مقدمة
العزلة
لا شك أن الحيرة التي تنتاب بعض قرَّاء مسرحية العزلة — آخر أعمال هارولد بنتر — لها ما يبررها؛ فهي مسرحية غير عادية، ينتقل بها المؤلف من مرحلة إلى مرحلة أعمق على طريق تطوره الدرامي، وهي مرحلة — إذا شئنا الإيجاز — نفسية وتشكيلية معًا، بمعنى أن الموقف يستخدم خيوط المشاعر والأفكار وسائر الثيمات الدرامية بصورة جديدة أو يضعها على مستويين متقابلين ومتكاملين في الوقت نفسه؛ المستوى الأول تحليلي ورمزي، والثاني تشكيلي وانطباعي، يشبه ما يصنعه الرسَّام الحديث بألوانه في فترة ما بعد بيكاسو.
وربما كان المدخل الصحيح لهذه المسرحية هو ما سبقها من مسرحيات، وما تراكم على مدى سنوات في ذهن بنتر من تجارب في الإخراج السينمائي والقراءة للفيلسوف وعالم النفس الأشهر يونج والفيلسوف الألماني الكبير هيجل (كما قال بنتر نفسه في حديث إذاعي له تعقيبًا على مسرحية أخرى سبقت هذه وأرهصت بها وهي «الماضي»). ويقول بنتر إن هذه التجارب وهذه القراءات أبرزت له أهمية وجود ما يسميه بالقاعدة الفلسفية التي لا غنى للكاتب عنها إن كان يطمح حقًّا في التغلب على الغموض. ومع ذلك فإن القاعدة الفلسفية التي يتحدث عنها لم تفلح في التقليل من غموضه، ربما لطبيعة رؤاه الدرامية، وربما بسبب الأسلوب الجدلي (كما تسميه فريدا فوردام تلميذة الفيلسوف يونج) الذي اختاره لمرحلته الدرامية الجديدة، والذي يدين بالكثير أيضًا للفيلسوف هيجل. ولا بد لنا إذا أردنا أن نلقي الضوء على هذه المسرحية من التعرض لمفهومين تحدَّث عنهما النقاد الإنجليز عندما تعرضوا لها وأفاضوا فيهما، وهما: مفهوم تكامل الشخصية وعملية التفرد عند يونج، ومفهوم علاقة الذهن الواعي بالعالم الخارجي وبالأذهان الواعية الأخرى، على أساس سيطرة أحدهما على الآخر بما يشبه علاقة السيد بالخادم أو الحر بالعبد عند هيجل.
التكامل والتفرد
أما يونج فيعني بالتكامل مبدأ التصالح بين العقل الواعي واللاوعي؛ بمعنى أن يقبل الذهن الواعي متناقضات اللاوعي وكل ما سجن داخله من مشاعر مكبوتة وأنماط ورموز فطرية «ورِثها الفرد عن الإنسانية منذ الأزل، وما تزال تعيش في الوجدان الجماعي للبشرية» وبخاصة في لحظات التغير الحاسمة في حياته … ورغم أن يونج قد توصل إلى هذا المفهوم عن طريق معالجته للعديد من الأفراد الذين كانوا يترددون عليه باعتبارهم «مرضى نفسيين» فإنه قد استطاع أن يخرج بنظرية عامة عن التغير وما يحدثه من أزمات قد تصيب الإنسان بتصدع في شخصيته، وقد تجرفه إلى مرحلة من فقدان الثقة بذاته؛ بل والتشكك في أبسط قدراته … ولهذا فإن يونج يحدد التغير بأنه أي تحول يحدث للفرد عند تخطيه مرحلة الشباب إلى الكهولة أو أي مرحلة من مراحل العمر تتسم بنشاط وإنتاج وحرية وانطلاق إلى مرحلة أخرى يقل فيها نشاطه، وتتحدد فيها حريته وقدرته على الإنتاج الخلَّاق، ومن ثَمَّ تقل فيها قدرته على الاستمرار في نمط الحياة الذي اعتاده طوال سنوات وسنوات، والذي كان يمثل له قمة تحقيق الذات … وهذا التحول الذي كان يؤديه وهو في العشرين كما لا يستطيع أن يؤديه — إذا استمر فيه — بنفس الطريقة … وهكذا يتصور أن القصور الذي أصابه على مستوى حياته الواعية نذير بالنهاية؛ وذلك لأنه يتجاهل تمامًا أنه ليس عقلًا واعيًا فحسب، وأن في أعماقه حياة حافلة أخرى لا يكاد يدري عنها شيئًا … وأن لديه قدرات يُفضِّل ألا يكتشفها لتمَسُّكه بقيم المرحلة السابقة التي استطاع فيها تحقيق ذاته على مستوى معين مرتبط بها ولا بد أن يتغير بزوالها.
