الفصل السادس

تأثير هيجل

بعد وفاة هيجل، انقسم مَن كانوا يعتبرون أنفسهم أتباعه إلى معسكرين؛ اتبع الهيجليون التقليديون أو «اليمينيون» الأسلوب الذي اتبعه هيجل في سنواته الأخيرة، ووفَّقوا بين آرائه الدينية والمسيحية البروتستانتية، وقَبِلوا وجهة النظر الإيجابية عمومًا عن دولة بروسيا التي عبَّر عنها هيجل في كتابه «فلسفة الحق». لم يتمخَّض عن هذه المدرسة الهيجلية المحافظة أي مفكرين كبار، وبعد أن ظلت فلسفةُ هيجل لبضع سنوات الفلسفةَ شبه الرسمية في برلين، تدهورت بشدة حتى تمَّ هجرها في ألمانيا في ستينيات القرن التاسع عشر.

أما المعسكر الآخر فكان مختلفًا تمامًا. وكان يتكوَّن من مجموعة من الشباب ذوي الميول الراديكالية، وكان موقفهم من هيجل مثل موقف هيجل من كانط. فكما رأى هيجل مبدأ كانط بشأن الشيء في ذاته بوصفه عجزًا عن استكمال الدلالات الراديكالية لفلسفته، كذلك رأى تلاميذ هيجل هؤلاء قبول هيجل للمسيحية ودولة بروسيا والأحوال العامة لعصرهم بوصفه عجزًا عن استكمال الدلالات الراديكالية لفلسفته. أصبحت هذه المجموعة معروفة باسم «الهيجليون الشباب» أو «الهيجليون اليساريون». وشكَّل هؤلاء مستقبل الحركة الهيجلية.

fig19
شكل ٦-١: الهيجليون الشباب يتجادلون، كما رسمهم فريدريك إنجلز (١٨٢٠–١٨٩٥).

رأى الهيجليون الشباب فلسفة هيجل بوصفها سعيًا من أجل عالَم أفضل، عالم يتم فيه التغلب على التعارض بين مصلحة الفرد والمجتمع، وهو منظم بعقلانية وبه حرية حقيقية؛ أي — باختصار — عالم مصمَّم ليعكس السيادة المطلقة للعقل البشري وقواه الفكرية. ولم يكن هذا العالم الأفضل، من وجهة نظر الهيجليين الشباب، مجرد نموذج خيالي تم رسمه في لحظة توهُّم، بل كان ذروة الحُجج التاريخية والفلسفية في النسق الهيجلي. لقد كان ضرورة جدلية، كان أطروحة مركَّبة يجب أن تظهر للتوفيق بين العناصر المتصارعة في العالم الذي يعيشون فيه.

انطلاقًا من احتقارهم لفكرة أن ألمانيا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر يمكن أن تكون هي الإنجاز الذي وعدت به فلسفة هيجل، شرع الهيجليون الشباب في إيجاد طرق لتحقيق رؤيتهم الراديكالية. في بادئ الأمر، انقضُّوا على الدين بوصفه العقبة الأساسية في طريق تحقيق مجتمع يسمح لقوى الإنسان بأن تصل إلى كامل طاقتها. وبعد تطويرهم للتلميحات الواردة في الجزء الذي يتناول «الوعي الشقي» في كتاب «فينومينولوجيا العقل»، زعموا بأن الدين هو شكل من أشكال الاغتراب. فالإنسان يصنع إلهًا، ثم يتخيل أن ذلك الإله قد خلقه. يضع الإنسان في تصوره عن الإله أفضل الصفات التي في ذاته: المعرفة والصلاح والقوة، ثم يركع الإنسان أمام الصورة التي صنعها بنفسه، ويرى ذاته، مقارنةً بها، كشخص جاهل وآثم وضعيف. وكي يستعيد البشر كامل قواهم، كل ما يحتاجونه هو إدراك أن البشر أنفسهم هم أسمى أشكال القُدُسية بحق.

