«ميدين» … عاصمة المخدرات … والموت!

هبطَت طائرةُ الركاب في مطار «بوجوتا»، وأنهَى الشياطين الأربعة إجراءاتهم الجمركية، وكانت هناك سيارة في انتظارهم أقلَّتهم إلى فندق النجمة الزرقاء بوسط العاصمة الكولومبية، وكان الطريق من المطار إلى قلب العاصمة يمرُّ بطرق عديدة أغلبُها منحدرٌ تحفُّ به بعض الأشجار الاستوائية … وقد ظهرَت منطقةُ الغابات على البعد.

وكانت هناك أربع حجرات محجوزة بأسماء الشياطين … وقال موظف الاستعلامات بدهشة وهو يتأمل جوازات سفر الشياطين: هل أنتم صحفيون؟

– وما العجيب في ذلك؟

– إن قليلًا من الصحفيين ومصوري المحطات التليفزيونية الخاصة يأتون إلى هنا هذه الأيام، إنهم على قائمة الذين تقوم فِرَق الموت باغتيالهم.

قال «أحمد» ضاحكًا: سيُسعدنا أن نصادف أحدًا من العاملين بفِرَق الموت … ستكون خبطة صحفية رائعة عندما نسجِّل له حديثًا خاصًّا.

هزَّ الموظف رأسه بأسف قائلًا: إن هؤلاء السفاحين لا يتعاملون إلا بطلقات الرصاص. لقد بات السكان هنا في رعب من أن يكون أحدهم هو الضحية التالية لفرق الموت!

أحمد: لا عليك … إننا نعرف كيف نحمي أنفسنا جيدًا … وكل ما نريد معرفته هو موعد أول سيارة أتوبيس ستتجه إلى «ميدين» غدًا.

ظهر الذعر على الموظف وهتف مستنكرًا: «ميدين» … هذا جنون … إنكم بذلك تقدِمُون على الانتحار، فحتى رجال الشرطة هناك يخشَون على أنفسهم!

ترامق الشياطين في صمت … وقالت «إلهام» بهدوء: ولكنك لم تُخبرنا عن موعد أول أتوبيس.

ابتلع الموظف لعابَه وأجاب: ليست هناك أتوبيسات، بل يمكنكم استئجار سيارة خاصة، وإن كنت لا أنصح لكم بذلك؛ فالطريق جبلي منحدر شديد الخطورة، وسيستغرق السفر نصف يوم … هذا بالإضافة إلى أن ذلك الطريق مراقَب بفرق الموت المنتشرة حوله لمنع أي غرباء من دخول المدينة حتى لو أدَّى ذلك إلى القتل.

أحمد: سوف نشرح لهم مهمتنا إذا صادفناهم.

– إنهم لن ينتظروا ليسمعوا شرحًا … فهم يُطلقون الرصاص أولًا … ثم يتساءلون بعد ذلك. ترامق الشياطين مرة أخرى … وابتسمَت «زبيدة» وهي تسأل: وماذا تقترح؟

– إن السفر بالطائرة أفضل … وإن كنت لا أنصحكم بهذه المغامرة على الإطلاق.

إلهام: سوف نتذكَّر نصيحتك، وثِق أننا سنضعها في اعتبارنا.

أحمد: وإن كان هذا لا يمنع من أن تقوم بحجز أربعة مقاعد لنا بأول طائرة ستُقلع غدًا إلى «ميدين».

وصعد الشياطين إلى حجراتهم … ووضعوا حقائبهم القليلة … كانت حقائب من نوع خاص بحفظ كاميرات الفيديو وأجهزة التسجيل … وكانت هيئة الشياطين تُوحي أنهم مصورو محطة تليفزيونية خاصة … تسعى إلى الإثارة بأي ثمن.

عثمان: إن الوقت لا يزال ظهرًا … ما رأيكم … هل نحصل على بعض الوقت للراحة ثم نقوم بجولة صغيرة في المدينة؟

ضاقت عينَا «أحمد» وقال: من الأفضل أن نقوم بجولة سريعة في هذه المدينة.