وهكذا يؤكد يونج أن التصالح لا يمكن أن يتم إلا بمواجهة الحقيقة، وهي أن الإنسان يتغير، وأن بداخله أشياء لا يعرفها ولا بد أن يأخذها في حسبانه حين يحس ببوادر التغير والاهتزاز في كيانه وذاته نفسها … وهذا ما يسميه يونج بعملية التفرد، أي عملية وصول الإنسان إلى تكامل ذاتي باعتباره فردًا مستقلًّا له حياة واعية ولا واعية معًا، ولا يعني التفرد بطبيعة الحال أن يختلف الإنسان اختلافًا شاملًا عمن سواه؛ بل أن يصل إلى مرحلة التوافق بين الوعي واللاوعي.
تصارع الوعي
وقد يبدو لنا — كما يذهب الناقد الإنجليزي دونالد برايدن — وبخاصة في ضوء هذا المفهوم — أن الشخصيتين اللتين اختارهما بنتر في سن الستين بالذات يمثلان حالتين من حالات الوعي واللاوعي؛ بحيث يمكنهما أن تتقابلا وأن تنكر كلٌّ منهما صاحبتها، أي أن يكون الجدل النفسي دائرًا بين ما يعرفه الذهن الواعي وما لا يعرفه، أو بين الوعي وبين عالم آخر مطموس ودفين وخبيء لا يدري الذهن اليقظ عنه شيئا؛ ولكن بنتر في الحقيقة لا يفعل ذلك إلا على مستوى واحد فقط من مستويات المسرحية «السائد في المشهد الأول من الفصل الأول» ومن ثَمَّ يتيح للمفهوم الآخر الذي استمده من هيجل الذي يقدم لنا تنويعًا آخر على نفس هذه الثيمة، ألا وهو التصارع بين الوعي والوعي الدخيل، أو الوعي الغاصب الذي يطلق عليه كولريدج اسم «الذات المغتصبة» أي التي تحاول أن تغتصب حياة الانسان الشعورية الداخلية في فترة النمو. فما معني هذا؟ وماذا يفيدنا هذا المفهوم الهيجلي في تحليلنا للصراع الدرامي؟
يذهب بعض شُرَّاح هيجل إلى أنه يُصور الصراع بين الذهن الواعي والعالم الخارجي تفسيرًا جدليًّا في كتابه «ظاهريات العقل»، بمعني أن للمؤثرات الخارجية — سواء منها الطبيعي والبشري أو الفكري — قدرة على غزو الذهن الواعي والاستيلاء عليه في مرحلة النمو، وأن الذهن حينما يتعرض لهذه القوة الغازية يكتسب طاقة على هزيمتها «حتي يحتفظ باستقلاله وصحته» وذلك بأن يستوعبها ويتمثلها، أي أن يمتصها امتصاصًا كاملًا؛ ولكنه حين يبدو له أنه قد انتصر عليها يكون في الحقيقة قد أتاح لها أن تحتله، أي أن تعيش داخله وتكون لها حياتها الحافلة التي يمكن أن تتنازع السيطرة عليه مع حياته الواعية نفسها!
وإذا أخذنا مثلًا على هذه العلاقة بين شخصين وجدنا أن محاولة أحدهما الواعية للسيادة على الآخر ذهنيًّا سوف تتضمن حتمًا بذل جهد واعٍ لاستيعاب حياته الشعورية، ومن ثَمَّ سوف تتيح لأفكار وأحاسيس غريبة أن تتسلل إلى حياته الداخلية وتصبح جزءًا من نسيجه النفسي إلى الحد الذي يُمَكِّنها من السيطرة عليه واحتوائه! ومن ثَمَّ يكون النصر في الحقيقة هزيمة والهزيمة نصرًا، وهذا — حسبما يقول أحد شارحي هيجل «إيفان سول» — يفسر لنا سر حيوية العلاقة بين الرجل والمرأة التي تقوم دائمًا على التناوب في السيطرة بين الاثنين؛ بحيث يبدو لأحدهما أنه قد نجح في استيعاب الحياة الشعورية للآخر استيعابًا يتخيل معه أنه قد انتصر، بينما يكون قد أصبح في الحقيقة قد سمح لهذه الحياة الشعورية الخارجية أن تستولي عليه!
