ركود

كانت الكوفة في ذلك الحين لا تزال مستبحرة العمران كثيرة السكان واسعة الرقعة، بها نحو خمسين ألف دار من ربيعة ومضر،. ونحو أربع وعشرين ألف دار لبقية القبائل العدنانية، وستة آلاف دار للقبائل اليمنية، وبها كثير من العلويين الذين اتخذوها موئلًا أيام الدولة الأموية لكثرة أنصارهم بالعراق، وللفرار بأنفسهم من موجات الظلم والاضطهاد.

وكان المسجد الذي بناه علي بن أبي طالب لا يزال ماثلًا بعد أن جدد بناءه، وأقام ما انهار منه يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك على العراق، وكان هذا المسجد روضة العلماء والأدباء والمحدِّثين، ومباءة طلاب العلم والأدب، وهو المسجد الذي تلقى فيه أبو الطيب في طليعة صباه علوم الأدب واللغة، وفيه كان يجلس إلى الناشئ الأصغر الشاعر، ويكتب عنه ما يمليه من شعره على الطلاب.

وكان يحكم الكوفة حين عاد إليها أبو الطيب وال من قبل معز الدولة له ميل إلى الأدب والشعر، وحب للعلم والعلماء، ولكنه كان شديد الحرص على منصبه، كثير الخوف والوساوس من كل ما يؤدي إلى سخط بغداد، أو يجر عليه مصيبة العزل التي أصبحت شبحًا مخيفًا يساوره في اليقظة والمنام.

بلغ أبو الطيب الكوفة بعد رحلته المضنية القاسية الجريئة، فاتجه نحو داره وكانت بمحلة العلويين بالقرب من المسجد الجامع، فمشى في طرق اشتبهت عليه منافذها، ولقي أناسًا ليس له بهم عهد، فقد غاب عن الكوفة وعن أهلها أكثر من ثلاثين عامًا، مات فيها أقوام وولد أقوام، وتهدّمت معالم وقامت معالم، وليس ببعيد أن يكون قد مرّ بباله وهو يتطلّع يمينًا وشمالًا في دهشة وعجب، ذلك الرجل الذي بعثه إخوانه من أهل الكهف بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا؛ لينظر لهم أيها أزكى طعامًا وليأتيهم برزق منه.

كان ينظر فإذا الفناء الرحيب الذي كان يلعب فيه مع أترابه أصبح دورًا ومتاجر، وإذا القصر الذي كان آهلًا بسكانه عامرًا بأسباب الغنى والسؤدد مائجًا بعبيده وجواريه أصبح طللًا دارسًا وربعًا محيلًا، وإذا الشجرة التي كانت لا تتجاوز قامته حينما كان يمر بها وهو ذاهب إلى المكتب، أصبحت دوحة باسقة ممتدة الأفنان. كل شيء تغّير، وكل مظهر تبدّل، والزمن كفيل بأن يغير كل شيء، «ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟» إنه هو نفسه تغير، فليس هو الآن ذلك الطفل المرح الوثاب الذي يسره كل شيء، ويضحكه كل شيء. أين هو الآن من ذلك الطفل بعد أن فارقه ثلاثين عامًا ثم عاد إليه بنفس جديدة، وخلق جديد؟ إنه الآن لا يقنع بما دون الملك، ولا يرضى بأقل من اقتناص البزاة إذا اصطاد غيره البغاث والرخم، ولا يهدأ إلا إذا حلّق في السماء ورأى الناس تحته كأنهم ذباب أو نمال، إنه الآن يقول:

وما تسع الأزمان علمي بأمرها
وما تحسن الأيام تكتب ما أملي

إنه الشاعر الطموح، والشارد الجموح، والصخرة النطوح.

إنه هو الذي ازدهى على الأمراء وتحكّم فيهم ثم هجاهم، وهو الذي تزلّف إليه العظماء فازدراهم، وسمت إليه عيون الشعراء فبهرهم وأخرسهم، وحاول علماء الأدب واللغة أن يجروا معه في شوط فبزهم وأخمد أنفاسهم. إنه الفارس المغوار، والبطل الكرّار، الذي تحدى الصحراء وأرغم أنف البيداء، وصارع الموت وأفنى الفناء.

