مشوار

كانت «مصر» إذا جاءت سيرتُها في حديثٍ عابرٍ يرتجُّ على الشبراوي، ويرى أنه غير عائش، ويتحسَّر على ساعةٍ واحدةٍ يقضيها في القبيسي أو عند المعلم أحمد في الترجمان، ويجترُّ شوقُه إلى حفلة من حفلات النهار في السينما الأهلي، ويرتدُّ عقلُه بسرعة إلى الأيام الخوالي التي قضاها في الجيش؛ حيث كان يَذرَعُ مصر من مشرقها إلى مغربها كلَّ أسبوع.

وغالبًا ما كان ينهي الشبراوي لهفتَه وحسرته وشوقه بأُمنية ليس كثيرًا على الله أن يُحقِّقَها، فيُهيئ له ظرفًا مناسبًا، وقرشين حتى يشدَّ الرحال إليها، ويستعيدَ يومًا من أيامه.

وأصبحت الجملة التي يعرفه بها زملاؤه من كثرة ترديده لها: أبيع عمري على ساعة فيكي يا مصر.

ولكنه لم يضطرَّ إلى بيع عمره، فقد أتى الفرجُ من حيث لا يدري، ومن باب لم يعمل له حسابًا قط. فهو جالس في المركز جِلستَه منذ أربع سنوات، وإذا بجماعةٍ حافلة تدخل، وبعد سؤال وضجيج اتضح أنها امرأة مجنونة من كفر جمعة ومعها أهلُها وأقارب الأهل والجيران، وملأ الصراخُ المكان، فالتمَّت الناس وضاق المركز.

ودقَّ قلب الشبراوي في أمل بين ضلوعه، فلا مناص من إرسال المرأة إلى مستشفى الأمراض العقلية في مصر مع «مخصوص»، ومَن غيره ينفع أجدع مخصوص؟

ولم تكن ثمة حاجة إلى وساطات أو شفاعات للمعاون. فقد تنصَّل كلُّ العساكر من المهمة ومن مسئوليتها. وحين تقدَّم هو إلى المعاون طائعًا مختارًا انتهى الأمر.

وفي الحال أرسل الواد عنتر صبي البوفيه إلى امرأته يُخبرها بسفره، وبأن تُجهِّز له لقمة في منديل، وتُرسل الخمسين قرشًا الصحيحة بأمارة ما هي موضوعة في كيس المخدة.

ومضى نصفُ ساعة.

وأصبح كلُّ شيء جاهزًا، وخطاب مفتش الصحة مُعدًّا، واستمارات السفر مكتوبة، وليس باقيًا إلا أن يضع رِجلَه في القطار ليكون بعد ساعات في قلب مصر.

ولم يكن هيِّنًا أن يُصدِّقَ الشبراوي أن ما حدث كان حقيقة، وأن الأمر انتهى هكذا بسهولة ونعومة، وأنه صحيح سيرى مصر مرةً أخرى، ويتفسَّح فيها، ويركب الترام، ويقابل الإخوان والأصحاب، ويتعشَّى نيفة عند المعلم حنفي.

لم يكن ذلك هيِّنًا، ولكنه مضى بخطواتٍ تضطرب بفرحةٍ لا يُصدِّقها إلى المحطة، ومعه ما يزيد على المائة نفر، وكلُّهم يوصُّونه بزبيدة وبأن يكون صبورًا معها.

وغمزه أبوها بريال، وأعطاه زوجها بريزة، وهزَّ الشبراوي رأسه كثيرًا، وابتسم باستمرار، وهو يؤكِّد لهم أنها في عينَيه، وأن يطمئنوا عليها، ويعتبروه أخاها من أمها وأبيها.

وكان الموكب وهو يخترق البلدة يسترعي انتباهَ الناس ويجدون الشبراوي على رأسه، فيسأله الذين يعرفونه أين هو ذاهب، وكان يجيب في تواضع: لحد هنا.

فيعود السائل يتمحَّك: لحد فين.

فيجيب الشبراوي وهو يزيد من قلة اهتمامه.

– كده لحد مصر.

وكثيرًا ما كان يأتيه الجواب: هنيالك يا عم.

وتنمل السعادة في أحشاء الشبراوي.

