الفصل الثالث

الحرية والمجتمع

لغز

رأينا أن هيجل يؤمن بأن أحداث الماضي كلها كانت تتجه نحو تحقيق هدف الحرية. في ختام كتاب «فلسفة التاريخ»، كانت هناك إشارة إلى أن هذا الهدف قد يكون قد تحقَّق، لكن هيجل قدَّم بعض الإشارات إلى السبب الذي ينبغي بناءً عليه اعتبار بروسيا — أو أي دولة ألمانية أخرى موجودة في ذلك الوقت — النتيجة العظيمة لثلاثة آلاف عام من النضال في تاريخ العالم. عندما ألقى هيجل محاضراته حول فلسفة التاريخ، كان عهد الإصلاح الليبرالي في بروسيا على يد فون شتاين وهاردينبرج قد انتهى. كان المَلِك ومجموعة صغيرة من العائلات ذوات النفوذ يهيمنون على بروسيا، وافتقرتْ بروسيا إلى وجود برلمان ذي شأن، حيث حَرَمتِ الأغلبية العظمى من مواطنيها من إبداء رأيهم في تصريف شئون الدولة، وفرضتْ رقابةً صارمة. كيف استطاع هيجل أن يعتبر مثل هذا المجتمع قمة الحرية الإنسانية؟ هل لنا أن نستغرب إذن قول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، وفي ذهنه هيجل: «الحكومات تُحوِّل الفلسفةَ إلى وسيلة لخدمة مصالح الدولة، والعلماءُ يُحوِّلونها إلى تجارة»؟ أو اعتقاد كارل بوبر أن هيجل كان لديه هدفٌ واحد وهو «محاربة المجتمع المنفتح؛ وذلك ليخدم سيِّدَه، فريدريش فيلهلم مَلِك بروسيا»؟

في هذا الفصل سأحاول شرح مفهوم هيجل للحرية، وفي حال نجاحي في هذه المهمة، سأكون قد أظهرتُ أنه بصرف النظر عن دافعه، يجب أخذ فكر هيجل حول هذا الموضوع على محمل الجد؛ لأنه يتعمَّق بشدة في دراسة افتراضات كثيرًا ما نطرحها عندما نقول إن مجتمعًا ما حرٌّ وآخر غيرُ حرٍّ.

لقد شاهدنا أن هيجل في مقدمة كتاب «فلسفة التاريخ» يقول إن تاريخ العالم ليس إلا تقدُّم الوعي بالحرية، ويضيف هيجل — بعد بضعة أسطر — أن مصطلح «الحرية» هو «مصطلح غير محدد وغامض بصورة هائلة … وعرضة لوقوع حالات لا حصر لها من سوء الفهم والالتباس والأخطاء.» للأسف، يمتنع هيجل عن تقديم تعريف أوضح من ذلك، قائلًا بدلًا من ذلك إن الطبيعة الأساسية للحرية «ستظهر» في عملية تفسير تاريخ العالَم. لكن هذا لا يكفي تمامًا. قد تكون دراستنا لكتاب «فلسفة التاريخ» أعطتْنا لمحة عن رؤية هيجل للحرية، لكن إنْ صحَّ هذا، فهي لمحة تستلزم على نحو سريع شرحًا إضافيًّا لتعليقات هيجل الأكثر وضوحًا عن الأمر في كتابه «فلسفة الحق».

أولًا: سأتحدث عن العنوان. يوحي العنوان: «فلسفة الحق» للقارئ العادي بأن الكتاب يتناول موضوع الصواب والخطأ؛ أي دراسة حول الأخلاق. بالفعل تبرز الأخلاق في الكتاب، لكن موضوعه أقرب للفلسفة السياسية. الكلمة الألمانية في عنوان كتاب هيجل المترجمة إلى «الحق» هي Recht. قد تعني هذه الكلمة «الحق»، لكن لها دلالات أوسع، بما في ذلك «القانون»، حين نشير إلى «القانون» كمفهوم لا إلى قانون بعينه. وهكذا يُعبِّر كتاب «فلسفة الحق» عن أفكار هيجل الفلسفية حول الأخلاق وعلم القانون والمجتمع والدولة. ونظرًا لأن الحرية دائمًا ما تكون محورية لدى هيجل، يتضمن هذا الكتاب أكثر معالجة تفصيلية للحرية على المستويين الاجتماعي والسياسي. بالطبع يتضمن معالجات لموضوعات أخرى أيضًا، لكنني سأتغاضى عنها من أجل السعي وراء مفهوم الحرية المهم.

الحرية المجردة

من الأفضل أن نبدأ بشيء مألوف. تأمَّل ما يمكن أن نطلق عليه المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للحرية. يرى الليبراليون عامةً الحريةَ بوصفها غيابَ القيود؛ فأنا حرٌّ إذا لم يتدخل الآخرون في شئوني ولم يجبروني على فعل شيء لا أرغب في القيام به؛ أنا حرٌّ عندما أقوم بما يحلو لي. أنا حرٌّ عندما يَدَعُني الآخرون وشأني. هذا هو مفهوم الحرية الذي أطلق عليه أشعيا برلين «الحرية السلبية» في مقاله الشهير «مفهومان للحرية».

كان هيجل على دراية بهذا المفهوم للحرية، لكنه، على عكس برلين وكثير غيره من الليبراليين والمؤمنين بحرية الإرادة المعاصرين الذين يرَوْن أن هذا هو أفضل شكل للحرية، يشير إليه بالحرية الشكلية أو المجردة؛ أي إنه يتسم بمظهر الحرية لكن دون جوهرها. يقول هيجل: «إذا سمعنا مَن يقول إن تعريف الحرية هو القدرة على فعل ما يحلو لنا، فإن هذه الفكرة لا تعكس سوى عدم نضوج فكري تام؛ لأنها لا تتضمن حتى تلميحًا إلى الإرادة الحرة كليًّا والحق والحياة الأخلاقية وغيرها.» إن اعتراض هيجل على هذا المفهوم للحرية يرجع إلى أنه يجعل اختيارات الفرد الأساس الذي يجب أن تبدأ منه الحرية؛ أما كيف ولماذا يتم اتخاذ هذه الاختيارات، فهو السؤال الذي لا يطرحه أصحاب هذا المفهوم بشأن الحرية. لكن هيجل يطرح هذا السؤال، وإجابته هي أن اختيار الفرد، بمعزل عن أي شيء آخر، هو نتاج ظروف قسرية؛ لذا فهو اختيار غير حرٍّ حقًّا.

يبدو هذا غطرسةً؛ فكيف يجرؤ هيجل على إخبارنا بأن اختياراتنا قسرية، بينما اختياراته — كما هو مفترض — حرة بحق؟ أليست هذه محاولة سافرة لفرض قِيَمه علينا؟

ربما، لكن قد نصبح أكثر تعاطفًا مع ما يحاول هيجل قوله إذا ما تأملنا جدالًا معاصرًا مشابهًا. يعتقد بعض علماء الاقتصاد أن الاختبار الحقيقي لقياس سلامة أي نظام اقتصادي هو مدى تمكينه للناس من تلبية تفضيلاتهم. يتخذ علماء الاقتصاد هؤلاء من التفضيلات الفردية أساسًا يجب أن تبدأ منه عملية التقييم. هم لا يسألون عن كيفية تشكُّل هذه التفضيلات. يقول علماء الاقتصاد هؤلاء إن الاختيار من بين التفضيلات، وإعطاء بعض التفضيلات أهمية أكثر من الأخرى — دون النظر إلى مستويات الأهمية المختلفة التي وضعها الأفراد أنفسهم لتفضيلاتهم — قد تكون محاولة سافرة لفرض قِيَمنا الشخصية على الآخرين عبر إنكار قدرتهم على تحديد ما يرغبون فيه حقًّا من حياتهم.

fig8
شكل ٣-١: أشعيا برلين (١٩٠٩–١٩٩٧).

