المأتم

وقف أبو المتولي على باب الجامع، وشمسُ الضحا تنصبُّ على وجهه «الأشعل» فتعذبه، ويتوهَّج لها شعرُ رأسه الناصع البياض كشعر الأرانب، وتزداد كذلك حُمرةُ أجفانه الخالية من الرموش، المضمومة بإحكام حتى تمنعَ الضوء من التسرب إلى مقلتيه.

وقف يُحاور الشمس وتحاوره، ولم يستطع أن يرى ما أمامه إلا بعد أن مدَّ رقبته، وأدخل رأسَه في ظلِّ الجامع، بينما بَقي جسدُه خارجَ الباب، وحينئذٍ راح يطوف بعينَيه الصغيرتين الضعيفتين داخل الجامع، حتى عثر على بُغيته جالسًا يُغالب النوم بجوار عامود، فنادى بصوته الأخنف الهادئ: يا شيخ محمد.

وكانت همهمة الناس الكثيرين الذي يحفل بهم الجامع لا تفنَى حين تُغادر أفواههم، ولا تتبدَّد، وإنما تبقى، وتنتشر كالنحل في كل اتجاه، وتظلُّ تتخبط بين جدران المسجد الوقورة العالية الملساء، فتصنع بتخبُّطها رنينًا عريضًا أجوفَ يدوي به المكان.

ولم ينفعْ صوته الأخنف الهادئ، فقد ضاع نداؤه في هالة الرنين، ورفع صوته أكثر وكافح ليرفعَه، حتى احمرَّ وجهُه، وأصبح كعُرْف الديك.

وأخيرًا سمع الجالس بجوار العامود، فأدار رأسَه كمن كان يتوقع النداء، وأسرع بعينَيه إلى الباب، ثم لمَّ أجزاءه وأسرع بنفسه.

وأحسَّ أبو المتولي بالراحة حين سمعه الراجل، فذلك كان يعني انتهاءَ مهمة عينَيه الشاقة، فأغلقهما ولم يُبقِ إلا شعاعًا رفيعًا كافيًا لأن يتحسَّس به ما حوله.

– غبتْ ليه يا مبروك؟

ولم يُرِد أبو المتولي أن يُضيعَ الوقت في سلام أو كلام مع الشيخ محمد، ووضع اللِّفافة التي كان يحملها فوق يديه على المصطبة البارزة من باب الجامع، وكان في اللِّفافة رضيعٌ ميت ملفوف بجرام أجرب باهت، وقال: صلِّي يا شيخ محمد.

وتلكَّأ الشيخ قليلًا، وتغمز وتلمز بعينَيه اللتين يُغطي مقلتَيهما سحابٌ أزرق، وحرَّك رقبته وبصَّ إلى اليسار، ثم استدار إلى اليمين، وابتسم ابتسامةً كلُّها مكر ساذج، وهمَّ أن يقول شيئًا، ولكن أبو المتولي الحانوتي كان فارغَ البال، ناشفَ الريق، فشدَّدَ الضغط على أجفانه، ورفع وجهَه إلى فوق، وكأنما يتحدَّى الشمسَ والشيخَ محمد معًا، وقال: يوهوه، بس صلي الأول.

وأكمل غضبته بخبطة على جلبابه، ثم استدار وبحركة لا إرادية ثبت كفًّا فوق عمامته من أمام، وكفًّا أخرى من الخلف، وجذَب العمامة بقوة ليُحبكَها ربما للمرة العاشرة منذ الصباح.

ولم يتحرَّك من مكانه إلا بعد أن نوى الشيخ، وبعد هذا مضى يُراقب الخناقاتِ الصغيرة الناشبة بين البائعين والمشترين — وما كان أكثرهم — حول الجامع وأمامه، ثم أتعبتْه الشمسُ فاتَّجه بعينَيه إلى الظلِّ؛ حيث كانت حلقةُ ذكْر قائمةً على قدَمٍ وساق، وكانت الحلقة تَضمُّ جمْعًا قليلًا متنافرًا من الناس، وعلى رأسهم شيخٌ مجذوب له «شرف» أحمر، وقد علَّق في كتفه «مخلاية» لا يعلم ما فيها إلا الله، وكان الشيخُ يُمسك بمجلس الذكر على دقَّات مسبحته فوق عصاته المصنوعة من ماسورة حديدية، وأثناء هذا يُنشد ويُوشِّح، وكان صوتُه أقبحَ من وجهه.