وبعد انتظار كثير جاء قطار الدلتا، وركب هو وزبيدة، وجلست هادئة ساكنة، وتحرَّك القطار في أمان الله.

وتحسَّس الشبراوي الأوراق للمرة الثالثة، وقد وضعها بعنايةٍ في جيبه الداخلي، ولما رأى أن لا متاعب هناك، وأن الحال مثل القشطة، فكَّ حزامَه البوليسي العريض، واستراح، وكاد ينسى زبيدة.

وانتهى قطار الدلتا من ركناته وسرحاته ومحطاته التي لا تفرغ، ثم دخل المنصورة كالدودة السوداء الطويلة، وعبر الشبراوي الكوبري، وزبيدة في يده، وهو لا يني عن ترديد: بركاتك يا سيدة زينب.

وسأل عن قطار مصر فوجده رابضًا ينتظره، وركب وأجلس زبيدة بجوار النافذة. وجاء بائع الليمون فشرب منه كوبتَين في نفَس واحد، ومدَّ الثالثةَ إلى زبيدة، ولكنها دفعتها في تبرُّم وحَنَق، وهدهد عليها وهو يتبع الكوبة زميلتَيها.

وتحرك القطار والناس فيه آمنون مطمئنون، وزبيدة تنظر من الشباك كالطفلة الصغيرة وعلى فمها ابتسامة نيئة، والشبراوي تُطقطق له السعادةُ أصابعَه.

وقبلَ السنبلاوين استدارت زبيدة فجأة، ثم دبَّت على صدرها في عنف، وقالت وهي تنظر إليه في اتهامٍ غريب: يا لهوي.

ونزل الشبراوي مهرولًا من جنَّات سعادته، وردَّ عليها في انفعال: مالك يا اختي، مالك يا زبيدة؟!

ولم تُجبْه، وإنما وضعت كفَّها تحت أنفها، وبأقصى قوتها أطلقت زغرودة خالية من كل همٍّ.

وأعقبتْها بسِرْب طويل من الزغاريد.

والتفت الركَّابُ إليها، وصمتت العربة كلُّها في دهشةٍ عظمى.

وتخلخل الشبراوي وداخ قليلًا فلم ينطقْ بحرف.

وبعد أن حاول ابتلاعَ ريقه، فلم يجد له ريقًا طبطب على زبيدة، ومعلشي يا اختي، حقك عليَّ، طولي بالك، اعملي معروف، بلاش فضايح، وكلمتين من كلماته الهادئة وسكتت زبيدة.

ولكن الركَّاب لم يسكتوا، بل انطلقت ألسنتُهم تُعلِّق همسًا على ما حدث، ثم ارتفعت الأصوات. كل هذا والعيون لا تتحوَّل عنه أو عنها.

وسَمِع بأُذُنه واحدةً تقول: دي لازم مراته يا ضنايا.

ورنَّت ضحكة في آخر العربة، وتنحنح الرجل الجالس أمامه وهو يفيق من غفوته، ووقف طفلان فوق المقاعد يتفرجان.

وعَرِق الشبراوي حتى نفذ العرقُ إلى بدلته الصفراء ومدَّ يدَه، ولمَّ المنديل الذي كان قد فردَه ليغير ريقَه، ثم عقده كما كان.

وسأله جار لم يعجبْه الحال: هي الست مالها يا شاويش؟

وقال الشبراوي وقد استردَّ لسانَه وإن لم يستردَّ مفاصله: أبدًا، ولا حاجة.

وسكت قليلًا، ثم أضاف: أصلها.

وضمَّ أصابع يُمناه، ثم حرَّكها في دائرة بجوار رأسه، وهزَّ الرجل جسدَه كلَّه يُؤمِّن على ما قال الشبراوي، وكأنه قد اكتشف شيئًا عويصًا.

ولم يكن الشبراوي قد كفَّ عن تحريك يده حين استدارت إليه زبيدة، وتكلَّمت بأعلى صوتها ومعالمُها مدبَّبة مشحوذة: ولا حاجة إزاي، إزاي يا جدع ولا حاجة؟!

ونظر الشبراوي إليها في جزعٍ حقيقي، وهي تقترب بخلقتها من وجهه، وتراجع برأسه حتى ألصقَها بخشب العربة واضعًا المنديل بما فيه بينه وبينها.