سأطلق على علماء الاقتصاد هؤلاء «الاقتصاديين الليبراليين»، وهناك أيضًا نُقَّاد لهؤلاء الاقتصاديين، سأطلق عليهم «الاقتصاديين الراديكاليين». يطرح الاقتصاديون الراديكاليون بعض الأسئلة حول كيفية تَشَكُّل التفضيلات الفردية قبل أن يوافقوا على اعتبار هذه التفضيلات الأساس الأوحد لحكمهم على سلامة أي نظام اقتصادي. ويضربون أمثلة مشابهة لما يلي: افترض أن في وقت ما تقبَّل الناس في مجتمعنا رائحة الجسد البشري الطبيعية كأمْرٍ مُسَلَّمٍ به، وأن عَرَقَ الإنسان وإمكانية أن تفوح رائحة منه هما من الأشياء التي لا يلاحظونها إلا بالكاد؛ وبقدْر عدم ملاحظتهم لها، هم لا يعتبرون تلك الرائحة كريهة. ثم يكتشف شخص ما منتَجًا يمنع العرقَ والرائحةَ التي تنتج عنه. هذا اكتشاف رائع، لكن في المجتمع الذي وصفناه، سيكون الاهتمام بهذا المنتج محدودًا للغاية. ومع ذلك، لا يستسلم صاحب المنتج بسهولة، ويطرح حملة دعائية ذكية تمَّ تصميمها لتثير قلقَ الناس بشأن ما إذا كانوا يتصببون عرقًا أكثر من الآخرين، وما إذا كان أصدقاؤهم قد يجدون رائحة جسدهم كريهة. تنجح حملته الدعائية، ويتشكَّل لدى الناس تفضيل لاستخدام المنتج الجديد. ونظرًا لتوافر المنتج على نطاق واسع وبسعر في متناولهم، يمكنهم تلبية هذا التفضيل. من وجهة نظر الاقتصاديين الليبراليين، كل هذا رائع؛ فعمل الاقتصاد بهذه الطريقة لا يعطيهم أي سبب لمنحه تصنيفًا أقل إيجابية مما كان من الممكن أن يمنحوه إياه بخلاف ذلك. أما الاقتصاديون الراديكاليون، فيرَوْن أن هذا عبثٌ واضح. ولتجنُّب مثل هذا العبث — في رأيهم — يجب على الاقتصاديين التصدي للمهمة الصعبة المتمثلة في التدقيق في أساس تكوين هذه التفضيلات والحكم على الأنظمة الاقتصادية وفقًا لقدرتها على تلبية — ليس فقط أي تفضيلات، ولكن — التفضيلات القائمة على احتياجات إنسانية حقيقية أو التي تسهم في تحقيق منفعة إنسانية فعلية. يقول الاقتصاديون الراديكاليون بأننا إذا اتبعنا طريقتهم، فلا يمكننا الزعم بأن تقييمنا سيكون متجردًا من القيمة، لكنهم يضيفون أنه لا توجد أي طريقة لتقييم أي نظام اقتصادي يمكن أن تكون متجردة من القيمة. فطريقة التقييم التي يستخدمها الاقتصاديون الليبراليون اعتمدتْ ببساطة على قيمة تلبية التفضيلات الحالية فقط. وهكذا يكون الحكم القيمي مضمنًا في استخدام هذه الطريقة، على الرغم من كونه متخفيًا تحت عباءة الموضوعية. فالاقتصاديون الليبراليون يباركون في الواقع أي ظروف تصادف تأثيرها على تفضيلات الناس.

هناك تشابه واضح بين هذا الجدال وجدال هيجل مع مَن يُعَرِّفون الحرية بأنها القدرة على فعل ما يحلو لنا. فهذا المفهوم السلبي للحرية يشبه مفهوم الاقتصاديين الليبراليين عن النظام الاقتصادي الجيد؛ فهو يرفض طرح أسئلة حول المؤثرات التي تشكِّل «المُتَع» التي نستمتع بها عندما نكون أحرارًا في فعل ما يحلو لنا. يؤكد أصحاب هذا المفهوم عن الحرية أن طرح مثل هذا السؤال واستخدام الإجابات عنه كأساس لفرز الاختيارات الحرة الحقيقية عن الاختيارات الحرة في ظاهرها فقط وليس في جوهرها، سيكون كمَن يسجِّل قِيَمه الشخصية في مفهوم الحرية. ويأتي رد هيجل، مثل رد الاقتصاديين الراديكاليين، أن المفهوم السلبي للحرية يستند بالفعل إلى قيمة، قيمة الفعل التي تستند إلى الاختيار، بصرف النظر عن كيفية الوصول إلى هذا الاختيار أو مدى كونه قسريًّا. بكلمات أخرى، يُبارك مفهوم الحرية السلبي أيَّ ظروف تصادف تأثيرها على طريقة اختيار الناس.

إذا كنتَ موافقًا على أنه من العبث عدم رؤية أي وجه اعتراض على نظام اقتصادي يقوم بإنشاء تفضيلات جديدة على نحو زائف، حتى يتربَّح البعض من تلبية تلك التفضيلات، فيجب حينها أن تُقرَّ بأن الاقتصاديين الراديكاليين على حق. بالطبع سيكون من الصعب فرز التفضيلات التي تُسهِم في تحقيق منفعة إنسانية حقيقية عن التفضيلات التي لا تفعل ذلك. وقد يكون من المستحيل الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن. ومع ذلك، يجب ألَّا تكون صعوبة المهمة سببًا لتقبُّل جميع التفضيلات كمقياس لسلامة أي نظام اقتصادي.

إذا كنت موافقًا على أن الاقتصاديين الراديكاليين على حق، فلا ينقصك إلا خطوة واحدة صغيرة كي توافق على أن هيجل على حق. في الواقع، هي ليست خطوة على الإطلاق؛ فقد استَبَقَ هيجل النقطة الرئيسية لموقف الاقتصاديين الراديكاليين، وهي النقطة التي أصبحتْ شائعة في العصور الحديثة على يد جيه كيه جالبريث وفانس باكارد ومجموعة كبيرة من النقَّاد الآخرين للاقتصاد الصناعي. فنجد هيجل يكتب في مستهل أيام المجتمع الاستهلاكي، لكن بإدراك كافٍ للتعرف على الطريق الذي كان يسلكه:

إن ما يطلق عليه الإنجليز «الراحة» هو شيء لامُتناهٍ ولا حدَّ له. ويمكن أن يكشف لك آخرون أن ما تعتبره راحة في مرحلة ما هو مشقة، ومثل هذه الاكتشافات لا تنتهي أبدًا. ولذلك فإن الحاجة إلى مقدار أكبر من الراحة لا تنبع تحديدًا من داخلك مباشرةً، بل يوحي إليك بها أولئك الذين يأملون في التربح منها.

يأتي هذا التعليق في جزء من كتاب «فلسفة الحق» يتناول ما يطلق عليه هيجل «نسق الحاجات»، ويأتي على إثر إشارة إلى شخصيات بارزة في النظرية الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية، وهم آدم سميث وجيه بي ساي وديفيد ريكاردو. يوضح نقد هيجل لنسق الحاجات هذا أن سبب معارضته للرؤية الاقتصادية الليبرالية للمجتمع هو في جوهره السبب نفسه الذي يُبديه الاقتصاديون الراديكاليون اليوم. وخلف هذا يكمن منظور هيجل التاريخي الثابت. فلا تغيب عن ناظره مطلقًا حقيقة أن احتياجاتنا ورغباتنا يُشكِّلها المجتمع الذي نحيا فيه، وأن هذا المجتمع في المقابل هو مرحلة في عملية تاريخية. وهكذا تكون الحرية المجردة — أيْ حريةُ أن نفعل ما يحلو لنا — هي الحرية في أن تقودنا القوى الاجتماعية والتاريخية لعصورنا.

ينبغي أن تكون وجهة نظر هيجل الآن قد بدتْ منطقية بما يكفي بوصفها نقدًا للمفهوم السلبي للحرية. ومع ذلك، ماذا ينوي أن يضع مكانه؟ فجميعنا يجب أن يحيا في مجتمع محدد وفترة محددة من التاريخ. وسنتشكل جميعًا بواسطة المجتمع والعصور التي نحيا فيها. فكيف يمكن إذن للحرية أن تكون أي شيء بخلاف حرية أن نفعل ما تسوقنا القوى الاجتماعية والتاريخية إلى فعله؟

الحرية والواجب

بعض رغباتنا هي نتيجة لطبيعتنا، مثل الرغبة في الأكل التي وُلدنا بها، أو الرغبات الجنسية التي وُلدنا بإمكانية تنميتها. وتشكَّلت معظم رغباتنا الأخرى نتيجة لنشأتنا وتعليمنا والمجتمع الذي نحيا فيه والبيئة المحيطة بنا عمومًا. وسواء أكان أصل هذه الرغبات بيولوجيًّا أو اجتماعيًّا، ففي كلتا الحالتين نحن لم نخترْها. ونظرًا لأننا لم نخترْ رغباتنا، فنحن لسنا أحرارًا عندما نتصرف وفقًا لرغباتنا.

