الثمن هو الجنون أو الموت!

ساد السكونُ لحظاتٍ قليلة في قاعة العرض السينمائي بكهف الشياطين … كان الجالسون في القاعة أربعة أفراد فقط: «أحمد»، «إلهام»، «عثمان»، «زبيدة» … أما بقية الشياطين فقد كانوا في مهمة سرية لم يُعلَن عنها.

كان من الواضح أن الشياطين الأربعة في طريقهم إلى عملية جديدة … بعد قليل أُطفئَت الأنوار في القاعة، ولمعَت شاشة العرض السينمائي، وبدأ عرض الفيلم …

كان المشهد الأول يركز على بوابة كبيرة لمستشفى ضخم محاطٍ بأسوار غريبة، كما لو كانت تُحيط سجنًا لتمنع نزلاءَه من الفرار … وأخذت الكاميرا تتجوَّل في أنحاء الحديقة الجرداء المحيطة بمبنى المستشفى الغامض … القاسي … وكان المكان خاليًا يُوحي بالرهبة والغموض … والكاميرا تُسرع في تنقُّلِها من مكان لآخر كأنها تُطارد شبحًا خفيًّا … وفجأةً تعالَت صرخةٌ من إحدى النوافذ المسورة بقضبان حديدية من الطابق الثاني بمبنى المستشفى، وبسرعة قفزَت عينُ الكاميرات لأعلى كاشفةً عما يدور بداخل الحجرة التي تُشبه الزنزانة.

كان بالداخل رجلٌ ممرض وحيد في الغرفة قد أمسك بشابٍّ في حوالي العشرين من عمره، رُبطَت يداه وقدماه إلى قيود بالفراش، على حين راح الشابُّ يصرخ صرخاتٍ مفزعة كأنه أُصيب بالجنون، وقد جحظَت عيناه بشدة كأنهما ستخرجان من مكانهما … وانسال العرقُ غزيرًا على جبهته وهو يرتعد بطريقة مفزعة … وتوالَت صرخاتُه تشقُّ سكونَ المكان وصمْتَه.

وأطلَّت الكاميرا من نافذة حجرة أخرى لتُشاهد فتاة لا يزيد عمرها عن سبعة عشر عامًا وقد جلسَت متقوقعة في ركن حجرتها كأنها طفل صغير مفزوع … وكانت الفتاة تنتفض بشدة وبطريقة هيستيرية، وأخذَت تهرش بجنون … وانسال العرق غزيرًا من وجهها، وأخذَت تنتزع شعرها بقسوة وجنون … بسرعة ابتعدَت الكاميرا كأنما أصابها المشهدُ بخوف مفاجئ … وقفزَت فوق سور عريض تعلوه أسلاك شائكة … ثم أسرعَت تُطلُّ من بين فتحاته.

وبأسفل كان هناك عددٌ من الجالسين داخل المكان المسور … كانت بعض المقاعد، ولكن نزلاء المكان كانوا قد جلسوا على الأرض وتمدَّدوا فوق التراب … كان متوسطُ أعمار نزلاء المكان لا تزيد عن العشرين عامًا … بعضهم من الشبَّان والبعض الآخر من الفتيات، ويفصل بين الفريقَين سورٌ عريض. واقتربَت الكاميرا من أحد الذين افترشوا الأرض … كانت ملابسُه رثَّة قذرة وقد رقد ساهمًا بعينَين ملآوَين بالفراغ يحدِّق في لا شيء … وفجأةً قفز من مكانه وراح يصرخ ويُشيح بيده زاعقًا في الهواء كأنه يتصارع مع أشخاص لا وجودَ لهم … ومن ركنٍ مقابل جاوبَه شابٌّ آخر بأصوات وغمغمات لا معنًى لها قبل أن يقفزَ فوق يدَيه وقدمَيه ويزحف فوق التراب مقلِّدًا نُباحَ الكلب …

ومن وراء سور الفتيات كان المشهد مماثلًا تقريبًا …

امتلأَت عينَا «إلهام» بدموع لم تستطع كَبْتَها … وانسالَت دمعتان ساخنتان فوق وجنتَيها … كان من المؤكَّد لها أنها تشاهد مصحة للأمراض العقلية، وأن نزلاءَها من الشبَّان والشابَّات صغار السن.

رمق «أحمد» «إلهام» بإشفاق … لم يكن قد سَمِع صوتَ نحيبها المكتوم، ولكنه أحسَّ بمشاعر حارة دافقة … وتساءل «أحمد» في صمت ودهشة عن معنى ذلك الفيلم الذي يعرضه عليهم رقم «صفر» … وما علاقته بأعمالهم …

وأغمضَت «إلهام» عينَيها حتى لا تشاهدَ المزيد من المشاهد المريرة … وأفاقَت على كلمات رقم «صفر» وهي تُزيح الصمتَ المؤلم قائلةً: ما تشاهدونه الآن هو مصحة لنزلاء الأمراض العقلية للشبان والفتيات … ولا بد أنكم استنتجتم ذلك … أما ما أُحبُّ أن أضيفَه فهو أن نُزلاء هذه المصحة هم ضحايا لإدمان المخدرات.

