قتل

في أحد أرباض الكوفة، وفي ليلة حالكة السواد شديدة البرد، اجتمع عدد من الرجال يزيد على العشرة بدار مجاشع الكلابي، وجلسوا حول النار يصطلون. وكان بالحجرة سراج خافت النور كاد يجف زيته، فأخذ يخفق كأنه مريض دنف دهمه الفواق قبل أن يسلم الروح. وكان جو الحجرة يوحي بالحزن والفجيعة والدمار، ولو كشف عن البصر الحجاب لرأى فوق رءوس هؤلاء المقعين حول النار أرواح الشياطين تحوم في مرح، وتصفق بأجنحتها في جذل وشماتة. وكلما التمع السراج كشف من القوم وجوهًا عابسة شرسة شريرة جرحتها السيوف وخرقتها السهام، وأعينًا يتأجج فيها الغدر، وتضطرم الأحقاد. رفع مجاشع الكلابي رأسه، وقال: لقد مر بنا حين من الدهر لم نجرِّد فيه سيفًا، ولم نركض جوادًا، حتى كدنا نفقد صفات البطولة، وننام على الطوى، ونعلل صغارنا بالماء. فقال شمر بن وهب: كنا نسقط على مدينة الكوفة بين الحين والحين، ولكن أهلها أخذوا لأنفسهم الحيطة وأعدوا جيشًا مرابطًا، واستعانوا ببعض جنود بغداد، فكلما أرسلنا عليهم غارة شتتوا شملها، وأثخنوا في رجالها. فقال مجاشع: وكلما توالت هزائمنا تفرق عنا الطامعون في الغنائم؛ حتى أصبحنا قلة ضئيلة خائرة العزائم. فأسرع فهد القيسي قائلًا: وكانت قاصمة الظهر تلك الهزيمة التي رمانا بها ذلك المتنبي الشاعر الدعي، والله لو ظفرت به لشربت دمه.

– صدقت يا فهد، ولن تفوتنا حياته ولو كانت في قمقم سليمان. أتدرون لم أمرنا ضبة بن يزيد بالاجتماع هنا الليلة؟ فقال شمر: لا أدري، ولكني علمت منذ أيام أن خاله فاتكًا قد يزور الكوفة في طريقه إلى واسط.

– فاتك؟ إنه رجل أي رجل. ولعله يهدينا إلى صيد جديد، فقد ظمئنا إلى الدماء، وصفرت أيدينا من المال. ثم سكت القوم هنيهة فسمعوا عن بعد عواء كلب جائع مقرور اخترق صوته سواد الليل حزينًا مؤلمًا، كأنه ندب الثواكل، ولم تمر إلا لحظات حتى سمع طرق خافت. فقام مجاشع ففتح الباب وعاد معه فاتك الأسدي وضبة، فقام القوم لتحيتهما في شيء من الرهبة والمهابة، وكان فاتك في الثلاثين من عمره، طويل القامة متين العضل متناسق التكوين شديد السمرة عربي الملامح برّاق العينين في وميض يكاد يصرع من يراه، وكان كثّ اللحية وقد وقف شعرها كأنه شوك قنفذ. حيا فاتك الجماعة في ابتسامة كأنها كشرة الأسد ثم قال في لهجة العاتب: لقد جئت الليلة أيها الإخوان لأمر ذي بال أردت أن أحدثكم فيه، ولو أن واحدًا منكم هزّته الأريحية وثارت في نفسه الغيرة لقبيلته وقومه لأغناني عن تجشم الطريق واجتياب القفار، كلكم أهل لضبة، وكلكم قبيله وأنصاره، وإذا مس عرض ضبة فقد مست أعراضكم جميعًا، وإذا طعن شرفه فقد أصابتكم الطعنة جميعًا، ولقد ترامت إلى أخبار أقضّت مضجعي، وأنبتت الشوك في وسادي، وتناقل الرواة أبياتًا قذرة من شعر نجس لطخ به ذلك الشاعر الدعي المنبوز بالمتنبي ابن أختي ضبة، يا للهول. ويا للعار. إنه لشعر تتعفّف البغي عن أن تدنس فمها بكلمة منه، ويأنف مجّان الحانات من أن يلقوا إليه سمعًا، فقد ولغ هذا الكلب الفاجر في عرض أختي فلم يترك كلمات من مستقذرات اللغة حتى وصمها بها، ولم يدع سهمًا مسمومًا بالفحش والإقذاع حتى صوّبه إليها، وعجيب أن يقال هذا الكلام الدنس فتتناقله الصبيان، ويتنادر به المجان، وتسير به الرواحل من بلد إلى بلد، وتملأ ريحه المنتنة جو الصحراء، ثم لا تثورون ولا تغضبون. ثم لا تروون سيوفكم من دماء هذا الغوي الأفّاك. ثم لا تمحون هذا العار عن أنفسكم وعن قبيلتكم بضربة فيصل. لقد أصبحتم متندّر القبائل، وسخرية العرب جميعًا.