هذه الحُجَّة تُذكِّرنا بكانط أكثر مما تذكِّرنا بهيجل، لكن هيجل يتفق معها حتى حدٍّ معين. لنتتبع هذه الحُجَّة لأبعد من ذلك قليلًا. إذا لم نكن أحرارًا عندما نتصرف وفقًا لرغباتنا، فحينها يبدو أن الطريق الوحيد الممكن نحو الحرية هو تطهير أنفسنا من كل الرغبات. لكن ماذا سيتبقى لنا حينئذٍ؟ يجيب كانط عن هذا السؤال بقوله: العقل. إن الدافع للعمل يمكن أن يأتي من الرغبات أو من العقل. تخلصوا من الرغبات، وسيتبقى لنا عقل عملي خالص.

إن فكرة كون الأفعال تستند إلى العقل وحده ليس من السهل استيعابها. يمكننا التحدث بسهولة عن كون أفعال شخص ما عقلانية أو غير عقلانية، لكننا عادة ما نفعل ذلك في معرض الغايات أو الأهداف النهائية لهذا الشخص، وهذه الغايات ستكون قائمة على الرغبات. فعلى سبيل المثال، إن معرفة أن هيلين، وهي ممثلة شابة وموهوبة، ترغب في اقتحام عالَم السينما يمكن أن تجعلني أقول إنه سيكون تصرفًا غير عقلاني منها أن تأكل الكثير من الحَلْوَى لدرجة تصبح معها بدينة، لكن في حال سُئلتُ إذا ما كنتُ أعتبر رغبة هيلين في أن تصبح نجمة سينمائية هو تصرف عقلاني، فماذا يمكن أن أقول؟ يمكن فقط أن أقول إن هذا النوع من الرغبات أساسي للغاية بحيث لا يمكن أن يكون عقلانيًّا أو غيرَ عقلاني: إنه مجرد شيء لا يمكن تفسيره عن المرأة. هل من الممكن أن يكون هناك أحكام تتعلق بالعقلانية أو عدم العقلانية لا تستند إلى رغبات أساسية من هذا النوع؟

يقول كانط إن ذلك ممكن. فعندما نتخلص من جميع الرغبات الخاصة، حتى أكثرها أساسية، لا يتبقى لنا سوى عامل العقلانية المجرد والأساسي؛ وهذا العامل المجرد والأساسي هو الشكل الكوني العام للقانون الأخلاقي ذاته. هذا هو مبدأ كانط الشهير «الأمر المطلق» الذي يصيغه كما يلي: «تصرف دائمًا بحيث يمكن لمبدأ فعلك أن يكون قانونًا كونيًّا للطبيعة.»

إن الخطوة الأكثر إرباكًا في هذا هي الانتقال من العقلانية المجردة والأساسية إلى فكرة شيء كوني. يعتقد كانط — ويوافقه هيجل على نحو واضح — أن العقل كوني ضمنيًّا. فإذا علمنا أن جميع البشر فانون وأن سقراط كان إنسانًا، فإذن تخبرنا قاعدة عقلية أن سقراط فانٍ. إن القاعدة العقلية التي تخبرنا بهذا هي قاعدة كونية؛ فهي لا تقتصر على اليونانيين أو الفلاسفة أو حتى سُكَّان كوكب الأرض فقط، بل تمتد لتشمل جميع الكائنات العاقلة. في التفكير العملي — أي التفكير بشأن ما تفعل — كثيرًا ما يتم حجب هذا العامل الكوني من خلال حقيقة أننا نبدأ من رغبات خاصة غير كونية على الإطلاق. تأمَّل هذا النموذج من التفكير العملي: «أريد أن أصبح غنيًّا، ويمكنني الاحتيال على صاحب العمل في مبلغ مليون دولار دون أن يكتشف أمري؛ لذا ينبغي أن أحتال على صاحب العمل.» هنا يبدأ التفكير من منطلق رغبتي في أن أصبح غنيًّا. لا يوجد أي شيء كوني بشأن هذه الرغبة. «لا تنخدع بحقيقة أن كثيرًا من الناس يرغبون في أن يصبحوا أغنياء؛ الرغبة التي بدأتُ منها هذا التفكير هي رغبتي أنا، بيتر سينجر، في أن أصبح غنيًّا. القليل جدًّا جدًّا من الناس يشتركون معي في هذه الرغبة.» ونظرًا لعدم وجود أي شيء كوني بشأن نقطة انطلاق هذا النموذج من التفكير، فلا يوجد أي شيء كوني بشأن نتيجته، التي لا تنطبق بالتأكيد على جميع الكائنات العاقلة. ومع ذلك، فإن كنا نفكر بشأن ما نفعله دون الانطلاق من أي رغبة خاصة، فليس هناك ما يمنع تفكيرنا من أن ينطبق على جميع الكائنات العاقلة. التفكير العملي المحض، بعيدًا عن الرغبات الخاصة، يمكن فقط أن يجسِّد العامل الكوني في التفكير. ويؤكد كانط أنه هكذا يأخذ الشكل الذي يقتضيه الأمر المطلق.

إذا كان كانط على حق، فشكل التصرف الوحيد الذي لا ينتج عن رغباتنا الفطرية أو الاجتماعية هو التصرف وفقًا للأمر المطلق. إذن فالتصرف يكون حرًّا فقط إذا كان وفقًا للأمر المطلق. ونظرًا لأن التصرف الحر فقط هو الذي يمكن أن يكون ذا قيمة أخلاقية حقيقية، يجب ألَّا يقتصر الأمر المطلق على كونه الأمر الأعلى للعقل، بل أن يكون أيضًا القانون الأعلى للأخلاق.

هناك نقطة أخيرة ضرورية لإكمال الصورة. إذا كان تصرفي حرًّا، فلا يمكن أن يكون دافعي للتصرف وفقًا للأمر المطلق هو أي رغبة خاصة يمكن أن تكون لديَّ؛ لذلك لا يمكن أن تكون رغبتي أن أدخل الجنة أو أن أحظى باحترام أصدقائي، ولا رغبتي الخيرية في فعل الخير للآخرين. يجب أن يكون دافعي ببساطة هو التصرف وفقًا للقانون الكوني للعقل والأخلاق لذاته، ويجب أن أقوم بواجبي لأنه واجبي. إن الدافع الأعلى للعمل الأخلاقي عند كانط أحيانًا ما تلخَّص في الشعار التالي: «الواجب من أجل الواجب.» إنه ينبع بالتأكيد مما قاله كانط بأننا أحرار عندما نقوم بواجبنا لذاته وليس خلاف ذلك.

وهكذا وصلنا إلى استنتاج أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. سيجد القارئ المعاصر هذا الاستنتاج متناقضًا؛ فمصطلح «الواجب» أصبح مرتبطًا بطاعة قوانين المؤسسات التقليدية، مثل الجيش والأسرة. وعندما نتحدث عن القيام بواجبنا، كثيرًا ما نقصد أننا نقوم بما لا نُفضِّل القيام به، لكن نشعر بأننا مجبرون على القيام به وفقًا للقوانين العرفية التي لا نرغب في تحدِّيها. إن «الواجب» بهذا المعنى هو مضادُّ الحرية.

إذا كان هذا هو أساس اعتبار هذا الاستنتاج — أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا — متناقضًا، فإذن ينبغي أن ننحِّيه جانبًا. فاستنتاج كانط كان أن الحرية تكمن في القيام بما نراه واجبنا حقًّا بالمعنى الأوسع للمصطلح. ولصياغة وجهة نظره بطريقة قد يكون القارئ المعاصر أكثر استعدادًا لقبولها نقول: الحرية تكمن في اتباع الضمير الشخصي. هذا يعبِّر بدقة عما قصده كانط، ما دمنا نتذكر أن «الضمير» هنا لا يعني «الصوت الداخلي» المشروط بظروف اجتماعية الذي قد أسمعه، بل يعني الضمير الذي يستند إلى قبول عقلاني للأمر المطلق بوصفه القانون الأخلاقي الأعلى. وبهذه الصياغة، قد لا يزال الاستنتاج الذي توصلنا له حتى الآن صعب التصديق، لكن ينبغي ألَّا يبدو متناقضًا بعد الآن. فحرية الضمير، على أي حال، معروفة على نطاق واسع بأنها جزء محوري مما نؤمن بأنه الحرية، حتى وإن لم تكن الحرية بأكملها.

