خوف

لم تشهد مدينة الفسطاط منذ أن دق عمرو بن العاص بها أطنابه كهذين الفارسين، وقد التفا بعباءتيهما السوداوين فزادا ظلمة الليل البهيم وحشة وإرهابًا، وخطا بهما جوادهما في حذر وخشية، فلم يكن يتردد من أنفاسهما إلا ما يتردد من همسات النسيم الوادع يهز أطراف الغصون. اخترق الفارسان خضم الظلام كأنهما شبحان من أشباح الظلام، لا تكاد تحس لهما حركة أو تسمع ركزًا، أو كأنهما تمثالان من صنع الفراعين الأولين سرت إليهما روح خافتة خامدة فبقيا على ما عهد فيهما من جمود إلا ما كان من يد تقبض على العنان، ورجل تثبت في الركاب. صمت وإطراق مخيفان حقًّا، وليل وهدوء مخيفان حقًّا، والهدوء في ذاته رفيق بالنفس، حبيب إليها، ولكنه إذا اقترن بالظلام كان مخيفًا، وكان مبعثًا للهواجس ومثارًا للخيال الجامح الذي يخلق ما شاء من صور، ويبتدع ما أراد من تهاويل. وخير لك ألف مرة إذا لفّك الليل في مكان موحش أن تسمع حولك صخبًا وضوضاء من أن تسمع هدوءًا وصمتًا، إذا صح أن الهدوء والصمت يسمعان؛ ذلك لأن الهدوء مظنة المفاجأة والاغتيال، وهل قتل الصيد إلا ذلك الهدوء الذي يتصنعه الصائد لينقض؟ وهل فتك القاتل بفريسته إلا بعد أن خدعها بجو من السكون الشامل؟ وهل يسرت الفطرة للحيوانات الضارية سبيل الفتك إلا بتلك الأقدام اللينة التي لا تحس إذا مست الثرى؟

سار الفارسان في صمت وإطراق، وظللهما الليل بصمته وإطراقه، فكان لا يُرى إلا سراج خافت هنا وهناك يلمع في نافذة، ولا يسمع إلا طنين بعوضة أتخمتها الدماء، فأرسلت صوتًا ضعيفًا متقطعًا، ولا يحس إلا رفيف خفاش عاد من بعض الحدائق بعد أن نال من ثمارها.

سار الفارسان هكذا صامتين جامدين فمرَّا بجامع العسكر، وكان أبو هلال السبكي مؤذن المسجد ينام فوق سطحه، واتفق أن أيقظه بعض الهوام، فبدرت منه التفاتة، فرأى الفارسين. وكان من بين كبار المخرفين يحتفظ إلى حفظه القرآن الكريم بثروة واسعة من أقاصيص الجن والشياطين، فما كاد يرى الفارسين حتى حملق وتمتم بكل ما وعى صدره من صنوف الاستعاذات والأدعية، فلما جاوزاه تنفس الصعداء، وأخذ يسكن رعدة هزّت أوصاله، ويحدث نفسه في همس لم تسمعه أذنه: أفارسان هما؟ لا. إنهما لم يكونا فارسين، أنا واثق بذلك ثقتي بوجود هذه المئذنة القائمة. وأنّى لفارسين أن يسيرا في هذا الليل الداجي، وفي ليلة يسكن فيها كل رجل إلى أهله ويهدأ ليستقل العيد مرحًا نشيطًا؟ إنهما لم يتحركا ولم يتهامسا فكيف يكونان رجلين؟ لقد رأيت بعينيّ شرارًا يتطاير من أعينهما، ورأيت بعيني أنهما كانا يركبان أسدين لا حصانين. نعم لقد كانا أسدين ما في ذلك شك. لقد سمعت زئيرهما بأذني. ولقد اتجه أحدهما ببصره إلى أعلى كأنه أحس بمكاني فأخفيت وجهي خلف شرفات المسجد.

