حيرة

أخذت تباشير الصباح تبدو في الشرق كأنها نهر من نور تتهامس أمواجه، ويتلألأ فوقها حبابه، وآذن زنجي الليل بالرحيل فطفق يقتطف أزهار النجوم، فلم يترك إلا واحدة بقيت في الأفق لمّاعة وهاجة خفاقة، كأنها ترتعد فرقًا من أن يغرقها سيل الصباح. وزجر الفارسان جواديهما فانطلقا مع الرياح كأنهما من الرياح، وانجردا كأنهما القضاء المنقضّ ليس له مرد ولا عنه محيد. وصبّا السوط عليهما ظالمين فانصبا كما ينصب السيل هدارًا عجاجًا لا يقف في طريقه شيء، ورميا بطرفيهما إلى البعيد فأصبح قريبًا، وكأنما أعدى عدوهما الأشجار والنخيل فعدت معهما إلى حيث يقصدان. وعجبت الطيور في السماء أن يكون منها طيور ذات قوائم، وعبس وجه الأفق بعد أن كاد غبارهما يسد معاطس الأفق، وشكت الأرض من ضرب سنابكهما المتلاحق، وظنت أنها تلاقي جزاء زلتها في أن ترضى بأن تكون أمًّا لهذا الإنسان الذي خلق من طين!

أشرقت الشمس على الفارسين كأنها قرص من الذهب النضار، وبعثت إلى الكون نورًا وحياة كعادتها في كل يوم، وهي لا تعرف ماذا يفعل الناس بالنور والحياة، ولا تعرف أن الحياة التي تمنحها فيها معنى الموت وفيها معنى الفناء، ولكن ما شأنها هي بمن يعيش أو بمن يموت؟ إنها سراج إلهي يستضيء به من أراد أن يستضيء، إنها تضيء للأعمى، وتضيء للبصير، وتشرق على البار والفاجر، ولكنها على أي حال خير من السحب البله التي تترك الرياض الظمأى، وتصب ماءها مدرارًا على الأراضي السبخة التي لا تخرج زرعًا ولا تنبت بقلًا، وهي خير ألف مرة من الحديد الذي يخدم الإنسان ويقتله.

وأشرقت الشمس على الفارسين فكفكفا من عناني فرسيهما بعد أن جاوزا الفسطاط بأميال، وبدت الزروع والكروم والنخيل يداعبها النسيم، فينفض عنها غشية النعاس، واستيقظت القرى والدساكر ودبّ فيها ضجيج الحياة، بين ترنيم الطيور، وصياح الدّيكة، وبين ثغاء وخوار ونباح. وكان كل شيء في الكون مشرقًا بسامًا، وكان كل شيء ضحوكًا مرحًا، وكان كل شيء يسطع بفطرته النقية على ما حوله فيزيده تألقًا وابتهاجًا، حب وسلام وجمال، هكذا خلق الكون ليكون، وهكذا يجب أن يكون، ولكن الإنسان المشئوم الشقي بنفسه ومطامعه، يقلب هذا الحب عداءً وشكاسةً، وهذا السلام حربًا وصراعًا، وهذا الجمال قبحًا ودمامة. كان كل شيء في الكون جميلًا مشرقًا إلا المتنبي، فإنه كان واجمًا عابسًا منتفخًا بالشرّ مشحونًا بالبغضاء، ناقمًا من الكون ومن كل من في الكون، يشكو ويهمهم:

أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم؟
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم؟
تشابهت البهائم والعبدّى
علينا والموالي والصميم
وما أدري أذا داء حديث
أصاب الناس أم داء قديم؟
كأن الأسود اللابيّ فيهم
غراب حوله رخم وبوم
أخذت بمدحه فرأيت لهوًا
مقالي للأحيمق: يا حليم
ولما أن هجوت رأيت عيًّا
مقالي لابن آوى: يا لئيم
فهل من عاذر في ذا وفي ذا
فمدفوع إلى السقم السقيم؟
إذا أتت الإساءة من وضيع
ولمْ أَلُم المسيء فمن ألوم؟