وهكذا نرى أن المفهوم الهيجلي يتيح للصراع أن يكون بين وعي داخلي وآخر خارجي لا يلبثان أن يتبادلا السيادة، وأن يتناوب الوعيان دورَي الخادم والسيد على أساس جدلي مستمر ودائري!
سبونر وهيرست … شخص واحد؟
ويمكن أن نتسرع بتطبيق هذا المفهوم أو ذاك على هذه المسرحية فنقع في خطأ التبسيط المخل … إذ إن بنتر يحاول في الفصلين المتقابلين للمسرحية أن يواجه بين جانبين مختلفين للتجربة الإنسانية من وجهتي النظر الواعية واللاواعية معًا؛ ففي المشهد الأول (الذي يدور بين هيرست وسبونر وحدهما ويتولى فيه سبونر الحديث طول الوقت) يقدم لنا الجانب غير الواعي في مواجهة الوعي الذي لا بد منه، الوعي المحتوم؛ فالشخصية الأساسية التي اختارها لعزلته ملقاة في منطقة الأرض لا يرتادها أحد ولا يمكن أن يرتادها، منطقة غُربة ولا مبالاة، وهو يبدأ بأن يضع هيرست تحت تأثير الفودكا ثم الويسكي، كأنما ليضعه تحت التخدير حتي يُخرج من داخله نفسا معذبة تعاني من سكرات العزلة واستحالة التغيير، ولذلك تعيش حبيسة صدره، قانعة بما تأتي به الأيام. وحينما تخرج هذه النفس نراها علي المسرح غريبة فقيرة رثة الثياب مهلهلة الكيان، لا يهتم بها أحد — في شخص سبونر! — وهي نفس تجوب ربوة هامستيد وتتعلق بذكريات الماضي إذ تتطلع من بين الغصون إلى أحلام الماضي، أحلام الشباب الضائعة الممزقة، العشاق وبياض العيون وضوء القمر والفراغ! نفس لا يهتم بها أحد ولا تهتم هي بأحد حتى يدعوها هيرست لدخول منزله، منزلها الحقيقي!
وأول خيط يستخدمه بنتر ليوحي بهذا هو اسم سبونر نفسه، ومعناه في اللغة الإنجليزية تبادل الحروف بين كلمتين متتاليتين بحيث يتغير معناهما ويتشوه. وهكذا نرى أن سبونر الذي يكسر العزلة المجسدة التي يعيش فيها هيرست يقدم لنا أول مواجهة بين هيرست وبين ذاته في عزلته النفسية الحقيقية؛ فما هي خصائص هذه الذات كما يصورها بنتر؟
إنها أولًا غريبة عنه؛ فهو لا يكاد يعرفها.
وهي ثانيًا تكاد تفتقر إلى الوجود المادي.
وهي ثالثًا ذات شاعرة تنتمي إلى عالم «الأحلام الخيالي».
ويتضح من هذا الحوار المبدئي أن بنتر يستخدم الغموض الذي يخلقه وضع عبارة «من هؤلاء» في آخر حديث سبونر للإيحاء بأنه يمكن أن يكون من الضعفاء الذين يستخدمون الأقنعة لإخفاء ضعفهم وتأكيد دورهم المرسوم — دور القوة الظاهرية «في شخص هيرست!» — بل إنه حتى إذا كان سبونر سوف يلعب دور الذكي النابه الذي سوف يزيل القناع فربما أكد ذلك جدلية الدور الذي يقوم به … إذ يمكن أن يكون القناع هيرست نفسه!