يحاذرني حتفي كأني حتفه
وتنكرني الأفعى فيقتلها سمي

هذه هي نفس أبي الطيب حينما عاد إلى الكوفة. وهذه بعض خواطره التي كانت تضطرب في صدره.

بلغ المتنبي داره فطرق ابنه الباب فأسرع «مفلح» إلى فتحه، ودخل أبو الطيب ومحسد وبعض عبيده، فصاح محسد: أين أمي؟ فأطلت من أعلى السلم امرأة في نحو السابعة والثلاثين، لا تزال تزهى بريان شبابها، وتدل بنضرة عودها، وكان في وجهها نبل واستسلام وثقة، وفي نظراتها حيرة وذهول ودهشة. وهي من أسرة عريقة بالشام فتن بها المتنبي وفتنت به، وكانت تشبهه في قوة الجلد وبعد الهمة ومضاء العزيمة.

لم تكد الأم تسمع صوت محسد حتى أسرعت إليه، فوثبت فوق درجات السلم وثبًا، ثم مدت ذراعيها في شوق وحنان فطوته إلى صدرها وهي تغمغم: وهكذا يا ولدي يلتقي الشتيتان وإن طال الزمان. ويعود القارظان بعد قنوط وإياس. ثم ألقت على جبينه قبلة فيها كل معاني الحب والشوق، واتجهت نحو المتنبي في إجلال وشغف فعانقته عناق المحب الواله المهجور، ثم قالت: الحمد لله على سلامتك يا سيدي. لقد طالت الغيبة وانقطعت الرسائل منذ بعثت بي إلى هنا، ورحلت وحدك إلى مصر، ولقد كادت الوساوس تعبث في لولا ما كان يملأ المدينة من أخبارك بين الحين والحين، فإنك يا سيدي ما كنت تنشد قصيدة بمصر حتى تطير إلينا أبياتها بعد قليل. ما لي أرى سيدي مضنًى هزيلًا؟

– لقد لوحتني الصحراء يا فاطمة، وكان القيظ شديدًا والسير مجهدًا والطريق وعرًا كثير المخاطر، ولكن شوقي إليك هوّن عليَّ كل شيء. كيف الحال؟ وكيف قضيت هذه السنوات الخمس؟

– بخير يا سيدي، ولقد كان لسيدتي زينب زوج الشريف الحسن بن عمر العلوي الفضل الأكبر في إزالة وحشتي، فإنها كانت تكثر من زيارتي وتنقل لي عن زوجها أخبارك بمصر، ومنذ شهر وصلت قصيدتك التي هجوت بها عبد الإخشيد، وكانت سمر الناس وحديث الأدباء، ولقد علمت منذ أيام بقرب قدومك إلى الكوفة، فقد أرسل إلينا الوالي أحد أعوانه ليتحقق من عودتك، فلما أخبره مفلح بأنك لا تزال غائبًا أسر إليه بأنك خرجت من مصر منذ أشهر، وأن معز الدولة بعث إلى الوالي طلبًا منه استقصاء خبرك. فأطرق المتنبي مفكرًا ثم رفع رأسه، وقال: معز الدولة الديلمي الغاشم مقطوع اليد اليسرى يسأل عني؟ ما هذا النحس الذي يلاحقني؟ أأفر من الأسود الماكر في مصر ليطاردني بأمثال هؤلاء. لن أقول من الآن شعرًا، ولن يظفر مني أمثال هؤلاء المناكيد ببيت واحد. ثم لمح على الحائط بيتًا من الشعر كان كتبه بخطه وهو في العاشرة فقرأ:

وإلا تمت تحت السيوف مكرمًا
تمت وتلاق الذل غير مكرم

فأخذته رعدة، وطافت بنفسه ذكريات وأحلام وصاح: نعم، إنني خلقت فارسًا قبل أن أخلق شاعرًا، وقد ألقيت عناني للشعر طويلًا، فأحلني دار الهوان وزحزحني عن قمة المجد وسأسكت اليوم شعري ليتكلم سيفي:

من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هلٍ بلمِ

ثم قام فخلع ثيابه واستلقى على فراشه شاخص العينين شارد الفكر مضطربًا، فقد كانت تطول بذهنه أطياف من الماضي القريب والبعيد، وصور من الحوادث، وتهاويل من الآمال والأحلام التي ذهبت بددًا وآضت حطامًا. مرت به أيام صباه، وما كان فيها من أمل مكبوت كالزهرة المنطوية في كمّها، والناء المخبوءة تحت رمادها، ومرت به أيام رحلته إلى دمشق في طلب العلم والأدب وهو بعد غلام لم يطر شاربه، وما قاسى في تلك الملاوة من فقر وضنك وسغب، ومرت به أيام استجدائه بالشعر ذليلًا متصاغرًا ينتقل على قدميه من بلد إلى بلد. ويمدح من هو بالصفع أجدر منه بالمديح، وينثر الدر فوق رءوس الخنازير، ثم مرت به أيام حلب وأيام سيف الدولة حين بلغ القمة ووصل بعد طول الكد إلى الغاية، فاختلج فؤاده وهاجت بلابله، وطافت بوجهه سحابة حزن غائمة، وضرب كفًّا على كف، فقد كان ينبغي ألا يفارق سيف الدولة، وكان ينبغي أن يصل حظه بحظه في ميزان القدر، ثم مرت أيام كافور وما كان فيها من آمال طارت قبل أن ينبت لها جناح، ودفنت قبل أن تلمح نور الحياة، ثم دار فكره دورة سريعة نحو ما يستقبله من أيام وأحوال، وما ينتظره من أحداث وخطوب، هذا معز الدولة يسأل عني. لقد علم بفراري من مصر. ماذا يريد مني؟ إنه رجل خبيث ماكر منتقم، ووزيره المهلبي شر منه وأشد نكرًا، إنني سأطوي صحائف الشعر، لقد نلت من جرَّائه ما كفاني، سأقيم في داري، وسأنكب على دراسة الأدب واللغة، ولن يدوي لأبي الطيب بعد اليوم في الآفاق صوت، ولن يشعر أحد بمكانه. لقد نال من الشهرة والمال فوق ما تطمح إليه الشهرة، ويصبو إليه حب المال، ولكن تلك النفس النزوع لا تطيعني، وهذه الروح الوثّابة لا ترضى بالسكون كأنها الطائر القلق لا يستقر في وكن، إنني خلقت من عصف الرياح وهدير السيول وقعقعة الرعود، فلن أستطيع أن أجلس هادئًا في عقر داري ألفن هذا بيتًا من الشعر، وأصحح لهذا كلمة في اللغة. لم أولد وفي يدي مغزل، ولكني ولدت وفي يدي سيف بتّار. لست ممن يجلس في شمس الشتاء، ويستظل من لفحات الهجير بدوحة أو جدار.

طوال الردينيات يقصفها دمي
وبيض السريجيات يقطعها لحمي

لا. لا. لن أستطيع الفرار، ولن أستطيع أن أثبت وأدع العالم يموج ويتحرك، ولن أستطيع أن أدع الفلك يدور دون أن يتحدث باسمي ويملأ الأسماع بمحامدي، ولن أطيق أن أرى الأرض تقسّم دولها بين منتفخي البطون وأنا واقف أنظر إليهم غرثان ظامئًا. كان لي أمل في كافور، وكان لي آمال في فاتك، ولكن هيهات. هيهات. ذهب كل شيء. ولم يبق إلا أن أكتفي من الغاية بما يقرب من الغاية، وإذا فاتني الملك فلن تفوتني المنزلة الرفيعة بين ملوك الأرض، ولن يفوتني أن يعدني الناس ملكًا من غير صولجان. أما أن أقبع في داري فليس إلى ذلك من سبيل. ولكن كيف أتقي خطر مطامحي؟ وكيف أتجنب ما تجره مصاحبة كبار الساسة من ويلات؟ يجب أن أحذر. ويجب أن أتعلم من تجاربي. ويجب أن أبتعد قليلًا حتى أصون لنفسي كرامتها وعزها، وحتى يطلبني الملوك ولا أطلبهم، وحتى أتخلّص من وصمة الشاعر المستجدي الذي يطرق كل باب ويجلس على كل خوان. هذا هو الذي يجب أن يكون، الأمر لله من قبل ومن بعد. ثم أخذته سنة فنام.

