أرخص ليالي

بعد صلاة العشاء كانت خراطيمُ من الشتائم تتدفق بغزارة من فم عبد الكريم، فتُصيب آباءَ القرية وأمهاتِها، وتأخذ في طريقها الطنطاوي وأجداده.

والحكاية أن عبد الكريم ما كان يخطف الأربع ركعات حتى تسلَّلَ من الجامع، ومضى في الزُّقاق الضيق، وقد لفَّ يدَه وراء ظهره، وجعلها تُطبِق على شقيقتها في ضيقٍ وتبرُّم، وأحنى صدره في تزمُّتٍ شديد، وكأن أكتافَه تنوء بحمل «البِشْت» الثقيل الذي غزله بيده من صوف النعجة.

ولم يكتفِ بهذا، بل طوَى رقبته في عنادٍ وراح يشمشم بأنفه المقوس الطويل الذي كلُّه حُفَرٌ سوداء صغيرة، ويزوم، وقد أطبق فمَه، فانكمش جلدُ وجهه النحاسي الأصفر، ووازت أطرافُ شاربه قِممَ حواجبه التي كانت ما تزال مبللةً بماء الوضوء.

والذي بَلْبل كيانَه، أنه ما إن دخل إلى الزُّقَاق، حتى ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يَعُدْ يعرف موضعَ قدمَيه الكبيرتَين المفلطحتين اللتين تَشقَّق أسفلُهما، حتى يكاد الشقُّ يبلع المسمار، فلا يبينُ له رأس.

ارتبك الرجلُ رغم القسوة التي ضمَّ بها نفسَه؛ لأن الزُّقاق كان يمتلئ بصغارٍ كالفتافيت يلعبون ويصرخون، ويتسرَّبون بين رجلَيه، ويسرحُ واحدٌ من بعيد وينطحه، ويشدُّ آخرُ «البشت» من ورائه، ويصيبه شقيٌّ بصفيحة في أُصبع قدمِه الكبير النافرة عن بقية أصابعه.

ولم يستطعْ إزاء هذا كلِّه إلا أن يُسلِّطَ عليهم لسانَه، فيُخرِّب البيوتَ فوق رءوس آبائهم وأجدادهم، ويلعن الدايةَ التي شدَّت رِجلَ الواحد منهم، والبذرة الحرام التي أنبتتْه.

ويرتعش عبد الكريم بالحَنَق، وهو يَسبُّ ويَمخضُ ويَبصقُ على البلد الخائب الذي أصبح كلُّه صغارٌ في صغار، ويتساءل، و«بشته» يهتز، عن معمل التفريخ الذي يأتي منه مَن هُم أكثر من شعر رأسه، ويَزدردُ غيظَه وهو يُطَمْئِن نفسَه أن الغد كفيلٌ بهم، وأن الجوع لا محالة قاتلُهم، و«الكوريرة» سرعان ما تجيء فتُطيح بنصفهم.

وتشهَّد عبدُ الكريم وهو يشعر براحة حقيقية حين خلَّف النحلَ وراءه في الزُّقاق، وأصبح يُشرف على الواسعة التي تُحيط بالبِركة في وسط البلد.

وانبسط الظلامُ الكثير أمامه؛ حيث تُعشِّش البيوتَ المنخفضة الداكنة، وترقد أمامها أكوامُ السباخ كالقبور التي طال عليها الإهمال، ولا شيء بَقيَ يدل على الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة في الدائرة المظلمة الواسعة، وكأنها عيونُ جِنِّيات رابضات يَقدحُ منها الشَّررُ، ويأتي نورُها الأحمر الداكن متبخترًا من بعيد؛ ليغرق في سواد البِركة.

وتشتَّت بصرُ عبد الكريم في الظلام الفاضي، ودار برأسه هنا وهناك، ورائحةُ الماء الصدئ في المستنقع تتلوَّى مع تقوُّس خياشيمه. وفي الحال شعر بالضيق يكتم فتحاتِ أنفه، فشدَّد من قبضة يده، وزاد انحناؤه، وكاد يرمي «بالبِشْت» على حافة البِرْكة.

وكان ما ضايقه وكتم أنفاسَه شخيرُ الأرانب أهل بلده، وهو يمتد مع انتشار الظلام، ولحظتها كان ما يلهلب سخطَه أكثر هو طنطاوي الخفير، وكوب الشاي «الزردة» التي عزم عليه بها في حبكة المغرب، والتي لولا دناوتُه، وجريانُ ريقه عليها، ما ذاقها.