ويْلي من هذه الأرواح الشريرة التي لا تدب إلا في حلك الظلام! وإلى أين كان يسير هذان الشيطانان؟ أغلب الظن أنهما لا ينتهيان إلى خير، أكان عليَّ أن أصيح بملء صوتي حتى أوقظ النوام لينقضّوا عليهما؟ لا. لو فعلت وتيقظ الناس لتسربا في الهواء، ولم يكن جزائي إلا أن أشتم وأرمى بالجنون. غدًا أقص على الناس هذا الخبر الرائع، وسيكون حديث العيد، وسوف ينالني شيء من الخير كلما قصصته على من لهم ولوع بمثل هذه الأخبار.

ابتعد الفارسان عن جامع العسكر فمال أحدهما على صاحبه وقال هامسًا: كيف نجتاز الباب الشرقي يا أبا الطيب؟

– هذا ما كنت أفكر فيه يا ابن يوسف، ومن العجيب أننا دبرنا كل شيء ولم يخطر ببال أحدنا أن الباب سيكون مغلقًا، وأن الحارس قد يكون شريرًا عنيفًا.

– لو كان الحارس شكسًا صخابًا لقُضي الأمر وكتبت علينا الخيبة.

– خل عنك اليأس يا ابن أخي، فإن من خصائص هذا الخنجر أنه يسكت الأصوات.

– لن ألوث يدي بدماء الأبرياء.

– إن من يقف في طريق عزيمتي لا يكون بريئًا. فابتسم صاحبه ابتسامة ضاعت في الظلام، وقال: أخشى أن أقف في طريق عزيمتك.

– لا تمزح يا خزاعي، فإنما نحن في جد عابس دميم. بم تشير إذا لم نقتل الرجل؟

– لقد اعتدت ألا أفكر في أمر إلا بعد أن أعرف ما يحيط به من شئون، وبعد أن ألتقي بصعابه وجهًا لوجه، فدعنا الآن من التفكير فلعل الله معقب فرجًا.

كان المتكلم عبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، وكان يخاطب صديقه وصفيه أحمد بن الحسين المتنبي، وقد عزم في تلك الليلة على الرحيل عن مصر والفرار من وجه كافور، بعد أن أقام أربع سنوات في ضيافة الأسود يمدحه بروائع الشعر، ويخلع عليه من صفات الجلال والبطولة ما يندر اجتماعه في إنسان. ولم يقصد كافورًا إلا بعد أن خدعه عمّاله، أو خدع هو نفسه بأنه سينال عنده الحظوة الكاملة، والمنزلة الرفيعة، وأنه سيوليه إمارة تسكت صائح طموحه، وتشفي غلة نفسه، وترفعه من وهدة الشعراء المجتدين، إلى قمة الملوك الحاكمين. فأقام بمصر يتزلف إلى الأسود ويتملقه؛ ويضفي عليه حللًا من الثناء لم ينسجها زهير لهرم بن سنان، ويثب بنسبه المجهول دفعة واحدة حتى يبلغ به ذروة معدّ بن عدنان. وقد أنفد الأسود حيله، فكان يستجديه ويسأله إنجاز وعده في لطف ووداعة، أو في خشونة وإلحاف. وكثيرًا ما كان ييأس فيثور على كافور وعلى نفسه وعلى الناس جميعًا، ويلعن الحظ العاثر الذي ساقه إلى مصر، وأوقعه بين براثن هذا الزنجي اللعين، ويبكي على أيام سيف الدولة وعلى سالف عهده بحلب، وما كان يتقلب فيه من نعيم في ظلال هذا العربي المجاهد الكريم الذي كان يفهم شعره، ويقدّر مكانته، وينزله بين سمعه وبصره، ولكنه بطر وأشر فلاقى جزاء البطر والأشر. سخط على الجنة التي كان ينعم فيها بوارف من العيش هنيء، فخرج منها مذءومًا شريدًا، فساقه النحس وقاده نكد الطالع إلى جحيم تأجج فيها الخلف والكذب والمطل والخديعة والرياء. إلى جحيم يرى فيها نفسه وهو العربي العزوف، والشريف الأنوف، الذي تصغر في عينه العظائم، ويرمي بعزيمته إلى أبعد مطارح الآمال، مدفوعًا إلى أن يقول للقرد: أنت آية الجمال، وللكلب: أنت العزة في تمثال، ولابن آوى أنت صفوة الصحاب، وللثعبان أنت ملح اللمى عذب الرضاب. وأن يقول لكافور:

أنت شمس أنت بدر
أنت نور فوق نور

إلى جحيم أحرق فيها آماله ومطامحه وعزته وشممه، وهدم فيها كل مجد بناه، وشرف أثّله وأعلاه، وأصبح من سوقة الناس شاعرًا مستجديًا بغيضًا، يرمي إليه العبد بفتات موائده، ويلزمه أن يقول بكل لقمة يزدردها بيتًا من الشعر في وصف آلائه الحسنى، وآيات عظمته الكبرى. إلى جحيم سلط فيها كافور عليه زبانيته ينتقصونه ويزدرونه ويتجسسون عليه، فلا ينطق بكلمة إلا وهي في كتاب، ولا يخطو خطوة إلا ولها عندهم حساب.

ضاق المتنبي بمصر واختنق بعد أن رأى أنه فقد فيها كل شيء، ولم يحصل على شيء. وبعد أن رأى شبابه يولي قبل أن يبلغ من الدنيا مأربًا، وغصن عوده يذوي وتسقط أوراقه جافة يابسة كما تسقط أوراق الخريف إذا عصفت بها الرياح، وبعد أن رأى الشر يلمع في عيني كافور، ورأى النمر يستجمع للوثوب، والصل الأسود يقترب منه رويدًا رويدًا ليقبله قبلة الوداع، وبعد أن تواترت إليه الأخبار بأن كافورًا ووزيريه ابن الفرات وأبا بكر بن صالح يعدون الفخ لاصطياد الطائر الطموح المغرور، وبعد أن جلس الجواسيس والعيون حيال داره لا يفارقونها في صباح أو مساء.

ضاق المتنبي بمصر واختنق حينما تنكر له أهلها، وناصبه العداء علماؤها، ومشى له الضراء شعراؤها، وأصبح شعره فيها سخرية في كل مجلس، ومتندرًا في كل سامر. ولو لم يخفف الله عنه هذه البلوى بحب عائشة بنت رشدين وصادق وفائها وحلو حديثها، وبإخلاص أخيها صالح وكريم حفاوته، وبمودة عبد العزيز الخزاعي، ورعاية إبراهيم العلوي، لبخع نفسه الحزن، ولقضى عليه الهم، ولذهبت نفسه في الهالكين. كان يحب عائشة، وكانت تحبه حبًّا عذريًّا قدسيًّا شريفًا يناغم عزتها وكرم أرومتها، ويساوق شرفه وأنفته. وكان يزور بيت أخيها بين الحين والحين، فيجد في حنوها الجنة والنعيم، وكثيرًا ما كان يضم المجلس الشريف إبراهيم العلوي والشاعر ابن أبي الجوع وشيخ العرب عبد العزيز الخزاعي.

وكان للمتنبي بصيص من أمل في أبي شجاع فاتك، وهو من كبار قواد دولة الإخشيد، ولكن الموت عاجله فأطفأ آخر وميض لمطامع الشاعر، وتركه مع كافور يتنازعان البقاء، ويتباريان في فنون الدهاء والرياء.

