلَّةِ الفَجْرَ لَقْيةً
شَفَتْ كَمَدي واللَّيلُ فيه قتيلُ
ويومًا كأنَّ الحُسْنَ فيهِ عَلَامَةٌ
بَعَثتِ بها والشَّمسُ منكِ رَسُولُ

وليس كل الناس شاعرًا كالمتنبي، وليس كل الناس يحس ما يحسه الشعراء من الحزن ويحب ما يحبه الشعراء من الغناء، وما أرى إلا أنَّ المتنبي لو كان حرًّا يستطيع إرسال نفسه على سجيتها لأطال غناءه هَذَا الجميل، ولاستخرج من اختلاف اليأس والأمل على قلوب الناس نفحات حلوة وألحانًا مشجية، ولكنه شاعر الأمير وترجمان هؤلاء الجند، والأمير مترقب للمدح، والجند مترقبون للفخر والحماسة، فليقطع الشاعر على قلبه الحزين غناءه، وليرض الأمير والجيش — كما أرضى نفسه — وهو يخلص إلى المدح والوصف خلوصًا جميلًا، فيقول:

وما قَبْلَ سَيفِ الدولة اثَّارَ عَاشِقٌ
وَلا طُلِبَتْ عندَ الظَّلامِ ذُحُولُ
ولكنَّه يأتي بِكلِّ غَريبةٍ
تَرُوقُ عَلَى استغرابها وتَهُولُ
رَمَى الدرْبَ بِالجُرْدِ الجياد إلى العدى
وما عَلموا أنَّ السهامَ خُيولُ
شوائلَ تَشوالَ العَقارِبِ بِالقنَا
لهَا مَرَحٌ من تَحتهِ وصَهيلُ

وما أظنك إلا راضيًا عن تشبيه الخيل بالسهام مرة، ومُعجبًا بتشبيهها مرة أخرى، وقد أديرت أسنة القنا نحو أعجازها بالعقارب وقد شالت بأذنابها، وما أراك إلا مُحسًّا ما أحسه المتنبي من نشاط الخيل، وإعلانها هَذَا النشاط بالمرح والصهيل، ولكن امض فِي القراءة:

ومَا هي إلَّا خَطْرَةٌ عَرَضَتْ لَهُ
بِحَرَّان لَبَّتْها قَنًا وَنُصُولُ

فقد خطرت الغارة إذن لسيف الدولة فجأة فِي حَرَّان، فلم يكد يدعو إِلَيْهَا حَتَّى استجاب له الجيش واندفع فِي الهجوم، فانظر إِلَيْهِ كيف يصور هَذَا الهجوم:

فَلَمَّا تَجَلَّى من دَلُوكٍ وصَنْجةٍ
عَلَتْ كُلَّ طَود رايةٌ ورَعِيلُ
عَلَى طُرُقٍ فيها عَلَى الطُّرْقِ رفعة
وفي ذِكرها عند الأَنِيسِ خُمُولُ

فأنت ترى الخيل وقد انتهت إلى آخر السهل المنبسط عند دلوك وصنجة، وإذا هي تصعد مرتقبة فِي الجبال، وإذا هي تبلغ قمم الأطواد فتزحمها بنفسها وحركاتها كما تملأ الجو بالرايات والأعلام، والعدو من هَذَا كله ساهٍ لاهٍ، لا يعرف ما دُبِّر له ولا يقدر ما سبق إليه.ولكن اقرأ:

فما شَعَرُوا حَتَّى رأوْها مُغيرةً
قِباحًا وأمَّا خَلْقُها فجمِيلُ
سَحائبَ يُمْطِرْنَ الحَدِيدَ عليهِمُ
فكُلُّ مَكان بِالسُّيوفِ غَسِيلُ

فهم إذن قد أخذوا على غرة، وضُب عليهم الموت من هَذَا العارض الذي أمطرهم حديدًا، وغسل أرضهم بما صبَّ عليها من السيوف.

وأمْسى السَّبَايا يَنْتَحِبْن بِعِرقَةٍ
كأنَّ جُيُوبَ الثاكلاتِ ذُيولُ

وقد ملأ سيف الدولة يديه من الغنيمة والسبي وعاد، فخيل إلى العدو أنَّ العاصفة قد أقلعت، وأنَّ العارض قد انجلى، وأنَّ سيف الدولة قد انصرف عنهم، وقد كان سيف الدولة يريد أنْ ينصرف، ولكنه وجد الطريق قد أخذت عليه، وهذا ما لم يقله المتنبي، ولم يجزع سيف الدولة ولم يُضع وقته، وإنما عاد أدراجه فأمطر العدو بأسًا جديدًا، فانظر كيف يصور المتنبي هَذَا أجمل تصوير:

وَعادَتْ فَظَنُّوها بِمؤزارَ قُفَّلًا
ولَيسَ لها إِلَّا الدُّخُولَ قُفُولُ
فَخَاضَتْ نجِيعَ الجمع خَوضًا كأنَّهُ
بِكُلِّ نَجيع لَمْ تَخُضْهُ كَفيلُ
تُسايِرُها النيرانُ في كُلِّ مَسْلَكٍ
بِه القَومُ صَرعَى والديارُ طُلُولُ

وانظر كيف يصور المتنبي كرور سيف الدولة عليهم، واقتحامه ملطية مرة أخرى:

وَكَرَّتْ فَمَرَّتْ فِي دِمَاءِ مَلَطْيَةٍ
مَلَطْيَةُ أُمٌّ لِلْبَنِينَ ثَكُولُ
وَأَضْعَفْنَ مَا كُلِّفْنَهُ مِنْ قُبَاقِبٍ
فَأَضْحَى كَأَنَّ الْمَاءَ فِيهِ عَلِيلُ

وقد انتهى سيف الدولة بجيشه غانمًا مظفرًا إلى الفرات، فانظر كيف يصور المتنبي اقتحام النهر على ظهور الخيل:

وَرُعْنَ بِنَا قَلْبَ الفُرَاتِ كَأَنَّمَا
تَخِرُّ عَلَيْهِ بِالرجَالِ سُيُولُ
يُطَارِدُ فِيهِ مَوْجَهُ كُلُّ سَابِحٍ
سَوَاءٌ عَلَيْهِ غَمْرَةٌ وَمَسِيلُ
تَرَاهُ كَأَنَّ الْمَاءَ مَرَّ بِجِسْمِهِ
وَأَقْبَلَ رَأَسٌ وَحْدَهُ وَتَلِيلُ

على أنَّ عبور الفرات لم يكن آخر الخطوب التي سيلقاها الجيش قبل أن يبلغ مأمنه بما حوى من غنيمة وسبي، فما زالت أمامه قلاع وحصون للروم يجب أن يقتحمها وقد فعل:

وَفِي بَطْنِ هِنْزيطٍ وَسِمْنِينَ لِلظُّبَا
وَصُمِّ الْقَنَا مِمَّنْ أَبَدْنَ بَدِيلُ
طَلَعْنَ عَلَيْهِمْ طَلْعَةً يَعْرِفُونَها
لَهَا طُرَرٌ مَا تَنْقَضِي وَحُجُولُ
تَمَل الْحُصُونُ الشمُّ طُولَ نِزَالِنَا
فَتُلْقِي إِلَيْنَا أَهْلَهَا وَتَزُولُ

وانتهى سيف الدولة إلى حصن الران فيما يقول المتنبي، وإلى آمد فيما يقول المؤرخون، والمتنبي عندنا أصدق، وقد أراد سيف الدولة أنْ يُريح خيله لا أنْ يستريح هو، فقد تعبت الخيل والجيش، وهو جَذع البصيرة، قارح الإقدام — كما يقول قطري — على أنَّ الظروف أبت له أنْ يستريح أو يُريح، فقد انتهت إِلَيْهِ الأنباء بأن الروم يصنعون فِي بلاد المسلمين صنيعه فِي بلادهم، فيغيرون على ما حول أنطاكية، فلا بد إذن لسيف الدولة من أنْ يلحقهم أو يقطع عليهم الطريق، وقد نهض لذلك ووفق فيه، فانظر كيف يصور المتنبي نهوضه وتوفيقه، وهو يبدأ بوصف الطريق البعيدة الشاسعة، ثم بإدراك العدو والإيقاع به:

وَبِتْنَ بِحِصْنِ الرانِ رَزْحَى مِنَ الوَجَى
وَكُلُّ عَزِيزٍ لِلْأَمِيرِ ذَلِيلُ
وَفِي كُلِّ نَفْسٍ مَا خَلَاهُ مَلَامَةٌ
وَفِي كُلِّ سَيْفٍ مَا خَلَاهُ فُلُولُ
وَدُونَ سُمَيْسَاطَ المَطَامِيرُ وَالْمَلَا
وَأَوْدِيَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهُجُولُ
لَبِسْنَ الدجَى فِيهَا إلى أَرْضِ مَرْعَشٍ
وَلِلرُّومِ خَطْبٌ فِي الْبِلَادِ جَلِيلُ

وعند مرعش أدرك سيف الدولة جيشَ الروم، وكان فِي طليعة خيله:

فَلَمَّا رَأوْهُ وَحْدَهُ قَبْلَ جَيْشِهِ
دَرَوْا أَنَّ كُلَّ الْعَالَمِين فُضُولُ
وَأَنَ رِمَاحَ الْخَطِّ عَنْهُ قَصِيرَةٌ
وَأَنَّ حَدِيدَ الْهِنْدِ عَنْهُ كَلِيلُ
فَأَوْرَدَهُمْ صَدْرَ الْحِصَانِ وَسَيْفَهُ
فَتًى بَأْسُهُ مِثْلُ الْعَطَاءِ جَزِيلُ
جَوَادٌ عَلَى الْعِلَّاتِ بِالْمَالِ كُلِّهِ
وَلَكِنهُ بِالدارِعِينَ بَخِيلُ
فَوَدَّعَ قَتْلَاهُمْ وَشَيَّعَ فَلَّهُمْ
بِضَرْبٍ حُزُونُ الْبَيْضِ فِيهِ سُهُولُ
عَلَى قَلْبِ قُسْطَنْطِينَ مِنْهُ تَعَجُّبٌ
وَإِنْ كَانَ فِي سَاقَيْهِ مِنْهُ كُبُولُ