ولكنها أنهت اقترابَها منه فجأة، وانتصبت واقفةً، ثم فتَّشتْ سقف العربة بعينَين زائغتين وزعقت بكل ما تستطيع: ولا حاجة إزاي، يسقط عمدة بلدنا إبراهيم أبو شعلان، يسقط عمدة بلدنا، يعيش جلالة الملك، يعيش جلالة الملك الريس محمد بيه أبو بطة.

وطقَّت زغرودة فائرة.

ووقفت العربةُ على رِجل، وطار النومُ من عيون النائمين، وأخذ الرجل الجالس أمامه المقطف من تحت المقعد، ثم مضى مسرعًا. وفي ثانيةٍ أصبح لزبيدة والشبراوي نصفُ العربة، بينما انزوى كلُّ الركَّاب في النصف الآخر متوجِّسين شرًّا.

وغادر العربةَ نفرٌ قليل من المسافرين، بينما أبقى حبُّ الاستطلاع معظمَهم.

وأصبحت بدلةُ الشبراوي كالمغسولة بعَرَقه، ومدَّ يدَه يُرغِم زبيدة على الجلوس ويُنهي الموقف، ولكنها خبطتْه على يده، وتأودتْ وهي تزغرد وتقول: يسقط عمدة بلدنا، يعيش جلالة الملك الريس أبو بطة.

وانطلقت ضحكاتُ بائعي الكازوزة والفول السوداني، وجرتْ وراءها ضحكاتُ المسافرين، ولم يجد الشبراوي مانعًا من ضحكه هو الآخر، ولكنه لم يضحكْ طويلًا، فقد فوجئ بالمسألة تنقلب جدًّا لا هزل فيه، وروَّعه من زبيدة أنها مدَّت يدَها، ورفعت ذيلَ ثوبها تُريد أن تخلعَه، وكانت ترتدي ثوبَها فقط، وهجم عليها يُوقفها، ودفعتْه وهي تزغرد، وقامت معركةٌ.

ولو أنه تغلَّب عليها آخرَ الأمر فأقعدها بالقوة وربطها بكوفية تبرَّع بها واحدٌ من المسافرين، مع هذا إلا أنها كانت قد فعلت شيئًا أفقده صوابَه، فقد قذفت بطربوشِه من نافذة القطار، الطربوش الذي ظلَّ فوق رأسه من يوم أن دخل الخدمة، وبقيت فروتُه عارية بيضاء إلا من شعره القليل القصير.

ولم تهدأْ زبيدة حتى بعد أن فعلت هذا، وظلَّت تُطلق الزغاريد، وفي كل مرةٍ: يسقط العمدة ويعيش الريس.

وقرابة بلبيس كان الهدوء قد أخذ طريقَه إلى عقلها، وسكتتْ حتى بدأ بعضُ الجريئين من الركاب يعودون إلى أماكنهم، وكان الشبراوي يمنع نفسَه منعًا عن قذفها من القطار، فقد كان يغلي على طربوشه الذي ضاع أمام عينيه.

واستمر يغلي حتى دخل القطارُ محطة مصر.

وانتظر الشبراوي حتى نزل كلُّ الناس، ثم شدَّها بعنف، ولفَّ ذراعه حول ذراعها وجعلها لاصقة بها كالكماشة، ولكنها لم تكن في حاجة إلى كل هذه الشدة، فإنها كانت تمشي معه كالحرير المطاوع.

وبَهرَه ميدانُ المحطة، ولكن الظروف لم تكن متاحةً أمام الذكريات لتُشغلَ بالَه.

وعلى الفور ركب الترام وهي معه أعقل ما تكون، ونزل في العتبة، وخرم على شارع الأزهر، واشترى طربوشًا بالريال، وهو يلعن زبيدة وأباها وفلوسه الحرام.

ولم يسترحْ إلى الطربوش الجديد فوق رأسه، وأحسَّ أنه ثقيل كقطعة الدبش.