وبعد ذلك يؤكد لنا بنتر أن هذا الزائر — الذي يقتحم الآن نفس هيرست — رجل غريب. لم يتوقع بطلنا أن يراه:
وبعد أن نتأكد من أن هيرست قد فوجئ بالعثور على سبونر، يبدأ بنتر في الغوص في هذه الذات بأن ثمة عالم أحلام خياليًّا يرتاده بطله الآن، وجوًّا يوحي بالتحليل النفسي:
وهذا هو لب المشكلة حقًّا! إن سبونر — تلك النفس الغريبة على هيرست — هي نفسه الشابة التي هربت من الماضي، ومن ثَمَّ فإن الماضي بالنسبة إليها حاضر على الدوام! وهو لا يسمح له بأن يتشوه لأنه هو ذاته الحقيقية … ومن ثَم فهو «مستودع» الخبرات جميعًا، ومستودع الأفكار والمشاعر التي يمكن لهيرست أن يكون قد سجنها في اللاوعي!
ويوظف بنتر هذا العنصر الدرامي بأن يجعل سبونر قادرًا على إدراك حالة هيرست من وجهة نظر داخلية — إذا جاز هذا التعبير — لأن هيرست تتقاسمه الرغبة في الهرب من المواجهة وحتمية المواجهة، مما يحدث له صدمة تنهي المشهد الأول؛ صدمة اكتشاف العزلة القاتلة التي يعيش فيها:
وهكذا نصل إلى ذروة المشهد الأول … فنتبين أن عدم التغيير يمثل عنصرًا جديدًا يضاف إلى الثيمة التي ما تفتأ تتردد على لسان سبونر من مكان إلى مكان في النص، وهي أن كل ما يحدث أمامنا قد حدث من قبل مستوى نفسي معين في الماضي؛ إذ ما يفتأ سبونر أن يقول إنه «رأى هذا كله من قبل»، أو أنه تعرض له مرات؛ ولكن بنتر يجسده دراميًّا بأن يحيل الصدمة النفسية لهيرست إلى انهيار جسدي؛ إذ يتهاوى على أرضية الغرفة، ثم يخرج — كما يقول سبونر — من تحت الباب «في أبيات منظومة، هي الوحيدة في المسرحية»:
النفس العارية
وتنتهي هذه اللحظة وينتهي معها المشهد الأول بين هيرست وسبونر دون أن نضع أيدينا على الخطوط الحقيقية للدمار الذي يتهدد هيرست نتيجة للمواجهة؛ لأننا لا نعرف بعد ما يحمله سبونر من إمكانية التغيير الذي يمكنه فقط أن يجعل هيرست يتفادى المأساة، «وسوف نرى أن سبونر لا يقدم إليه تغييرًا» … وهنا لا بد لنا من العودة إلى تفسير يونج لتهرؤ الشخصية نتيجة عدم تقبل الحياة غير الواعية للنفس في عملية النمو … وتشرح فريدا فوردام تلميذة يونج ما يقوله أستاذها قائلة:
«إن مشكلة الجزء الثاني من العمر هي أن نجد معنًي جديدًا وهدفًا جديدًا للحياة … وربما كان من الغريب أن نعثر على هذا المعني وهذا الهدف في ذلك الجانب من الشخصية الذي نتجاهله دائمًا … ذلك الجانب الأدنى والمتخلف «إذا جاز هذا التعبير» ومع ذلك فإن الكثيرين لا يستطيعون مواجهة هذه الإمكانية؛ بل يفضلون أن يتمسكوا بقيم الشباب، بل إنهم ليمارسونها بصورة مبالغ فيها … ومن ثَمَّ لا يمكنهم إدراك معني التفرد.»
ونحن لا نستطيع هنا أن ندرك سبب عزلة هيرست أو طبيعة المعاناة التي يحياها؛ لأننا لم نطَّلع على حقيقة ماضيه ولا على طبيعة الشخصية الأدبية التي نمَت معه ثم توقَّفت وتحجَّرت عند قيم الشباب؛ تلك القيم التي يحاول الآن ممارستها بصورة مبالغ فيها — كما يقول يونج — ولا نستطيع أن ندرك ذلك حقًّا إلا في المشهد الثاني الذي يعود فيه هيرست إلى المسرح وقد أفاق من تأثير الخمر ويبدأ في التساؤل عن حقيقة سبونر … من هو؟
وبطبيعة الحال يعلن هيرست عندما يعود أنه كان نائمًا.