حان وقت العودة إلى هيجل. الكثير مما كنتُ أصفه على أنه رأي كانط، هو أيضًا رأي هيجل. فنحن لسنا أحرارًا عندما نتصرف انطلاقًا من رغبات فطرية أو اجتماعية معينة، والعقل كوني بصورة أساسية، كما أن الحرية يمكن العثور عليها في ما هو كوني؛ كل هذه الآراء يستقيها هيجل من كانط ويتبناها. علاوة على ذلك، في كتاب «فلسفة التاريخ» — كما رأينا — يعتبر هيجل حركة الإصلاح الديني فجرَ العصر الجديد للحرية؛ لأنها تنادي بحقوق الضمير الفردي. وهكذا يرى هيجل — مثله مثل كانط — علاقة بين الحرية وتطور الضمير الفردي. كما لا يعارض هيجل فكرة أن الحرية تكمن في القيام بواجبنا. الواجب — يقول هيجل — يظهر كقيد على رغباتنا الطبيعية أو القسرية، لكن الحقيقة هي أن «في الواجب، يجد الفرد تحرره … من دافع طبيعي خالص … في الواجب يكتسب الفرد حريته الحقيقية.» قال هيجل معلقًا بشكل مباشر على ما قاله كانط: «عند القيام بواجبي، أنا مستقل وحر. إن التأكيد على هذا المعنى للواجب يشكل أهم ما يميز فلسفة كانط وشموخ رؤيتها.»

إذن يرى هيجل أن القيام بواجبنا لذاته هو تقدُّم بارز عن الفكرة السلبية للحرية بوصفها فعلَ ما يحلو لنا. ومع ذلك، نجد أن هيجل غير راضٍ عن رؤية كانط. نعم هو يرى العوامل الإيجابية فيه، لكنه في الوقت ذاته من أشد النُّقَّاد اللاذعين له. فالجزء الثاني من كتاب «فلسفة الحق»، الذي يحمل عنوان «الأخلاق»، هو في معظمه هجوم على نظرية كانط الأخلاقية.

لهيجل وجها اعتراض؛ يتمثل أولهما في أن نظرية كانط لا تتعمَّق مطلقًا إلى تفاصيل ما يجب أن نفعله. وذلك ليس نتيجة لعدم اهتمام كانط نفسه بمثل هذه المسائل العملية، لكن نتيجة لأن نظريته بالكامل تؤكد بشدة أن الأخلاق يجب أن تستند إلى التفكير العقلي العملي المحض، مجردة من أي دوافع خاصة. ونتيجة لذلك، لا يمكن أن تقدم النظرية سوى الشكل المجرد والكوني للقانون الأخلاقي؛ فهي لا تستطيع أن تخبرنا بماهية واجباتنا المحددة. يقول هيجل إن هذا الشكل الكوني هو ببساطة مبدأ الاتساق أو عدم التناقض. فإن لم تكن لدينا نقطةٌ لننطلق منها، فلن نصل إلى أي مكان. على سبيل المثال، إن قَبِلْنا بصحة التملُّك، تكون السرقة غير متسقة؛ لكن يمكننا إنكار أن التملك يُولِّد أيَّ حقوق، ونكون لصوصًا متسقين تمامًا. فإذا كان التوجيه «تصرَّفْ بما لا يناقض ذاتك!» هو المحرك الوحيد لتصرفاتنا، فقد نجد أنفسنا لا نفعل شيئًا على الإطلاق.

fig9
شكل ٣-٢: هيجل أثناء إلقاء محاضرة.

سيكون هذا الاعتراض على مبدأ الأمر المطلق الخاص بكانط مألوفًا ليس فقط لتلاميذ كانط، بل أيضًا للمهتمين بالفلسفة الأخلاقية المعاصرة. لا يزال هناك إصرار واسع النطاق على أهمية مطلب كون المبادئ الأخلاقية كونية في شكلها — على سبيل المثال، من قِبَل آر إم هير، مؤلف كتابَي «الحرية والعقل» و«التفكير الأخلاقي» — كما أن الاعتراض على أن هذا المطلب هو نوع من الشكليات الفارغة التي لا تخبرنا بشيء لا يزال يُطرح على نحو متكرر. ودفاعًا عن كانط، قد تمَّ اقتراح تفسير نظريته بوصفها تسمح لنا بالانطلاق من رغباتنا، لكنها تتطلب منا التصرف حيالها فقط في حال قدرتنا على وضعها في شكل كوني؛ أي أن نقبلها كأساس ملائم للتصرف لأي شخص في موقف مماثل. يستبِقُ هيجل هذا التفسير زاعمًا أن أي رغبة يمكن أن توضع في شكل كوني؛ ولذا ما إن يُسمح بأن نتخذ رغبات خاصة كنقطة انطلاق لتصرفاتنا، فلا يمكن لمطلب الشكل الكوني منعنا من تبرير أي تصرف غير أخلاقي يخطر ببالنا.

أما اعتراض هيجل الثاني على كانط، فهو أن رؤية كانط تجعل الإنسان منقسمًا على نفسه، وتضع العقل في صراع أبدي مع الرغبة، وتحرم الجانب الطبيعي للإنسان من أي حق للإشباع. فرغباتنا الطبيعية هي شيء يجب كَبْتُه، ويكلف كانط العقل بمهمة كَبْتها الشاقة، إن لم تكن المستحيلة. في هذا الاعتراض — كما رأينا — كان هيجل يتفق مع طرح شيلر في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، إلا أن هيجل استغل نقد شيلر بطريقته الخاصة.

يمكننا وضع هذه النقطة في سياق مشكلة أخرى مألوفة متعلقة بالأخلاق الحديثة. إن اعتراض هيجل الرئيسي الثاني على نظرية كانط الأخلاقية هو أنها لا تقدم حلًّا للتعارض بين الأخلاق والمصلحة الشخصية؛ فكانط ترك السؤال التالي دون إجابة ودون إمكانية الإجابة عنه أبدًا: «لماذا ينبغي أن نكون على خُلُق؟» لقد أُخبرنا أنه ينبغي علينا القيام بواجبنا لذاته، وأن البحث عن أي سبب آخر هو بُعد عن الدافع الحر والخالص الذي تتطلبه الأخلاق؛ لكن هذه ليست إجابة بأي حال من الأحوال، بل مجرد رفض للسماح للسؤال بأن يُطرح.

في كتابه «محاضرات في التربية الجمالية للإنسان»، أشار شيلر إلى وقت مضى لم يكن فيه هذا السؤال ببساطة قد طُرح، ولم تكن فيه الأخلاق قد انفصلت عن المُثُل العرفية للحياة الجيدة، ولم يكن فيه هناك مفهوم كانط عن الواجب. رأى هيجل أنه بمجرد أن طُرح السؤال، أصبح من المستحيل عودة الأخلاق العرفية. على أي حال، اعتبر هيجل مفهوم كانط عن الواجب تقدمًا يجب عدم الندم عليه؛ لأنه يساعد الإنسان الحديث في أن يصبح حرًّا بطريقة لم يتمكن اليونانيون — وهم مكبَّلون في آفاقهم العرفية الضيقة — مطلقًا من تحقيقها. إن ما سعى هيجل لفعله هو أن يجيب عن السؤال على نحو يجمع بين الإشباع الطبيعي لأسلوب حياة اليونانيين والضمير الحر لفكرة كانط عن الأخلاق. وكانت إجابته في الوقت ذاته تقدِّم علاجًا للخلل الرئيسي الآخر في نظرية كانط؛ ألَا وهو الافتقار التام للمضمون.