وتمشَّى عبد الكريم في الواسعة وأذنُه لا تسمع حسًّا ولا حركة، ولا حتى صيحة فرخة، وكأنه وسط جبَّانة، وليس في رحاب بلدة فيها ما فيها من خلق الله.

وحين بلغ منتصف الواسعة توقَّف، وكانت لوقفته حكمة، فهو إذا أطاع ساقَيه ومشَى، أصبح بعد خطواتٍ قليلةٍ في قلب بيته، وإذا أُغلق دونه بابُ الدار، كان عليه أن يُخمدَ أنفاسَه وينام. وهذه اللحظة لم تكن في عينَيه قمحةٌ واحدة من النوم، بل كان مخُّه أروق من ماء «الطرمبة»، وأصفى من العسل الأبيض، ولا يهمُّه السهر، ولو لهلال رمضان.

وكل هذا بسبب دناوته، وسواد الشاي في الكوب، وأفعوانية طنطاوي، وبسمته الزرقاء، ودعوته التي لم يفكر في رفضها.

ليس هناك نوم؟ طيب.

ورجال البلدة الخناشير قد انكفئوا يَغِطُّون من زمان، وتركوا الليل لصغارهم الملاعين، فماذا يفعل عبد الكريم؟

يسهر؟ وأين يسهر؟

صحيح؟! أين يسهر؟

هل يلعب «الاستغماية» مع الأولاد؟

أو تزفُّه البنات وهن يقلن: يا ابو الريش انشالله تعيش؟ صحيح أين يسهر؟ وهو أنظف من الصيني بعد غسيله، وليس معه قرش صاغ واحد، حتى يذهب إلى «غرزة» أبو الإسعاد، ويطلب القهوة على البيشة، ويتبعها بكرسي الدخان، ويجلس ما شاء بعد ذلك على ريحة القهوة والكرسي، يراقب حريفة «الكوتشينة» من صبيان المحامين، ويستمع إلى ما لا يفهمه في الراديو، ويضحك ملء قلبه مع السباعي، ويَلكُز أبا خليل وهو يقهقه، ثم ينتقل إلى مجلس المعلم عمار مع تجار البهائم، وقد يشارك في الحديث عن سوقها التي ركدت ونامت.

ليس معه قرش! جازاك الله يا طنطاوي!

وهو لا يستطيع أن يخطف رِجله إلى الشيخ عبد المجيد؛ حيث يجده متربِّعًا والمِدفأة أمامه، والكنكة النحاسية تغلي وتوشوش على مهل، والشيحي جالس بجواره، يقصُّ بكل ما في صوته من رنين، ما حدث في الليالي التي شاب لها شعرُه، والأيام التي انقضت وأخذت معها بضاعتَه من عقول الناس القدامى الفارغة الطيبة، وجعلتْه يتوب عن النصب والسرقة، وقلع الزرع على أيدي النماردة من سكان هذا الجيل.

لا يستطيع أن يتنحنحَ ويطرُق باب الشيخ عبد المجيد؛ لأنه أول الأمس فقط، دفع الرجل من فوق مدار الساقية، فأوقعه في الحوض، وأضحك عليه الشارد والوارد، لما دبَّ الخلاف بينهما على مصاريف إصلاح الساقية، ومن ساعتها ولسانُ الشيخ لا يلافظ لسانَه.

كان الشيطان ساعتها شاطرًا، ولكن طنطاوي بدعوته أشطر، الله يخرب بيتك يا طنطاوي.

وماذا عليه لو سحب عصاته «المشمش» ذات الكعب الحديد، ومرَّ على سمعان، وانطلقا إلى عزبة البلابسة، فهناك سامر، وليلة حنة، وغوازي، وشخلعة، وعود، وهات إيدك …

وإنما من أين يا عبد الكريم «النقطة»؟ ثم المساء قد دخل، ويجوز أن سمعان ذهب يُصالح امرأتَه من خالها والطريق خائنة، والدنيا كُحل.

يا ناس، لماذا هو الخائب الساهر وحده؟ وطنطاوي لا شك قد استنظف مصطبة رقد عليها في «دركه»، وراح في النوم، نامت عليه البعيد أثقل حائط.