وهذه اللحظة هي لحظة التحول في الفصل الأول، فهي تضع نهاية لحالة الدهشة التي تنتابنا جميعًا في المشهد الأول، وتوضح لنا أيضًا معني اللوحة التي لم ترسم أبدًا «والتي يتحدث عنها سبونر بالتفصيل»، وقطعة النقود التي تختفي وتتحول إلى لا شيء «والتي يتحدث عنها فوستر بالتفصيل» وترسم لنا نقطة التحول خط انتقال الحديث من العقل اللاواعي إلى العقل الواعي؛ إذ يبدأ هيرست بعد أن أفاق في الحديث وحده … ولكن هذا الخط لا يؤدي إلى أي شيء أو يسير نحو نقطة محددة … أي إنه ليس خطًّا صاعدًا يكتمل به تطور الصراع … ولكنه يسير فحسب في اتجاه مضاد لحديث سبونر نحو نقطة نرى فيها ضرورة وجود الجانبين … أي حتمية احتياج تلك النفس إلى ما يظلها في القفر من عقل واعٍ وغير واعٍ … وهذه هي نقطة الازدواج التي ينتهي معها الفصل الأول — نقطة المظلتين — إذ يقدم لنا بنتر رمزًا واضحًا:
وهكذا ينتهي الفصل الأول وينتقل بنا الفصل الثاني إلى عالم مختلف تمامًا … عالم تختلف فيه معالجة بنتر للموضوع، إذ تنتقل إلى مستوى مفهوم تصارع الوعي، ليس ضد اللاوعي؛ ولكن ضد الوعي الدخيل … أي الذي يحاول أن يغتصب وعي الإنسان، وذلك بإحياء الصورة الشاعرية التي أتت إلى ذهن هيرست عن طريق الحلم.
القرين النفسي
يقول هيرست في أواخر الفصل الأول إنه رأى في حلمه شلالًا: كنت أحلم بشلال … لا … كنت أحلم ببحيرة … البحيرة … الماء … الغرق … شخص آخر … ما أجمل أن يكون معك رفيق … هل تتخيل كيف يمكن أن تصحو فلا تجد أحدًا؟
ثم يؤكد اشتراكه مع سبونر في الذات حين يعود إلى الحديث الذي بدأه سبونر عن التطلع من بين الأشجار … وفجأة ننتبه إلى أن بنتر يريد في هذا الفصل أن يجعل من سبونر قرينًا لهيرست (دوبلجانجر — كما يسميه الألمان) حين يجعل سبونر يقول: كنت أنا الذي يغرق في الحلم!
وهو يمهد لهذا بتقديم المقابل الدرامي لعلاقة سبونر وهيرست في شخصَي بريجز وفوستر … إذ تقابل هذان الشخصان اللذان ينتميان إلى حياة الواقع والوعي اليقظ (على ناصية شارع)!
وكلٌّ منهما لديه قصة مختلفة عن بداية صداقتهما … ولكنهما تلاقيا حين اعتزم فوستر أن يذهب إلى شارع بولسوفر؛ تلك المنطقة الواقعية المليئة بالشوارع ذات الاتجاه الواحد التي تقابل عزلة هيرست:
«… قلت له: إن شارع بولسوفر يقع في منطقة مليئة بالشوارع ذات الاتجاه الواحد … منطقة معقدة ومتشابكة المرور … من السهل على المرء أن يدخلها، ولكن المشكلة هي أنه إذا دخلها فسيكون من الصعب عليه الخروج منها.»
وهذه هي المشكلة حقًّا بالنسبة لهذين … كما هي بالنسبة لهيرست وسبونر!
«ولكنني حذرته من أنه بعد أن يعثر على شارع بولسوفر فمن المحتمل ألا يستطيع الخروج منه … قلت له: إنني أعرف بعض الناس الذين كانوا وما يزالون يذرعون شارع بولسوفر جيئةً وذهابًا عامًا بعد عام ولا يستطيعون الخروج منه … لقد ضيعوا شبابهم المنحوس هناك … والذين يسكنون هناك وجوههم غبراء وبأسهم شديد … أرسلت رسالة إلى صحيفة التايمز حول هذا الموضوع بعنوان «الحياة في طريق مسدود»!»