المجتمع العضوي

يجد هيجل أن الجمع بين الإشباع الفردي والحرية يتوافق مع الطبيعة الاجتماعية للمجتمع العضوي. السؤال الآن: ما شكل المجتمع الذي كان يجول في خاطره؟

قرب نهاية القرن التاسع عشر، تبنَّى الفيلسوف البريطاني إف إتش برادلي — الذي قد لا يكون على نفس مستوى هيجل بوصفه مفكرًا أصيلًا، لكنه بالتأكيد يتفوق عليه في أسلوب الكتابة — فكرة هيجل عن المجتمع العضوي؛ لذلك سأجعل عرض برادلي لأساس التناغم بين المصلحة الشخصية والقيم المجتمعية يتحدث نيابة عن هيجل. يصف برادلي تطور الطفل الذي ينشأ في مجتمع كالتالي:

يولد … الطفل … في عالم حي … هو لا يفكر حتى في ذاته المستقلة؛ ينمو مع عالَمه، عقله يملأ نفسه ويأمرها؛ وعندما يستطيع فصل ذاته عن ذلك العالم والتعرف عليها بعيدًا عنه، تكون نفسه — المسئولة عن وعيه بذاته — حينئذٍ قد تمَّ اختراقها وإفسادها، ويجد بها آخرين. ويظهر مضمونها في كل جانب منها الارتباط بالمجتمع. فهو يتعلم، أو ربما يكون قد تعلم بالفعل، أن يتحدث، وهنا يستغل الإرث المشترك لبني جنسه، اللغة التي يعتبرها خاصة به هي لغة بلاده، فهي … نفسها التي يتحدث بها الآخرون وتحمل إلى عقله أفكار بني جنسه وعواطفهم … وتميزها بِسِمَة لا يمكن محوها. يكبر في إطار القدوة والتقاليد العامة … وروحه التي بداخله تشبَّعتْ، وامتلأت، وتميزت، وتكيفت، وتوصلت إلى جوهرها، وأنشأت نفسها، هي ذاتها الحياة في الحياة الكونية، وإذا ما انقلب عليها، فهو ينقلب على نفسه.

fig10
شكل ٣-٣: إف إتش برادلي (١٨٤٦–١٩٢٤).

إن وجهة نظر برادلي، وهيجل، هي أنه نظرًا لأن احتياجاتنا ورغباتنا يشكِّلها المجتمع، يقوم المجتمع العضوي بتشجيع الرغبات التي تُفيده أكثر، كما يرسخ في أذهان أعضائه أن هويتهم تكمن في كونهم جزءًا منه حتى لا يفكروا مطلقًا في الخروج عليه سعيًا وراء مصالحهم الشخصية، وهذا يشبه تفكير أحد أعضاء الجسم البشري، كأن تفكِّر الذراع اليسرى في الانفصال عن الكتف سعيًا لإيجاد شيء أفضل للقيام به بدلًا من إدخال الطعام في فم الإنسان. وينبغي أيضًا ألَّا ننسى أن العلاقة بين الكائن الحي وأعضائه هي علاقة تبادلية؛ فأنا بحاجة إلى ذراعي اليسرى وذراعي اليسرى بحاجة إليَّ. لن يتجاهل المجتمع العضوي مصالح أعضائه مثلما لا يمكنني تجاهل حدوث إصابة في ذراعي اليسرى.

إذا أمكننا قبول هذا النموذج العضوي للمجتمع، فيمكننا ضمان أنه سينهي الصراع القديم بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع. لكن كيف يحافظ هذا النموذج على الحرية؟ ألا يُظهر مجرد امتثال ضيِّق الأفق للعادات والتقاليد؟ وفيمَ يختلف عن المجتمعات اليونانية التي يعتبرها هيجل مفتقرة للمبدأ الرئيسي للحرية الإنسانية الذي قدمتْه حركة الإصلاح الديني، والذي عبَّر عنه — ولو من جانب واحد — مفهوم كانط عن الواجب؟

يختلف مواطنو مجتمع هيجل عن مواطني العالم اليوناني؛ لأنهم بالتأكيد ينتمون إلى عصر تاريخي مختلف، ولديهم الإنجازات التي حقَّقتْها روما، والمسيحية، وحركة الإصلاح الديني باعتبارها جزءًا من تراثهم الفكري. وهم على دراية بقدرتهم على تحقيق الحرية وقدرتهم على اتخاذ قراراتهم الشخصية وفقًا لضمائرهم. فالأخلاق العرفية، التي تتطلب الامتثال لقوانينها لأن العُرف ببساطة يقضي بالامتثال لها، لا يمكن أن تتحكَّم في طاعة الأشخاص ذوي التفكير الحر (لقد رأينا كيف كان تشكيك سقراط تهديدًا خطيرًا لأساس المجتمع في أثينا). لا يمكن أن يمتثل الأشخاص ذوو التفكير الحر إلا للمؤسسات التي يؤمنون أنها تعمل وفقًا للمبادئ العقلانية؛ لذا فإن المجتمع العضوي الحديث، على عكس المجتمعات القديمة، يجب أن يقوم على مبادئ العقل.

رأينا في كتاب «فلسفة التاريخ» ما حدث عندما تجرَّأ الناس للمرة الأولى على إسقاط المؤسسات غير العقلانية وتأسيس دولة جديدة تستند إلى المبادئ العقلانية الخالصة. لقد أدرك قادة الثورة الفرنسية العقل بمعناه المجرد والكوني الخالص، الذي لم يكن ليتسامح مع النزعات الطبيعية للمجتمع. كانت الثورة هي التجسيد السياسي للخطأ الذي وقع فيه كانط فيما يتعلق بمفهومه المجرد والكوني الخالص عن الواجب، الذي لم يكن ليتسامح مع الجانب الطبيعي للبشر. وامتثالًا لهذه العقلانية الخالصة، تمَّ إلغاء المَلَكية، وجميع طبقات النبلاء الأخرى، وتمَّ إحلال ديانة «عبادة العقل» محل الديانة المسيحية، وتم إلغاء نظام الموازين والمقاييس القديم لإفساح المجال للنظام المتري الأكثر عقلانية، حتى التقويم تم إصلاحه؛ وكانت النتيجة الإرهاب، الذي يتصارع فيه ما هو كوني خالص مع الفرد ويتخلص منه. أو لنصيغه بكلمات مختلفة عن لغة هيجل: ترى الدولةُ الأفرادَ بوصفهم أعداءها وتقتلهم.

وعلى الرغم من فجاعة فشل الثورة الفرنسية بالنسبة لأولئك الذين عانَوْا منها، هناك درس مهم يجب تعلُّمه؛ وهو أنه لبناء دولة على أساس عقلاني بحق يجب ألَّا ندمر كل شيء ونحاول البدء من نقطة الصفر تمامًا، بل يجب أن نبحث عما هو عقلاني في العالم الحالي ونسمح لهذا العامل العقلاني بالانطلاق لأقصى مدًى. وبهذه الطريقة، يمكننا أن نضيف إلى العقل والفضيلة الموجودَيْن بالفعل في المجتمع.