وعقَد العزم على أن يجعل زبيدة تغور من وجهه أولًا، ويتخلَّص من مسئوليتها، ثم بعد ذلك تكون مصر كلُّها له وهو لها، واستراح لهذا القرار، وركب الترام والناس فيه فوق بعضهم، وغَرِق يراجع ما فات من متاعبه وما سيجيء، ولكنه صحا في نصف الطريق يطمئنُّ على زبيدة، فوجدها لاصقةً بأفندي من الراكبين وفكُّها قد تدلَّى في بلاهةٍ راضية، والأفندي منسجم غاية ما يكون الانسجام، ومتشاغلٌ بقراءة جريدة يحملها. وزغدها الشبراوي وهو يشدُّها بعيدًا، وانقلب الرضا الذي على وجهها غضبًا، وزغردت وسقط العمدة، وعاش الريس أبو بطة.

وأوقف الكمساري الترام بلا محطة، وأنزل الشبراوي وهو يُشبعه لومًا وتريقة وتقريعًا على ركوبه ومعه واحدة لها هذه الخطورة.

ووجد الشبراوي أنه من المستحسن أن يأخذها كعابي إلى المحافظة، ومشت زبيدة على يمينه وقد صمَّمت ألا تكفَّ عن زغردتها، والتأم شارعُ محمد علي كله وراءهما وبجوارهما، وكلما كثر الناس علا صوتُ زبيدة، بينما راح الشبراوي في غيبوبة ووجهه لا يرتفع عن الأرض.

ورأى العسكري الواقف أمام باب المحافظة هذا الجمع مقبلًا، وفيه زغاريد وأصوات فتوقَّع حدثًا مثيرًا، ووقف الشبراوي يسأله عن طبيب المحافظة، وعرَف العسكري الحكايةَ بخبرته ورثَى له، فالساعة كانت قد جاوزت السادسة ولا أحد هناك.

وسأله الشبراوي بلهفة: طيب وبعدين؟

– فقال العسكري بكل هدوء: تعال بكرة.

– بكرة؟ بكرة إزاي؟

– بكرة الصبح.

ثم أعقب العسكري جوابَه بشخطة فرقت الناس وفي جعبتهم أكثرُ من نادرة.

وتوسَّل إليه الشبراوي وهو يسأل إن كان ممكنًا تركُها إلى الصباح في المحافظة.

وحدجه العسكري بعينيه دون أن يتكلم، وفهم الشبراوي فسحب زبيدة ومضى. ومن هذه اللحظة بدأ يطرق عقلَه طرفُ المشكلة، وبدأ يفكِّر كيف يبيت ومعه هذه الداهية، ولكنه كان متعبًا مهدودًا، وله ساعات لم يَدخل جوفَه طعامٌ.

ودخل أقرب قهوة في باب الخلق؛ حيث جلس وأجلسها بجانبه وكتفه في كتفها. ولم يعبأْ أبدًا بتحديق الجالسين فيه وفيها ولا بما يقولون. وطلب شايًا وتعميرة، وشربهما، وأحسَّ بالخدر يتمشَّى لذيذًا في جسده، وأفاق من خدره على شيء حدَث داخله، فجعله يتململ ويرتدُّ إلى أقصى الخلف، ثم يتلوَّى إلى أقصى الأمام. وقدر أنه لن يستطيع الاحتمال وعليه أن يبحث في التوِّ عن المكان الذي يقضي حوائج الناس، وسأل الجرسون وعلى وجهه ألمٌ. وأشار الرجل إلى مكانٍ لا يبعد كثيرًا.

ولكن … زبيدة.

وتلفَّت حوله، ولم يكن صعبًا أن يبدأ حديثًا سريعًا مع جاره الذي كان يرتدي بالطو وجلبابًا بلديًّا، وعرَف منه أنه مخبر في المحافظة. واضطرَّ الشبراوي أن يقصَّ الحكاية من طقطق إلى سلام عليكم، وأن يختمَها راجيًا المخبر أن يأخذ باله من زبيدة، حتى يعمل مثل الناس ويعود، وما كاد الرجل يَقبل بغير ترحيب، حتى اندفع الشبراوي وكأنه طلقة.

وحين عاد كانت القهوة قد انقلبت إلى مولد تُحيِّيه زبيدة.

وجرَّها الشبراوي في غِلظة بعد أن ألحف في الاعتذار للمخبر، ومشى وهو لا يدري أين يذهب، وكان الوقت يمضي والشمس غابت، والأضواء القوية تزغلل عينَيه محاولة تذكيره بالذي مضى، ولكنه كان في عالم آخر.