فقد انتهت الموقعة وختمت القصة — كما رأيت — بهذا الانتصار الذي انهزم له الروم وفر له قائدهم، وقد ترك ابنه قسطنطين أسيرًا، ولكن الشَّاعِر لم ينته بعدُ، فلا بد له من أنْ ينذر ويوعد، ومن أنْ يسخر ويستهزئ، ومن أنْ يتحدث بالنذير والوعيد وبالسخرية والاستهزاء إلى هَذَا القائد المنهزم، وقد آثر نفسه وحياته على ابنه هَذَا الأسير:

لَعَلَّكَ يَوْمًا يَا دمُسْتُقُ عَائِدٌ
فَكَمْ هَارِبٍ مِمَّا إِلَيْهِ يَئُولُ
نَجَوْتَ بِإِحْدَى مُهْجَتَيْكَ جَرِيحَةً
وَخَلَّفْتَ إِحْدَى مُهْجَتَيْكَ تَسِيلُ
أتُسْلِمُ لِلْخَطِّيَّةِ ابْنَكَ هَارِبًا
وَيَسْكُنُ فِي الدُّنْيَا إِلَيْكَ خَلِيلُ
بِوَجْهِكَ مَا أَنْسَاكَهُ مِنْ مُرِشَّةٍ
نَصِيرُكَ مِنْهَا رَنَّةٌ وَعَوِيلُ
أَغَرَّكُمُ طُولُ الْجُيُوشِ وَعَرْضُهَا
عَليٌّ شَرُوبٌ للجُيُوشِ أكُولُ
إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّيْثِ إِلَّا فَرِيسَةً
غَذَاهُ وَلَمْ يَنْفَعْكَ أَنَّكَ فِيلُ
إِذَا الطَّعْنُ لَمْ تُدْخِلْكَ فِيهِ شَجَاعةٌ
هِيَ الطَّعْنُ لَمْ يُدْخِلْكَ فِيهِ عَذُولُ
وَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أبْصَرْنَ صَوْلَة
فَقَدْ عَلَّمَ الْأَيَّام كَيْفَ تَصُولُ

وقد فرغ المتنبي من حديث الروم بهذا البيت، والتفت إلى أعداء سيف الدولة من ملوك المسلمين، ثم إلى أعدائه هُوَ من الشعراء المنافسين، ولكنَّا ندع ذلك الآن لنعود إِلَيْهِ بعد حين.

وكم كنت أريد أنْ أقف عند قصائد أخرى من هَذَا الشعر ربما كانت أقل من هذه القصيدة روعة وجمالًا، ولكن لها مكانها الرفيع من التفوق والامتياز، لا بين شعر المتنبي وحده، بل بين الشعر العربي كله أيضًا، ولكني قد أطلت فِي الحديث عن هَذَا الشعر الذي هُوَ خليق أنْ يفرد لدرسه كتاب خاص.

وأنا أحب على كل حال أنْ تقرأ فِي مثل هَذَا التدبر والتحليل من هَذَا الشعر القصائد التي أولها:

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ المَكَارمُ

•••

أَرَاعَ كَذَا كُلَّ الْأَنَامِ هُمَامُ
وَسَحَّ لَهُ رُسْلَ المُلُوكِ غَمَامُ

•••

ذِي الْمَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى
هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا

•••

الرأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشجْعَانِ
هُوَ أَوَّلٌ وَهْيَ الْمَحَلُّ الثانِي

(٨) تعريض المتنبي بأعداء سيف الدولة من أصحاب السلطان

وللمتنبي فِي سيف الدولة شعر لم يُعنَ به الذين درسوا الشَّاعِر وديوانه حق العناية إلى الآن، مع أنه — فيما أعتقد — خليق بالعناية كلها؛ لأن له أثرًا عظيمًا جدًّا فيما سيستقبل المتنبي من الحياة فِي مصر والعراق.

والشرَّاح والنقاد معذورون فِي إهمالهم لهذا الشعر؛ لأنه لم يستقل بقصيدة من القصائد، ولا بمقطوعة من المقطوعات، وإنما جاء عرضًا فِي قصائد المدح والوصف لما كان من جهاد سيف الدولة لعدوه من الروم، أو للثائرين عليه من العرب، وهو الشعر الذي عرض فيه المتنبي بأصحاب السلطان فِي مصر والعراق تعريضًا خفيًّا مرة، وواضحًا يكاد يبلغ التصريح مرة أخرى، وخطر هَذَا الشعر يأتى من أنه يُعيننا على أنْ نفهم ما لقيه المتنبي فِي مصر من الإعراض، وما انتهى إِلَيْهِ من الإخفاق، وما اضطر إِلَيْهِ آخر الأمر من الهرب — كما يعيننا — على أنْ نفهم ما لقى المتنبي من الفتور فِي العراق، ثم من العداوة الصارخة فِي بغداد خاصة، ولست أزعم أني أستطيع أنْ أوضح أمر هَذَا الشعر كما أحب وكما ينبغي أن يتضح، ولكني أكتفي بالإشارة إِلَيْهِ والدلالة على بعضه، وأرجو أنْ يسمح الوقت لي أو لغيري باستئناف الحديث فيه، والرجوع به إلى أصوله القريبة والبعيدة من مصادر التاريخ.

وقد رأيت فِي حديثنا عما قال المتنبي من الشعر لسيف الدولة، حين ثار به الثائرون من القرامطة، ثم من رعيته البدو، أنه لم يكن يمتنع عن التعريض بالذين كانوا يؤلبون هؤلاء الثائرين أو يغرونهم من بعيد، وهؤلاء المؤلبون كما يمكن أنْ يكونوا من عمال سيف الدولة نفسه يمكن أنْ يكونوا من أهل العراق أو من عمال المصريين فِي جنوب الشام، على أنَّ تعريض المتنبي بهؤلاء الكائدين فِي ذلك الشعر لم يكن واضحًا كله، ومن شعر المتنبي ما هُوَ أوضح منه وأظهر وأدنى إلى التصريح الذي لا يحتمل شكًّا ولا لبسًا.

ويخيل إليَّ أنَّ المتنبي قد دُفع إلى هَذَا بدافعين: أحدهما أنه حين كان يمدح سيف الدولة ويعجب بمضائه وحسن بلائه، لم يكن يملك نفسه أنْ يعيب أولئك الملوك الآخرين الذين ينعمون بالحياة واللين، وسعة الملك، وضخامة الثروة، فِي غير مشقةٍ ولا جهدٍ، والآخر أنَّ سيف الدولة نفسه كان يظهر على بعض ما يدبر له من الكيد فِي العراق أو فِي مصر، وكان الأمر يفسد أو يدنو من الفساد بينه وبين بغداد أو الفسطاط، فيُغري شاعره بأن يمس هذه الناحية من نواحي السياسة الإسلامية، لينذر أو يعذر أو يغيظ.

وقد نستطيع أنْ نعد من هَذَا الشعر قصيدتين قالهما المتنبي يمدح بهما سيف الدولة حين فسد الأمر بين أخيه ناصر الدولة فِي الموصل وبين مُعز الدولة البويهي فِي بغداد.

ولكن الشَّاعِر فِي هاتين القصيدتين لم يكن واضح التعريض، وإنما آثر التعميم، واكتفى بالمدح الذي يُظهر البأس والقوة، ولا يُحرج مادحًا أو ممدوحًا، كما أنَّ سيف الدولة نفسه أظهر الاستعداد لنصر أخيه دون أنْ يزحف بجيشه نحو الموصل، فكأن الأمر لم يزد فِي هذه المرة على أنْ يكون وعيدًا من بعيد، ولكن هناك مواقف أخرى لا يحتمل الأمر فيها شكًّا ولا مراء.

فلننظر قبل كل شيء إلى أول ما عمد إِلَيْهِ المتنبي من التعريض حين فسد الأمر بين ناصر الدولة وبين معز الدولة البغدادي، فاقرأ هذه الأبيات، فسترى المتنبي يصور فيها اضطراب الأمر فِي الموصل، وما أدى إِلَيْهِ ذلك من وحشةٍ في حلب ومن فساد العلاقة بينها وبين بغداد، ثم ينتقل من هَذَا التصوير إلى التهديد والوعيد:

عَلَى الفُرَاتِ أَعَاصِير وَفِي حَلَبٍ
تَوَحُّشٌ لِمُلَقَّى النَّصْرِ مُقْتَبَلِ
تَتْلُو أَسِنَّتُهُ الْكُتْبَ التِي نَفَذَتْ
وَيَجْعَلُ الْخَيْلَ أَبْدَالًا مِنَ الرُّسُلِ
يَلْقَى الْمُلُوكَ فَلَا يَلْقَى سِوَى جَزَرٍ
وَمَا أَعَدُّوا فَلَا يَلْقَى سِوَى نَفَلِ

وسيف الدولة مصانع للخليفة، مكبر لسلطانه مع ذلك لا يريد أنْ يؤذيه ولا أنْ يُظهر خروجًا عليه، فيقول المتنبي فِي تصوير ذلك هَذَا البيت:

صَانَ الخَلِيفَةُ بِالْأَبْطَالِ مُهْجَتَهُ
صِيَانَةَ الذَّكَرِ الْهِنْدِي بِالْخِلَلِ

وانظر إلى هذه الأبيات الثلاثة التي يعود فيها المتنبي إلى الوعيد، ويعلن أنَّ الأمير عالمٌ بما يُكاد وما يُراد فِي عاصمة الخلافة:

يَنَالُ أَبْعَدَ مِنْهَا وَهْيَ نَاظِرَةٌ
فَمَا تُقَابِلُهُ إِلَّا عَلَى وَجَلِ
قَدْ عَرَّضَ السَّيْفَ دُونَ النازِلَاتِ بِهِ
وَظَاهَرَ الْحَزْم بَيْنَ النَّفْسِ وَالْغِيَلِ
وَوَكل الظَّنَّ بِالْأَسْرَارِ فَانْكَشَفَتْ
لَهُ ضَمَائِرُ أَهْلِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ

وكأن إذاعة الأخبار بأن سيف الدولة يريد أنْ يزحف لنصر أخيه لا تكفي فِي إنذار بغداد ورفع الضغط عن الموصل، فيظهر سيف الدولة أنه آخذٌ فِي الزحف، ويطلب إلى المتنبي أنْ يصحبه ويتقدَّم إليه، سرًّا فِي أكبر الظن، أنْ يقول فِي ذلك شعرًا، فيقول المتنبي قصيدة أخرى تأتي فيها هذه الأبيات:

وَلَهُ وَإِنْ وَهَبَ الْمُلُوكُ مَوَاهِبٌ
دَرُّ المُلُوكِ لِدَرِّهَا أَغْبَارُ
لِلهِ قَلْبُكَ مَا تَخَافُ مِنَ الرَّدَى
وَيخَافُ أَنْ يَدْنُو إِلَيْكَ الْعَارُ
وَتَحِيدُ عَنْ طَبَعِ الْخَلَائِقِ كُلهِ
وَيَحيدُ عَنْكَ الْجَحْفَلُ الجَرَّارُ
يَامَنْ يَعِزُّ عَلَى الْأَعِزَّةِ جَارُهُ
وَيَذِلُّ مِنْ سَطَوَاتِهِ الْجَبَّارُ

وكأن وعيد سيف الدولة هَذَا قد انتهى إلى غايته، فصلح الأمر بين الموصل وبغداد.