لم يبق إذًا لأبي الطيب عيش بمصر، ولم يبق له إلا أن يرحل وأن يرحل سريعًا، فقد ينطبق عليه الفخ في أية لحظة، وقد تنقضّ عليه الصاعقة وهو يتأمل في جمال الأفق. ولكن ماذا يصنع وقد نصب له الأسود الأرصاد، وبثّ خلفه العيون، وعقد العزم على أن يحتبسه بمصر وألا يدع له إلى الفرار سبيلًا؟ فقد كان العبد يخشى عاقبة فراره. وكان يخاف بعد أن أذاقه عذاب الهون بمصر أن ينطلق لسانه بهجائه إذا استدبر الفسطاط، وأن يجعل من اسمه سبة الأبد، وأضحوكة الأجيال.

ضاقت الدنيا في وجه المتنبي، ورأى أن حبل كافور أخذ يقترب من رقبته رويدًا رويدًا، فدبّر مع أصدقائه أن يفرّ من مصر ليلة عيد الأضحى من سنة خمسين وثلاثمائة، وأن يساعده على الفرار صديقه عبد العزيز الخزاعي، وأن يرحل ابنه وعبيده عن مصر قبل فراره بأيام.

وقد تمت المؤامرة ونفذت دون أن يخرم منها حرف، وتسلّل الشاعر في هذه الليلة من داره في صحبة صديقه الخزاعي بعد أن ترك تحت غطاء سريره ورقة كتب بها قصيدة في ذم كافور نفث فيها سمه، وشفى غليل صدره، ولطّخ كافورًا بهجاء مرّ مقذع يُمحي جلده الأسود ولا يُمحى، وتزول بشاعة وجهه ولا يزول، ورماه بسخرية لاذعة وكلم ممض أصغت إليه الآفاق، وتداولته الأزمان وتندّرت به الأجيال، وبقى بقاء الشمس، وترك للعبد ذكرًا خالدًا لو كان يطمع في مثل هذا الخلود. ولا يزال أبناؤنا وبناتنا وشبابنا وشيبنا ينصتون في شغف وشوق إلى:

عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟

فيضحكون ويطربون.

خرج المتنبي في هذه الليلة من الفسطاط فارًّا من وجه كافور ومعه صاحبه الخزاعي، فلما اقتربا من الباب الشرقي ألفيا عنده رجلًا ضخمًا مفرطًا في الطول، قوي العضل، موثق الخلق، كأنه صخرة نحتت على هيئة الرجال. ولم يكن فراج القوصي حارس الباب، ولكنه كان ينوب في هذه الليلة عن زوج أخته علقمة السباعي، الذي أراد أن يُرَفِّهَ عن نفسه ليلة العيد بالراحة وبعض اللهو، وكان فراج على قوة جسمه ضعيف العقل خامد الإدراك، ساذجًا إلى حد البلاهة، عنيفًا إلى حد الجنون، كأنه الهر المستوحش لا تراه إلا متنمرًا متوجسًا، نشأ في أعلى الصعيد ببلدة قوص نشأة جافية، بين جهل وبداوة وشظف في العيش، فلم تعطف عليه إلا بقليل من الإدراك لا يخرجه من نطاق الحيوان الأعجم إلا بشق الأنفس وبعد لأي وجهد. كان بقوص يرعى الماشية ويعيش معها: يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويسبح في النيل كما تسبح، وينام حيث تنام ويفهم لغتها وتفهم لغته، ولم يكن بينه وبينها من الفروق إلا أن هذا قائم يمشي على رجلين. وتلك متطامنة تمشي على أربع. وإن أحدًا لا يدري إلى الآن أمنها أخذ عقله أم منه أخذت عقلها؟ ولكن الناس كانوا يرون قطيع الجاموس وفيه فرَّاج فيظنونه مالًا سائبًا، وكانوا في أحيان قليلة يرون فراجًا وحده، فيعجبون كيف شرد هذا الحيوان عن القطيع، وكيف تُرك هكذا هملًا؟ وكان شباب القرية ومجَّانها كثيرًا ما يتندرون به ويهارشونه: جلسوا مساء يوم عند شاطئ النيل، وقد جاء ليسقي قطيعه ويشرب، فسأله خبيث منهم معاجزًا: كم عدد قطيعك يا فراج؟ فوقف ذاهلًا وقد فتح فاه، ثم بدا على وجهه الجد، وقال في تلعثم: عدد القطيع؟ وماذا أريد من عدد القطيع؟ إنه يأكل ويشرب وكفى.