وظلَّ يبحث في ذاكرته حتى عثَر على قريبٍ له من بعيدٍ، طالب في الزراعة في الجامعة، وعثر أيضًا في ذاكرته على مكان بيته.

وتاهَ في الجيزة ساعات، فقد كان يعرف البيت في النهار فقط.

وأخيرًا استدل عليه، ودقَّ الباب، وفتح قريبَه، وسلَّم عليه بحرارة، وأنت فين يا أخي، والله زمان، وإزاي الجماعة.

وقبل أن يدخل في الموضوع زغردت زبيدة بحماس، وكانت ما فتحت فمَها طول الوقت.

ونظر إليها الشبراوي، وتمنَّى لو كان معه سكين ليذبحها.

ولم يدخل في الموضوع أبدًا، إنما انسحب في سكونٍ وهو يروي لقريبه نُتَفًا متفرقة من الحكاية.

وحين احتواه الشارع قال لزبيدة وهو يضغط على ذراعها يريد كسرَها:

واستمرَّ يُهدِّد ويتوعَّد وهي ماشية بجواره كالأوزة لا تَلوِي وزي ما تيجي.

واستمرَّ يُهدِّد ويتوعَّد وهي ماشية بجواره كالأُوَّة لا تَلوِي على شيء.

وذكَّره المؤبد الذي يريد الرواح إليه بالقسم، ووجد أنه حقًّا أصلح مكان يأويها ويأويه في تلك الليلة السوداء.

والأوتوبيس، وفي خطوتين كان أمام الشاويش النبطشي في قسم السيدة.

والحكاية أعادها، وقد تمرَّن عليها وحبكها.

وهزَّ الشاويش رأسه في بطءٍ وهو يقول: دي مسئولية يا حبيبي، وأنت سيد العارفين.

وردَّ الشبراوي وغيظُه يحترق: طب حطنا في الحجز.

وفي بطءٍ قال الشاويش: برضه مسئولية.

وحين غادر القِسم كان يلعن كلَّ ما يمتُّ إلى المسئولية والسائلين بصلة، ويكاد يضرب نفسَه وهو يلومها على هذه المسئولية التي اندبَّ فيها كالرطل.

وحين كان يستردُّ أنفاسَه لاحتْ له فكرة اللوكاندة، ولكنه نبذها في الحال فهما اثنان، وزبيدة حُرمة، وخطرة، والحسبة فيها بالراحة خمسون، ستون قرشًا، والحكاية على الله.

ولم يبتعد الشبراوي كثيرًا، فقد تربَّع أمام جامع السيدة وجذبها، حتى تهاوت بجانبه، والحياء يمنعه من البكاء، فلم يكن يعتقد أن إنسانًا آخر في العالم له مثل تعاسته، وبؤسه. وكان مجاذيب الست حولهما كالنمل، وحين زغردت زبيدة ضاع صوتُها في تمتمة الشيوخ وبسملتهم وزقزقة النساء ودوامات الذكر.

وسُرَّ الشبراوي لهذا وانبسط، فلم يَعُدَّ فيما تفعله زبيدة غرابةً أو شذوذًا. وفي الواقع كان هو الغريب الشاذ بين هذا الجمع، وكان هو التعس الوحيد كذلك. وتمنَّى أن يفقد عقله حتى ينجذب ويسعد ويستريح مثلهم.

ورغمًا عنه بدأ يَخرج من نفْسه ومن آلامه وغيظه ويرمق ما يدور حوله. وكان ما يدور مسليًا، فلا أحد يسأل الآخر ماذا يفعل أو ينهاه عن فعله، وانصرف الشبراوي بكلِّيَّته إلى الشيخ الذي بجواره، والذي كان ممدِّدًا مسترخيًا في موازاة الحائط، وقد أسند رأسه إلى ساعده، وراح يرقب الناس الغادين الرائحين بلا أدنى مبالاة، وفي وجهه اكتفاء واستمتاع، وكأنه ملك العصر والأوان، وكان بين الحين والحين يُخفض رأسه، ثم يرفعها بعد مدة، ويُحدِّق في الشبراوي ويقول في صوتٍ ممدود عميق ساخر: وحِّد الله.