لهذا الغرض، كتب اثنان من الهيجليين الشباب كتبًا كان لها أثر ضخم على فكر القرن التاسع عشر فيما يتعلق بالدين؛ فكتب ديفيد فريدريش شتراوس كتابه العبقري «حياة المسيح»، والذي أعطى نموذجًا — بمعاملة الأناجيل كنصوص عرضة للنقد التاريخي — لجميع الدراسات التاريخية التالية عن المسيح. وصوَّر كتاب لودفيج فويرباخ «جوهر المسيحية» الدين التقليدي كله كإسقاط من الإنسان لصفاته الشخصية على عالم آخر. هكذا كانت المحاولة الحديثة الأولى لعمل دراسة نفسية لمعتقد ديني. ونتيجة لترجمة الكتاب إلى الإنجليزية بواسطة ماريان إيفانز (التي ساعدت أيضًا في ترجمة أعمال شتراوس، والتي تشتهر باسمها المستعار جورج إليوت)، كان للكتاب أثر عالمي في الوقت الذي كانت فيه كتابات هيجل معروفة على نطاق محدود خارج ألمانيا.

fig20
شكل ٦-٢: لودفيج فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢).

ثم انتقل الهيجليون الشباب إلى ما هو أبعد من الدين. فبطريقة أكثر راديكالية، جعل فويرباخ أفكار هيجل ترتد عليه؛ فاتَّهم هيجل بأنه يقدِّم حقائق بشأن العالم على نحو غامض. انطلاقًا من إيمانه بأن العقل هو واقعي بصورة مطلقة، رأى هيجل أن مشكلة التنافر في العالم كمشكلة في عالم الفكر، وهكذا آمن بأن الفلسفة يمكنها حلها. الآن فويرباخ يرتد على هيجل؛ فالوجود لا يُشتق من الفكر، لكن الفكر يُشتق من الوجود. والإنسان لا يمتلك أساسه الحقيقي في عقله، لكن العقل يمتلك أساسه الحقيقي في الإنسان. فلسفة هيجل في ذاتها شكل من أشكال الاغتراب؛ لأنها تعتبر جوهر الأشخاص الحقيقيين والأحياء شيئًا — «العقل ذاته» — خارجيًّا عنهم. وقد قال فويرباخ إننا لسنا في حاجة لعلم لاهوت ولا لفلسفة، لكننا في حاجة لعلم يدرس الأشخاص الحقيقيين في حياتهم الواقعية.

لم يتبقَّ الكثير من هنا لنصل إلى أحد الهيجليين الشباب، الذي كان لعمله الفضل في تحقيق فكر هيجل لأثر دائم على تاريخ العالم. أتى كارل ماركس إلى جامعة برلين بعد ما يقرب من ست سنوات من وفاة هيجل، وسرعان ما التحق بالهيجليين الشباب، وشارك في النقد السائد للدين. عندما نادى فويرباخ إلى الحاجة للذهاب إلى ما هو أبعد من عالم الفكر، استجاب له ماركس بحماسة. في كتابه «مخطوطات عام ١٨٤٤ الاقتصادية والفلسفية»، امتدح ماركس كتاب هيجل «فينومينولوجيا العقل» لحديثه عن الاغتراب وأهمية العمل، ثم طوَّر وجهة نظره الشخصية عن العمل في ظل النظام الرأسمالي بوصفه شكلًا رئيسيًّا للاغتراب. فلتحرير البشرية يجب إلغاء العمل المغترب، ولإلغاء العمل المغترب — يقول ماركس — كان من الضروري إلغاء الملكية الخاصة ونظام الأجور المرتبط بها؛ أي تأسيس الشيوعية.

في هذه «المخطوطات» المفعمة بالقوة والشباب، يصف ماركس الشيوعية باستخدام مصطلحات سيجدها جميع الهيجليين مألوفة:

الشيوعية … هي الحل الحقيقي للنزاع بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان؛ إنها الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والماهية، بين التجسيد وتأكيد الذات، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والنوع. إنها حلٌّ للغز التاريخ، وتعرف نفسها باعتبارها هذا الحل.

ومع تقدُّمه في السن، استخدم ماركس مصطلحات هيجلية أقل، لكن لم يتخلَّ قط عن رؤيته عن الشيوعية التي توَصَّل إليها عبر تحويره لفلسفة هيجل.

من الممتع — مع أنه غير مثمر — أن تتأمل ما قد يقوله المفكرون الذين رحلوا منذ زمان طويل إذا ما استطاعوا العودة إلى الحياة ورؤية ما حدث لأفكارهم. سيكون القليل منهم مذهولًا مثلما كان من الممكن أن يكون هيجل إذا ما رأى أن ذروة التاريخ في فلسفته لم تكن إدراك الفكرة المطلقة، وإنما رؤية لمجتمع شيوعي أَلْهَمَ الحركات الثورية حول العالم لما يزيد على مائة عام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