ولقد جئت أيها الإخوان لأغسل العار عن نفسي وعنكم، لقد جئت لأجرد سيفًا وأصون شرفًا، لقد جئت لأقطع لسان الأفعى وأهشم أنيابها. مرحى. مرحى. يا لضيعة العرب. شرف أختي يمرَّغ في التراب في كل مجلس وفي كل سامر، وأخوها فاتك الذي ترتجف لهوله الصحاري، ويخلع اسمه كل قلب، ويجلس في عقر داره هانئًا رضيًّا، لا يأخذ لها بثأر ولا يدفع عنها بيمين؟ شرف أختي يداس بالنعال وأهلها ينظرون واجمين ذاهلين؟ فصاح مجاشع: غدًا نذهب إلى الكوفة ونذبحه ولو كان بيد ذراعي أسد. فأجابه فاتك حزينًا: إنه ليس بالكوفة، إنه رحل منذ شهر أو أكثر إلى بلاد فارس.

– نذهب إلى فارس ونقتله ولو كان في حماية كسرى أنو شروان. وهنا وقف شمر بن وهب، وقال: الرأي عندي يا سيدي أن يرحل أحدنا إلى فارس، وأن يبحث عنه حتى يصل إلى مكانه، ثم يوجر فيه خنجره. فقال فاتك: لقد قاربت الصواب فإني أوافقك على أن يسافر رجل منا إلى فارس ليعرف مكانه، ويرقبه عن كثب، حتى إذا رحل عائدًا إلى العراق أسرع إلينا بدير العاقول، فأخبرنا بطريق مروره فسرنا نحوه ووثبنا عليه ومزقناه تمزيقًا، فقال ضبة: ولم لا نقتله بفارس ونستريح من مشقة السفر ومظنة فراره؟

– ذلك لأننا لا نريد أن نكتفي بسفك دمه، وإنما نريد فوق ذلك أن ننهب كل ما سيعود به من فارس من أموال ونفائس وذخائر، وتحف أغلى من أن تقدر بثمن، وأعز من أن يحوزها قصر ملك. فصاح القوم جميعًا.

– نعم الرأي يا فاتك، إنك لرجل ملقن.

واتفق القوم على أن يرحل شمر بن وهب إلى فارس، وأن يضم ضبة إلى جماعتهم نحو عشرين لصًّا من فتاك الأعراب، وأن يسيروا جميعًا تحت لواء فاتك إلى دير العاقول لينتظروا فريستهم هناك، وليتربصوا للقتل والغنائم. وتفرق القوم على أن يلتقوا في موعد ضربوه.

