على أسيوط

– يا سيدي، والنبي يا سيدي، يا ناس، يا ناس، حرام عليكم، دانا جي من أسيوط، جي ماشي يا ناس، على رِجلي، وبقالي هنا سبوع، سبع ليالي بايت، نايم على الرصيف قدام المستشفى، دانا مريض، مريض يا عالم، غلبان يا هوه، ورِجلي ما عدت طايق ريحتها، المِدة ضربت في وركي، دا حرام، والنبي دا حرام، واللي خلق النبي دا ما يخلصوش.

وقبل أن تمتدَّ أذرع «التومرجية» القوية تنتزعه، وتعيده من حيث جاء، تململ الطبيب في كرسيه، وقطع الحديث الدائر بينه وبين الحكيمة، واستدار إلى المناكف الجديد.

وعبَّر الطبيب على الوجه الصدئ الذي أمامه، والذي كله شعرات وفجوات وغضون، عبر في سرعة وفي ملل، فالمترددون على المستشفى كلهم ملبدو الوجوه بغيوم الحاجة والمرض، ولكن الطبيب توقف قليلًا، متفرجًا، عند ملاءة السرير القديمة التي اسودَّ لونُها الأصفر الباهت، وامتلأت بالبُقع والخروق، والتي عمَّم الرجل بها رأسَه، وتدلَّى طرفُها بجانب وجهه كذيل ملطَّخ بالوحل لكلبٍ عجوز.

ورمق الطبيب في قليلٍ جدًّا من الدهشة رجلَه الملفوفة في عددٍ كثيرٍ من الخِرَق والأشرطة والجوارب القديمة من مختلف الألوان والأحجام، وقد كست رِجلَه من قمة أظافرها إلى مفرق فخذيه، فضخَّمت الرِّجل وكبَّرتها، حتى أصبحت كصبي مستقل صغير يرتكز عليه الرجل في ناحية، ويستند في الناحية الأخرى إلى فرع شجرة غليظ ملتو غير مشذب.

انتهى الطبيب من استعراضه في لمح البصر، واستقرت عينُه على الشيء الذي يهمُّه من كل هذا، على ورقة المستشفى البالية المتسخة، وقد استماتتْ قبضةُ الرجل عليها. وفي الحال شدَّ منه الورقة، وقلَّبها في اشمئزاز، ثم انفرجت أساريرُه فجأة، وزأر في الرجل: يا بني آدم، أنا مش محولك من أسبوع لعيادة الجراحة، إيه اللي جابك هنا تاني؟ هنا يا مغفل حاجة اسمها الاستقبال بس، فاهم؟

وقفز «التومرجي» يشاطر في الزئير ويقول: دا مكتوب له، يحول في عربة كمان، أما ناس ما بتختشيش.

وكاد الرجل أن يبتسمَ لولا أن وجهه خانه، فبدأ يغمغم: يا خيه يا سعادة البيه، ما الجراحة حولت لباطنية، وباطنية حولت لسرية، وسرية حولت لجدية، وآديني رجعت تاني، وبقالي أسبوع يا سعادة البيه بارقد على الرصيف، وآﺧ…

وردَّ الطبيب بسرعةٍ وغضب: طاب، وحاعملك إيه؟ وأنا مالي يا أخي؟ أنا ملزوم؟ أنا ملجأ؟ أنا لوكاندة؟ اسمع، مش عايز دوشة، أنا حاحولك الجراحة تاني في عربية برضه، إنما وشرفي لو شفت وشك بعد كده …

ورفع الرجلُ يدَه الفارغة، وأمال جسدَه حتى كاد يلمس المنضدة التي يجلس إليها الطبيب، واندفع يقول ولا شيء يوقفه: لا لا لا، والنبي يا بيه، أنا مش عايز علاج واصل، والنبي يا بيه دانا …

وانفجر الطبيب كالبركان: أمال عايز إيه؟!

وكان انفجاره هو إشارة البدء لأيدي «التومرجية» لكي تلتفَّ في جبروت حول الرجل، وتقتلعَه من الغرفة، فناضل بكل ما يملك ضعفه من قوة يحاول تخليصَ نفسه، وقال في وهنٍ ومسكنة: والنبي يا بيه، والنبي وحياة والدك، مش عايز الجراحة، حولني على بلدي، حولني على سيوط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