– لو سرق سارق إحدى هذه الجواميس، أكنت تعرف إذا لم تعرف عددها؟

– أعرف كل شيء، والذي أعرفه أكثر وأكثر أن سارقًا لو جرؤ على أن يمد يده إلى جاموسة منها لشربت دمه شربًا. ثم نظر إلى سائله في سخرية وتحدٍّ، وقال: على أن عددها من أيسر الأمور وأهونها، فهذه واحدة، وهذه واحدة، وهذه واحدة …

– كم واحدة إذًا؟ فأسرع بعض الشبّان ساخرًا، وقال: الله سبحانه وتعالى أعلم، فالتقطها فراج في عجلة واغتباط كأنه ظفر بالقول الفصل والرأي القاطع، وصاح في جذل: الله سبحانه وتعالى أعلم.

طلب الخزاعي من فراج في رنة الآمر وعظمة الواثق أن يفتح الباب، فنظر إليه فراج وأخذ يصعّد فيه بصره ويصوّبه، ثم فتح الله عليه بكلمة فقذف بها في سرعة حتى لا ينساها، وقال: إني لست حارس الباب.

– من أنت إذًا؟

– أنا فراج. فعلم الخزاعي أن في الرجل بلاهة، وأن عليه أن يسير في الأمر على نحو لا ينفّر منه ضعاف العقول. فقال: أهلًا بفراج! أين المفتاح يا فراج؟

– ماذا تريد من المفتاح؟ إنه في هذه الكوة، ولكن علقمة أمرني ألا أفتح لأحد.

– صحيح، إن علقمة رجل أمين ذكي شديد الحذر، وقد عرف كيف يختار رجلًا مثلك أمينًا ذكيًّا شديد الحذر، غير أنه من المحقق أنه أمرك ألا تفتح لأحد يجيء من خارج المدينة، ثم يطرق الباب طالبًا الدخول إليها، فإن في ذلك خطرًا عظيمًا، إنها تكون مصيبة داهمة حقًّا أن يدخل المدينة عدو. ولكنه لا يعقل أن يأمرك بألا تفتح الباب لأي رجل يريد الخروج من المدينة، الخروج من المدينة يا فراج غير الدخول إليها، أين تسكن يا فراج؟

– أسكن في حارة الحمّالين بجانب الجبل.

– هل بحجرتك فيران؟

– كثير جدًّا.

– عظيم، أإذا أراد فأر في حجرتك أن يخرج منها إلى الحارة أكنت تأبى عليه أن يخرج؟ فابتسم فراج ابتسامة جعلت فمه يتصل بأذنيه كأنه فهم معضلة من أعقد مسائل الفلسفة، وقال: لا. يجب أن يخرج، إن الخير في أن يخرج.

– إنك رجل متوقِّد القريحة. وإذا أراد فأر جديد أن يدخل حجرتك فهل تسهّل له سبيل الدخول؟

– لا. أبدًا.

– هكذا نحن يا فراج. نحن سنخرج، وليس في ذلك أي حرج، ولا يمكن أن يكون علقمة نهاك عن أن تخرج أحدًا.