ضاقَت عينَا «عثمان» بشدة … كان هذا هو ما استنتجه منذ لحظات … وغمغمَت «زبيدة» قائلةً: يا لهم من بؤساء … يا لَهم من مساكين!

توقَّف العرض … وأُضيئَت القاعة … وظهر رقم «صفر» في مكانه المعتاد وقد أخفَت العتمةُ تفاصيلَ ملامحه … وساد السكون القاعة ثوانٍ قليلة كأنما يتعمَّد رقم «صفر» أن يعطيَ للشياطين الأربعة فرصةً لالتقاط أنفاسهم ومشاعرهم.

وأخيرًا قال في صوت مليء بالألم: لا شك أنكم قرأتم وسمعتم كثيرًا عن شبكات كبيرة لتهريب المخدرات إلى وطننا العربي … وعن آلافٍ من المدمنين وضحايا استعمال هذه المواد المخدرة حيث يُصبحون أسرى لها … ويكون مصيرُهم في النهاية كما رأيتم … إما الجنون … أو الموت.

إلهام: هذا شيء بشع جدًّا!

رقم «صفر»: معكِ حقٌّ يا «إلهام» … إن جلبَ المخدرات إلى عالَمِنا العربي بتلك الكثافة والضراوة ليس أمرًا وليدَ الصدفة، وهو ما سنناقشه بعد قليل … أنتم تعرفون أن هناك أنواعًا من المخدرات التقليدية التي عرفها الإنسان منذ آلاف السنين، مثل الأفيون والحشيش، تنتشر زراعتُها أساسًا في «الهند» و«لبنان» وغيرها من الدول … وهذه المواد المخدِّرة برغم تأثيرها الضار على وظائف جسم الإنسان … إلا أنها في النهاية تُسبِّب الإدمان أو الجنون، وتدفع بصاحبها إلى الكسل والخمول، وفقدان الصحة والشهية … وجاء العلمُ الحديث ليشتقَّ أهمَّ مخدر طبي وهو المورفين من الأفيون … ولقد قدَّم المورفين أجلَّ الخدمات للمرضى وأصحاب الآلام للتخفيف عنهم … وأمكن بفضله من إجراء العمليات الجراحية الخطرة … فنحن نُدين للمورفين بكثير جدًّا من تقدُّمنا الطبي … ولولا المورفين لكان كثيرٌ من المرضى قد ماتوا منذ زمن طويل … إما بسبب آلامهم غير المحتملة … أو بسبب استحالة إجراء العمليات الجراحية العاجلة لهم وهم في وَعْيِهم الكامل.

وصمتَ رقم «صفر» لحظة ثم أضاف: وكما أن العلم يُفيد البشرية … فإن سوءَ استخدامه وموتَ ضمير بعض العلماء قد يتسبَّب في أن يكون العلمُ مصدرًا للشرور والخراب … وهذا هو ما حدث في مجال تخليق المخدرات … وهو الأمر الذي حدث مع مخدِّر المورفين؛ حيث جرَى استخلاصُ مخدر أقوى منه عشر مرات هو مخدر الهيروين … وهذا المخدر القاتل يُسبِّب الإدمان لمن يتعاطاه في المرة الثانية، فهو أسرعُ مخدِّر يُسبِّب الإدمان … ومجرد تعاطيه من المرة الأولى أو محاولة تجربته … هو حكمٌ بالإعدام على مَن يُقْدِم على هذه التجربة القاتلة … فالهيروين يتسبَّب في تسمُّمِ الدم لمن يتعاطاه، والتهاب الكبد، والكسل والإهمال، وفقدان القوة الجنسية، ويُفقد الإنسانَ إحساسَه بأطرافه، وانخفاض في ضربات القلب، وتدمير خلايا الأنف، وإلى حالة هزال شديد … وفي النهاية يتسبَّب على المدى الطويل أو بسبب جرعة زائدة في إصابة متعاطيه بالجنون كما شاهدتم، أو بالموت المفاجئ.

وتساءل «عثمان»: أليس هناك أيُّ علاج لمدمني الهيروين؟

رقم «صفر»: إذا كان المدمن في البداية فيمكن علاجه … أما إذا وصل إلى مرحلة تدمير خلايا مخِّه أو الجنون … فلا علاج له حتى الموت.

إلهام: هذا شيء بشع!

رقم «صفر»: معكِ حقٌّ يا «إلهام» … ومن المؤسف أن أغلب ضحايا الهيروين هم من الشباب صغار السن الذين يُقبِلون على تعاطي الهيروين بدافع الفضول أو التجربة، أو لإشباع رجولتهم، فلا يُدركون أنهم قد دقُّوا أولَ مسمار في نعشهم … إلا بعد فوات الأوان …