إلهام: إذن هيَّا بنا.

واتجه الشياطين خارجين … وموظف الاستعلامات يرمقهم في صمت … واستقلُّوا تاكسيًا، فسألهم السائق: إلى أين؟

– إلى أيِّ مكان في العاصمة، إننا سياح ونرغب في مشاهدة المدينة.

قال السائق: لم يَعُد هناك كثيرٌ من السياح يأتون إلى بلادنا … بالرغم من أنها بلاد جميلة.

وانطلقت السيارة …

كانت مساحة المدينة صغيرة … لا يزيد عدد سكانها عن مليونَي مواطن … والمدينة مبنية فوق منطقة مرتفعة؛ ولذلك أحسَّ الشياطين بنقص الهواء والأوكسجين بسبب ارتفاع المدينة … وعلى مسافات متقاربة كانت تقف سيارات للشرطة والجيش، وقد أطلَّ منها الجنود المسلحون … وكانت هناك مساحات واسعة خضراء في كل مكان … والمباني صغيرة أنيقة جميلة … غير أن الظاهرة الملحوظة كانت خلوَّ الشوارع من سكانها بالرغم من منتصف النهار.

قال «أحمد»: يبدو أن الظروف الأمنية السيئة قد ألقَت بظلالها على هذه المدينة الجميلة.

السائق: إن شعبنا من أكثر الشعوب المحبَّة للمرح واللهو، ولكن لا يمكن للإنسان أن يخاطر بحياته في ظلِّ رصاصات طائشة، وقنابل تنفجر هنا وهناك … لقد فضَّل الناس التزامَ بيوتهم فلا يغادرونها إلا للضرورة.

وعاد الشياطين بعد ساعتين إلى فندقهم … واستقبلهم الموظف قائلًا: لقد قمتُ بحجز أربعة مقاعد على الطائرة التي ستغادر «بوجوتا» إلى «ميدين» في التاسعة صباحًا.

عثمان: هذا حسن جدًّا!

وصَعِد الشياطين إلى حجراتهم … وما كاد «أحمد» يخطو إلى حجرته ومعه «عثمان» حتى توقَّف وهو يتفحص حقائبه وأشياءه … والتفت إلى «عثمان» وهو يقول: لقد حدث ما توقعت … لقد تعرَّضَت حقائبنا لتفتيش دقيق.

عثمان: أهذا ما جعلك تطلب منَّا النزهة في «بوجوتا» بعد وصولنا مباشرة؟

أحمد: نعم، لقد أردتُ اختبارَ قوة هؤلاء البارونات وتنظيمهم … ولقد أثبتوا أنهم على قدر كبير من المهارة والحذر … ولا بد أن خبرَ وصول مصورين من محطة تليفزيونية قد انتقل سريعًا إلى هؤلاء البارونات، وجاءت أوامرهم بالتأكد من شخصياتنا وتفتيش حقائبنا … لقد كان رقم «صفر» على حقٍّ تمامًا في طلبه منا عدمَ حمل أية أسلحة.

عثمان: وهذا يعني أننا صِرْنا تحت رقابة ملوك المخدرات في هذه البلاد … من قبل أن تبدأ مهمتنا.

أحمد: لقد بدأ التحدي يا صديقي العزيز … وعلينا قهرُ المستحيل كما قال رقم «صفر».

لم تستغرق الرحلة إلى «ميدين» أكثر من نصف ساعة.

ومن نافذة الطائرة بدَت «ميدين» كعاصمة خرافية لا حدودَ لسحرها وجمالها … فقد كانت محاطةً بالتلال من كل الأركان كأنما سقطت المدينة في حضن الوادي العميق … وقد ظهر في قلب المدينة عددٌ كبير من المباني الضخمة الفاخرة تُحيط بها مساكن صغيرة بيضاء اللون، وقد انتشرَت إلى الخلف مساحات هائلة من الأرض المزروعة، لم يكن هناك شكٌّ في أنها لنبات الكوكا الشيطاني.