ولما نهض سيف الدولة لقتال الروم، وأتم بناء مرعش، مدحه المتنبي، ببائيته المعروفة، ولكنه ختم هذه البائية بأبيات لا يُعرض فيها بمنافسيه من ملوك الإسلام، وإنما يصرح بذمهم تصريحًا، ويسبهم فِي غير احتياط، ويخص المصريين بشيء قاسٍ من الذم، وذلك حيث يقول:

كَفَى عَجَبًا أَنْ يَعْجَبَ الناسُ أَنهُ
بَنَى مَرْعَشًا تَبًّا لِآرَائِهِمْ تَبَّا
وَمَا الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْأَنَامِ وَبَيْنَهُ
إِذَا حَذِرَ الْمَحْذُورَ وَاسْتَصْعَبَ الصَّعْبَا
لِأَمرٍ أَعَدَّتْهُ الْخِلَافَةُ لِلْعدى
وَسَمَّتْهُ دُونَ الْعَالَمِ الصَّارِم الْعَضْبَا
وَلَمْ تَفْتَرِقْ عَنْهُ الْأَسِنَّةُ رَحْمَةً
وَلَم تَتْرُكِ الشَّأَمَ الْأَعَادِي لَهُ حُبَّا
وَلَكِنْ نَفَاهَا عَنْهُ غَيْرَ كَرِيمَةٍ
كَرِيمَ الثَّنَا مَا سُبَّ قَطٌّ وَلَا سَبَّا
وَجَيْشٌ يُثَنِّي كُلَّ طَوْدٍ كَأَنَّهُ
خَرِيقُ رِيَاحٍ وَاجَهَتْ غُصُنًا رَطْبَا
كَأَنَّ نُجُومَ اللَّيْلِ خَافَتْ مُغَارهُ
فَمَدَّتْ عَلَيْهَا مِنْ عَجَاجَتِهِ حُجْبَا
فَمَنْ كَانَ يُرْضِي اللُّؤْمَ وَالْكُفْرَ مُلْكُهُ
فَهَذَا الَّذِي يُرْضِي الْمَكَارِمَ وَالرَِّبا

فهو كما ترى يسب الذين أكبروا من سيف الدولة بناءه مرعش، وهو كما ترى أَيْضًا مُصانع للخلافة، لا يعرض لصاحبها بأذى، ولكنه يصارح المصريين بالعداء، فيعلن أنهم لم يتركوا ما تركوا من الشام لسيف الدولة كرامةً ولا حبًّا، وإنما نفاهم عنها نفيًا، ثم يختم القصيدة ببيت ما أرى إلا أنه قصد به إلى معز الدولة، فرماه بأنه يقيم ملكه على اللؤم والكفر، على حين يقيم سيف الدولة ملكه على ابتغاء مرضاة الله.

فإذا كانت سنة اثنتين وأربعين، وقال المتنبي لاميته الرائعة التي أطلنا الحديث عنها فِي الفصل الماضي، عرض لمنافسي سيف الدولة بهذين البيتين اللذين كان لهما أبعد الأثر فِي حياة المتنبي من الناحية السياسية والأدبية جميعًا، وهما قوله:

فَدَتْكَ مُلُوكٌ لَمْ تُسَمَّ مَوَاضِيًا
فَإِنَّكَ مَاضِي الشفْرَتَيْنِ صَقِيلُ
إِذَا كَانَ بَعْضُ الناسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ
فَفِي الناسِ بُوقَاتٌ لهَا وَطُبُولُ

ومعز الدولة وحده هُوَ المَعْنِي بهذيْن البيتين، ما أشك فِي ذلك، فهو قد لُقِّب بلقب يضاف إلى الدولة، ولكنه ليس ماضيًا ولا عضبًا، وإنما هُوَ لفظٌ ضخم لا يُغني شيئًا، والبيت الثاني صريحٌ فِي ذلك، فقد جعل المتنبي أمير حلب سيفًا للدولة يحميها ويذود عنها، على حين أنَّ منافسه فِي بغداد لا يزيد على أنْ يعلن عن الدولة أو عن نفسه بالبوقات والطبول.

وقد كان أثر هَذَا البيت عميقًا جدًّا فِي الشرق الإسلامي كله، وفي بغداد خاصة فقد ذُكر هَذَا البيت حين وصل المتنبي إلى بغداد فِي آخر حياته، وعيب عليه فيها وفي غيرها من بلاد الشرق الإسلامي، وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد عابه الصاحب بن عباد.

والغريب أنَّ النقاد الأدباء مضوا مع أصحاب السياسة فِي إنكار هَذَا البيت فعابوه، مع أني لا أعرف هجاء أقذع ولا أوجع، ولا سهمًا أنفذ، من هَذَا البيت الذي هُوَ عندي من روائع المتنبي.

وفي هذه السنة نفسها عاد المتنبي إلى هَذَا النحو من الكلام، ولكنه خالف ما كان قد مضى عليه من رأي وسُنة، بأمر سيف الدولة فِي أكبر الظن، فقد كان المتنبي إلى الآن يوقر الخليفة ولا يعرض له بالسوء، فأما فِي هذه القصيدة التي أنشدها سيف الدولة، فِي ميدان حلب عند عرض الجيش، وهما على فرسيهما، مهنئًا له بعيد الأضحى، فإنه يهاجم الخليفة تصريحًا لا تلميحًا، ويرسل إِلَيْهِ نذيرًا لا لبس فيه، وذلك حيث يقول:

فَوَا عَجَبًا مِنْ دَائِل أَنْتَ سَيْفُهُ
أَمَا يَتَوَقَّى شَفْرَتَيْ مَا تَقَلَّدَا
وَمَنْ يَجْعَلِ الضرْغَامَ لِلصَّيْدِ بَازَهُ
تَصَيَّدَهُ الضِّرْغَامُ فِيمَا تَصَيَّدَا
رَأَيْتُكَ مَحْضَ الْحِلْمِ فِي مَحْضِ قُدْرَةٍ
وَلَوْ شِئْتَ كَانَ الْحِلْمُ مِنْكَ مُهَنَّدَا
وَمَا قَتل الْأَحْرَار كَالْعَفوِ عَنْهُمُ
وَمَنْ لَكَ بِالْحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ الْيَدَا
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيم مَلَكْتَهُ
وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا
وَوَضْعُ النَّدى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلَا
مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
وَلَكِنْ تَفُوقُ النَّاسَ رَأْيًا وَحِكْمَةً
كَمَا فُقْتَهُمْ حَالًا وَنَفسًا وَمحْتِدَا
يَدِقُّ عَلَى الْأَفْكَارِ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ
فَيُتْرَكُ مَا يخفَى وَيُؤْخَذُ مَابَدَا

فهو كما ترى صريح لا يُعَرِّض ولا يُوَرِّي، وإنما يسخر من الخليفة الذي يتقلد سيفًا يوشك أنْ يقتله، ويرسل للصيد جارحًا يوشك أنْ يصيده، وهو يغري سيف الدولة بهؤلاء الذين عفا عنهم فأبطرهم العفو، وأمهلهم فغرهم الإمهال، واصطنع معهم الحلم فظنوه عجزًا، وآثرهم بالكرامة فتلقوه باللؤم والجحود، وهو يعجب من أناة سيف الدولة وحلمه، ويحذره مع ذلك عاقبة ذلك الحلم وهذه الأناة، ويثق برأيه آخر الأمر فِي كلام يملؤه الوعيد.

وبعد أنْ أنشد هذه القصيدة بوقت قصير فِي سنة ثلاث وأربعين بالضبط، أدخل سفراء الروم على سيف الدولة، وأنشده المتنبي رائيته التي ذكرناها آنفًا، وقال فيها هذين البيتين:

قَدِ اسْتَرَاحَتْ إلى وَقْتٍ رِقَابُهُمُ
مِنَ السُّيُوفِ وَبَاقِي الْقَوْمِ يَنْتَظِرُ
وَقَدْ تَبَدَّلها بِالْقَوْمِ غَيْرَهُمُ
لِكَيْ تَجِمَّ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَالْقَصَرُ

فلمن هذه الرقاب التي أينعت وحان قطافها، ويوشك سيف الدولة أنْ يكون صاحبها أثناء إبقائه على الروم؟ أهي رقاب أهل بغداد؟ أهي رقاب أهل الفسطاط؟ أم هي رقاب الكلابيين الذين ثاروا بسيف الدولة وأدَّبهم فِي هَذَا العام نفسه؟

وفي آخر قصيدة أنشدها المتنبي بحلب قال هذه الأبيات التي لا شك فِي أنه لم يُرد بها إلا أهل العراق:

أَلْهَى المَمَالِكَ عَنْ فَخْرٍ قَفَلْتَ بِهِ
شُرْبُ المُدَامَةِ وَالْأَوْتَارُ وَالنَّغَمُ
مُقَلَّدًا فَوْقَ شُكْرِ اللهِ ذَا شُطَبٍ
لَا تُسْتَدَام بِأَمْضَى مِنْهُمَا النَّعَمُ
أَلْقَتْ إِلَيْكَ دِمَاءُ الرُّومِ طَاعَتَهَا
فَلَوْ دَعَوْتَ بِلَا ضَرْب أَجَابَ دَمُ