فالتفت إليه الخزاعي في ألم وحسرة قائلًا: هوّن عليك أبا الطيب، فإن نجاتك من الأسود حياة جديدة، ولا يزال في العمر مقتبل، ولا يزال لآمالك مسبح في هذا الكون المضطرب بالآمال، وإن مثلك من اتخذ من الإخفاق سلمًا، ومن الهبوط ذريعة إلى الصعود. والتجربة عقل ثان، وإن لك من شعرك ورصين خلقك وبعيد طموحك ما يغزو لك الدنيا ويذل الأمراء. انظر أبا الطيب، إنك لم تفقد شيئًا بل لقد ربحت كثيرًا، نزلت على كافور فتغفلته واستوليت على كثير من ماله، ثم فررت منه كما يفر الماء من خلال الأصابع، ثم أرسلت هجاءه في الآفاق تتناوح به الرياح، وتسير به الركبان، ويتغنّى به الصبيان، ويتنادر به السمّار، وسيبقى على الزمن أضحوكة الزمن، وأقسم غير حانث إن هجاءك لأشد على الأسود من وقع السهام في غبش الظلام، وإنه ليود بجدع الأنف لو تخلى عن بعض ملكه ولم يفوّق إليه شعرك المسموم قافية. لم تندب يا أبا الطيب؟ لقد ألقيت على أمراء هذا الزمان بهجائك كافورًا درسًا لن ينسوه، فإذا خسرت اليوم أميرًا فلقد كسبت أمراء، إنهم يعطون إذا رغبوا، ولكنهم إذا رهبوا أعطوا أكثر وأكثر، وهم يحبون المديح ويثيبون عليه، ولكنهم يبغضون الهجاء ويثيبون على دفعه عنهم أضعافًا وأضعافًا، وقد عرف ذلك قبلك اللئيم بشّار فكان يقول: إن الهجاء أجلب للمال وأرفع لقدر الشاعر من المديح. اذهب الآن أبا الطيب حيث شئت تجد كل أمير يسارع إلى لقائك، ويحتفل بمقدمك، ويقبّل الأرض بين يديك، ويفتح لك خزائن ملكه. وأكبر الظن أن سيف الدولة ينتفض منك الآن فرقًا، ومعز الدولة ببغداد يتحرّق لقدومك عليه شوقًا، وعضد الدولة بفارس يود لو يحملك إليه السحاب، أفق أبا الطيب ما هذا الحزن؟ وما هذا الوجود؟ إن من يراك يظن أنك فقدت عرشًا أو سُلبت سلطانًا، إنك تملك الكون كلّه بشعرك، إن الأرض كلها لك مغدى ومراح، وإن من كانت له عبقريتك وعزيمتك يجب أن يسمو فوق الأشخاص ويرتفع فوق الشهوات، ويطلّ على الناس من سماء مجده كوكبًا منيرًا.

– هذا كلام أشبه بالشعر يا ابن يوسف لا يثبت على النظر، ولا يقوى على البحث، فلقد فقدت بقدومي على العبد كل شيء: فقدت شبابي، وفقدت آمالي، وفقدت كرامتي، ودنّست اسمي بين الشعراء. إنني نشأت في أول أمري شاعرًا أقرض الشعر فيمن يستحق ومن لا يستحق، وكانت جوائزي لا تتجاوز بضعة دراهم، فلما منحت مرّة دينارًا على قصيدة من خير ما تنفّس به الشعر العربي، توهّمت أني لمست السماء، وقطفت عنقود الجوزاء. وكم لاقيت عسرًا، وكم لاقيت عنتًا، وكم قاسيت مسغبةً وفقرًا، وكم أطرقت للذل، وشربت المر، وبليت بقوم هم شر على الحر من سقم على بدن، ولكني كنت أزجر النفس إذا سئمت، وأروِّضها إذا نفرت، وأتواضع لجبروت من أمدحهم، وأصدّق أكاذيبهم، وأضحك لنوادرهم الغثّة الباردة، وحينما بلغت بدر بن عمار توهمت أني بلغت القمة، واقتعدت سنام الشرف.

– بدر بن عمار الذي تقول فيه؟

لو كان علمك بالإله مقسمًا
في الناس ما بعث الإله رسولًا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ
ـفرقان والتوراة والإنجيلا
لو كان ما تعطيهم من قبل أن
تعطيهم لم يعرفوا التأميلا

لقد أغرقت أبا الطيب وجاوزت النطاق، وهذا شأنك دائمًا إذا رضيت.

– وأغرق أيضًا وأجاوز النطاق إذا سخطت. ظننت أني بلغت القمة عند بدر بن عمار هذا، وكان فتى عربيدًا سكيرًا ماجنًا، ولكنه كان جوادًا متلافًا، فرضيت بحظي منه، وقنعت بجنته المحفوفة بالمكاره، ولكن حسّادي تيقظوا حين نمت، وثاروا حين سكنت، وأفسدوا بيني وبين الأمير، فلم أجد وسيلة إلا أن أفرّ منه وأن أتخذ الليل مركبًا، وأترك عنده آمالًا لم تتفتح أزهارها، ولم تزغب أطيارها، وكانت هذه الخيبة الأولى، أما الخيبة الثانية، وهي التي لا أزال أقرع عليها السن، وأعض الأنامل، فهي خصومتي لسيف الدولة وإدلالي عليه أشرًا وبطرًا، وجفوتي لما كنت فيه من النعيم جنونًا وخرقًا، ومعاداتي لأهله وحاشيته تجبرًا وكبرًا، حتى ضاق بي وحق له أن يضيق، وتبرم بمقامي وأجدر به أن يتبرم، فنبت بي حلب وخرجت منها ليلًا كما يخرج اللص المطارد. ولطالما نصح لي راويتي أبو الحسن بن سعيد بألا أترك سيف الدولة أو أبغى به بديلًا من ملوك الأرض، وكأني أسمع الآن نبرات صوته في أذني، وهو يقول: «إنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانًا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكًا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة، إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، والحرب يا أبا الطيِّب لن تسير غازية فاتحة مُظفَّرة إلا عن ألحان من الشعر الحماسي، الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب من قلب الجبان». هكذا كان يقول ابن سعيد فما سمعت له ولا اكترثت بقوله.