وخرج المتنبي من شيراز في نحو العشرة من عبيده ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والثياب والكتب ونفائس الهدايا، وسار الركب في جو باسم الصباح رقيق النسيم، وكان المتنبي على غير عادته منبسط أسارير الوجه إلى ما يقرب من المرح، حتى إنه كان يمازح ابن حمزة ويصغي في أناه ورفق إلى حديث محسد، ويداعب مفلحًا ويدعوه بكافور الأمين. وقد تكون هذه النشوة الطارئة؛ لأنه استطاع أن يتخلّص من الديلم من غير اصطدام أو عربدة على خلاف عادته في مفارقة كل أمير أو ملك؛ وقد تكون لأنه أنقذ نفسه ولسانه من مدح غير العرب والإشادة بمجد غير مجد العرب، فقد كان شيء من ذلك يؤلم نزعته العربية، ويكدِّر عليه صفو حياته؛ وقد تكون لأنه عاد إلى وطنه بهذه الأحمال والأموال والكنوز التي لم يظفر بمثلها شاعر منذ هلهل ابن ربيعة الشعر؛ وقد تكون لأنه وقد طالت عليه الغربة واشتد به الحنين يشعر اليوم بأنه عائد إلى أهله وزوجته التي لا يزال يحس بخفقات قلبها في صدره ساعة توديعه وبتناثر دموعها فوق خديه. قد تكون هذه النشوة الطارئة لهذا جميعه أو لشيء منه أو لشيء لم نعرفه من نزعات هذه النفس الضخمة المليئة بالأسرار. وحينما لمح ابن حمزة هذه البارقة العابرة التي قليلًا ما لمعت بهذا الوجه الغائم العبوس أراد أن يغتنمها، فقال: ما رأيك يا أبا الطيب في سيف الدولة؟

– عربي قصير الباع طويل الأمل. وعيبه أنه إذا منّ منّ.

– وماذا ترى في كافور؟

– غراب حوله رخم وبوم.

– وكيف نصف المهلبي؟

– هرّ رأى في مرآة كاذبة أنه أسد.

– ومعز الدولة؟

– شبح للجهل والبخل والشراسة.

يحسبه الجاهل ما لم يعلما
شيخًا على كرسيه معمما

– وماذا تقول في ابن العميد؟

– رجل ما زال يغري الشعراء بمدحه بالأدب والكتابة، حتى اعتقد آخر الأمر أنه أديب كاتب.

– وعضد الدولة؟

– تاج من ذهب فوق رأس من خزف.

– وما رأيك في عبد العزيز الجرجاني؟

– أراد أن يفلسف الأدب فشوّه الأدب وأضعف الفلسفة.

– وماذا ترى في أبي علي الفارسي؟

– أعجمي حاول أن يطوّع اللغة إلى أصول وهمية هي أبعد في الخيال من شعري.

– وكيف تراني؟

– فيك ما يجعلك لسان نفسك، ولكنك تأبى إلا أن تكون لسان غيرك.

فضحك ابن حمزة وابتسم المتنبي، ولكن هذا الابتسام طار من وجهه بعد قليل وخلفته سحابة مظلمة من الحزن والكآبة، فزفر وقال:

وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل

ثم أخذ يردد:

نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال

وهنا قال ابن حمزة: ما هذا الشعر القاتم يا أبا الطيب؟ وما لنا ولذكر الموت والمنون؟

– الموت يا ابن حمزة راحة الحزين وموئل اليائس. كانت لي آمال ومطامح يا ابن حمزة فأين هي؟ أرأيت هذه الذرات التي تتراقص في أشعة الشمس والتي يسمونها بالهباء؟ هذه هي آمالي. أرأيت هذه الحفرة هناك؟ إنها كانت بئرًا فطمرتها الرمال وغطَّتها السوافي، هذه هي آمالي. أرأيت إلى هذا النسيم الذي إذا مددت إليه يدك لتقبض عليه فر من خلال أصابعك؟ إنه يا ابن حمزة آمالي. كانت لي آمال، وكانت لي مطامح، فعبثت بها يد الأيام، وطوّحت بها الطوائح. وكانت لي أحلام ناضرة باسمة فتيقظت بعد نهاية العمر فلم أجد نضرة ولم ألمح ابتسامًا، كنت أطمح إلى أن أكون رجل الدنيا فأبت عليَّ الدنيا، وكنت أطمح إلى أن أكون ملكًا فنبذتني العروش وسخرت مني التيجان. وكنت أقول:

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مرد

فلم أجد مشايخ إذا وجدت الحق، ولم أجد الحق إذا وجدت المشايخ، وأنا اليوم أعود إلى داري بالكوفة شيخًا همًا حطمته الأيام وثلمته الحوادث.

– ما هذه الخواطر السود يا أبا الطيب؟ لقد أعطتك الدنيا من الجاه والمال وبعد المنزلة فوق ما تمتد إليه أعناق الشعراء.