وشاع خبر وصول المتنبي إلى الكوفة فتنقّل في كل دار، ورف فوق كل سامر، وردده كل لسان، فكانت المرأة تنظر من نافذة دارها وتصيح بجارتها قائلة: أعلمت أن ابن الحسين قد وصل إلى الكوفة بالأمس؟

– لقد أخبرني بذلك أبو محمد فيا له من خبر غريب. إن زوجه كانت من الصابرات حقًّا، ولعلها اليوم أسعد امرأة بالكوفة.

– كانت جدته تتمنى هذا اليوم، فقد كانت وهي على فراش الموت تتلهّف للقائه، وتلثم آخر رسالة بعث بها إليها، وكان لسانها يتلعثم بترديد اسمه حتى ماتت.

ودخل طالب مسجد الكوفة في الصباح، وكان يزخر بالعلماء والطلاب فرفع صوته قائلًا: أيها الطلاب لقد عاد بالأمس أبو الطيب المتنبي إلى وطنه. فصاح أحدهم: أهلًا أهلًا بشاعر العرب، إن المتنبي مجد الكوفة ومجد العروبة، لقد كنا بالأمس نتذاكر قوله:

وإني لنجم تهتدي صحبتي به
إذا حال من دون النجوم سحاب
غني عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرت عنه إياب

فقال أحد الشيوخ: لقد أنذرنا أبو الطيب بأنه لن يعود إلى الكوفة. ولكن الله كذّب ظنه وعاد المتنبي ليملأ آفاقنا تغريدًا.

والتقى في سوق الورّاقين الحسن العلوي بحماد الوراق فحياه وسأله: أبلغك وصول أبي الطيب إلى الكوفة بالأمس؟

– بلغني يا سيدي؟ إن الخبر ملأ المدينة، إن صبيان المكاتب يترنمون بأهازيج الترحيب به.

– أظنك تعرفه وهو غلام؟

– أعرفه يا سيدي! لقد كان يتردد على دكاني كل يوم، ولكني لم أكسب منه درهمًا، كان يتناول الكتاب ويجلس على هذه الدكة، فإذا مرت ساعة أو نحوها أعطانيه لأضعه في مكانه، فإذا طلبت منه أن يشتريه. أخبرني بأنه حفظه عن ظهر قلب من الدفّة إلى الدفة.

وأقبل لزيارة المتنبي كبار العلماء والأدباء في المدينة، وتوافد عليه الطلاب يسألونه ويقيدون عنه ما يلي، وكان يجلس على كرسي ضخم في صدر القاعة وبجانبه محسد، وقد وقف عند الباب عبده مفلح، وكان بين زوّاره الشريف الحسن العلوي وابنه الحسين، وكان فتى في العشرين وسيم الطلعة حسن الحديث حاضر البديهة، فقال العلوي: لقد كانت الكوفة تتشوّق إلى قدومك يا أبا الطيب بعد أن تراجع مجدها، وكادت تذوي أفنان الأدب والشعر فيها.

– إننا رأينا ما رأينا من ملوك وأمم وممالك، فعرفنا أن كل شيء في هذه الدنيا هباء، وأن آمال المرء فيها هواء.

– لقد نلت في هذه الرحلة ما لم ينله شاعر، وبلغت منزلة تتقطّع دونها أعناق الآمال.

– وماذا حصلت عليه بعد ذلك يا ابن الرسول؟ لا شيء إلا أني عدت إلى داري في الكوفة أحمل فوق كتفي أثقال السنين، بعد أن خرجت منها يافعًا ريان الشباب.