ثم خرج المتنبي من حلب مغاضبًا، وأقام عند كافور ما أقام وعاد إلى العراق، واستأنف سيف الدولة بره به وعطفه عليه، فأنفذ إِلَيْهِ هدية، وشكر المتنبي هذه الهدية فِي لاميته المشهورة التي قال فيها مُعَرِّضًا ومصرحًا وغير حافل بمكانه من العراق وقربه من أولي الأمر فِي بغداد:

لَيْسَ إِلَّاكَ يَا عَلِيُّ هُمَامٌ
سَيْفُهُ دُونَ عِرْضِهِ مَسْلُولُ
كَيْفَ لَا تَأْمَنُ الْعِرَاقُ وَمِصْرٌ
وَسَرَايَاكَ دُونَهَا وَالْخُيُولُ
لَوْ تَحَرَّفْتَ عَنْ طَرِيقِ الْأَعَادِي
رَبَطَ السِّدْرُ خَيْلَهُمْ وَالنَّخِيلُ
وَدَرَى مَنْ أَعَزَّهُ الدفْعُ عَنْهُ
فِيهِمَا أَنه الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ
أَنْتَ طُولَ الْحَيَاة لِلرُّومِ غَازٍ
فَمَتَى الْوَعْدُ أَنْ يَكُونَ الْقُفُولُ
وَسِوَى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُومٌ
فَعَلَى أَيِّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ
قَعَدَ الناسُ كُلُّهُمْ عَنْ مَسَاعِيـ
ـكَ وَقَامَتْ بِهَا الْقَنَا وَالنُّصُولُ
مَا الذِي عِنْدَهُ تُدَارُ المَنَايَا
كَالذِي عِنْدَهُ تُدَارُ الشَّمُولُ

وهذا البيت الأخير سهم صائب قد أرسل مباشرة إلى صدر صاحب الأمر فِي بغداد.

وفي آخر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة تلقى المتنبي من سيف الدولة كتابًا بخطه يسأله المسير إليه، فأرسل إِلَيْهِ بائيته المشهورة، وقال فِي آخرها:

أَرَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ المُشْرِكِيـ
ـنَ إِمَّا لِعَجْزٍ وَإِمَّا رَهَبْ
وَأَنْتَ مَعَ اللهِ فِي جَانِبٍ
قَلِيلُ الرقَادِ كَثِيرُ التعَبْ
كَأَنكَ وَحْدَكَ وَحَّدْتَهُ
وَدَانَ الْبَرِيَّةُ بِابْنٍ وَأَبْ
فَلَيْتَ سُيُوفَكَ فِي حَاسِدٍ
إِذَا مَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ كَئِبْ
وَلَيْتَ شَكَاتَكَ فِي جِسْمِهِ
وَلَيْتَكَ تَجْزِي بِبُغْضٍ وَحُبْ

فهو كما ترى يكاد يقصر الإسلام على سيف الدولة لكثرة ما يجاهد الروم فِي سبيله، ويكاد يرمي المسلمين المنافسين له بالنصرانية لكثرة ما قصروا عن هَذَا الجهاد، ومَنْ عسى أنْ يكون هَذَا الحاسد الذي يعرض به المتنبي ولا يسميه؟ أتراه يقصد إلى كافور، أم إلى معز الدولة؟

والغريب أنه يُنفذ هذه القصيدة إلى صديقه القديم فِي الوقت الذي يتهيأ فيه ليمعن فِي الشرق الإسلامي زائرًا لابن العميد، ثم لعضد الدولة.

ومهما يكن من شيء فقد يكشف التاريخ لنا يومًا عما كان لهذا الشعر السياسي من أثر فِي علاقات هؤلاء الأمراء من المسلمين، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هُوَ أننا نعرف ما كان له من أثر فِي حياة المتنبي نفسه حين قصد إلى كافور، وحين لجأ إلى العراق.

(٩) شعر المتنبي في فراغ سيف الدولة

وفن آخر قال فيه المتنبي لسيف الدولة شعرًا كثيرًا، ولكني أمر به دون أنْ أقف عنده؛ لأنه فيما أرى لا يكاد يستأهل عنايةً أو درسًا، وهو عندي أسخف ما قال المتنبي لسيف الدولة من شعرٍ، وهو قد قال مثله للأمراء الذين اتصل بهم وعاش فِي ظلهم، وقد رأيت أطرافًا مما قال من ذلك لعلي بن إبراهيم التنوخي، ولبدر بن عمار وللأمير الإخشيدي، ولأبي العشائر، وهو هَذَا الشعر الذي ينزل فيه الشَّاعِر عن كرامته دائمًا، وعن مروءته أحيانًا، ويبيع فيه فنه لمولاه بيعًا دنيئًا، أريد به شعر المناسبات الذي يقوله الشَّاعِر مدفوعًا إِلَيْهِ بالتملق مرة، وبالخوف مرة أخرى، وبالمناسبة مرة ثالثة، وبالطاعة مرة رابعة، وعلى هَذَا النحو.

وكان الأمراء فِي هَذَا العصر قساة على شعرائهم — فيما يظهر — ويكلفونهم ما يطيقون وما لا يطيقون، ينتظرون منهم المدح حين ينشطون له، وحين يفترون عنه، ويريدونهم على أنْ يقولوا لهم الشعر فيما يستحق وما لا يستحق أنْ يقال الشعر فيه.

وكان الشعراء طيعين مذعنين أذلة، يدفعهم إلى ذلك الرغب والرهب جميعًا وقد رأيت كيف أبطأ المتنبي عن مدح الإخشيدي الشاب، فعاتبه فِي هَذَا الإبطاء، واضطر الشَّاعِر البائس إلى الاعتذار، وكذلك فعل سيف الدولة، فاستبطأ مدح شاعره حينًا، وتعلل عليه أحيانًا، واقترح عليه غير مرة موضوعات يقول فيها الشعر ارتجالًا، منها القيم، ومنها السخيف، وكان المتنبي البائس يذعن للأمر فيوفق مرة، ويخطئه التوفيق مرات، فهذا بيت للعباس بن الأحنف يطلب منه أنْ يُجيزه، وهذا بيت آخر للعباس الصولي يطلب منه أنْ يجيزه أيضًا، وهذا المؤذن يدعو إلى الصلاة فيدرك الأمير وفي يده الكأس، ولا بد للمتنبي من أنْ يقول فِي ذلك شعرًا وإلا سبقه غيره من الشعراء المنافسين إلى رضا الأمير وحبائه، وهذا سحاب يسقط والأمير فِي بعض أسفاره، فلا بد للمتنبي من أنْ يفضِّل سيب الأمير على فيض السحاب، وهذه خيمة الأمير تعصف بها الريح فتسقط فيتشاءم الأمير، ويتحدث بذلك الناس، ولا بد للمتنبي من أنْ يعتذر عن هذه الخيمة البائسة التي عصفت بها الريح، ومن أنْ يتأذَّن للأمير بأن هذه الحادثة آية من الله تؤذن بنصره القريب، واعتراف من الخيمة بأن شخص الأمير أضخم وأعظم وأرفع من أنْ تظلله الخيام.

والأمير مريض، فيجب أنْ يرثى الشَّاعِر له ويشفق عليه، ويتمنى له الشفاء، وقد شفى الأمير، فيجب أنْ يهنئه الشَّاعِر ويتمنى له مزيدًا من العافية وفضلًا من طول البقاء.

وقد قلت: إني لا أحفل بهذا الشعر ولا أطيل عنده الوقوف، ولكني أحب مع ذلك أنْ أنبه من يقرأ شعر المتنبي ويدرس حياته، إلى أنَّ لهذا الشعر السخيف خطرًا عظيمًا من ناحيتين:
  • الأولى: الناحية الفنية الخالصة، فأكثر هَذَا الشعر كان يُرتجل ارتجالًا، ولا يتهيأ الشَّاعِر له ولا يعنى به، وهو من هذه الجهة يصور طبع الشَّاعِر كما هُوَ دون أنْ يعمل فيه الاحتفال لقول الشعر، والتهيؤ لنظم القصيد.

    وكان طبع المتنبي، كما يصوره هَذَا الشعر الذي قاله لسيف الدولة ولغيره، سمحًا سهلًا خصبًا، يواتي صاحبه فِي غير مشقة، وقد يغمره حَتَّى يشرف به على الغرق، وليس من شك فِي أنَّ المتنبي لم يحتفظ من فيض هَذَا الطبع الخصب إلا بأقله، وترك أكثره يذهب به الزمان.

    كان طبع المتنبي خصبًا، ولكنه لم يكن صافيًا دائمًا، وكان ذوق المتنبي حسنًا، ولكن بشرط أنْ يتهيأ للنقد ويشفق من الناقدين، فأما إذا أرسل الشَّاعِر نفسه على سجيتها، فقد كان شعره يتدفَّع تدفُّع السيل ويحمل كثيرًا من الفساد.

  • والناحية الثانية: أنَّ هَذَا الشعر كان موضوع التنافس بين الشعراء والتسابق بين الندماء، كلهم يريد أنْ يكثر منه ويجيد فيه ليظفر بما يحرص عليه من رضا الأمير ونائله، وكان أعظمهم حظًّا من هَذَا الظفر، محسدًا بما ينال من الرضا والمال، وكان المتنبي من غير شك أخصب الشعراء الذين لزموا سيف الدولة، وأغزرهم مادة، وأسرعهم بديهة، وأسبقهم إلى عطف الأمير ومثوبته، فإذا أضفنا إلى هَذَا تفوقه الذي لا شك فيه حين كان يُلقي قصائده الرسمية فِي الحفل، لم يصعب علينا أنْ نفهم ما أحاط بالمتنبي منذ اتصل بسيف الدولة من كيد ومكر وحسد، نغص عليه حياته فِي كثير من الأوقات، وعرَّض صلته مع سيف الدولة للخطر يومًا ما، ثم عرض حياة المتنبي نفسها للخطر حينًا، ثم انتهى بما لم يكن بُدٌّ من الانتهاء إليه، وهو القطيعة بين الشَّاعِر والأمير.