– حقًّا لقد بلغت ذروة مجدك الشعري عند سيف الدولة، وكنت والله جديرًا بأن تقول:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا
فسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغردًا

وحقيقًا بأن تقول:

وعندي لك الشّرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارًا
قواف إذا سرن من مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا

ولقد صدق ابن سعيد فإن شعرك كان جندًا لسيف الدولة أقوى من جنده، وسلاحًا أمضى من سلاحه، فمن غيرك كان يستطيع أن يصف الجيش، وصاحبه كما قلت:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمام
تجمّع فيه كل لسن وأمة
فما يفهم الحدّاث إلا التراجم
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم: أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبَّات والنصر قادم

هذا أفق لم يحلّق فيه شاعر، وأوج لم يصدح بجوّه طائر.

– لا تثر أشجاني بالله عليك يا ابن يوسف، ودع جرح قلبي يندمل. فإن الذكرى تزيده ألمًا ونغلًا. أين أنا من سيف الدولة الآن ومن أيامه النضرات، ولياليه المشرقات؟ تركت هذا الملك الحر الكريم المجاهد يا ابن يوسف، ثم قصدت من؟ قصدت كافورًا الزنجي الخبيث النتن الكذاب الماكر المحتال، فجزاني الله على كفري بالنعمة، وألقى بي في عذاب الجحيم بعد أن بطرت على الجنة، ولقد كان أبو الحسن بن سعيد صادقًا أيضًا حين كان يجذبني من كمي، ويقول: «احذر يا أبا الطيب. فإنه قد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بكَ أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدًا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر. ويا لَضيعة الأدب. إذا انحدرا إلى هذه الهاوية». ولكني لم أطعه، وساقني الغرور إلى مصر، وعقدت الآمال بالكذاب الفاجر، وها أنذا أفرّ اليوم منه كما يفر الطائر من الفخ مهيض الجناح ممزّق الأوصال. كأن حياتي أصبحت كلها فرارًا، وكأنه كتب على ألا ألقى ملكًا إلا فارًّا من ملك، وألا أودِّع ممدوحًا إلى بمثل ما قلت في كافور.

– تقصد «الدالية»؟ إنها قصيدة خالدة على الدهر، ولكن دعك من كافور الآن ووجه همك إلى ما سيكون من أمرك، وما ستتفتح به لك الأيام.

– لن أترك كافورًا، ولن أكفكف عنه سهام شعري، وستشرق عليه شمس كل صباح بصاعقة جديدة تهز أعواد عرشه. ولعلك لا تصدق يا ابن يوسف أني كنت أقول فيه شعرًا حينما كنت تحاور فراجًا حارس الباب.

– عجيب أمرك يا أبا الطيب، وويل لمن يبتلى بلسانك المّر.

– كنت أقول:

أريك الرضا لو أخفت النفس خافيًا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أمَيْنًا وإخلافًا وغدرًا وخسَّة
وجبنًا، أشخصًا لحت لي أم مخازيا؟
تظن ابتساماتي رجاءً وغبطةً
وما أنا إلا ضاحك من رجائيا
وتعجبني رجلاك في النعل، إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
ولولا فضول الناس جئتك مادحًا
بما كنت في سري به لك هاجيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
لُيضْحِك ربَّات الخدور البواكيا

– هذه صفعات بالنعال لمحض المداعبة.

– وستليها صفعات إن كان في الحياة متسع، لقد أهدر هذا الأسود مجدي الشعري كما قلت لك آنفًا، وسوف أضطّر إلى أن أبدأ بصعود السلم من جديد، فقد كان ملوك العرب يحيطونني بهالة من الهيبة والإجلال، ويظنون أني أحمى أنفًا، وأعظم منزلة، وأسمى كرامة، من أن أتدلى إلى مدح العبد، وأن أشد رحالي إليه، وأن أتسلّب من المروءة والرجولة فأبيع شعري بالمال لحبشي دعيٍّ في نسبه دعيٍّ في ملكه، وأن أترك صناديد العرب وأبطالهم يجاهدون فلا يصف وقائعهم واصف، ويبذلون فلا يسجل محامدهم شاعر. فكيف أذهب إليهم الآن يا ابن يوسف؟ إنني إن ذهبت فسوف توصد في وجهي أبوابهم، وأذاد مذءومًا عن حضرتهم، وسيقولون متهانفين ساخرين: شاعر أفاق مهين، لا نفس له ولا كرامة، لو وجد في عنق كلب طوقًا لمدحه، ولو رأى في جيب بغيّ درهمًا لخلع عليها كل صفات الطهر والعفاف. وماذا نبغي من مديح رجل كان يقول للعبد بمصر:

ويغنيك عما ينسب الناس أنه
إليك تناهى المكرمات وتُنسب
وأي قبيل يستحقك قدره
معد بن عدنان فداك ويعرب

ويقول فيه:

عند الهمام أبي المسك الذي غرقت
في جوده مضر الحمراء واليمن

إننا نريد شاعرًا يصدقه الناس ويوقنون أنه لا يقول للمال ولكن للزعامة القومية، والحمية العربية، والغيرة على الإسلام. هكذا سيقول ملوك العرب يا ابن يوسف ولهم الحق فيما يقولون، وليس الأمور كما تظن من أن هجائي كافورًا سيخيفهم، بل إنه سيجرئهم عليّ ويزهدهم فيّ وفي شعري؛ لأنني أصبحت شاعرًا ليس لقوله وزن، ولا لحكمه تقدير، شاعرًا لا يمدح للحق ولا يهجو للحق، وإنما يمدح ليسخر من ممدوحيه؛ ويهجو لأنه يئس منهم؛ أو لأنه امتص كل ما لديهم وراح يبحث في الأفق عن صيد جديد أسمن منهم وأدسم. خبِّرني بالله يا ابن يوسف، بأي وجه ألقى الآن سيف الدولة بن حمدان، بعد أن خاصمته وناوأته ونافرته؟ إنني رجل أحمق يا ابن يوسف، إذا تملكتني حمى الغضب قذفت الكلام يمينًا وشمالًا، وبدرت مني بوادر يحتبسها الحازم الحذر فلا يتحرك بها فوه، إنهم يسمونني الشاعر الحكيم، ولكن يظهر أنني أنثر حكمتي على الناس وأنسى نفسي، وأنني كبائع الجوهر يحلِّي صدور الحسان وهو متسلب عاطل، وإلا فما الذي كان دعاني بعد أن بعدت عن سيف الدولة وانقطع ما بيني وبينه، أن أعرّض به عند مديحي للأسود، فأقول:

قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضًا خلفها ومآقيا

– هذا صحيح، فقد جعلت كافورًا بحرًا، وجعلت سيف الدولة ساقية، وجعلت الزنجي إنسان عين الزمان، وجعلت سيف الدولة بياض العين الذي لا غناء له ولا خطر.

– ثم ما هذا العرق اللئيم الذي دفعني عند مدح كافور إلى أن أقول:

قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمنّ على آثار موهوب

– أتظن أن سيف الدولة يدرك هذا التعريض البعيد؟

– إن ذهنه في فهم مرامي الشعر ومواقعه أرهف من سيفه. على أن طيشي وهذري لم يحوجاه إلى كد الفهم وإعمال النظر، فقد أرسلت هجاءه وهجاء قومه صريحًا في «نونيتي» الملعونة التي أقول فيها:

رأيتكم لا يصون العرض جاركم
ولا يدرّ على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل
وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم
حتى يعاقبه التنغيص والمنن

أبعد هذا أستطيع أن أمد يدًا إلى سيف الدولة، أو أن أنزل له بجوار؟

– أنا كفيل بأن أكبر أمنية لسيف الدولة أن يراك في قصره، وأن يعيد بشعرك عظمة ملكه وصولة سلطانه.

هذا كلام يا ابن يوسف، وهبني أطعتك وذهبت صاغرًا إلى سيف الدولة، فكيف أصل إليه إذا لم أمر ببلاد كافور، وأظنه اليوم قد ملأ كل الطرق عيونًا عليَّ وأرصادًا؟

– فأين تذهب إذا لم تذهب إلى سيف الدولة؟

– والله لا أدري أين أذهب.

– هل خطرت ببالك بغداد؟

– بغداد؟ ألا تزال تظنها دار الخلافة، وموئل العربية بعد أن استولى عليها الديلم، واستبدّ بها معز الدولة؟ إنها لا تجمع اليوم إلا شذّاذ الشعراء، وحثالة المسترزقين بالأدب، الذين يغدق عليهم الوزير المهلبي الماجن، ويرسلهم على أعدائه ومنافسيه كما ترسل الكلاب المضرّاة خلف صيد نافر. على أن حمقي الذي سد عليَّ طريق العودة إلى سيف الدولة قد أوصد الباب بيني وبين بغداد؛ لأنني اندفعت حينما كنت بحضرة سيف الدولة إلى أبيات كلها تعريض بصاحب الأمر ببغداد، فقد قلت أخاطب سيف الدولة:

فدتك ملوك لم تسمّ مواضيا
فإنك ماضي الشفرتين صقيل
إذا كان بعض الناس سيفًا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول

– ليس في هذا تعريض بمعز الدولة بتاتًا، وقد عهد الناس في الشعراء وألفوا منهم أنهم إذا مدحوا ملكًا فضّلوه على غيره من الملوك، والناس يعرفون هذا، ويعدونه من خصائص الشعر ومنادحه، ويعتقدون أن الشاعر لا يقصد مما يقول إلا المبالغة والإغراق.