– خرجت سنة تسع عشرة وثلثمائة فارًّا من القرامطة؟

– نعم يا سيدي، فلقد كان القرامطة بلاءً على الكوفة وعلى العراق كله.

– لقد دمروا وأحرقوا كثيرًا من الدور والمساجد، وكم نهبوا وسلبوا وفعلوا الأفاعيل.

– وكنت في ذلك الحين شاديًا في الشعر فنظمت قصيدة أهجو فيها زعيمهم أبا طاهر فبلغه خبرها فأهدر دمي، فخرجت فارًّا مع أبي في حماية الليل وستاره حتى بلغنا بغداد، فلم أقم بها طويلًا حتى ودّعت أبي واتخذت طريقي إلى شمالي الشام.

– وقد مضى منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثين عامًا، ولا يزال هؤلاء القرامطة يعيثون بالفساد حول الكوفة، إنهم قوم فجرة يستحلون كل شيء، ولا يخضعون لحاكم، ولا يرجعون إلى شرع. وبينما هما في الحديث إذ دخل مفلح ينبئ المتنبي بقدوم الوالي، فهنأه بسلامة قدومه ورد المتنبي تحيته بتحية امتزج فيها الإجلال بتواضع الكبراء، وذهب الحديث مذاهب شتى، وجاء ذكر سيف الدولة وكافور فقال الوالي: لقد كانت تصل إلينا قصائدك في الأسود، فكنا نقرؤها وتطرب لها من جهة أنها شعر، لا من وجهة أنها قيلت في كافور. ويعجبني فيك يا أبا الطيب أنك لا تصرف القصيدة كلها إلى ممدوحك كما تفعل جمهرة الشعراء، ولكنك تتصدق عليه بأبيات قليلة، ثم تتجه في بقية القصيدة إلى الحكمة العالية وخوالج النفوس وما يجيش به صدرك من همم وعزائم، ولقد أحزنني حقًّا أن تقول في كافور:

لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران

هذا بيت لم تتفتح عن مثله شفة شاعر منذ عرفت الأوزان وقيلت الأشعار. وكان من مصائب القدر أن يبقى درّه مخزونًا في أطواء الزمان حتى ينثر على الأسود الحبشي. ما أجل المعنى، وما أروع اللفظ، وما أبعد الخيال. وأبدع ما في البيت كله كلمة «شيء» هذه. فما أحلى هذا التنكير وهذا التجهيل الذي تضمنته. كان مولانا معز الدولة أحق بهذا البيت وأجدر. فهو زند الخلافة وعضدها، وحامي حمى المسلمين، ومعلي كلمة الدين، والملك الذي له من القوة والسلطان ما يصح أن يقال فيه مثل هذا الكلام. أذاهب أنت إلى بغداد يا أبا الطيب بعد أن تستريح قليلًا بالكوفة؟

– إنني سأستريح طويلًا يا سيدي، وسيستريح معي شعري.

– لا. إن شعرك لا يستريح، إن الطائر لا يستطيع إلا أن يغرِّد، والمسك لا يملك إلا أن يفوح. قل لي بالله متى تذهب إلى بغداد حتى أكتب إلى مولاي معز الدولة؟ لقد كتبت اليوم رسالة إلى الوزير المهلبي أخبره فيها بقدومك، وأكبر الظن أنه لن يدعك تستريح يا أبا الطيب. إن الناس يطمعون في أدبك وشعرك، لقد رفعت سيف الدولة إلى القمة، وملأت الدنيا بمديح كافور ثم بهجائه، وأظنك لا تبخل على الخلافة ورجالها ببعض ما نثرته على تابعيها من الأمراء.

– سأنظر في هذا يا سيدي، ولكني الآن أوثر الهدوء والاستقرار بعد أن طوَّحت بي الطوائح.

– لست ملكًا لنفسك يا أبا محسد، وإنما أنت ملك العرب وملك الخلافة، وكان يجب على ابن العراق ألا يشيد إلا بمجد العراق. خلصني بالله يا أبا الطيب، فقد ينالني لوم من دار الخلافة إذا لم تسرع إليها.