وساد صمت لحظات بعد كلمات رقم «صفر» وتشبيهه القاسي … وقال رقم «صفر»: أما المخدر الآخر الذي لا يقلُّ عن الهيروين تأثيرًا وتدميرًا فهو الكوكايين … وهو يأتي من أوراق نبات الكوكا التي تُزرَع في أمريكا الجنوبية … حيث يتم قطفُ أوراقه وتحويلها إلى عجينة بيضاء، ثم إلى مسحوق أبيض يتم تعاطيه بالحقن أو بالاستنشاق … وقديمًا كان هنود أمريكا الجنوبية يستعملون أوراق نبات الكوكا لتخفيف آلامهم وشعورهم بالتعب عن طريق مضغ هذه الأوراق … ثم جاء بعضُ ضعاف النفوس ليحولوا هذه الأوراق إلى بودرة الكوكايين العالية التركيز كأنها سمٌّ رهيب، تُدمِّر كلَّ مَن يتعاطاها … وبالإضافة إلى الأمراض والأغراض التي تُسبِّبها المخدرات «الهيروين والكوكايين» لمن يتعاطاها، فإن الكوكايين أشدُّ تأثيرًا وتدميرًا … فهو أيضًا يسبب اختلالَ مراكز السمع والإبصار للإنسان، ويسبِّب شللَ أطرافه … فيتخيَّل المدمنُ أنه يسمع أصواتًا لا وجودَ لها، فيتوهم سماعَ أصوات لأشخاص وهميِّين يسبُّونه. أو ربما يتخيل أن جهاز التليفون أمامه كلبٌ يعوي يوشك على عقره … بل أحيانًا يحلم وهو مستيقظ … بل ويشعر بتنميل شديد في جسمه، ويتخيَّل وجودَ حشرات تحت جلده، بل وداخل أنفه وأُذُنَيه؛ فيروح يحكُّ جسمَه بشدة إلى أن ينزفَ بحثًا عن تلك الحشرات الوهمية التي لا وجودَ لها … بل ويشعر بقرصاتها ولدغاتها … وهكذا تتحول حياته إلى جحيم قبل أن تنتهيَ بالجنون … وما شاهدتموهم في الفيلم الذي عُرِضَ عليكم منذ قليل هم من ضحايا إدمان الهيروين والكوكايين … الذين انتهى بهم الأمر إلى مستشفى الأمراض العقلية … وهناك غيرهم من الذين انتهى الأمر بهم إلى الموت … وفي إحصائية أخيرة أصدرَتها وزارة الداخلية الإيطالية ثبت فيها أن عدد ضحايا المخدرات الذين يموتون بالسكتة القلبية والمخية المفاجئة بسبب الإدمان … هم أكثر عددًا من ضحايا حوادث الطرق التي تقع في هذه البلاد … وهناك أيضًا حبوب الهلوسة التي تجعل الإنسان في حالة من اللاوعي، والتي يتخيل فيها نفسَه سوبرمان مثلًا فيُلقي بنفسه من النافذة إلى الشارع … أو يتصور أن القطار القادم نحوه هو كلب أليف فيقف فاتحًا ذراعَيه لاستقباله …

أحمد: يجب إصدار تشريعات وقوانين قاسية ضدَّ كلِّ مَن يبيع هذه المخدرات والسموم وخاصة للشباب.

رقم «صفر»: هذا هو ما حدث في كثير من بلدان العالم وآخرها مصر … فقد صارت عقوبةُ بيعِ المخدرات شديدةً وقاسية … بل ووصلَت عقوبةُ تهريبها داخل البلاد إلى الإعدام، ولكن لأن أرباحَ هذه التجارة المحرَّمة خرافيةٌ، وتصل إلى الملايين؛ فإن هناك دائمًا مَن هم على استعداد للمجازفة … ولو بحياتهم … وبسبب سهولة تهريب الهيروين والكوكايين، وإخفائهما في أيِّ شيء، كان من المستحيل ضبطُ كلِّ المهرِّبين، خاصة وعالَمنا العربي يتمتع بحدود مفتوحة على البحر … ومن هنا تتسرَّب المخدرات إلى داخل البلاد برغم كلِّ محاولات ضَبْطها … وسياسة المهربين إرسال شحنات كبيرة لتهريبها داخل البلاد من أماكن متعددة … حتى إذا ضُبطَت إحداها نجحَت بقيةُ الشحنات في دخول البلاد … وبسبب الأرباح الكبيرة لهذه التجارة القاتلة فإن المهربين باتوا يستخدمون الطائرات والسفن والأساليب الحديثة في إخفاء وتهريب المخدرات … ومن هنا كانت صعوبة مهمة القائمين على ضبطهم … وحسب الإحصائيات العالمية فإن مقدار ما يُضبَط من المخدرات لا يزيد على جزء من عشرة من تجارة المخدرات الحقيقية …

عثمان: إذن فليس هناك غير طريق واحد لإيقاف هذه التجارة المحرَّمة ومنع وصول المخدرات إلى بلادنا … عن طريق تدمير مزارع هذه المخدرات، وتدمير أماكن تصنيعها وتخليقها … وقطع أذناب الرءوس الكبيرة التي تعمل في تهريبها.

وعلى الفور أجاب رقم «صفر»: هذه هي مهمتكم القادمة … بالضبط … فسوف تذهبون إلى التنين في عقر داره … للقضاء عليه.

وساد بعد عبارة رقم «صفر» صمتٌ رهيب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