فيما يلي قصة رمزية حديثة يمكن أن توضِّح سبب نظرة هيجل إلى الثورة الفرنسية باعتبارها فشلًا مجيدًا، وما قد نتعلمه منها: عندما بدأ الناس الحياة في المدن، لم يفكر أحدٌ في تخطيط المدن، بل قاموا فقط بإنشاء منازلهم ومتاجرهم ومصانعهم في أي مكان بدا لهم أكثر ملاءمة، ونمَت المدن بطريقة فوضوية تمامًا. ثم أتى شخص ما وقال: «هذا أمر سيِّئ! نحن لا نفكر بشأن المظهر الذي نرغب في أن تبدو عليه مدننا. حياتنا تحكمها المصادفة! نحتاج شخصًا ما لتخطيط مدننا، ليجعلها تتماشى مع تصورنا للجمال والحياة الجيدة.» وهكذا ظهر مخططو المدن، الذين أزالوا الأحياء القديمة وأنشئوا مباني سكنية عالية عصرية، يحيط بها طوق من المروج الخضراء. وتمَّ توسيع الطرق وتسويتها، ووضع مراكز التسوق في منتصف مساحات شاسعة لانتظار السيارات، وعزل المصانع بعناية بعيدًا عن المناطق السكنية. ثم جلس مخططو المدن في انتظار أن يشكرهم الناس، لكن الناس تذمَّروا؛ لأنهم عندما ينظرون من شققهم المرتفعة لا يتمكنون من رؤية أطفالهم وهم يلعبون في المروج التي تبعد مسافة عشرة أدوار عنهم؛ تذمروا لافتقادهم المتاجر الصغيرة المحلية، ولأن المسافة كانت بعيدة ليعبروا كل هذه المروج الخضراء وأماكن انتظار السيارات ليصلوا إلى مراكز التسوق؛ تذمروا لأنه نتيجة لاضطرار كل شخص الآن أن يقود سيارته إلى العمل، أصبحت تلك الطرق المستوية والواسعة الجديدة تعاني من اختناق مروري. وأسوأ من كل ذلك، أنهم تذمروا لأن أحدًا لم يَعُد يسير في الشوارع؛ مما جعل الشوارع غير آمنة، وأصبح السير عبر هذه المروج الخضراء الفاتنة بعد أن يحل الظلام أمرًا خطيرًا. ولذلك تمَّ الاستغناء عن مخططي المدن القدامى وظهر جيل جديد من مخططي المدن، كان قد تعلَّم من أخطاء سابقيهم. وأول ما قام به مخططو المدن الجدد هو وقف هدم الأحياء القديمة. وبدلًا من هذا، بدءوا ملاحظة السمات الإيجابية في المدن القديمة غير المخططة، وراقتْهم الآفاق المتعددة للشوارع الضيقة غير المستوية، ولاحظوا كيف كان ملائمًا وجود متاجر ومساكن وحتى مصانع صغيرة بعضها بجانب بعض، كما لاحظوا كيف حدَّتْ هذه الشوارع من حركة المرور، وشجَّعت الناس على السير، وجعلت مركز المدينة نشطًا وآمنًا. وهذا لا يعني أن إعجابهم بالمدن القديمة غير المخططة كان بلا تحفظات؛ فكان هناك بعض الأشياء التي تحتاج إلى تنظيم، فتمَّ نقل بعض الصناعات المزعجة على وجه الخصوص من المناطق السكنية، وتمَّ ترميم العديد من المباني القديمة أو إحلال مبانٍ بدلًا منها تتماشى مع البيئة المحيطة. ومع ذلك، فإن ما اكتشفه مخططو المدن الجدد هو أن المدن القديمة كانت جيدة، وهذا هو العامل الذي كان يجب الحفاظ عليه، بصرف النظر عن الإصلاحات التي قد تظل مرجوَّة.

إن المدن القديمة غير المخطَّطة تشبه المجتمعات القديمة التي نشأتْ على أساس التقاليد، ويشبه مخططو المدن الأوائلُ الثوارَ الفرنسيين في حماستهم لفرض العقلانية على الواقعية، بينما يمثل الجيل الثاني من مخططي المدن أتباع هيجل الحقيقيين، الذين أصبحوا أكثر حكمة لتعلُّمهم من الماضي وأصبحوا مستعدين للعثور على العقلانية في عالَم يعد ناتجًا للتكيف العملي أكثر من التخطيط المدروس.

يمكننا الآن رؤية سبب امتثال المواطنين الأحرار في العصر الحديث للمجتمع الذي — للوهلة الأولى — لا يختلف بدرجة كبيرة عن مجتمعات العالم القديم القائمة على التقاليد. يدرك هؤلاء المواطنون الأحرار المبادئ العقلانية التي يقوم عليها مجتمعهم؛ لذلك يختارون الالتزام بها بحرية.

هناك بالطبع بعض الاختلافات بين المجتمع العقلاني الحديث ومجتمعات اليونان القديمة. فنظرًا لأن العصر الحديث يعلم أن جميع البشر أحرار، فقد تمَّ إلغاء العبودية. يؤمن هيجل أنه بدون العبودية لا يستطيع الشكل الديمقراطي المستنزِف للوقت المتبع في أثينا أن ينجح. أيضًا لا يؤمن هيجل بالديمقراطية النيابية التي تتضمن الانتخاب العام، ويرجع ذلك من جهة إلى اعتقاده بأن الأفراد لا يمكن تمثيلهم (يقول إن «المجالات المحورية في المجتمع ومصالحها العامة» هي فقط التي يمكن تمثيلها). ومن جهة أخرى لأنه في الانتخاب العام يكون لكل صوت فردي أهمية قليلة؛ مما ينتج عنه لامبالاة واسعة الانتشار، وتصبح السلطة في يد مجمع حزبي صغير ذي مصالح خاصة.

fig11
شكل ٣-٤: مجتمع مخطط.

يقول هيجل إن المجتمع العقلاني هو عبارة عن مَلَكية دستورية. فالمَلَكية مطلوبة لضرورة وجود سلطة القرار النهائي في مكان ما في منظومة الحكم، وفي المجتمع الحر ينبغي التعبير عن هذه السلطة بواسطة القرار الحر لشخص ما (قارن بالمجتمعات اليونانية التي كثيرًا ما كانت تلجأ إلى استشارة وسيط روحي — قوة خارج المجتمع — لإرشادهم إلى القرار النهائي في المسائل العسيرة). من ناحية أخرى، يقول هيجل إنه في حال كان الدستور مستقرًّا، كثيرًا ما لا يتبقى للمَلِك سوى التوقيع باسمه. وهكذا يكون تكوينه الشخصي غير مهم، وسلطته غير مطلقة مثل الحاكم المطلق الشرقي. أما العناصر الأخرى للحكم في المَلَكية الدستورية، فهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. تتكون السلطة التنفيذية من الموظفين العموميين. والمعيار الموضوعي الوحيد لتقلُّد تلك الوظائف هو الكفاءة، لكن عندما يكون هناك العديد من المرشحين المؤهلين للوظيفة، وقدراتهم النسبية لا يمكن تحديدها بدقة، يتم إدخال شرط ذاتي، ويكون تحديده هو مهمة المَلِك. لذلك يحتفظ الملك بحق تعيين أعضاء السلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية — اتساقًا مع أفكار هيجل بشأن التمثيل النيابي — فتتضمن مجلسين تشريعيين، يتكون الأعلى منهما من طبقة الأعيان، أما الأدنى فيتكون من الطبقة العاملة. ومع ذلك، يتم تمثيل أصحاب «المصالح العامة»، مثل المجالس والنقابات المهنية، في المجلس التشريعي الأدنى، وليس المواطنين كأفراد.

fig12
شكل ٣-٥: مجتمع غير مخطط.

تناولتُ سريعًا هذه التفاصيل المتعلقة برؤية هيجل بشأن المجتمع العقلاني؛ لأن من وجهة نظر القارئ الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين قد تبدو تفضيلات هيجل غريبة، وقد ظهر كثيرًا — وإن لم يكن دائمًا — عبر التجارب اللاحقة أن براهينه عليها خاطئة. وفيما يتعلق بمفهوم هيجل عن الحرية، فإن التنظيم المؤسسي الذي يفضله ليس مهمًّا. فينبغي أن يتضح الآن أن هيجل لا يتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي حيث تكون السيادة للشعب العامل الأساسي للمجتمع الحر، بل هو مهتم بالحرية بمعنًى أعمق وأكثر تجريدًا. هيجل يرى الحرية بمعنى أننا أحرار عندما نكون قادرين على الاختيار دون إجبار من أشخاص آخرين أو رغباتنا الطبيعية أو الظروف الاجتماعية. كما رأينا، يؤمن هيجل بأن مثل هذه الحرية يمكن أن تتحقق فقط عندما نختار بعقلانية، ونحن نختار على نحو عقلاني فقط عندما نختار وفقًا للمبادئ الكونية. وإذا كانت هذه الاختيارات قادرة على تحقيق الإشباع الذي نستحقه، فيجب تجسيد المبادئ الكونية في مجتمع عضوي منظم على أسس عقلانية. في مثل هذا المجتمع، تتناغم مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككلٍّ. فعند اختيار القيام بواجبي، فأنا أختار بحرية لأنني أختار بعقلانية، وأحقق إنجازي الخاص في خدمة الشكل الموضوعي لما هو كوني؛ أي الدولة. علاوة على ذلك — وهنا نجد علاج الخلل الثاني الرئيسي في نظرية كانط عن الأخلاق — ونظرًا لأن القانون الكوني يتجسد في المؤسسات المادية للدولة، فقد توقف عن كونه مجردًا وفارغًا. فهو يصف لي الواجبات المحددة لمكاني ودوري في المجتمع.