– لا لوم ولا تثريب يا سيدي، والأمور مرهونة بأوقاتها. وانقضّ المجلس، وتوالت الأيام وتوالت المجالس، وفي كل يوم يزيد أبو الطيب سأمًا وتبرمًا. إنه لا يستطيع أن يعيش كما يعيش الناس، لقد عاد إلى ديوان شعره فرتبه وكتبه وأسقط منه ما أراد أن يسقط وزاد فيه ما راق له أن يزيد، وانتهى الديوان، وعادت الحياة إلى ركودها. ورأى أن يتخذ الصيد مسلاة فما مرت أيام، حتى ضجر بالصيد وملّ الركوب، ورجاه صديقه الحسن العلوي أن يمدح بني هاشم بقصيدة فسقط القلم من بين أنامله ولم يستطع أن يخط حرفًا، ماذا جرى له؟ وما هذا الحنين إلى الغربة والانتقال؟ إنه اليوم بين أهله وولده يعيش في أرغد عيش وأرفه حال، فما هذا الضجر الذي ينتابه في كل حين؟ وما هذا النزوع إلى القلق والاضطراب في الأرض؟ إن من الناس من تتبعهم الراحة ويضنيهم طول الجمام، يجب أن يرحل عن الكوفة، ويجب ألا يحصره وطن، إن العباقرة لا وطن لهم أو إن وطنهم الأرض كلها. ولكن أين يذهب؟ لقد رجاه صديقه علي بن حمزة في أن يزوره ببغداد، ولقد توالت كتبه وتتابعت رسائله، وكان في هذه الرسائل ملحًّا ملحفًا، فهو لا يريد أن يدفن أبو الطيب نفسه حيًّا بين عجائز الكوفة وشيوخها، وهو يضن بهذه الجذوة المتوقدة أن تخمد، وبهذا النبوغ النادر أن ينطفئ، وبهذا الشعر الرائع أن يجبل. ويقول: أن بغداد تتشوَّف إلى لقائه، وتمد أعناقها لترقبه من الخليفة ومعز الدولة والوزير المهلبي إلى صغار المتأدبين. فلم لا يذهب إلى بغداد؟ ولم لا يعلّم دعاة الشعر فيها أن الشعر شيء غير نظم الكلام؟ ولم لا يلوح بشعره لمعز الدولة أو للمهلبي حتى يأتيا إليه حبوًا؟ ولم لا يضرب من كانوا يتيهون عليه ويخدعونه كسيف الدولة وكافور ضربة قاصمة بما يناله من الحظوة وعظيم المنزلة عند معز الدولة؟ ولم يستبعد أن ينال من معز الدولة ما تصبو إليه نفسه من الولايات إذا أحسن التأتي وأتقن الخداع، وعرف الطريق إلى نفسه؟ يجب أن يذهب إلى بغداد غدًا. نعم غدًا يرحل إلى بغداد. ويفيق المتنبي من هذه الغمرات فيسمع صوته وهو ينادي محسدًا، ويقبل محسد فيبتدره قائلًا: قل لمفلح يعد الخيل والإبل فسنرحل غدًا إلى بغداد. وتدخل فاطمة وعلى وجهها مسحة من الحزن لهول ما علمت من وشك رحيله، وتقول: أتطول هذه الرحلة يا سيدي؟

– لا أدري يا فاطمة، ولكني لن أتركك وحدك هذه المرة، فإذا اطمأن بي المقام ببغداد أرسلت مفلحًا لإحضارك.

وجاء الغد وأعدت الركائب في الصباح، ووقف المتنبي وفي وجهه لمحات يختلط فيها اليأس بالأمل، فقبّل زوجه ثم صاح في وديعة الله. وامتطى جواده وهو يردد:

ليس التعلل بالآمال من أربي
ولا القناعة بالإقلال من شيمي
ولا أظن بنات الدهر تتركني
حتى تسد عليها طرقها هممي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