– أتظن هذا؟

– هذا ما يخطر ببالي كلما قرأت أبياتًا من هذا القبيل.

– وما قولك في هذين البيتين إذًا وقد قلتهما في سياق مدح سيف الدولة؟

فوا عجبا من دائل أنت سيفه
أما يتوقى شفرتي ما تقلدا؟
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا

– لا يا أبا الطيب، هذا تحد صريح، وتشهير بمعز الدولة، وتصوير مخز لضعفه، كيف ساغ لك أن تقول مثل هذا؟ وما لك وللديلم؟

– لا أدري، وإنما هو لساني الذي يسوقني إلى المهالك، أرأيت الآن أني لا أستطيع الرحيل إلى بغداد؟ وماذا بقي من أقطار العرب بعد مصر والشام والعراق، وقد تركت في كل منها جريمة شعرية تذودني عنها؟

– بقي الفاطميون بالمغرب.

– للفاطميين عقيدة لا أسيغها، ولهم فلسفة لا أفهمها، على أني لا أستطيع الوصول إليهم إلا إذا اخترقت بلاد كافور، فأسقط هؤلاء من الحساب أيضًا.

– لم تبق إلا فارس ولكني لا أشير بها عليك.

– وأنا لا أشير بها على نفسي، وإذًا لم يبق أمامي بعد أن يئست من الملوك، وبعد أن سدوا أبوابهم دوني، إلا أمران لا ثالث لهما: إما أن أنزل من القمة التي صعدت إليها بعد جهد وكد، وأعود إلى ما كنت عليه في بداية أمري، فأستجدي بشعري صغار الناس وطغامهم، أمثال محمد بن زريق الذي وصلني على قصيدة بعشرة دراهم، فلما عاتبه صديق في قلة الجائزة مع حسن الشعر وجودته، قال له: «والله ما أدري أكان شعره حسنًا أم قبيحًا؟ ولكني أزيده لأجل خاطرك عشرة دراهم أخرى». وإما أن أعود إلى الكوفة فأقبع في داري، وأهجر الناس جملة، وأقيم بيني وبين الملوك وأشباه الملوك سدًّا، فقد كفاني ما لقيت منهم، وكفاهم ما لقوا مني، ولي الآن ثروة تكفل الراحة والنعيم وهناءة العيش.

– مثلك لا يعمل الأولى ولا يستطيع الثانية، فلن تمد يدك إلى صغار الناس مستجديًا، ولن تقبع في دارك خاملًا متزاهدًا، إنك الحركة الدائبة يا أبا الطيب، والطموح الوثّاب، والهمّة الغلاّبة، والعزم الفصّال، إن مثلك لا يقبع في داره إلا إذا قبع الفلك الدوّار، ووقف الليل وتعب النهار، وسُلبت الأسود غرائزها، والسيوف مقاطعها، والسيول تهدارها، والجبال ركانتها وشموخها، وكيف تهدأ وفي نفسك نار لا تهدأ إلا بالتجوال، وفي صدرك أتون يغلي بمضطرب الآمال؟ وإنك لصادق حقًّا حينما تقول:

وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلبًا بين جنبيّ ما له
مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يُكسى شفوفًا تربّه
فيختار أن يُكسى دروعًا تهده

وحينما تقول:

فما لي وللدنيا طلابي نجومها
ومسعاي منها في شدوق الأراقم؟
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم
فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم

وحينما تقول:

إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم

مثلك يا أبا الطيب لا يهدأ في داره كما تهدأ العجائز يغزلن بأيديهن، وينلن بألسنتهن كل عدو وصديق، لا يا أبا الطيب، إنك لو أردت الاستقرار لغلبتك نفسك على الجلبة والصخب والاضطراب والضرب في كل مكان، إن لسانك لسان شاعر، وقلبك قلب ملك، وعقلك عقل حكيم، وعزمك عزم جبار، وهذه إذا اجتمعت ضاقت بها الدنيا وغصّت بها الآفاق، فكيف تجمعها دار؟ وكيف تحبسها حيطان؟

– هذا هو الذي يؤلمني يا ابن يوسف، وهذا هو الذي يحز في نفسي، لقد رحلت إلى مصر طامعًا في أن أنال من الأسود ولاية ألقي عندها رحال آمالي، وأسكت بها صيحات مطامعي، وأتعلل بها عن مطالبي الضخام، ومقاصدي الجسام، فضاع أملي في العبد وخاب ظني فيه. ولقد كنت على اعتزام الرحيل عنه بعد إقامتي سنتين في كنفه تحقق لي فيهما كذبه ومينه وخداعه، وأنه عبقري في بذل الوعود، نابغة النوابغ في إخلافها. كنت على أهبة الخروج من مصر حينذاك، وكان الخروج منها سهلًا، فلم يكن كافور قد تشكك في أمري، ولم يكن الأبله يعتقد أني عرفت طوايا نفسه، وأدركت خبثه ومحاله. ولم يعقني عن الرحيل في ذلك الحين إلا أمران: أولهما: عائشة بنت رشدين، فلقد كانت ملكًا كريمًا فوق هذه الأرض يا ابن يوسف، إنها الطهر المصفّى والعفاف النقي، والأدب الساحر والذكاء النادر، والحنان الذي ينضح الهموم ويبدّد الآلام.