يمكننا أن نرفض تمامًا وصف هيجل للمجتمع المنظم بعقلانية، ولن يؤثر رفضنا هذا على صحة مفهومه عن الحرية. كان هيجل يسعى لوصف مجتمع تكون فيه مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككلٍّ متناغمة، وإن كان قد فشل في ذلك، فيمكن لآخرين أن يواصلوا البحث. وإن لم ينجح أحدٌ في هذه المهمة، وإن قَبِلْنا أنه لن ينجح أحد أبدًا في ذلك، فيجب علينا أن نقر بأن الحرية — بالمعنى الذي يقصده هيجل — لا يمكن أن تتحقق. وحتى هذا لن يُبطل زعم هيجل بأنه وصف الشكل الحقيقي الأوحد للحرية، ويمكن أن يظل هذا الشكل من الحرية نموذجًا مثاليًّا.

هل هيجل ليبرالي أم محافظ أم شمولي؟

بدأنا هذا الفصل بلغز؛ كيف أمكن لهيجل، الذي يؤكد على أهمية الحرية لدرجة أنه جعل منها غاية التاريخ، القول بأن الحرية قد تحققت في المجتمع الألماني الاستبدادي في عصره؟ أكان متملِّقًا ذليلًا أراد أن يتقرَّب لحكَّامه عن طريق تحريف معنى المصطلح إلى المعنى المضاد له تمامًا؟ وأسوأ من ذلك، أكان هو الأب الروحي الفكري لنوع الدولة الشمولية التي ظهرتْ في ألمانيا بعد مائة عام من موته؟

إن الخطوة الأولى لتوضيح هذا اللغز هي أن نطرح سؤالًا واقعيًّا: هل الدولة العقلانية على نحو مثالي، التي يصفها هيجل، هي مجرد وصف لدولة بروسيا في الوقت الذي كان يكتب فيه؟ لا ليس الأمر كذلك. هناك تشابهات قوية، لكن هناك أيضًا اختلافات جوهرية. سأذكر منها أربعة اختلافات. ربما أهم اختلاف هو أن الملك الدستوري عند هيجل لديه — بصورة مثالية — القليل ليقوم به عدا التوقيع باسمه، بينما كان فريدريش فيلهلم الثالث ملك بروسيا أقرب للمَلِك المطلق المستبد. الاختلاف الثاني هو عدم وجود برلمان عامل نهائيًّا في بروسيا، بينما السلطة التشريعية عند هيجل — على الرغم من كونها عديمة السلطة نسبيًّا — تقدِّم متنفسًا للتعبير عن الرأي العام. الاختلاف الثالث يكمن في أن هيجل كان — ولو في حدود محدودة للغاية — مؤيدًا لحرية الرأي. بمعايير اليوم بالطبع يبدو ضيِّق الأفق جدًّا فيما يتعلق بهذه القضية؛ لأنه استثنى من هذه الحرية أي شيء من شأنه تشويه سمعة الحكومة ووزرائها، أو الإساءة إليهم، أو عمل «رسوم ساخرة مقززة» ضدهم. نحن لا نسعى الآن إلى الحكم عليه وفقًا لمعايير اليوم، ولكن لمقارنة أفكاره بالوضع القائم في بروسيا في وقت كتابته. ونظرًا لأن كتاب «فلسفة الحق» ظهر بعد ثمانية عشر شهرًا فقط من فرض الرقابة الصارمة بموجب مراسيم كارلزباد لعام ١٨١٩، كان هيجل بلا شك يدافع عن مساحة من حرية التعبير أكبر مما كان مسموحًا بها في عصره. الاختلاف الرابع يتمثل في أن هيجل كان يؤيد المحاكمة بواسطة هيئة المحلفين باعتبارها طريقة لإشراك المواطنين في العملية القانونية، ومع ذلك لم يكن هناك حق للمحاكمة بواسطة هيئة محلفين في بروسيا في ذلك الوقت.

هذه الاختلافات كافية لتبرئة هيجل من تهمة أنه قد وضع فلسفته بالكامل بهدف إرضاء حكام بروسيا. ومع ذلك، لا تجعل هذه الاختلافات من هيجل ليبراليًّا بالمعنى الحديث. ويكفي لإظهار ذلك رفضه لحق الاقتراع والقيود التي فرضها على حرية التعبير. لقد تمادى في كرهه لأي شيء يتعلق بالتمثيل الشعبي، لدرجة أنه كتب مقالًا يعارض فيه قانون إصلاح النظام الانتخابي الإنجليزي، الذي عند إقراره أخيرًا في عام ١٨٣٢ أنهى تحيزات ومساوئ في عملية انتخاب أعضاء مجلس العموم البريطاني (على الرغم من أنه كان لا يزال يستبعد غالبية الذكور البالغين — فضلًا عن الإناث — من لائحة الناخبين).

وعلى الرغم من ذلك، ينبغي ألَّا يفاجئنا هذا بعد ما رأيناه من أفكار هيجل عن الحرية؛ فقد كان هيجل يعتقد أن الانتخاب العام سينتهي إلى إدلاء الناس بأصواتهم وفقًا لمصالحهم المادية، أو وفقًا لتفضيلات يهيمن عليها التقلب، بل وحتى الهوى، قد تتكون لديهم بشأن أحد المرشحين دون آخر. ولو أنه أتيحتْ له مشاهدة عملية انتخابية في دولة ديمقراطية حديثة، لما كان سيغير رأيه بهذا الشأن. إن أولئك الذين يدافعون عن الديمقراطية اليوم لن يختلفوا كثيرًا مع هيجل حول الطريقة التي يقرر بها معظم الناخبين تأييد المرشحين، لكنهم سيختلفون معه تمامًا في كون الانتخابات عاملًا أساسيًّا في المجتمع الحر، بصرف النظر عما يمكن أن يكون عليه معظم الناخبين من اندفاع أو عدم عقلانية. كان هيجل يرفض هذا بالتأكيد بحجة أن الاختيار المندفع أو غير العقلاني ليس تصرُّفًا حرًّا. فنحن أحرار فقط عندما يستند اختيارنا إلى العقل. إن جعل اتجاه الدولة بالكامل يستند إلى مثل هذه الاختيارات غير العقلانية — في رأيه — يساوي ترك مصير المجتمع للمصادفة.

هل يعني هذا أن هيجل بالفعل مدافع عن الدولة الشمولية؟ هذا هو رأي كارل بوبر في كتابه الشهير «المجتمع المنفتح وأعداؤه»، ويدعم رأيه باقتباسات لهيجل تثير سخط أي قارئ ليبرالي حديث. وفيما يلي بعض الأمثلة:

الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض … علينا إذن أن نعبد الدولة كتجلٍّ للرب على الأرض … إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم … إن الدولة … قائمة لذاتها.

يرى كارل بوبر أن هذه الاقتباسات كافية لإظهار إصرار هيجل على «السلطة الأخلاقية المطلقة للدولة التي تهيمن على كل الأخلاق الشخصية وكل الضمائر»، ولتوضيح دور هيجل المهم في تطور الشمولية الحديثة.

إن تأكيد هيجل على العقلانية باعتبارها عاملًا أساسيًّا في الحرية يعطي هذا التفسير المزيد من المصداقية. فمَن الذي سيحدد ما هو عقلاني؟ فأي حاكم مدعوم بالاعتقاد بأن الاختيارات العقلانية فقط هي الاختيارات الحرة يمكنه تبرير قمع كل من يعارض خططه العقلانية الخاصة بمستقبل الدولة. فإذا كانت خططه عقلانية، فدافِع مَن يعارضوه ليس العقل، وإنما رغباتهم الأنانية أو أهواؤهم غير العقلانية. ونظرًا لأن اختياراتهم لا تستند إلى العقل، فلا يمكن أن تكون حرة؛ وعليه فإن حَجْب صُحُفهم ومنشوراتهم ليس قمعًا لحرية الرأي، واعتقال قادتهم ليس اعتداءً على حريتهم في التصرف، وغلق كنائسهم وتأسيس أشكال جديدة وأكثر عقلانية من العبادة ليس اعتداءً على حريتهم الدينية. ولن يصبح هؤلاء الأشخاص المُضَلَّلون المثيرون للشفقة أحرارًا حقًّا حتى يُقدِّروا — نتيجة لهذه الأساليب — عقلانيةَ خطط قائدهم! فإذا كان هذا هو مفهوم هيجل عن الحرية، فهل قام فيلسوف مطلقًا بإعطاء مثالٍ أفضل لازدواجية الخطاب الأورويلي — نسبةً لإحدى روايات جورج أورويل — التي استخدمها هتلر وستالين بفاعلية كبيرة لتطبيق مخططاتهما الشمولية؟