وبلغ الركب الأهواز بعد عشرين يومًا، فحطّ الرحال ليستريح وأسرع أبو الحسن السوسي عامل الأهواز فاستقبل المتنبي وأضافه أيامًا، ثم استأنف الرحيل إلى واسط، وفيها كتب عنه ابن حمزة بعض قصائده في عضد الدولة، واعتذر عن التخلف عنه لمرض نزل به، فسار الركب قاصدًا إلى بغداد ثم الكوفة، ومر المتنبي ببلدة تسمى «جَبُّل»، فنزل ضيفًا على أبي نصر محمد الجبلي فأحسن الرجل وفادته وأكرم مثواه.

أما عصابة فاتك فقد أحكمت إنفاذ مؤامرتها، ورحلت عن الكوفة على النحو الذي دبرته، وربضت بدير العاقول تنتظر قدوم المتنبي، فأسرع إلى القوم شمر بن وهب جاسوسهم بفارس وأخبرهم برحيل المتنبي، وبأنه كان يرقب طريق سيره، وبأنه رآه بالأمس وهو يحط رحاله بجبل، فتواثبوا إلى خيولهم وأخذوا يجوبون الطريق بين دير العاقول وجبل.

وحينما عزم المتنبي على الرحيل جلس إليه أبو النصر، وقال: على أي شيء أنت مجمع يا أبا الطيب؟

– لقد عزمت على الرحيل مساء اليوم، وسأتخذ الليل مركبًا فإن السير فيه يخف عليَّ.

– نعم الرأي يا أبا الطيب. ولكني أرى أن يكون معك جماعة من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة. فقطّب المتنبي وجهه، وقال: لمَ تقول هذا يا أبا النصر؟

– إنما أردت أن تستأنس بهذه الجماعة في الطريف فصاح في غضب: أمّا ونجاد السيف في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. فأجابه في مضض: الرأي لك يا أبا الطيب، وإنما كنت لك نصيحًا.

– إن تلويحك يا أبا نصر ينبئ بشيء، فعرِّفني جلية الأمر. فزفر الجبلي زفرة طويلة وقال: جلية الأمر يا سيدي أن فاتكًا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو يتّقد عليك غضبًا؛ لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد بدرت منه بوادر توجب عليك الاحتراز والتيقظ، ومعه نحو ثلاثين من بني عمه يأكلون النار ويحطمون الحجر الأسود. فالرأي يا سيدي أن تأخذ معك عشرين رجلًا يسيرون بين يديك إلى بغداد. فانتفخت أوداج المتنبي من الغيظ وصاح: لا والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي.

فأسرع أبو النصر يقول وقد نفذ صبره: يا هذا، إني سأوجه معك قومًا من قبلي يسيرون بسيرك، ويكونون في خفارتك.

– لا والله لا فعلت شيئًا من هذا. أمن عبيد العصا تخاف عليَّ؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد كلهم معطشون بخمس، وقد نظروا إلى الماء كبطون الحّيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين، إنهم كلاب عاوية يا أبا نصر، ولن يمسوا شعرة مني.

– قل: إن شاء الله يا أبا الطيب.

– هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًّا، ولا تستجلب آتيًا.

وركب المتنبي ومعه عبيده وذخائره في ليلة حالكة الظلام، وأخذ طريقه حتى حاذى النعمانية، ثم أغذ السير حتى قارب الصافية وبينها وبين بغداد ستة عشر فرسخًا. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة خرج عليه في هذا المكان فاتك ورجاله، فقاتلهم الشاعر قتال الأبطال، حتى قُتل جميع من كانوا معه وبقي وحيدًا يضرب بسيفه ذات اليمين وذات الشمال، وقد نال منه الضعف وأخذ منه الوهن، فحمل عليه فاتك وطعنه في جنبه الأيسر فأسقطه عن جواده فارتمى على الأرض، وأخذ يجود بأنفاس قصار تزاحمها حشرجة الموت ويردد:

ردِي حياض الردى يا نفس واتّركي
حياض خوف الردى للشاء والغنم
إن لم أذرك على الأرماح سائله
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