– والجمال الذي لم تر الشمس له مثيلًا منذ طلعت الشمس.

– والجمال الفاتن يا ابن يوسف، جمال الروح وجمال الجسم وجمال الخلق وجمال الابتسامة المشرقة وجمال الحديث الذي يختلب العقول. إنني رجل جاف خشن الطبع شائك الملمس يا ابن يوسف، لم تترك آمالي الضخام في قلبي مكانًا لحب ولا موضعًا لصبابة، ولم تهف نفسي إلى عبث الشباب ومجون الشباب، ولقد استقر في نفسي أني سهم صوّبه الله إلى غرض هو المجد فيجب ألا يحيد عن المجد، وصارم بتّار لم يعرف في يوم من الأيام إلا أن يسل من غمده ثم يعود إلى غمده. ما استهواني يومًا جمال ولا اجتذبني دلال، ولا فهمت معنى للحب إلا فيما يقول الشعراء، وأنت أعلم بأكاذيب الشعراء، ولكني أحسست نحو عائشة بميل عنيف كفكفت من غربه، وسخرت منه أول الأمر، ولكنه عاودني أعنف مما كان وأشد حينما التقى بميلها، واتصل حبله بحبلها، ولقد كان حبّنا عذريًّا طاهرًا منزهًا عن دنس الدنيا، بريئًا من وصمة الشهوات ساميًا فوق الحياة ومآرب الحياة، لقد كان حبًّا يشبه حب الملائكة الأطهار إن كان الملائكة يحبون. فعائشة هي التي حببت إليَّ البقاء بمصر، وهي التي أماطت عني اليأس وذادت عني هواجس الهموم، وهي التي كانت تضمد تلك الجراح المسمومة التي تركتها فيّ سهام الأسود بلطف حديثها، وفيض حنانها، وسحر بشاشتها.

– إن عائشة بهجة مصر وزينة أترابها، وهي أديبة كاتبة شاعرة، وهي فوق ما وصفت جمالًا وعفافًا وطهرًا، ومثلها جدير بحب رجل مثلك يا أبا الطيب، وما الأمر الثاني الذي حملك على إطالة المقام بالفسطاط؟

– حملني على البقاء بالفسطاط تلك الصلة الوثيقة التي عقدتها مع أبي شجاع فاتك، ولعلِّي اليوم في حل من أن أذيع سرًّا لأصدق أصدقائي، فقد انتهى الأمر، ومات فاتك وماتت معه آمالي ودفنت مطامحي.

– دفنت مطامحك؟ ماذا تريد بهذا؟

– انتظر يا ابن يوسف، لم تكن الصلة بيني وبين فاتك صلة شاعر بقائد، ولكنها كانت أسمى من ذلك وأعظم شأنًا، كان فاتك يبغض كافورًا وكان كافور يبغضه ويخشى بطشه ويخاف منه على ملكه، فأراد فاتك أن يبتعد عن الأسود فأقام بالفيوم، وقد اتصلت به في الصحراء بالقرب من «كوم أوشيم» مرّات، وكثيرًا ما دار الحديث حول كافور وظلمه واغتصابه الملك، وعرف منى فاتك بغضي للأسود وما يضطرب في نفسي من آمال، ولمح شدة عجبي من أن يحكم مصر عبد حبشي والدنيا تزخر بسادات العرب وصناديدهم، وكان رجلًا شهمًا ذكيًّا محبًّا للعرب مفتونًا بعظمة تاريخهم وجلال ماضيهم، فقال: اسمع يا أبا الطيب فإن لي رأيًا يسهل تنفيذه إذا حاطته الحكمة وصانه الكتمان. قلت: هات أيها القائد، فقال: إنني عبد رومي رباني الإخشيد، وليس لي في الملك مطمع ولا في عظمة السلطان أرب، ولكني أبغض الأسود كما تبغضه، وأرى أنه مغتصب ملكًا لا يسمو لمثله مثله، وأن غيره أولى به وأحفظ له وأقوى عليه. وابن سيدنا «علي» الذي أمات كافور نفسه، وخنق فيه كل همة، وأطفأ وميض كل فضيلة، أصبح أضعف من ذات خمار، وأوهى من القصبة المرضوضة، لا يصلح أن يكون ملكًا، ولا يصلح أن يكون رجلًا، ورأيي حينما تسنح الفرصة أن أجمع قبائل العرب الضاربة بالفيوم، وأن أكوّن منها جيشًا لهامًا نزحف به على الفسطاط، ونقبض على كافور ونريح الدنيا من اسمه، ثم تكون ولاية مصر شركة بيننا على السواء. ما رأيك يا أبا الطيب؟ فدهشت وبهت وكادت تدركني غشية، لقد كانت مفاجأة عجيبة يا ابن يوسف. أكون ملكًا لمصر؟ أنا الذي كان يطمع في ولاية صغيرة من العبد؟ أكون ملكًا لمصر، وأدبر الأمر من مصر إلى عدن إلى العراق فأرض الروم فالنوب؟