(١٠) عتاب وفراق

وليس العجيب، وقد عرفت ما كان بين سيف الدولة والمتنبي من صلة، أثناء هذه الأعوام الطوال التي اصطحبا فيها، أنْ تفسد حياة المتنبي عند الأمير من حين إلى حين، وإنما العجيب أنْ تسلم وتستقيم وتبرأ من الاضطراب والفساد، وقد رأيت أنَّ المتنبي لم يأمن حسد الحساد حين اتصل بالتنوخيين فِي شبابه، فاضطر إلى أنَّ يدافع عن نفسه، ورأيت كذلك أنه لم يأمن الحسد والكيد عند بدر، فاضطر إلى الهرب والفرار، ورأيت أَيْضًا أنه لم يأمن من الكيد والدس عند أبي العشائر، ولكنه ثبت للكائدين والدساسين وأخذهم بالقوة والحزم، وظهر عليهم حَتَّى اتصل بسيف الدولة.

وهذا يفسر ما قدمناه من أنه لم يُلق بنفسه على أمين حلب إلقاء، وإنما سعى إِلَيْهِ راغبًا فيه، محتاطًا منه فلما أنشده ميميته المعروفة لم يتهالك فيها، وإنما وقف موقف الحذر المعتز بنفسه، وأقدم إقدام المهاجم لخصومه المخوف للذين لم يعرفوه بعد، حَتَّى إذا كاد ينتهي من قصيدته قال مهاجمًا للشعراء فِي غير ريث ولا مهمل ولا ظرف:

غَضِبْتُ لَهُ لَمَّا رَأَيْتُ صِفَاتِهِ
بِلَا وَاصِفٍ وَالشعْرُ تَهْذِي طَمَاطِمُهْ
وَكُنْتُ إِذَا يَممتُ أَرْضًا بَعِيدَةً
سَرَيْتُ فَكُنْتُ السِّرَّ وَالليْلُ كَاتِمُهْ

فهو إذن قد دخل القصر على أصحاب سيف الدولة غازيًا لا ضيفًا، واتصل بحاشية الأمير مخاصمًا لا مسالمًا.

والرواة يقولون — كما عرفت — إنه اشترط لنفسه قبل أنْ يلزم الأمير، وأنَّ الأمير قبل شروطه، ثم لم يلبث أنَّ ملك قلب الأمير واستأثر بحبه ومودته، فليس غريبًا أن تكره حاشية الأمير، ولا سيما الشعراء والأدباء من بينها، مقدم الشَّاعِر وما صحبه من تهجم واستعلاء، وليس غريبًا أنْ تضيق بالشاعر أشد الضيق حين ترى أنَّ شعره يقع من الأمير موقعًا حسنًا، ثم تُبغضه أشد البغض حين ترى الأمير يؤثره أشد الإيثار، وهي مكرهة على أنْ تُظهر الصمت عن هَذَا الشَّاعِر الوقح الذي يسوءها فِي نفسها وفي مكانتها من صاحب القصر، ثم يستأثر من دونها بالحظوة، ثم يرتفع عنها فيما يمنح الأمير من الجوائز والعطاء، ثم يلزم الأمير بعد ذلك لزوم الظل حين يظعن وحين يقيم، ثم هُوَ بعد هذا كله لا يزداد إلا طموحًا وجموحًا، وإلا علوًّا واستكبارًا، وكلما أحس حب الأمير له وتقريبه إياه ازداد ازدراؤه لغيره، واحتقاره لكل من سواه، ثم هُوَ لا يكاد يقول شعرًا حَتَّى يمتلئ به غرورًا وكبرًا، ولا يدع لشعره أنْ يرفع نفسه على الشعر كله، وأنْ يرفع صاحبه على الشعراء جميعًا، وإنما يرفع شعره ونفسه بهذا البيت وذاك، يدسه فِي هذه القصيدة أو تلك، وهو لا يكتفي برفع نفسه والفخر بها، ولكنه لا يرفع نفسه إلا جدَّ فِي وضع غيره، ولا يحمد إلا ذم شعر الشعراء الآخرين.

وهو كما عرفت لم يستطع أنْ يقيم عند بدر إلا أشهرًا ثم انهزم للكائدين، ولم يطل مقامه عند أبي العشائر، ولم تظهر نتيجة الخصومة بينه وبين أعدائه عند هَذَا الأمير قبل أنْ يتصل بسيف الدولة، وكان من الجائز ألا تطول إقامته عند سيف الدولة، وأنْ يفسد الأمر عليه بعد عام أو عامين بتأثير هذه الأخلاق والخصال التي قدمناها، وما تستتبع من الكيد له والتألب عليه، ولكنه أقام عامًا وعامًا وعامًا ثالثًا، والحاشية تنكره وتضيق به، وتبغضه وتكيد له، وهو ثابت لا يتزعزع، ومستقر لا يزول، والأمير يرفعه ويدني منه مكانه، ويؤثره على غيره من الشعراء والندماء، فلا تزداد الحاشية إلا ضيقًا به وكيدًا له، حَتَّى إذا كانت الموقعة التي انتصر فيها سيف الدولة انتصارًا باهرًا أول الأمر، وانهزم فيها آخر الأمر انهزامًا منكرًا، قال المتنبي عينيته التي يعزي بها الأمير وينذر بها الروم، وكان شديد الوطأة على الجند الذين تفرقوا عن الأمير وانهزموا للروم، فقد وصفهم بالضعف بالجبن والذلة، واستيأس منهم أو كاد يستيئس، وأيأس الأمير منهم أو كاد يوئسه.

وليس من شك فِي أنَّ كثيرًا من الأشراف الذين انهزموا فِي تلك المعركة لم يقع من أنفسهم ما قاله المتنبي موقعًا حسنًا، فأنكروه وكرهوه، وانتهز أعداء المتنبي وحساده هذه الفرصة، فسعوا به، وألبوا عليه، وكثر كلام الناس فِي المتنبي، واجترأ بعض الشعراء على أنْ يجاهره بالعداوة بعد أنْ كان يُسر له البغضاء ويدبر له الكيد.

ولسنا نعرف تفصيل ما حدث من هَذَا كله، ولكنا نلاحظ أنَّ المتنبي حين، هنأ سيف الدولة بأخذ الثأر من الروم وانتصاره عليهم سنة أربعين وثلاثمائة يقول فِي داليته المشهورة:

خَليلَيَّ إِني لَا أَرَى غَيْرَ شَاعِرٍ
فَكَمْ مِنْهُمُ الدَّعْوَى ومِني الْقَصَائِدُ
فَلَا تَعجَبَا إنَّ السيُوفَ كَثِيرَةٌ
وَلكِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْيَوْمَ وَاحِدُ

فهناك إذن شعراء يدعون الشعر ويكاثرون فيه المتنبي، والمتنبي يصوب إليهم هَذَا السهم النافذ، فيرى أنه الشاعر، وأنهم الأدعياء، ويرى أنَّ قصائده هي الشعر، وأنَّ جهود غيره لا تتجاوز أنْ تكون دعوى لا طائل تحتها، فكما أنَّ السيوف كثيرة، ولكن سيف الدولة واحد، هُوَ الأمير، فالناظمون كثيرون، ولكن الشَّاعِر واحد، هُوَ المتنبي.

ثم يمضي المتنبي فِي مدح الأمير، ولكنه يعود إلى هؤلاء الحساد والكائدين فيقول:

أُحِبُّكَ يَا شَمْسَ الزمَانِ وَبَدْرَهُ
وَإِنْ لَامَنِي فِيكَ السُّهَا وَالْفَرَاقِدُ
وَذَاكَ لِأَنَّ الْفَضْلَ عِنْدَكَ بَاهِرٌ
وَلَيْسَ لأنَّ الْعَيْشَ عِنْدَكَ بَارِدُ
فَإِنَّ قَلِيلَ الْحُبِّ بِالْعَقْل صَالِحٌ
وَإِنَّ كَثِيرَ الْحُب بِالْجَهْلِ فَاسِدُ

فهو فِي البيتين الأولين من هذه الأبيات الثلاثة يعرض لسيف الدولة فِي لباقة وظرف، بأن أمراء غيرَه يلومونه فِي الانقطاع لصاحب حلب، ومنهم مرتفع القدر ومعتدله، ولكنه لا يحفل بلوم هؤلاء الأمراء، ولا يستجيب لإغرائهم، لا إيثارًا لما يمنحه الأمير من لين العيش وخفضه، بل إكبارًا لفضل الأمير ومجده وتفوقه على غيره من الأمراء.

أما البيت الثالث، ففيه إنذار لخصومه والساعين به عند الأمير، وإنذار للأمير نفسه؛ لأن هؤلاء الذين يظهرون الغلو في حب الأمير والتهالك عليه، قد يحتاجون إلى كثير من العقل؛ لأن غلوهم وتهالكهم ربما أساء إلى الأمير، على حين أنَّ الاعتدال في الحب مع العقل والنصح، خير كله.

ومعنى هَذَا أنَّ خصوم المتنبي لم يكتفوا بالجهر بعداوته، ولكنهم سعوا عند الأمير، وكأن الأمير قد أخذ يسمع لهم، أو كأنهم قد أمَّلوا فِي الأمير أنْ يميل إليهم، فالمتنبي يصارح خصومه بالعداوة، ويعرض للأمير بالنذير تعريضًا، ولسنا ندري ماذا حدث بعد ذلك ولكنا نرى الرواة يتحدثون بأن خصوم المتنبي قد اجترءوا على مجاهرة الأمير بالنعي عليه والطعن فيه، حَتَّى أنكر أبو فرَّاس أنْ يعطيه الأمير ثلاثة آلاف دينار في كل عام أجرًا على ثلاث قصائد.