ولما جاء بائعُ العرقسوس، ورنَّت صاجاتُه وصيحاته، تذكَّر أبو المتولي ريقَه الجاف، ولم يستطعْ أن يقاوم إغراء الضباب المثلج الذي يحيط بزجاج الإناء، والذي تَرُدُّ رؤيتُه الروح، فمدَّ يده بنصف قرش للرجل، وأزاح الرغاوي المتجمعة على سطح الكوب بنفخة واحدة من زفيره، ثم سمَّى ومضى يجرع، وأعجبتْه «الشوية» فمدَّ يده اليمنى من خلال فتحة جلبابه، وهو يشرب، وانتزع من جيب الصديري تعريفة أحمر، وأعطاه للبائع، وتلاعبت حنجرتُه التي لا تكاد تظهر من رقبته، وهو يُتاوي الكوب الثاني.

وتكرَّع، وحفَل جسدُه بالعَرَق.

ورمَق بائعَ جميز بربع عين، ولم يعجبْه الجميز، فرجع إلى الباب ليجدَ أن الشيخ محمد قد انتهى من الركعتين.

– السلام عليكم ورحمة الله.

قالها الشيخ محمد، وهو يُحملق ناحيةَ الحانوتي، وقالها بصوتٍ مرتفعٍ منغَّم، وكأنما يُوبخ أبا المتولي ويؤنِّبه، ثم انخفض صوتُه حتى أصبح حوقلةً وهمسًا، وانخرط في ختْم الصلاة.

وألقى عليه الحانوتي نظرةً فيها شكٌّ وعدم اطمئنان وسأله: بقى ودينك يا شيخ، الواد على القبلة مظبوط؟

ورفع الشيخ محمد صوتَه بختام الصلاة، وكأنما يردُّ عليه: اللهم صلِّ وسلم وبارك.

ولم يَجُزْ‎ هذا على الحانوتي، فعاد يقول: بقى بذمتك أنت على وضوئك يا شيخ محمد؟

– على سيدنا محمد وعلى … يا أخي هو مافيش إسلام، وعلى آله وصحبه وسلم.

وهمهم أبو المتولي بكلام لم يفهمه هو نفسه، ثم مدَّ يده وحمل اللفافة فوقها، وكان الشيخ قد أنهى الختام على عجل، فقال وهو يمسح وجهه بكفَّيه ويُقبِّلهما: يبقوا كام بقى يا عم متولي؟

وتوقَّف الحانوتي وقد عاوده مَللُه، وازدادتْ عصبيتُه وكأنه يحمل فوق يدَيه أرطالًا من حديد، وصمتَ لحظة صمتَ اليائس؛ فقد عمل كلَّ ما في وسعه ليتجنَّب الخوضَ في مثل ذلك الكلام، ولكن ما باليد حيلة، وببطءٍ قال: بدهه يا شيخ محمد، يبقوا سبعة.

– سبعة؟! سبعة إيه؟! وحياة الست مسكه وأم هاشم وأولية الله تمانية يا مبروك.

– سبعة يا شيخ محمد والله العظيم سبعة.

– دانت صاحب عيال يا عم متولي، وحياة سيدي، الله، أدحنا فيها، الواد اللي جبته من الحنفي الصبح، واحد، والبنت بنت عمك.

– اسمع يا شيخ محمد، علي الطلاق سبعة.

– أ … أ … أ … لا حول ولا قوة إلا بالله، مش يا مبروك.

– عليَّ الطلاق سبعة.

– أف، أنت وذمتك يا شيخ، الله وكيلك.

– وصلك كام يا شيخ محمد؟

– حتة بعشرة يا مبروك.

وانتظر الحانوتي حتى يحسبَ الحسبة، ثم قال: يبقى باقيلك من حساب السبعة أربعة ساغ.

– بس … بس … يعني …

– بس إيه؟

– بس وأنت سيد العارفين يا عم متولي، النهاردة رطل القوطة بكذا، والبامية بكيت، ولا ليالي ولا مياتم، والحالة كرب، والولية امبارح اشتريت لها سبرين.

– طماطم إيه! وهباب إيه! يا شيخ اصطبح وقول يا فتاح، الصيف أهو طالع، والنزلة جايه ومش حتلحق تحوش عن قفاك، خلِّيها على الله، خد.

وتردَّد الشيخ محمد، وهو يكنُّ يدَه، ثم يفردها، ولكنه توكَّل على الله، وتناول ما في قبضة الحانوتي وتحسَّس الشلن الورق، وأدخل رقبته في الجُبَّة القديمة، وفرفط غمزاته ولمزاته، وفركه بين أصابعه، وطبَّقه، وكاد يردُّه، ولكنه سحب ناعمًا، وحدَّق من خلال الضباب الذي أمام عينَيه، وقال: طب هات ساغ كمان يا مبروك.

ولم يسمعْه أحد، فأبو المتولي كان قد اختفى باللِّفافة في زحمة الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