– إن كلامك صحيح معقول، ولكن يبقى أن علقمة أمرني ألا أفتح الباب، وهو لم يذكر دخولًا ولا خروجًا، ولكنك تجيء الآن فتربك عقلي بمسألة الدخول والخروج، وأظن الأحوط لي أن أثبت على أمر صاحبي، فاذهب عني بالله عليك فقد أتعبت عقلي بالحجرة والفيران، وبمشكلة الدخول والخروج، إن أمي حينما أرسلتني إلى الفسطاط لأشتغل بنقل الأحجار للدار التي بناها مولانا كافور، أمرتني أن أطيع علقمة وألا أخالف له أمرًا، فاذهب إلى شأنك يا رجل، وبعد قليل يؤذن الفجر، وينبسط النهار، ويجيء علقمة، وهو أعلم مني بمعنى الدخول والخروج.

فظهر الألم على وجه الخزاعي، ورمى بنظرة نحو فراج، ثم أرسلها نحو المتنبي، وكان في هذه النظرة كثير من العجب والدهش والحسرة، وكأنه على سرعة وميضها كانت تقول: أحياة هذه العبقرية الضخمة، وذلك النبوغ الخارق أصبحت معلقة بكلمة يقولها هذا الغرّ الأبله الذي لا يعقل ولا يبين؟ أذلك العقل الهبرزي، والذهن الوقّاد، رمى به نحس الطالع إلى أن يستجدي بسمة رضًا من هذا الحيوان الجاهل المعتوه؟ أليس من أضاحيك القدر ومبكياته، أن يقف المتنبي، وهو الفارس الكرّار، والبطل المغوار، الذي ملأ خياشيمه غبار الوقائع، ذليلًا مستعطفًا أمام ذلك الممرور الأحمق، والرعديد المائق؟ أليس من خرف الزمان، وجنون الأيام، أن يخضع الشعر، وتطأطئ الفلسفة، وتتضاءل الحكمة، ويذل المثل الشرود، لهذا الغبي العييِّ المأفون؟ أهذه تصاريف القدر التي يسمونها؟ أهذه أحكام الفلك الدوّار التي يجب أن نقتنع بها راضين أم ساخطين؟

وما كادت تعود إليه نظرته حتى همس المتنبي في أذنه قائلًا: دعني أقتله يا ابن يوسف.

– اصبر قليلًا فالأمر لا يستحق كل هذا، وليس هو من نوع الشرف الرفيع الذي يجب أن يراق على جوانبه الدم.

وما كاد يتم قولته حتى سمعت خطوات أخذت تقترب قليلًا قليلًا ظهر من ورائها رجل شعشاع يحمل في يده هرَاوة طويلة غليظة، ويلبس ثياب العسس. فأخذت قلب الخزاعي رعدة، وغاله ارتباك وذعر، ولكنه جمع إليه نفسه، وقال: وهذا أحد العسس يا فراج وهو يستطيع أن يفهم ما نقول. فاهتز العاسّ لهذا الثناء الضمني على ذكائه وعبقريته، وقال مبتسمًا: ما الأمر؟

– الأمر في غاية السهولة واليسر، أنت تعرف يا … يا … فأسرع العاس قائلًا: شماخ الأحول.

– أنت تعرف يا شماخ أن مولانا كافورًا أمر بضرب دنانير جديدة، وأمر أن يرسل قدر منها إلى عامله بالرملة ولا بد أنك تعرفه يا شماخ. فابتلع شماخ ريقه، ورأى من واجب العظمة والذكاء وكرامة المنصب أن يكون يعرفه، فقال: نعم … نعم … أعرفه.

– إنه الحسن بن طغج.

– نعم الحسن بن طغج بلا شك، إنه الحسن بن طغج.