وماذا يحدث لو عاد إلى بيته هكذا كالناس الطيبين، ولكَز امرأتَه فأيقظها، وجعلها تُنير المصباح، وتمسح زجاجتَه، وتُشعل الموقد، وتُسخِّن له رغيفًا، وتُحضر الفُلفُلَ الباقي من الغداء، وحبذا لو كان قد بقي شيءٌ من الفطيرة التي غمزتها بها أمُّها في الصباح، وآه لو صنعت له بعدها كوزًا من الحلبة، وجلس كسلطان زمانه يَرقَع الثلاثة مقاطف التي بَلِيَت مقاعدُها، ويصنع لها آذانًا وقد تملصت آذانُها.

ماذا يحدث بالله إذا كان هذا؟

هل تنتقل المحطة من مكانها؟

وهل يعمل العمدة ليلة لوجه الله؟

وهل تنطبق السماء على جرن القمح؟

أبدًا، لن يحدث شيء من هذا.

ولكنه أعرف الناس بامرأته، وأعرف من شمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة، وقد تبعثر حولها الصغارُ الستة كالكلاب الهافتة، ولن تصحوَ حتى لو نفخ إسرافيلُ في نفيره، وإذا تفتَّحت ليلة القدر وقامت، فماذا تفعل؟

أهو يحاول الضحك على نفسه؟

وهل الذي يزمر يغطي ذقنه؟

المصباح بالعربي ليس فيه «جاز» إلا ما يملأ نصفه، والمرأة في حاجةٍ إليه كله لتعجن وتخبز طول الليلة الآتية إذا عاش أحد، ثم الأولاد لا ريب قد جاعوا ساعة المغرب، وأكلوا الفُلفُلَ بآخر رغيف في «المشنة».

وهل تبقى فطيرة الصبح لتنتظر سهرته؟ وعليه أن يُطمئنَ نفسَه، فلك الحمد، ليس في داره حلبة ولا سكر، ولا يحزنون.

ولن يستطيع طول عمره أن يحظى بكوبٍ مثل التي لحسها لحسًا عند طنطاوي.

الله يجحم روحك يا طنطاوي يا ابن زبيدة.

•••

ولو أن أحدًا عنَّ له أن يقضيَ حاجته في الواسعة، ورأى عبد الكريم في وقفته، مزروعًا كزوال المقاتة أمام وجه البِركة الداكن، لظنَّ في التوِّ أن الرجل مسَّه شيطانٌ أو لبستْه شيخة.

وعبد الكريم معذور، فالحيرة التي كان فيها أوسع منه، والمسألة أنه رجل على نياته، لا يقرأ الليل ولا يكتبه، والجيب خالٍ، والليلة شتاء، والشاي يكوي رأسه، وجهلة السهر من أمثاله قد غيبهم النوم من سنةٍ مضت في سابع أرض.

طالت من أجل ذلك حيرةُ الرجل، وطال وقوفه، وأخيرًا فعلها وقرَّ قرارُه.

وقطع الباقي من الواسعة في استسلام، وقد رأى أن يقضيَ ليلته كما اعتاد قضاء البارد من لياليه.

وأخيرًا استقر في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة وراءه، وتخطَّى أولاده وهو يزحف في الظلام على قبوة الفرن حيث يتناثرون، ومصمص بشفتيه وهو يئنُّ منهم ومن الظلام، ويعتب بينه وبين نفسه على الذي رزقه بستة بطون تأكل الطوب.

وكان يعرف طريقه، فطالما علَّمتْه ليالي البرد الطريق، وعثر آخر الأمر على امرأته، ولم يزغدْها، وإنما أخذ يطقطق لها أصابعَ يديها، ويدعك قدمَيها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المقشعرة في جسدها.

وصحتِ المرأةُ على آخر لعنة أصابت طنطاوي في ليلته، وسألته في غير لهفة وفمُها يملؤه التثاؤب عما جناه الرجل، حتى يسبَّه في عزِّ الليل.

فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون: هه، الله يخرب بيت اللي كان السبب.

•••

بعد شهور كانت النساء كالعادة يُبشرْنه بولدٍ جديد، وكان هو يُعزِّي نفسَه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر.

وبعد شهور وسنوات كان عبد الكريم لا يزال يتعثَّر في جيش النمل من الصغار الذين يزحمون طريقه في ذهابه وأوبته، وكان لا يزال يتساءل كل ليلة أيضًا، ويداه خلف ظهره، وأنفه يشمشم حوله عن الفتحة التي في الأرض أو السماء، والتي منها يجيئون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