إن حُجة كارل بوبر ليست بالقوة التي تبدو عليها. أولًا: تقريبًا جميع الاقتباسات التي استشهد بها ليستْ من كتابات هيجل نفسه، لكن من الملاحظات التي كتبها طلابه على محاضراته ونشرها بعد مماته محرر ذكر في مقدمته أنه قام بقدر ما من إعادة الصياغة. ثانيًا: واحدة على الأقل من هذه الاقتباسات الرنانة تُرجمتْ خَطَأً؛ فالعبارة التي اقتبسها كارل بوبر «إن الدولة هي مسيرة الإله في العالم»، قد تكون الترجمة الأكثر دقة لها هي: «إن نهج الإله في العالم، أن توجد الدولة.» وهذا لا يعني أكثر من رأيه القائل بأن وجود الدول هو جزء من الخطة الإلهية على نحو ما. ثالثًا: من وجهة نظر هيجل، «الدولة» لا تعني ببساطة «الحكومة»، بل تشير إلى الحياة الاجتماعية بأكملها. وهكذا لا يمجِّد هيجل الحكومة ضد الشعب، لكنه يشير إلى المجتمع ككلٍّ. رابعًا: تحتاج هذه الاقتباسات إلى موازنتها باقتباسات أخرى؛ فكثيرًا ما يقدِّم هيجل جانبًا من موضوع في شكل متطرف قبل أن يوازنه مقابل جانب آخر؛ لذا تأتي تعليقات هيجل على الدولة في أثر فقرات سابقة يقول فيها: «إن الحق في الحرية الذاتية هو محور ومركز الاختلاف بين العصور القديمة والعصور الحديثة.» ويواصل كلامه قائلًا إن هذا الحق «في عدم محدوديته» قد أصبح «المبدأ الفعَّال الكوني» لشكل الحضارة الجديد. وفيما بعد، نجده يقول: «أهم شيء أن قانون العقل ينبغي أن يكون ممزوجًا بقانون الحرية الخاصة …» بالإضافة إلى ذلك، يصرُّ هيجل على أنه «نتيجة لحق الوعي الذاتي»، لا يمكن للقوانين أن تتمتع بقوة مُلزمة إلا إذا كانت معروفة للناس. فليس من العدل أن تعلَّق القوانين عاليًا حتى لا يستطيع أي مواطن قراءتها — بالطريقة التي يُقال إن ديونيسيس الطاغية قد قام بها — أو أن تدفنها في مجلدات لغتُها صعبة لا يمكن لمواطن عادي قراءتها. وعلى نحو مماثل، جاء هجوم هيجل اللاذع على الكاتب الرجعي فون هالر، الذي دافع عن مبدأ: «القوة تصنع الحق» الذي كان يناسب هتلر تمامًا، ويقول هيجل عن هذا الكاتب: «إن كراهية القانون وأن يصبح الحق مقررًا في القانون، هما الأساس الذي يظهر من خلاله بكل وضوح التعصب والحماقة ونفاق النوايا الحسنة، بغضِّ النظر عن الصور التي قد تظهر بها.» إن مثل هذا الدفاع الشديد القوة عن سيادة القانون هو أساسٌ غير ملائم لبناء دولة شمولية بما تتضمنه من شرطة سرية وسلطة استبدادية.

لا شك في أن كلًّا من اللغة المفرطة التي استخدمها هيجل لوصف الدولة وفكرته أن الحرية الحقيقية تكمن في الاختيارات العقلانية، يمكن إساءة استخدامه وتحريفه تمامًا لخدمة الدولة الشمولية؛ لكن لا شك أيضًا في كونها مجرد إساءة استخدام وتحريف. لقد رأينا ما يكفي من آراء هيجل بشأن المَلَكية الدستورية وحرية التعبير وسيادة القانون والمحاكمة بواسطة هيئة محلفين لتوضيح هذا. المشكلة هي أن هيجل كان جادًّا فيما يتعلق بالعقل لدرجةٍ قليلٌ منا قد يصل إليها الآن. فعندما يخبرنا شخص ما بكيفية إدارة شئون الدولة بأكثر الطرق عقلانية، ننظر إليه على أنه يعبِّر عن تفضيلاته الشخصية، ونفترض أن آخرين سيكون لديهم تفضيلات أخرى؛ وفيما يتعلق بأكثر الطرق «عقلانية»، حسنًا، نظرًا لأنه لا يوجد منا مَن يستطيع أن يجزم بهذا الشأن، فيمكننا أيضًا أن نتغاضى عن هذا ونقبل بما نفضِّله أكثر. لذلك عندما يكتب هيجل عن «عبادة» الدولة أو عن تحقيق الحرية في دولة عقلانية، نميل إلى تطبيق هذه التعليقات على أي نوع من أنواع الدول التي تخطر ببالنا؛ وهو تفسير مخالف تمامًا لما قصده هيجل. إن هيجل قصد بمصطلح «الدولة العقلانية» شيئًا موضوعيًّا ومحددًا تمامًا؛ فيجب أن تكون دولة يختار فيها الأفراد حقًّا الامتثال لها وتأييدها؛ لأنهم توافقوا بصدق مع مبادئها، ووجدوا بالفعل إشباعهم الفردي في كونهم جزءًا منها. يرى هيجل أنه لا يمكن أبدًا لأي دولة عقلانية أن تتعامل مع مواطنيها بالطريقة التي تعاملتْ بها كلٌّ من الدولة النازية ودولة ستالين مع مواطنيها. فالفكرة ذاتها تبدو متناقضة. وبالمثل، يزول خطر حدوث صراع بين مصالح الدولة وحقوق الفرد وسحقها لها بقسوة، عندما ندرك أنه في دولة هيجل العقلانية تتناغم مصالح الفرد والمجتمع.

على الأرجح سيكون رد فعل القارئ المعاصر على كل هذا هو «نعم، ولكن …» «نعم» للإشارة إلى أن هيجل نفسه لم يكن مؤيدًا للشمولية، و«لكن» لإظهار أنه في هذا التفسير كان هيجل متفائلًا على نحو مفرط بشأن إمكانية حدوث تناغم بين البشر، وكان على خلاف مع الواقع على نحو غريب إذا ما آمن أن التناغم يمكن أن يتحقق في نوع الدولة التي وصفها.

أعتقد أن النقد الأخير لا يمكن الرد عليه. إذا كانت تعليقات هيجل بشأن الدولة يمكن الدفاع عنها، فيجب اعتبار الدولة العقلانية التي كانت في ذهنه مختلفة للغاية عن أي دولة كانت قائمة في عصره (أو قد كانت قائمة منذ ذلك الحين في واقع الأمر). ومع ذلك، لم تختلف الدولة التي وصفها بالتأكيد جذريًّا — وإن اختلفت بدرجة كبيرة — عن الدول القائمة في عصره. إن التفسير الأرجح هو أن هيجل كان محافظًا جدًّا، أو حذرًا جدًّا، بشأن تأييد حدوث تحول جذري عن النظام السياسي الذي عاش ودرس في ظله. من الواضح خطأُ القول بأن هيجل كان «يهدف لإرضاء مَلِك بروسيا»، لكن قد يكون من العدل القول بأنه لتجنب إثارة غضب ملك بروسيا (وكل الحكام الألمانيين الآخرين) خفَّف هيجل من حِدَّة نظرته الفلسفية الأساسية.

مع ذلك، هناك شيء آخر يجب أن نذكره بشأن رؤية هيجل حول التناغم بين البشر؛ ففلسفته السياسية هي مجرد جزء من نسق فلسفي أكبر بكثير، تتمتع فيه الوحدة بين البشر كأفراد بأساس ميتافيزيقي. في الفصل السابق وهذا الفصل، أفردنا للجوانب التاريخية والسياسية لفكر هيجل مساحة أكبر مما تستحق، عند النظر لمكانتها في أعمال هيجل ككلٍّ؛ لذلك حان وقت الانتقال إلى النسق الفلسفي الأكبر. وسيتضح قريبًا أن الانتقال إلى الجانب الآخر من فكر هيجل هو أمر جدير بالاهتمام لفهم كلٍّ من فلسفته التاريخية وفلسفته السياسية بدرجة أعمق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