واستقرَّت الطائرة فوق ممرِّ الهبوط بالمطار الواقع في قلب المدينة … وكان هناك عددٌ كبير من رجال الجيش والبوليس.

وتفحَّص ضباط الجوازات جوازات السفر، وقطَّب أحدُهم حاجبَيه قائلًا: إنكم تُخاطرون بالمجيء إلى هذه المدينة والبقاء فيها.

ابتسم «أحمد» وقال: بل إننا نسعى للحصول على تصريح بتصوير قصور وأملاك البارونات الموجودة في المدينة.

– إن هذا يحتاج إلى تصريح خاص من قائد الشرطة في المدينة … سوف أُبلغه فورًا.

واستقبلهم قائد الشرطة مرحِّبًا وقال: إننا لا نستطيع منعكم من أداء عملكم … إن كل الأمور مستتبة هنا والأمن جيد، ولكن …

وصمت قائد الشرطة وانتظر الشياطين في صبر … وأكمل قائد الشرطة ببطء: ولكننا لن نستطيع أن نمنع رصاصات قد تنطلق من أيِّ مكان نحوكم … إن الكثيرين هنا من الموالين لبارونات المخدرات، ولا يمكن أن نضمنَ حمايتكم بأيِّ شكل من الأشكال.

عثمان: ونحن لا نطلب هذه الحماية، وسوف نتولَّاها لأنفسنا … بأنفسنا …

– في هذه الحالة سأمنحكم التصريحَ اللازم … بشرط أن تُوقِّعوا على إقرار بتحمل المسئولية، ووقَّع الشياطين الإقرار، وحملوا التصريح واتجهوا خارجين.

وقال قائد الشرطة لنفسه في أسًى: يبدو أن ضحايا فِرَق الموت سوف يزيدون أربعة أشخاص اليوم!

وفي الخارج استقل الشياطين تاكسيًا حملَهم إلى قصر البارون «بابلوجوانزالو» … ورمقهم السائق في مرآته الداخلية بصمت وعداء بدون أن يتبادلَ معهم أيَّ حديث … وما إن توقَّف التاكسي أمام أبواب القصر وغادره الشياطين حتى كان السائق يُدير قرص التليفون اللاسلكي ويتحدث في مكالمة سريعة حدَّد فيها أوصاف الشياطين … وتوقَّف الشياطين أمام قصر البارون «بابلوجوانزالو» … وكان القصر ضخمًا يفترش مساحة ضخمة من الأرض … وقد بدَا كأنه عدة قصور متصلة ببعضها، طابعها الفخامة والثراء الشديد، تُحيطها حدائقُ واسعةٌ ذات أشجار نادرة … وتناثر في الأركان عددٌ من حمامات السباحة المصنوعة من الرخام والمرمر …

ولم يكن هناك أيٌّ من الحراس بالأبواب … وقد بدَا المنظر غامضًا مريبًا …

وتساءلت «إلهام» بقلق: أين ذهب حراس الأبواب؟!

تطلَّع «أحمد» حوله، فقال: يبدو أن هناك مفاجأة في انتظارنا داخل هذا القصر.

عثمان: إذن ماذا تنتظرون … هيا بنا؛ فقد بدأتُ أتحمَّس للمفاجآت والقتال.

وتقدَّم الشياطين الأربعة داخلين الحديقة المرصوف مدخلها بفسيفساء والرخام، وفي منتصف المسافة تمامًا ما بين البوابة وبين القصر ظهرَت فوهة مدفع رشاش مصوَّبة نحو الشياطين … وفي نفس اللحظة التي انطلقَت فيها الرصاصات كالمطر نحو الشياطين صرخَت «زبيدة» تحذِّر الباقين …

ولكن صرختها جاءت متأخرة … متأخرة جدًّا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