هذا أشبه بالأحلام، وأدخل في باب الأوهام. إن مطامحي لم تصل بي إلى هذا، ولكن ماذا أعمل والخطة واضحة، والغاية محققة؟ فبلعت ريقي ثم قلت: ولكن لكافور أيها القائد جيشًا بالفسطاط شديد المراس يدبِّره قواد عركتهم المواقع وعجمت عودهم الحروب. فأسرع وقال: إنني سأحتال على الرحيل عن الفيوم بعد أن أكون قد اتفقت مع مشايخ قبائلها، وسوف أقيم بالفسطاط حينًا أستطيع فيه إغراء قواد كافور وجنوده، وأكثرهم ساخط عليه متبرِّم بحكمه. وتم الاتفاق والتعاهد على كل هذا يا ابن يوسف، وبقيت بمصر أنتظر الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، وقدم فاتك إلى الفسطاط وأخبرني أن المؤامرة تمت على خير الوجوه وأدقها إحكامًا، وأنه لم يبق إلا أن يشعل النار في الحطب، ولكن الموت عاجله قبل أن يمد يده إلى الزناد، فخابت آمالي وتمزقت مطامعي وطارت مع الرياح أحلامي. أرأيت يا ابن يوسف كيف كان حزني على فاتك شديدًا؟ أرأيت كيف ضاقت بي الحياة بعده؟ أرأيت كيف اجتويت مصر وأهلها وخرجت منها محطم النفس مهيض الجناح؟

– لم أعرف كل هذا، ولكن يظهر أن كافورًا كان عنده كثير منه.

– نعم فإن جواسيسه يكادون يقرءون ما في الصدور.

– إذًا كنت تطمع في الملك يا أبا محسد! ولكني لم أر في التاريخ شاعرًا أحسن القيام على الملك، وأول هؤلاء امرؤ القيس ذلك الملك الضليل، ثم الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ثم عبد الله بن المعتز العباسي.

– هؤلاء كانوا شعراء ولم تكن لهم نفوس الملوك وعزائمهم.

وما كاد المتنبي يتم قولته حتى شاهد هو وصاحبه غبارًا خلفهما، وسمعا وقع سنابك خيل تعدو نحوهما عدوًا، فذهل المتنبي وصاح أدركنا الأسود! أدركنا كافور! يا لخيبة الرجاء ويا لضيعة الأمل! إن هؤلاء بعض جنوده يا ابن يوسف. كنا ظننا أننا نجونا من أظفار الأسد، فإذا هو يرسل علينا ذئابه! سأثب عليهم وأروّي منهم صارمي. فصاح به الخزاعي: اهدأ أبا الطيب ولا تسرع إلى الاحتكام إلى السيف. ومضى وقت قصير، فقرب منهما ثلاثة فرسان قد أجهدوا خيلهم شدًّا وعنقًا، وصاح بهما كبيرهم فوقفا ثم قال في صوت الآمر الظافر: ارجعا إلى الفسطاط. فأجابه الخزاعي في رزانة واستخفاف متكلف: بأمر من نرجع إلى الفسطاط؟ بأمرك أنت؟

– بأمر الوالي.

– وماذا يريد منا الوالي؟

– يريد المال الذي سرقتماه أول من أمس من دار إسحاق الجوهري، فقد ثبت لنا أن مسافر بن طلحة هو الذي أغار على دار اليهودي، واستولى على جميع جواهره وبعث بها مع فارسين ليبيعاها بالشام. وقد جعل اليهودي ثلث الجواهر أجرًا لمن يردها إليه. فقهقه الخزاعي حتى كادت تسقط عمامته، وقال: لله دركم أيها الحرّاس! ما أشد ذكاءكم! وما أبصركم باقتناص اللصوص! هل ترون في وجوهنا وفي ثيابنا وفي مراكبنا ما يوحي بأننا من اللصوص؟ إنكم أيها السادة الكرام تضيعون وقتكم معنا، فإذا كانت لكم رغبة حافزة للقبض على لصوصكم، فابحثوا عنهم في مكان آخر.

– أنتم طلبة الوالي. فصاح المتنبي: إن الوالي أيها الأبله لا يطلب فارسين وكفى، وإنما يطلب لصين. ثم كشف عباءته فظهر تحتها منطقة من النضار المرصّع بالجواهر، وبدا سيفه وقد كان مقبضه ونعله من خالص الذهب، وقال: أهذه ثياب لص؟ أهذه عدّة لص؟ فهمس أحد الثلاثة في أذن كبيرهم، وقال: ارجع أبا علي ولا تكثر مع السيدين، فإني أخشى أن يكونا من كبار رجال الدولة.

