الأمنية

كان «البرعي» يتساءل في غِبطةٍ وحيرةٍ عن الوجه المليح الذي طالعه في ذلك الصباح، فما كان يعتقد أبدًا أن اللحظة التي داخ، وهو ينتظرُها قد تأتي هكذا فجأة، وبمثل السهولة التي جاءت بها.

ومع أن «أوضة» التليفون كانت خاليةً تمامًا، ودوار العمدة ليس به إنس، والخفير ذهب يُفطر وأوصاه بالحجرة خيرًا، مع هذا كلِّه، خاف أن يراه أحد، فأطلَّ برأسه من الباب، ونظر هنا وهناك، فلم يجد إلا قوافل الأوز والبط، وهي تروح وتنقنق وتجيء في الشارع الضيق، وديكَين نافرَين يتعاركان، وكلب ابن عمه الأجرب راقد يتصيَّد الذباب على مهلٍ مطمئن.

ووارب البرعي الباب، ولفَّ حول المائدة الكبيرة الوحيدة بالحجرة، وقد تشقَّق سطحُها وامتلأ بدوائر الحبر السوداء، ولم يتردَّد وهو يجلس على الكرسي المتهالك الذي سقَط معظمُ خيزران قاعه، وضايقته الجلسةُ حتى اضطرته أن يعقصَ ظهرَه إلى الوراء كثيرًا، وأن يمدَّ رجلَيه الحافيتين تحت المائدة.

وذكَّرتْه جلستُه التي لم تخلُ من عظمةٍ بالشيخ عبد المعطي عامل «التلافون» وهو قاعد على الكرسي، وقد وضع رجلًا فوق الأخرى، وخلع العمامة عن صلعته التي لها نعومةُ الخيار، وأسندها إلى دفتر الأحوال القديم الذي صنع له جلدًا من ورق اللحمة الأصفر.

ولم يسترسل البرعي في سرحانه، فالأمنية كانت تلهبه، وصندوق «التلافون» المثبت في الحائط أمامه كان يجذبه بمغناطيس لا يستطيع مقاومته. وهزَّ البرعي رأسَه في غِبطةٍ فلا شيء الآن يَحول بينه وبين رغبته، ولا أحد موجود في الدنيا كلها إلا هو و«التلافون».

وتمطَّى في دلال وهو يقف، واقترب من الصندوق، وتملَّى فيه برهة، ودقَّق في سلكه الفيراني الطويل، وهو ينتهي في الزجاجتين المملوءتين بشيءٍ غريب.

ومدَّ البرعي يدَه في قليلٍ من الوجل، ونقَر على الصندوق. وكاد يضحك وهو يتوقع أن يردَّ واحدٌ من داخله، ويقول: مين؟ وابتسم وهو يرجع إلى أيام بلاهته وصغره حين كان يسميه «اللفلفون»، ويعتقد أن داخله بني آدم صغير وضعته الحكومة ليكلم الناس.

ولم يُضيِّعْ وقتًا أكثر من هذا في السخرية بنفسه، وإنما مضى يُملِّس على الصندوق الناعم، ويتحسَّس البوقَ الذي يبرز من مقدمته كما تبرز شفاتيرُ حسن العبد، وتصل أصابعُه إلى الأجراس الموضوعة كأجراس العجلات، فينقر عليها بأظافره، وتنحدر يدُه إلى السمَّاعة المعلقة بجانب الصندوق، فيلفُّ قبضتَه حولها، ويمرُّ بيده فوق الحَبل الذي يتدلَّى منها، ويملُّ هذا، فيرتدُّ إلى الناحية الأخرى، ويلعب بيد التلافون الحريرية السوداء، ويكاد يُديرها.