وشارع بولسوفر هذا هو طريق الحياة الذي وصل إليه هيرست «ووصل إليه سبونر طبعًا»، ولهذا يلجأ بنتر من الأن فصاعدًا إلى إجراء حوار علي مستوى واقعي بين هيرست وسبونر نكتشف فيه أنهما كانا أصدقاء عمر، ولا يزالان يحومان حول نفس القِيم القديمة؛ من حب وزواج وخيانة زوجية وأحلام بالمجد الأدبي، وأنهما يتبادلان الاكتشافات الدرامية، ليس كما يحدث في المسرحية التقليدية أو في المسرحية المحكمة الصنع بغية تطوير حدث درامي معين أو إبراز معنًي كامن، ولكن لإضافة مستوى جديد من مستويات الحدث وهو مستوى القرين … إذ إن الحوار هنا يمكن أن يتبادله أصحابه دون تغيير يذكر … أي إن سبونر يمكن أن يقول ما يقوله هيرست، والعكس بالعكس، دون أن يتأثر الحدث الدرامي؛ بل إن هذا هو ما يرمي إليه بنتر … إذ نتبين هنا أن البطل الذي تدور حوله الأحداث ليس هيرست وحده، وإنما هو مزيج من الحياه الواعية له — الحياة التي تتمسك بقيم الشباب وتحاول الإبقاء عليها في ألبوم صور جامدة متجمدة لا تتحرك — والحياة الواعية الأخرى عند سبونر التي تتغير هي الأخرى ولا يمكن أن تقدم له أي نوع من أنواع التغيير.
وهذا هو الذي يلقي الضوء على المأساة! لقد بدأنا المسرحية بالأمل في أن يحدث شيء … أي شيء يؤدي إلى تغيير … بل أنت طوال الحدث الدرامي تتوقع تغييرًا من نوع ما … بل إن سبونر يحاول في الجزء الأخير (المشهد الثاني) من الفصل الثاني أن يقدم إلى هيرست نفسه باعتباره شخصًا مستقلًّا يمكنه أن يرافقه في رحلة الحياة … ولكن هيرست يرفض؛ لأنه موقن باستحالة التغيير … إن هذه النفس الواعية واللاواعية في الوقت نفسه ليس لديها ما تقدمه سوى قيم الشباب … وقد «سمع ذلك ورآه جميعًا من قبل»! وحين يسمعه الآن ويراه يتبين واعيًا ودون تدخل من أحد أنه لا منجاة له من العزلة … وبذلك يجعله بنتر يواجه عزلته — قدره ومصيره الجديد — بشجاعة إلى حدٍّ ما … فهو يحاول أولًا أن ينكر الحلم الذي رآه ورأى فيه إنسانًا يغرق … ثم ينكر إمكانيه الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه؛ لأنه لا يستطيع تغيير «موضوع» الحديث!
(صمت.)
(وقفة.)
نعم … صحيح … إنني أسير نحو بحيرة … يتبعني شخص ما من خلال الأشجار … غبت عن نظره بسهولة. أرى جثة في الماء … تطفو على السطح … أنفعل … أنظر وأتأمل فأرى أنني كنت مخطئًا … لا شيء في الماء … أقول في نفسي رأيت جسدًا يغرق، ولكنني كنت مخطئًا فلا شيء هناك.(صمت.)
(صمت.)
(إظلام بطيء.)
وهذه النهاية محتومة دراميًّا؛ لأنها تجمع كل الخيوط التي نسجها بنتر خلال الفصل الثاني، وبخاصة استحالة التخلص من القرين النفسي، الذي كان يمثل في الفصل الأول «المشهد الأول» مستوًى معينًا من اللاشعور.لقد تصور هيرست في لحظه معينة أن هذا القرين قد غرِق وأنه قد رأى جثته تطفو على السطح بعد أن ظل يطارده من خلال الأشجار؛ ولكنه الآن يسلم باستحالة التخلص منه … ومأساته إذن هي أنه بينما لا يستطيع تفادي المواجهة مع هذه النفس التي تعيش في وحشة واعية بداخله، فهو أيضًا لا يستطيع التخلص منها! ومأساته لا تكتمل إلا عندما يتبين ذلك حقًّا وصدقًا … أن رفيقه الوحيد في وحدته هو ذاته التي تجمدت ورفضت التغيير ولا سبيل للخلاص منها … وإذا كان الموت يمكن أن يمثل نهاية تقليدية معقولة ومقبولة هنا، فإن استمرار الحياة في هذه العزلة موت أشد إيلامًا؛ لأنه موت بطيء واعٍ … إنه عذاب الوعي الدائم … النوع الوحيد من الموت الذي يمكن أن يفهمه أهل القرن العشرين.