فيوحِّد الشبراوي في سرِّه.

ثم يغيب الشيخ ليعود ينظر إليه نظراتِه التائهة الطويلة.

ومرَّ واحد من فوق الرصيف، ورمى بعُقب سيجارة، وجاءت في متناول الشيخ، وفي اتِّزان واطمئنان وثبات مدَّ الشيخ يدَه والتقطها، وشدَّ منها نفَسًا عميقًا، وأخرج دخانًا كثيرًا من جوفه وهو ناعم ملتذ، وأطلَّ بنظرة سعيدة على الشبراوي وحلقات الدخان تلهو في بطءٍ حول وجهه وقال بكل ثبات: وحِّد الله.

ولم يتمالك الشبراوي نفسَه، وضحك، وتمنَّى أن يرقد مثل رقدة الشيخ، وأن يكون خالي الهمِّ والمسئولية مثله. وحين مرَّت المسئولية على لسان وعيه التفت ناحيةَ زبيدة، فوجدها تتثاءب.

وكاد يرقص من الفرحة.

ولم يَطُلْ بها التثاؤب وشيئًا فشيئًا مضى جسدُها يثقل ويستكين، ثم راحت في النوم.

ولأول مرة تملَّى الشبراوي في وجهها، لم تكن حلوة، ولكنها كانت بيضاء، وكانت صغيرة وأقدامها فيها طين وجروح وخلخال غليظ. وكانت في نومتها لا تفترق عن العاقلين.

ولاحظ الشبراوي أن ثوبها مشقوقٌ وفخذها بائنٌ منه، وخفض من بصره وهو يلمُّ الثوب ويُغطِّيها.

ثم انخرط في تخريف لا يُعرف له أول من آخر مع الشيخ حتى نام.

وحين تقدَّم الليل، وسكنت الدنيا، وتكوَّم محاسيب الست يغطون بجوار الحائط كالقرود التي أنهكها يومٌ مشحون بالرقص والنط، كان هو يتساءل عما أزال الغضب منه فلا يُجيبه إلا الشخير الذي كاد يُقلق السيدة في مقامها.

وصمَّم أن يسهر الليل بطوله ولم يكن هذا سهلًا، فالنهار قد هدَّه، والسفر أخذ منه ولم تبقَ لديه عافية بعد أن امتصَّت المشغوليةُ وطولُ التفكير عافيتَه.

وطال عليه الليل وهو نصف نائم يرنو إلى ساعة الميدان، ويستعجل الوقت الذي يتهادى في بطءِ ثقيلِ الدم.

وما جاءت السابعة حتى كان في المحافظة ينتظر الطبيب وينش الناس من حولهما كما ينش الذباب وزغاريد زبيدة تلعلع بلا انقطاع. وأخيرًا جاء الطبيب، وبعد كثير كان هو وزبيدة أمامه، وقلَّب الرجل الأوراق، ثم قال وهو يؤشر عليها: خدها القصر العيني عشان تتحط تحت الملاحظة.

وأخذها الشبراوي مستسلمًا وخرج، ومن ترام إلى ترام وصل القصر العيني، وسأل واحدًا فلم يُجبْه، ونظر آخر إلى زبيدة ثم مضى، ودلَّتْه تمرجية عجوز على الاستقبال.

واستمع الطبيب إلى زبيدة وهي تهتف بسقوط العمدة وحياة الريس، وضحك كثيرًا وهو يسألها فتُجيبه وتهلوس وهي تجيب، وكان حين يضحك يرتاح الشبراوي أيما ارتياح، ويطمئن. ولكن الطبيب اتخذ في النهاية طابع الجد وأخبره أن لا مكان لها في قسم الملاحظة، وكتب هذا على الأوراق.

وسأله الشبراوي وروحه تحت لسانه: وأعمل إيه؟

– روح المحافظة تاني.

– تاني!!

– أيوه تاني.

وكان وهو خارج يحمل الدنيا فوق قرنه، وفعلًا راودتْه نفسُه أن يقتل زبيدة ويقتل الأطباء كلهم، ثم يعمل مجنونًا وينتهي، ولكن الأمر لم يتعدَّ حدود المراودة البريئة.