ويظهر أنَّ المتنبي قد أحس انصراف الأمير عنه وتقريبه لبعض خصومه، فأراد أنْ يجزي إعراضًا بإعراضٍ، وأبطأ فِي مدح الأمير، ثم أنكر الأمير منه هَذَا الإبطاء، فلم ينشط للمدح ونشط غيره للكيد، ثم أظهر الأمير غضبه فأعرض عن المتنبي ذات يوم بمحضر من الناس، وعاد المتنبي خجلًا كئيبًا قد أسقط فِي يده، وأراد أنْ يستدرك أمره فأرسل إلى الأمير هذه الأبيات:

أَرَى ذَلِكَ الْقُرْبَ صَارَ ازْوِرَارَا
وَصَارَ طَوِيلُ السلَامِ اخْتِصَارَا
تَرَكْتَنيَ الْيَوْمَ فِي خَجْلَةٍ
أَمُوتُ مِرَارًا وَأَحْيَا مِرَارَا
أُسَارِقُكَ اللَّحْظَ مُسْتَحْيِيًا
وَأَزْجُرُ فِي الْخَيْلِ مُهْرِي سِرَارَا
وَأَعْلَمُ أَنِّي إِذَا مَا اعْتَذَرْتُ
إِلَيْكَ أَرَادَ اعْتِذَارِي اعْتِذَارَا
كَفَرْتُ مَكَارِمَكَ الْبَاهِرَا
تِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنِّي اخْتِيَارَا
وَلَكِنْ حَمَى الشِّعْرَ إِلَّا الْقَلِيـ
ـلَ هَمٌّ حَمَى الْنَّوْمَ إِلَّا غِرَارَا
وَمَا أَنَا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ
وَلَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارَا
فَلَا تُلْزِمَنِّي ذُنُوبَ الزَّمَانِ
إِلَيَّ أَسَاءَ وَإِيَّايَ ضَارَا
وَعِنْدِي لَكَ الشُّرَّدُ السَّائِرَا
تُ لَا يَخْتَصِصْنَ مِنَ الْأَرْضِ دَارَا
قَوَافٍ إِذَا سِرْنَ عَنْ مِقْوَلِي
وَثَبْنَ الْجِبَالَ وَخُضْنَ الْبِحَارَا
وَلِي فِيكَ مَا لَمْ يَقُلْ قَائِلٌ
وَمَا لَمْ يَسِرْ قَمَرٌ حَيْثُ سَارَا

… إلخ إلخ.

فالشاعر كما ترى يسجل إعراض الأمير عنه وغضبه عليه، ثم يعترف بالذنب، ثم يعتذر منه، مؤكدًا أنه لم يتعمده، وإنما اضطرته إِلَيْهِ هموم حالت بينه وبين النوم، ولم يثر هُوَ هذه الهموم، ولم يَدْعُها إلى نفسه، وإنما صبها عليه الزمان، وهذه الهموم من غير شك لم يُثرها فِي نفس المتنبي إلا خصومه الذين سعوا به عند الأمير فأفسدوا عليه قلبه، وأفسدوا عليه القصر، ولعلهم أفسدوا عليه البيئة كلها فِي حلب.

ثم يتحدث المتنبي إلى الأمير بأنه لم يقل فيه كل ما يجب أنْ يقال، وبأن عنده له شعرًا جيدًا كثيرًا، ثم تثوب إلى الشَّاعِر عزته بعض الشيء، فيذكر الأمير بما قال فيه من شعر سار حيث لم يستطع القمر أنْ يسير، ثم يتم الأبيات مادحًا مستعطفًا، ولكن الأمير — فيما يظهر — لم يقبل منه ولم يعطف عليه، وأدار المتنبي أمره فلم يرَ إلا أنْ يفجأ خصومه ويلقاهم وجهًا لوجه، ويسترد قلب الأمير عنوة واقتدارًا، فيسعى ذات يوم إلى القصر ويُنشد الأمير بمحضر من خصومه جميعًا، وعلى رأسهم أبو فراس، ميميته الرائعة الخالدة التي أولها:

وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ سَقَمُ

وكلام القدماء والمحدثين فِي هذه القصيدة أكثر وأغرز وأشد اختلافًا وتنوعًا من أنْ نقول فيها، فلن نأتي بجديد، ولكنَّا نلاحظ مسرعين أنَّ المتنبي قد وفق فيها لحظٍّ لا بأس به من الإجادة الفنية، سلك طريق ابن الرومي فألح فِي العتاب حَتَّى كاد يبلغ الهجاء، وأسرف فِي المدح ليصلح ما أفسد بالعتاب، فكان يجرح بيد ويأسو بأخرى، ولم يقصر الأمر على ما بينه وبين سيف الدولة، وإنما تجاوزه كما كان المقام يقتضي إلى السعاة والوشاة والحاسدين والكائدين، فصارحهم بالشر مرة، وعرض لهم بالنكر مرة أخرى.

ولست فِي حاجة إلى أنْ أروي أو ألخص القصة التي تحدث القدماء بها عن الإنشاد، وما كان من ثبات المتنبي لهذا كله وإعراضه عن هؤلاء الخصوم ومضيه فِي الإنشاد، وسيف الدولة يسمع معرضًا مطرقًا حَتَّى أتم قصيدته وانصرف.

وليس من شك فِي أنَّ هذه القصة قد ألفت تأليفًا فِي وقت متأخر، ولكنها على كل حال تعطي ظلًّا لما كان فِي مجلس سيف الدولة حين أنشدت هذه القصة.

والشيء الذي لا شك فيه أَيْضًا هُوَ أنَّ المتنبي إنْ وفق لإرضاء الفن فِي هذه القصيدة فقد أخطأه التوفيق لإرضاء سيف الدولة، ولعله غاظ سيف الدولة أكثر مما أرضاه، ولا سيما حين أنذر بأنه قد يرتحل إلى مصر فِي البيت الذي سار مسير الأمثال:

لَئِنْ تَرَكْنَ ضمَيْرًا عَنْ مَيَامِنِنَا
لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعْتُهُم نَدَمُ

ومهما يكن من شيء فقد اضطرب المجلس لإنشاد هذه القصيدة، واشتد غضب الحاشية حَتَّى انتهى إلى أقصاه حين رأت موجدة الأمير على هَذَا الشَّاعِر الذي أراد العتاب فتحدى، ورغب فِي الاستعطاف فانتهى إلى الوعيد والنذير، وقد خرج المتنبي من هَذَا المجلس آمنًا كالخائف، وخائفًا كالآمن، وترك وراءه بغضًا وغيظًا وحنقًا، ويحدثنا الديوان بأن كاتبًا من كُتاب الأمير، عراقيًّا، استأذن الأمير فِي أن يسعى فِي ذم الشاعر، فرخَّص له الأمير فِي ذلك، وانتهى ذلك إلى المتنبي فقال يهجوه:

أَسَامَرِيُّ ضُحْكَةَ كُلِّ رَاءٍ
فَطِنْتَ وَكُنْتَ أَغْبَى الْأَغْبِيَاءِ
صَغُرْتَ عَنِ الْمَدِيحِ فَقُلْتَ أُهْجَى
كَأَنَّكَ مَا صَغُرْتَ عَنِ الهِجَاءِ
وَمَا فَكَّرْتُ قَبْلَكَ فِي مُحَالٍ
وَلَا جَرَّبْتُ سَيْفِي فِي هَبَاءِ

على أنَّ الأمر لم يكن — فيما يظهر — من اليسر بحيث ظن المتنبي، فقد تعرضت حياته للخطر حقًّا، وكيف لا تتعرض حياته للخطر وهو قد ملأ القلوب غيظًا وحفيظة، وعرَّض بالإشراف من حاشية الأمير، وعلى رأسهم أبو فراس ومكانه من الأمير مكانه! ثم لم يكتفِ بذلك، بل أنذر الأمير نفسه بالتحول عنه إلى عدوه من المصريين، وكانت أخت أبي فراس عند أبي العشائر الذي حمى المتنبي حين جاءه لاجئًا إِلَيْهِ عائذًا به، وقدمه إلى سيف الدولة ففتح له بابًا إلى الأمل ثم إلى النعيم.

ولم يكن المتنبي حسن الوفاء لأبي العشائر؛ فهو لم يكد يتصل بسيف الدولة حَتَّى أعرض عن غيره من الناس، ونسى أبا العشائر نسيانًا تامًّا، فلم يذكره ولم يُشر إليه، وكان الرجل خليقًا أنْ يلقى من صنيعته بعض الشكر على ما قدم إِلَيْهِ من إحسان، فكان هَذَا كله ميسرًا لشيء من الحلف الذي تم بين أبي العشائر وأبي فراس وأصحابه على قتل المتنبي غيلة إذا لم يكن من اليسير قتله جهرة فِي غير ذنب واضح يبيح دم رجل من المسلمين.

وكذلك تعرض المتنبي ذات ليلة فِي ظاهر حلب لجماعة من الغلمان أرصدهم أبو العشائر ليقتلوه، ولكنه أحسن الدفاع عن نفسه ثم نجا، وكأنه لجأ إلى صديق له من ذوي المكانة فِي حلب فأجاره وأخفاه، وجعل يسعى له فِي العفو عند الأمير، وجعل المتنبي نفسه — وقد ثاب إِلَيْهِ رشده وسكت عنه الغضب — يُعِين مجيره على السعي له فِي العفو، فقال هذه الأبيات يعتب فيها على أبي العشائر ويصالحه:

وَمُنْتَسِبٍ عِنْدِي إلى مَنْ أُحِبُّهُ
وَلِلنَّبْلِ حَوْلِي مِنْ يَدَيْهِ حَفِيفُ
فَهَيَّجَ مِنْ شَوْقِي وَمَا مِنْ مَذَلَّةٍ
حَنَنْتُ وَلَكِنَّ الْكَرِيم أَلُوفُ
وَكُلُّ وِدَادٍ لَا يَدُومُ عَلَى الْأَذَى
دَوَامَ وِدادِي لِلْحُسَيْنِ ضَعِيفُ
فَإِنْ يَكُنِ الْفِعْلُ الذِي سَاءَ وَاحِدًا
فَأَفْعَالُهُ اللَّائِي سَرَرْنَ أُلُوفُ
وَنَفْسي لَهُ نَفْسِي الْفِدَاء لِنَفْسِهِ
وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِينَ عَنِيفُ
فَإِنْ كَانَ يَبْغِي قَتْلَهَا يَكُ قَاتِلًا
بِكَفيْهِ فَالْقَتْلُ الشَّرِيفُ شَرِيفُ

وكأن سيف الدولة أظهر استعدادًا حسنًا للعفو عن الشَّاعِر إذا اعتذر من ذنبه وتاب جهرة من خطيئته، فلم يتردد المتنبي فِي أنْ يجهر بالاعتذار ويعلن التوبة، فقال هذه الأبيات:

أَلَا مَا لِسَيْفِ الدوْلَةِ الْيَوْمَ عَاتِبَا
فَدَاهُ الْوَرَى أَمْضَى السيُوفِ مَضَارِبَا
وَمَالِي إِذَا مَا اشْتَقْتُ أَبْصَرْتُ دُونَهُ
تَنَائِفَ لَا أَشْتَاقُهَا وَسَبَاسِبَا
وَقَدْ كَانَ يُدْنِي مَجْلِسِي مِنْ سَمَائِهِ
أحادِثُ فِيهَا بَدْرَهَا وَالْكَوَاكِبَا
حَنَانَيْكَ مَسْئُولًا وَلَبَّيْكَ دَاعِيًا
وَحَسْبِيَ مَوْهُوبًا وَحَسْبُكَ وَاهِبَا
أَهَذَا جَزَاءُ الصدْقِ إِنْ كُنْتُ صَادِقًا
أَهَذَا جَزَاءُ الْكِذْبِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبَا
وَإِنْ كَانَ ذَنْبِي كُل ذَنْبٍ فَإِنهُ
مَحَا الذنْبَ كُلَّ الْمَحْوِ مَنْ جَاءَ تَائِبَا

وقد عفا الأمير عن شاعره، فكف عنه خصومه، وآمنه على حياته، وأذن له فِي العودة إلى القصر، فلما عاد المتنبي للقاء الأمير أحسن أهل القصر استقباله، فخلعوا عليه وهيئوه للدخول على الأمير تهيئة حسنة، ثم أدخل على الأمير، فتلقاه لقاء فيه العطف والبر والمودة، وأعاد المتنبي اعتذاره، وأعلن الأمير عفوه، وخرج الشَّاعِر من القصر تتبعه الهدايا والصلات، ثم عاد بعد حين فأنشد الأمير لاميته التي أولها:

أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الداعِي سِوَى طَلَلِ
دَعَا فَلَبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْب وَالْإِبِلِ

ولا أقف عند هذه القصيدة، فهي لا تعجبني وإنْ أعجبت المعاصرين وأرضت سيف الدولة كل الرضا، إنما أروي هَذَا البيت السخيف السمج الذي تعمده المتنبي تعمدًا ليغيظ خصومه، ويُظهر براعته من جهة، وابتهاجه بعودته إلى أرض الأمير من جهة أخرى:

أَقِلْ آنِلْ أَقْطِع احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أَعِدْ
زِدْ هَش بَش تَفَضَّلْ أدْنِ سُر صِلِ

وقد أعجب الناس بهذه القصيدة حين أنشدت، وطرب لها سيف الدولة، فأجزل عطاء الشَّاعِر لهذا الفوز حَتَّى كاد يخرج عن طوره، فقال المتنبي معجبًا تياهًا مسرفًا فِي تحدي خصومه:

إِنَّ هَذَا الشِّعْرَ فِي الشِّعْرِ مَلَكْ
سَارَ فَهْوَ الشمْسُ وَالدنْيَا فَلَكْ
عَدَلَ الرَّحْمَنُ فِيهِ بَيْنَنَا
فَقَضَى بِاللفْظِ لِي وَالْحَمْد لَكْ
فَإِذَا مَرَّ بِأذنيْ حَاسِدٍ
صَارَ مِمَّنْ كَانَ حَيًّا فَهَلَكْ

على أنَّ المتنبي قد غلا فِي الثقة، وأسرف فِي ازدراء الخصوم، وتجاوز الحد فِي حسن الظن بالأيام، فلم تَطردْ حياته حلوة آمنة عند سيف الدولة، وما هي إلا أشهر حَتَّى عاد الكيد له سيرته الأولى، وكثر الطعن فيه واللهج به، واضطر إلى أنْ يدافع عن نفسه، ويهاجم حساده فِي أكثر ما قال لسيف الدولة من القصائد.

ولسنا نروي كل ما قال من ذلك، ولكنا نروي منه نماذج، ففي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة يقول فِي اللامية التي أفضنا فِي ذكرها آنفًا:

أَنَا السابِقُ الْهَادِي إلى مَا أَقُولُهُ
إِذِ الْقَوْلُ قَبْلَ الْقَائِلِينَ مَقُولُ
وَمَا لِكَلَامِ الناسِ فِيمَا يُرِيبُنِي
أُصُولٌ وَلَا لِلْقَائِلِيهِ أُصُولُ
أعَادَى عَلَى ما يُوجِبُ الْحُبَّ لِلْفَتَى
وَأَهْدَأُ وَالْأَفْكَارُ فِيَّ تَجُولُ
سِوَى وَجَعِ الْحُسَّادِ دَاوٍ فَإِنهُ
إِذَا حَلَّ فِي قَلْبٍ فَلَيْسَ يَحُولُ
وَلَا تَطْمَعَنْ مِنْ حَاسِدٍ فِي مَوَدَّةٍ
وَإِنْ كُنْتَ تُبْدِيهَا لَهُ وَتنيلُ

وفي هذه السنة نفسها يقول فِي داليته المشهورة التي هنأ بها الأمير بعيد الأضحى:

أَزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عَنِّي بكبتهمْ
فَأَنْتَ الذِي صَيرْتَهُمْ لِيَ حُسَّدَا
إِذَا شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ رَأْيَكَ فِيهِمُ
ضَرَبْتُ بِسَيْفٍ يَقْطَعُ الْهَامَ مُغمَدَا
وَمَا أَنَا إِلَّا سَمْهَرِيٌّ حَمَلْتَهُ
فزَيَّنَ مَعْرُوضًا وَرَاعَ مُسَدَّدَا
وَمَاالدهْرُ إِلَّا مِنْ رُوَاةِ قَصَائِدي
إِذَا قُلْت شِعْرًا أصْبَحَ النَّهرُ مُنْشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لَا يَسِيرُ مُشَمِّرًا
وَغَنَّى بِهِ مَنْ لَا يُغَنِّي مُغَرِّدَا
أجِزْنَى إِذَا أُنْشِدْتَ شِعْرًا فَإِنَّمَا
بِشِعْرِي أتَاكَ الْمَادِحُونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرَ صَوْتِي فَإِنَّنِي
أَنَا الطَّائِرُ المَحْكِيُّ وَالْآخَرُ الصدَى
تَرَكْتُ السُّرَى خَلْفِي لمَنْ قَلَّ مَالُهُ
وَأَنْعَلْتُ أَفْرَاسِي بِنُعْمَاكَ عَسْجَدَا
وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً
وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا
إِذَا سَأَلَ الْإِنْسَانُ أَيَّامَهُ الْغِنَى
وَكُنْتَ عَلَى بُعْدٍ جَعَلْنَكَ مَوْعِدَا

فالمتنبي إذن ماض فِي استطالته على الشعراء واستعلائه على الخصوم، لا يصطنع فِي ذلك رفقًا ولا أناة ولا تواضعًا، وأعداؤه ماضون فِي الكيد له والوقيعة به، يصطنعون فِي ذلك من المهارة ما لا يصطنع، يُخفون الكيد حين يرون إقبال الأمير على شاعره، ويظهرونه حين يحسون من الأمير مللًا أو فتورًا.

فإذا أنشد المتنبي فِي أوائل سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة بعد انصراف السفراء لاميته المشهورة، قال فيها:

أَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْنِي شُوَيْعِرٌ
ضَعِيفٌ يُقَاوِينِي قَصِيرٌ يُطَاوِلُ
لِسَانِي بِنُطْقِي صَامِتٌ عَنْهُ عَادِلٌ
وَقَلْبِي بِصَمْتِي ضَاحِكٌ مِنْهُ هَازِلُ
وَأَتْعَبُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجيبُهُ
وَأغيَظُ مَنْ عَادَاكَ مَنْ لَا تُشَاكِلُ
وَمَا التِّيهُ طِبِّي فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِي
بَغِيضٌ إِلَيَّ الْجَاهِلُ المُتَعَاقِلُ
وَأَكْبَرُ تِيهِي أَنَّنِي بِكَ وَاثِقٌ
وَأَكْثَرُ مَا لِي أَنَّنِي لَكَ آمِلُ
لَعَلَّ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْقَرْمِ هَبَّةً
يَعِيشُ بِهَا حَقٌّ وَيَهلِكُ بَاطِلُ
رَمَيْتُ عِدَاهُ بِالْقَوَافِي وَفَضْلِهِ
وَهُنَّ الْغَوَازِي السالِمَاتُ الْقَوَاتِلُ

وواضح جدًّا أنَّ صدر المتنبي قد ضاق بخصومه كل الضيق، فهو يعلن ذلك ويضج به ويستعين على خصومه بالأمير، وفي هذه السنة نفسها يقول فِي ميميته المعروفة:

لَكَ الحَمْدُ فِي الدُّرِّ الذِي لِيَ لَفْظُهُ
فَإِنَّكَ مُعْطِيهِ وإِنِّي ناظمُ
وَإنِّي لَتَعْدُو بِي عَطَايَاكَ فِي الْوَغَى
فَلَا أَنَا مَذْمُومٌ وَلَا أَنْتَ نَادِمُ
عَلَى كُلِّ طَيَّارٍ إِلَيْهَا بِرِجْلِهِ
إِذَا وَقَعَتْ فِي مِسْمَعَيْهِ الْغَمَاغِمُ

وقد مضى شأن المتنبي مع خصومه على هَذَا النحو فِي خطوب لا نعرف حقائقها، ولكنا نلمحها من هَذَا الشعر وأمثاله، حَتَّى كانت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وأنشد المتنبي سيف الدولة آخر ما أنشده من الشعر، وهي الميمية التي يقول فِي آخرها:

لَاتَطْلُبَنَّ كَرِيمًا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ
إِنَّ الْكِرَامَ بِأَسْخَاهُمْ يَدًا خُتِمُوا
وَلَا تُبَالِ بِشِعْرٍ بَعْدَ شَاعِرِهِ
قَدْ أُفْسِدَ الْقَوْلُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ

فكأن هَذَا البيت الأخير كان مؤذنًا بانقطاع الصلة بين الشَّاعِر وأميره، وقد ظهر خصوم المتنبي عليه فصرفوا عنه سيف الدولة، وتبين ذلك الشَّاعِر واضحًا جليًّا حين كانت الخصومة بينه وبين ابن خالويه فِي مجلس الأمير، فيخرج ابن خالويه مفتاحًا من كمه فيشج به الشَّاعِر حَتَّى يسيل دمه فيخضب وجهه، والأمير يرى فلا يقول ولا يصنع شيئًا، ويخرج المتنبي محزونًا منكسر النفس يكظم غيظًا عنيفًا ولا يستطيع أن يبين عنه مخافة أنْ تتكرر القصة التي مضت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، ويرى الشَّاعِر نفسه محصورًا فِي حلب أو معرضًا فيها للموت، فهو يعود إلى داره، وقد استيأس من الأمير وأزمع الرحيل عنه، ولكنه يتلطف فِي ذلك، فيمضي أيامًا فِي هدوء ودعة وإعداد لأمره سرًّا، ثم يستأذن فِي الذهاب إلى إقطاع له عند معرة النعمان، فيأذن له الأمير، وقد علم ما دُبر له وأراد أنْ يُخلي بينه وبين الطريق، أو جهل ما دُبر له وأراد أنْ يُريحه منه ويستريح حينًا، وهو ما أرجحه.