فتراجع أبو علي، وقال: أرجو أن يعذرني السيدان إذا كنت خشن القول عنيفًا في البحث، فأنتما تعرفان ما وصلت إليه حال الفسطاط من جرأة اللصوص واستهانتهم بالحكام.

فقال الخزاعي: لا تثريب عليك يا رجل، وإنما الذي أغضبنا أننا كنا نظن أننا أكرم عند الناس وعند أنفسنا من أن يخلطنا مثلك بطائفة اللصوص.

– أسألك العفو يا سيدي، وأغلب ظني أن يكون اللصوص قد سلكوا طريقًا أخرى. ثم أمر صاحبيه أن يلويا عناني جواديهما، وعاد ثلاثتهم أدراجهم يملئون جنبات الأفق عثيرًا وقتامًا. وتنفَّس الخزاعي الصعداء، وابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، وكانا قد قاربا بلبيس فزجوا جواديهما حتى بلغاها بعد ساعة أو بعض ساعة، ورأيا أبناء الخزاعي ورجاله ومحسدًا وعبيده ينتظرونهم عند ظاهر المدينة، فحيا المتنبي ابنه وخادمه مسعودًا بنظرة عابرة، ثم شكر الخزاعي على حسن بلائه وعظيم ما أسدى في خدمته من عناء ومخاطرة، فسأله الخزاعي عن الطريق التي سيسلكها، فقال: سأخترق الصحراء، وسأسلك المفاوز المجاهيل التي لا يصل إليها جواسيس العبد، وسأرد المناهل الأواجن، وأنزل المنازل التي لا يطرقها إلا أهلها.

– إلى بغداد؟

– إلى الكوفة، إلى منبت عظامي ومسرح صباي. منها خلقناكم وفيها نعيدكم.

– ومنها نخرجكم تارة أخرى!

– ما أظن يا ابن يوسف. ثم التفت فإذا غلام فاره ناضر العود جميل الزيِّ وسيم الطلعة مشرق الجبين، يتقدم نحوه ويمد يدًا لتحيته، فحقق فيه النظر ثم صاح: سيدتي عائشة! ماذا جاء بك يا مولاتي؟ وما الذي حملك على اقتحام المخاطر، واتخاذ هذا الزي الغريب؟

– حملني على كل ذلك أن أراك وأن أودعك يا أبا الطيب، ثم تناثرت الدموع من عينيها كما يتناثر اللؤلؤ من عقد انفصم سمطه، ومضت تقول: إذا جفتك مصر يا أبا الطيب وضاقت بك رحابها، فإن فتاة مصرية معجبة بك مفتونة بفنك تكنُّ لك ودًّا أصفى من سماء مصر، وتفتح لك قلبًا أوسع من فسيحات رحابها. إنها تمنحك حبًّا لو كان في عاصفة لعادت نسيمًا، ولو مازج الملح الأجاج لصار تسنيمًا، ولو لمس الهجير لحسده الأصيل، أو خالط الليل ما شكا طوله محب أو عليل. دعني أحمل أوزار قومي يا أبا الطيب، وأبدلك بعقوقهم إخلاصًا، وبغدرهم وفاءً، وبإهمالهم إجلالًا وتقديرًا. لقد كان حبنا قدسيًّا طاهرًا كأنه حب الغمام، وكانت نفوسنا صافية كصفاء الملائكة، وكان ودنا روحانيًّا نقيًّا كنقاء لآلئ الفردوس. والآن يا أبا الطيب آن أن نفترق، وقد يطوينا الموت قبل أن نلتقي، ولكني سأراك في كل لحظة وسأستمع لك في شعرك كلّما رددت قصائدك الخوالد، وأبياتك الأوابد، وسأناديك في اليقظة والمنام، وسأهتف باسمك كلما عصفت بي الآلام. فزفر المتنبي وربت يدها في حنان ورفق، وقال: إن هذه الحياة يا عائشة أضيق من أن تتسع لمثل حبنا الذي لا تحده نهاية، فإذا ضاقت بنا الأولى فإن لنا في الأخرى خلودًا ونعيمًا وظلًّا ظليلًا وعيشًا لا يكدره علينا مكدر.

وما كاد يستمر في الحديث حتى صاح مسعود: الرحيل يا سيدي الرحيل.

– هل أعددتم الزاد والماء؟

– نعم يا سيدي. فحيا المتنبي الخزاعي، ثم حيا عائشة حزينًا كاسف البال، وهو يقول:

لعينك ما يلقى الفؤاد وما لقى
وللحب ما لم يبق مني وما بقى
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم
بعثن بكل القتل من كل مشفق
عشية يعدونا عن النظر البكي
وعن لذة التوديع خوف التفرق

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