وعاد إلى المحافظة وهو يلهث، وقرأ الطبيبُ ما كتب الطبيبُ وقلَّب الأوراق مرةً أخرى، ثم فاجأ الشبراوي بسؤاله إن كان قد أحضر أحدًا من أقاربها، وأحسَّ الشبراوي بغُصَّةٍ وهو ينفي أنه أتى بأحد.

وأخبره الطبيب أن هذا ضروريٌّ لملء استمارة المستشفى، وأن عليه العودة ببساطة من حيث جاء.

وبهت الشبراوي واصفرَّ وهو يقول: أرجع الدقهلية بيها؟!

– أيوه.

وضربها الشبراوي في عقله فوجد أن هذا أحسن حل، ولكنه تنبَّه إلى أمر ذي بال، فقال للطبيب: مش ممكن يا بيه، دانا معايا استمارة رجوع واحدة بس بتعتي.

– يا ابني لازم حد من قرايبها.

– أنا في عرضك يا بيه.

– يا ابني دي مسئولية ما أقدرش أتحملها.

وكانت مرارة الشبراوي قد انفجرت من هذه المسئولية. وقبل أن تتولَّاه ثورةٌ يُحطِّم معها كلَّ ما أمامه قطعت زبيدة الحديث بزغرودة رطبة، وفي أقل من لمح البصر خلعت ثوبَها المهلهل، ثم اندفعت خارجةً فجأة، وجرت في حوش المحافظة والكلُّ مذهول قد عقدت الدهشةُ أيديه وأرجله.

وكان الشبراوي هو أول من جرى وراءها بكل ما يملك من قوة. وحلَّق الناس والمساجين والعساكر عليها، وأفلح الشبراوي في الإمساك بها فتملَّصت منه، وهي تهتف بسقوط العمدة، وعضَّته، وصرخ الشبراوي، ثم هوَى على وجهها بكفِّه وسال الدمُ من فهمها وأسنانها. وأُعيدت إلى غرفة الحكيم وهي تهتف وتتمرد وتزغرد.

وجاء قميصُ الكتاف وتعاون أربعة على إدخالها فيه.

وتدحرجت زبيدة على الأرض وهي تحاول التخلص، والدم يسيل فيُلوِّن أسنانَها ووجها وشفتَيها، واللعاب يصنع الزبد حول فمها.

وحرَّر الطبيب الاستمارة على عجل، ووقف الشبراوي مبهوتًا يرقبها، وينتفض بدنُه مما تفعله في نفسها.

وذهل وهو يكتشف بعدما وُضعت زبيدة في قميص الكتاف أنها مجنونة، وأنها لا تفقه مما تقول حرفًا، وليس لها ذنبٌ فيما قاساه، ثم إنها لم تأكل وما شربت وهي معه، ولا حتى حين كانت في البلد.

وشعر بشفقةٍ غريبةٍ تدبُّ في نفسه وهو يراها تتدحرج، وتخبط رأسَها في الأرض وتتلوَّى.

وقال له الطبيب: خلاص.

وانتهتْ بذلك مهمة الشبراوي ومسئوليته.

وكان يُخَيَّل إليه أنه سيحيا ليلة لوجه الله إذا انتهت مهمتُه، وتخلَّص من زبيدة ومصائبها، ولكنه تلقَّى الخبرَ وكأنَّ غيرَه هو الذي يَعنيه الخبر.

وجاءت العربةُ وأركبوا زبيدة فيها، وهي تزغردُ وتهتف بحياة جلالة الريس، والناس كلهم يضحكون.

وتحرَّك الشبراوي كالمطعون ورجا السائقَ أن ينتظر دقيقة، ثم جرى واشترى رغيفًا من الفينو وحلاوة طحينية، وأعطاها للعسكري الذي يُرافقها وهو يقول له في رجاءٍ حار: والنبي توكلها وتخلي بالك منها، اعمل معروف وحياة اللي ماتولك تتوصا بها.

ومضت العربة.

وتسلَّل الشبراوي من المحافظة إلى المحطة مباشرةً، وقد شبعت نفسُه من مصر ومن الدنيا، وبين الآونة والأخرى كان يَلمَحُ كفَّه التي ضرَب بها زبيدة، فيقشعرُّ جسدُه بخجلٍ لم يُحسَّه في حياته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