– وأنت تعرف يا شماخ أمر عصابات اللصوص الذين تمتلئ بهم هذه المدينة. فهزّ شماخ رأسه مزهوًّا حين رأى انسياق الحديث إلى شأن يستطيع الكلام فيه، وقال: اللصوص يا سيدي؟ إنهم كثيرون منتشرون في أنحاء المدينة، وكبيرهم مسافر بن طلحة، وهم يا سيدي من قبائل القيسية، يضربون خيامهم بأهناس، وهي كورة إلى الجانب الآخر من النيل تقرب من الفسطاط، ولا تخلو ليلة من سرقة أو نهب أو غاراة. كنت أمرّ ليلة أمس بزقاق القناديل فرأيت باب إحدى الدور مفتوحًا، فعجبت للأمر، ودخلت الدار فلم أسمع بها حسًّا، فلما اقتربت من دهليزها رأيت رجلًا مكمومًا مكتوفًا ملقًى على الأرض، فتأملته فإذا هو إسحاق الجوهري اليهودي، وهو رجل شحيح جديب الكف جمّاع منّاع، لو عرَف أن فوق مناط الثريا درهمًا لطار إليه، وهو يعيش وحده في هذه الدار، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولا يؤنسه في وحشته إلا أكداس من المال والجواهر، فأسرعت بحل وثاقه وفك كمامته، وعلمت بعد جهد أن اللصوص سطوا على داره، وأخذوا كل ما فيها من جواهر وتركوه جثة خامدة بين الموت والحياة. إن سرقة كهذه يا سيدي لا يجرؤ عليها إلا مسافر ورجاله. وخاف الخزاعي أن يسترسل هذا الثرثار في الانطلاق في أقاصيص السرقات التي يكاد يخطئها العد، فقال: أراد مولانا كافور أن يرسل أكياسًا من الدنانير الجديدة إلى صاحب الرملة، ووكل إلينا السفر بها فكتمنا الأمر خوفًا من اللصوص، وعزمنا أن نسير خفية تحت جناح الليل حتى لا يشعر بنا أحد منهم، فيتعقبنا في طريق الصحراء مع بعض رجاله، ويغتصب منا ما نحمله.

– هذا رأي حازم يا سيدي، ونعم والله ما فعلت. هؤلاء اللصوص يا سيدي … وخاف الخزاعي أن يندفع الرجل إلى أحاديث اللصوص وأفاعيلهم، فأسرع ومد يده إليه بدينار، وقال: وهذا نوع الدنانير التي أخرجتها دار الضرب حديثًا. فوثب فراج وأخذ الدينار ونظر فيه، وقال هازئًا: وهذا درهم أصفر! فمد شماخ يده واختطف الدينار وحملق فيه بشره ونهم، وقال: تبًّا لك من أبله ممرور. إن الدرهم لا يكون أصفر أيها الجاهل. إن الدرهم من فضة، والفضة بيضاء، أما الدينار من ذهب، والذهب أصفر. أعرفت أيها الغبي؟ إنه دينار كافوري جديد، وهو يساوي في قيمته خمسة دنانير.

وحينما لمح الخزاعي الجشع في عيني شماخ لمح معه الفرصة المواتية، فقال: فإن هذا الدينار هبة خالصة لمن يسبق منكما إلى فتح الباب. وما كاد يفرغ من قوله حتى وثب شماخ إلى الكوّة، وأسرع فالتقط المفتاح وأدخله بغلق الباب وأداره فانفتح، ثم هزّ يده بالدينار وصاح: اخرجا أيها السيدان.

فأسرعا إلى الباب، وصاح الخزاعي جذلان فرحًا: لقد استحققت الدينار يا شماخ! هكذا الشهامة! وهكذا البطولة!

وبقي فراج ينظر إليهما مذهولًا دهشًا واجمًا، وهو لا يعرف ما جرى، ويستنجد عقله ليعرف أول الأمر وآخره فلا ينجده، ولم يبق في ذهنه من كل هذه المسألة المعقّدة إلا أن الدرهم يجب أن يكون أبيض، وأن الدينار يجب أن يكون أصفر.

وانطلق أبو الطيب والخزاعي كأنما أطلقا من عقال. وجعل المتنبي ينظر من بعيد إلى فراج وشماخ وينشد:

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
حولي بكل مكان منهم خلق
تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدًا إلى على غرر
ولا أمر بخلق غير مضطعن
ولا أعاشر من أملاكهم أحدًا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