وقبل أن يفعل شيئًا آخر، اتجه إلى الباب، واطمأنَّ من جديد إلى خلوِّ الطريق، وعاد إلى التلافون، وأمسك السماعة بقوة، ثم رفعها قليلًا قليلًا في حرصٍ شديد. واستغرب حين وجدها ثقيلة كرطل الحديد، وكلما ثقلت يدُه بها، دقَّ قلبُه، وسال العرقُ من يده، ونَسيَ الابتسامةَ التي لا يدري متى علَّقها فوق وجهه.

وأصبحت السماعة أخيرًا في حوزة قبضته بعيدة عن الصندوق، فقلبها على ظهرها وبطنها أمام عينيه، وأعجبه الثقبُ الذي في أسفلها، ووضعها تحت طاقتَي أنفه وشمَّها، فلمح فيها رائحةَ عرقِ الشيخ عبد المعطي التي يعرفُها جيدًا، وتعرفها معه كلُّ بلدهم ميت غنيم.

ثم، ثم وضَع السماعة فوق أذنه، حتى التحمتْ بها، وحملق في الحائط الذي تساقط طِلاؤُه، وهو يسمع هديرًا عجيبًا كدويِّ وابور الحرث البعيد، وبعد أن زالت صدمتُه الأولى تسربتْ إلى أذنه من وسط الهدير أصواتٌ كنقيق الضفادع، فكزَّ على أسنانه، ونقل السماعةَ بسرعة إلى أذنه الثانية، وكتم أنفاسَه حتى لا يفوتَه شيءٌ.

وانتشَى.

فقد استطاع بعد جهد أن يُميِّزَ صوتًا يقول: أيوه يا سيدي، وأصوات كثيرة أخرى تردُّ عليه، ثم تبعد كلها، وتختلط، ولا يربطها في رأسه إلا دوي وابور الحرث الذي بدأ يُدير رأسَه، ولا ينعشه إلا صوتٌ رفيع ممدود يقول بين الحين والحين: ألووه، يا أخينا ألوووه.

وتبيَّن بعد عناءٍ كبير، وبعد أن تلاحقتْ أنفاسُه، وابتلع ريقه مرات أن نقيقًا يقول من بعيدٍ جدًّا: يا مركز، فيرد عليه آخر له بحة كحشرجة أم سليمان.

وما اهتمَّ البرعي بمسألةٍ في حياته قدرَ اهتمامه بمعرفة كلِّ ما يقولون، فأمسك السماعة بكلتا يديه وضمَّها بشدة إلى أذنه.

وكاد يقهقه وكأن الأصوات تزغزغه، وأحسَّ أنه سعيد، وأنه يستطيع عملَ أيِّ شيء، وأنه هو الآخر ممكن أن يمطَّ صوتَه، ويُطيل عنقَه، ويقول: يا مركز.

وقالها فعلًا في سرِّه، ثم همس بها بينه وبين نفسه، وكأنها الفاتحة يقرؤها.

وحين اطمأنَّ إلى أن حادثًا لم يحدث بعد همسه، اجتاحتْه نوبةٌ عاتية من الجرأة السعيدة، وزعق وقال: طب هه، يا مركز، يا واد يا مركز.

وكما تقرع طبلة السحور، وجد أذنه يخرقها صوتٌ أجوف عالٍ تبيَّن بعد وقت أنه يقول: أيوه يا ميت غنيم.

وشعر أنه وقع، وأصبح قلبُه في أطراف أقدامه، وسقطت طاقيته فلم يعبأ بها.

ومأمأ وفأفأ وأذنه قد ماتت على السماعة التي تطبل كل لحظة وتقول: أيوه يا ميت غنيم.

وأصبح لا شيء في عقله، ولا شيء على لسانه إلا أن يردد مرة أخرى: يا مركز.

فيجيئه الجواب غاضبًا: أيوه يا جدع.

– يا مركز.

– أيوه يا محروقة يا ميت غنيم.

– يلعن، يلعن أبوك يا مركز.

قالها، ورمى السماعة بقوةٍ وهو يحس بكل ارتياح.

ثم اندفع إلى الخارج كالريح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