ويمضي المتنبي إلى إقطاعه فِي ظاهر الأمر، وقد أرسل إلى الأمير هذه الأبيات مبالغة فِي التلطف والحيلة:

أَيَا رَامِيًا يُصْمِي فُؤَادَ مَرَامِهِ
تُرَبِّي عِدَاهُ رِيشَهَا لِسِهَامِهِ
أَسِيرُ إلى إِقْطَاعِهِ فِي ثِيَابِهِ
عَلَى طِرْفِهِ مِنْ دَارِهِ بِحُسَامِهِ
وَمَا مَطَرَتْنِيهِ مِنَ الْبِيضِ وَالْقَنَا
وَرُومِ العِبِدى هَاطِلاتُ غمامِهِ
فَتًى يَهَبُ الْإِقْلِيمَ بِالْمَالِ وَالْقُرَى
وَمَنْ فِيهِ مِنْ فُرْسَانِهِ وَكِرَامِهِ
وَيَجْعَلُ مَا خوِّلْتُهُ مِنْ نَوَالِهِ
جَزَاءً لِمَا خُوِّلْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ
فَلَا زَالَت الشمْسُ الَّتِي فِي سَمَائِهِ
مُطَالِعَةَ الشمْسِ الَّتِي فِي لِثَامِهِ
وَلَا زَالَ تَجْتَازُ البُدُورُ بِوَجْهِهِ
فَتَعْجَبُ مِنْ نُقْصَانِهَا وَتَمَامِهِ

وينتهي المتنبي إلى إقطاعه، فلا يقيم فيه إلا ريثما يأمن من الطلب فِي أكبر الظن، ثم ينسلُّ منه ويمضي أمامه حَتَّى يخرج من حدود الحمدانيين، ويدخل أرض الإخشيديين، ويطمئن به المقام حينًا فِي دمشق، وإذا هُوَ قد ختم فصلًا آخر من فصول حياته، كان فيه النعيم كله، وكان فيه شيء غير قليل من البؤس والشقاء، وكان فيه مجده الفنيُّ حقًّا.

ومن الخطل أنْ نطيل القول أو أنْ نضيع الوقت فِي البحث عن هذه المسألة التي أثارها النقاد ومؤرخو الأدب: أيهما خلد ذكر صاحبه: سيف الدولة أم المتنبي؟ فلم يكن المتنبي مجهولًا ولا مغمورًا حين اتصل بسيف الدولة، ولم يكن سيف الدولة خاملًا ولا ضعيف الشأن حين عرف المتنبي، وإنما كانا كلا الرجلين قد فرض نفسه على معاصريه، ذلك بشعره، وهذا بسيفه، فكان لكل منهما أثر خالد فِي مجد صاحبه، وإنما أمْر المتنبي مع سيف الدولة كما قال عمرو بن معدى كرب:

وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ
نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرمَاح أَجَرَّتِ

غير أنَّ رماح سيف الدولة لم تجرَّ، وإنما أنطقت الشَّاعِر فنطق برائع الشعر وبارعه، وكسا أميره منه حللًا لا تفنى.

على أنَّ المهم هُوَ أنَّ هذين الصديقين اللذين فرَّق بينهما الكيد والحسد لم يتح لهما بعد الفراق سلو ولا عزاء، فقد كانت فِي نفس المتنبي حسرة لفراق سيف الدولة، سنرى بعض مظاهرها فِي شعره حين لجأ إلى كافور، وكانت فِي نفس سيف الدولة حسرة لفراق المتنبي، تظهر من اتصال الحديث فِي مجلسه عن الشاعر، ثم تظهر هذه الحسرة المشتركة من استئناف المودة بين الأمير وشاعره، بعد أنْ أخفق المتنبي فِي مصر وعاد إلى العراق، فهذا الأمير يستأنف البر به ويرسل إِلَيْهِ الهدايا، والشاعر يمدحه باللامية التي أولها:

مَا لَنَا كُلنُّا جَوٍ يَا رَسُولُ
أَنَا أَهْوَى وَقَلبُكَ المتبُولُ

ثم تموت أخت الأمير، فيرثيها الشَّاعِر بالبائية التي أولها:

يَا أُخْتَ خَيْرِ أَخٍ يَا بِنْتَ خَيْرِ أَبِ
كِنَايَةً بِهِمَا عَنْ أَشْرَفِ النَّسَبِ

ثم يشتد شوق الأمير إلى الشاعر، فيكتب إِلَيْهِ بخطه يستقدمه، ويهمّ المتنبي بالسفر إليه، ويُنفذ إِلَيْهِ بائيته التي أولها:

فَهِمْتُ الْكِتَابَ أَبَرَّ الْكُتُبْ
فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ الْعَرَبْ

ولكنه يقول فيها:

وَلَوْ عَاقَنِي غَيْرُ خَوْفِ الوُشاةِ
وَإِنَّ الْوِشَايَاتِ طُرْقُ الْكَذِبْ
وَتَكْثِيرِ قَوْمٍ وَتَقْلِيلِهِمْ
وَتَقْرِيبِهِمْ بَيْنَنَا وَالْخَبَبْ
وَقَدْ كَانَ يَنْصُرُهُم سَمْعُهُ
وَيَنْصُرُني قَلْبُهُ وَالْحَسَبْ
وَمَا قُلْتُ لِلْبَدْرِ أَنْتَ اللُّجَيْنُ
وَمَا قُلْتُ لِلشمْسِ أَنْتِ الذهَبْ
فَيَقْلَقَ مِنْهُ الْبَعِيدُ الْأَنَاةِ
وَيَغْضَبَ مِنْهُ الْبَطيءُ الْغَضَبْ
وَمَا لَاقَنِي بَلَدٌ بَعْدَكُمْ
وَلَا اعْتَضْتُ مِنْ رَبِّ نُعْمَايَ رَبْ
وَمَنْ رَكِبَ الثوْرَ بَعْدَ الْجَوَا
دِ أَنْكَرَ أَظْلَافَهُ وَالْغَبَبْ
وَمَا قِسْتُ كُلَّ مُلُوكِ الْبِلَادِ
فَدَعْ ذِكْرَ بَعْضٍ بمَنْ فِي حَلَبْ
وَلَوْ كُنْتُ سَمَّيْتُهُمْ بِاسْمِهِ
لَكَانَ الْحَدِيدَ وَكَانُوا الْخَشَبْ
أَفِي الرَّأْيِ يُشْبَهُ أَمْ فِي السَّخَا
ءِ أَمْ فِي الشَّجَاعةِ أَمْ فِي الْأَدَبْ

فالمتنبي إذن يهمُّ ولا يفعل، ويعزم ولا يُقدم، يدفعه إلى الأمير الحب والوفاء والطمع والرجاء، ويرده عنه خوف الوشاة والإشفاق من استئناف حياة يملؤها الحسد والكيد، وهو آخر الأمر لا يعود إلى الأمير، وإنما يرجئ ذلك إلى أن يشفي حاجة فِي نفسه، فيشفي هذه الحاجة، ثم يعترضه الموت قبل أنْ نعرف ما كان قد عزم عليه من الرجوع إلى الأمير أو الاستقرار فِي العراق.

والغريب أنَّ افتراق هذين الصديقين كان شرًّا عليهما جميعًا، فلم يوفق المتنبي فِي حياته العملية لرضا نفسه بعد فراق سيف الدولة، ولم يوفق سيف الدولة فِي حياته السياسية بعد فراق المتنبي.

ألح الإخفاق على الشاعر، كما ألحت العلة والإخفاق على الأمير، فلندع سيرة الأمير للتاريخ والمؤرخين، ولنمض مع الشَّاعِر فِي هذه المرحلة الجديدة من مراحل حياته.

١  وأنا فِي الوقت نفسه أخالف صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام أشد الخلاف فيما ذهب إِلَيْهِ من تقديم هَذَا الفن من شعر المتنبي على الشعر القصصي القديم كله، فهذا غلو لا سبيل إلى قبوله مع ما هُوَ محقق من انقطاع أسباب الموازنة بين شعر المتنبي هَذَا وقصص الهند واليونان والرومان.
(راجع كتاب ذكرى أبي الطيب، للدكتور عبد الوهاب عزام.)
٢  قال النابغة:
إذا ما غزو بالجيشِ حلقَ فوقهمْ
عَصائبُ طَيرٍ تَهتَدي بعَصائبِ
يُصاحِبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغارَهم
مِنَ الضّارياتِ بالدِّماءِ الضوارب
تراهن خلفَ القوْم خُزْرًا عُيُونُها،
جُلوسَ الشيوخِ فِي ثيابِ المرانِبِ
جوَانِحَ قد أيْقَن أنَّ قَبِيلَهُ
إذا ما التقى الجمعانِ أول غالب
(انظر قصيدته المشهورة: كليني لهم يا أميمة ناصب.)
٣  قال أبو نواس:
تَتَأيا الطيْرُ غُدْوَتَهُ
ثِقَةً بِالشبعِ مِنْ جَزَرِهْ
(انظر قصيدته: أيها المنتاب من عفره.)
٤  الكامل للمبرد ص٢١ (طبع ليبزج).
٥  انظر: المتنبي، لمحمود أفندي شاكر (المقتطف ج١ مجلد ٨٨ ص١٣٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