نص المسرحية

غرفة كبيرة في منزل في شمال غرب لندن. مؤثثة تأثيثًا جيدًا رغم قلة قطع الأثاث. كرسي متين ومريح ذو ظهر مستقيم، يجلس عليه هيرست. مكتبة في الحائط وبعض القطع الفخارية رُصت فيها الكتب، إلى جانب قدحين كبيرين من أقداح الجعة.

ستائر كثيفة تظلل النوافذ.

في منتصف الغرفة — أهم ملامحها — بار كلاسيكي عليه رخامة ضخمة، وقطع نحاسية متعددة، ورفوف مفتوحة رُصت عليها أنواع كثيرة من الزجاجات: كحوليات وفواتح شهية وجعة … إلخ.

صيفًا-ليلًا

(سبونر يقف في منتصف الغرفة، يرتدي حُلة عتيقة رخيصة، وقميصًا داكنًا ناحل اللون، ورباط عنق منقط غير مكوي.)

(هيرست يصب الويسكي في كأس لدى البار، يرتدي ملابس أنيقة، وجاكتة سبور، وبنطلونًا رشيقًا.)

هيرست : تريد الويسكي كما هو؟ دون أي شيء؟
سبونر : تمامًا! دون أي شيء … تمامًا … كما هو!

(هيرست يقدم الكأس إليه.)

سبونر : شكرًا … على هذا الكرم … شكرًا جزيلًا.

(هيرست يصب لنفسه كأس فودكا.)

هيرست : في صحتك!
سبونر : في صحتك!

(يشربان. سبونر يرتشف الويسكي قطرة قطرة، بينما هيرست يجرع كأس الفودكا جرعة واحدة، ثم يملأ كأسه مرة ثانية ويتجه إلى كرسيه ويجلس. ينتهي سبونر من شرب كأسه.)

هيرست : تفضل كأسًا ثانيا.
سبونر : شكرًا على كرمك البالغ.

(يتجه سبونر إلى البار فيملأ كأسه ثم يستدير إلى هيرست.)

سبونر : في صحتك!

(يشرب.)

سبونر : ماذا كنت أقول عندما وصلنا إلى باب منزلك هنا؟
هيرست : آه … ماذا كنت تقول؟!
سبونر : تذكرت! كنت أتحدث عن القوة … هل تذكر؟
هيرست : نعم … عن القوة.
سبونر : نعم … كنت سأقول إن بعض الناس يبدو لك أنهم أقوياء؛ بل ويستطيعون إقناعك بوجهة نظرهم ورأيهم في مقومات القوة … ولكنهم مع ذلك يعيشون داخل فكرة القوة فحسب دون أن يكونوا أقوياء حقًّا … فكل ما لديهم هو الحنكة المكتسبة لا القوة الحقيقية، أي إنهم استطاعوا أن يخلقوا لأنفسهم أدوارًا محسوبة بدقة وأن يحافظوا على هذه الأدوار … ولا يستطيع إلا الأذكياء والنبهاء أن يزيلوا الأقنعة عن هذه الأدوار ويكتشفوا حقيقة الضعف الذي يخفونه تحتها … وأنا من هؤلاء!
هيرست : تعني واحدًا من الآخرين؟
سبونر : من الآخرين طبعًا … من ذوي الذكاء والنباهة … وليس من الأولين طبعًا … كلا بالتأكيد … ليس من هؤلاء … على الإطلاق.

(وقفة.)

أرجو … اسمح لي أن أعبر لك عن امتناني العميق لدعوتك لي بالدخول! والحق أنك عين الكرم والعطف … لربما كنتَ دائمًا كذلك … الآن وفي إنجلترا وفي هامستد وإلى الأبد!

(يتجول ببصره في الغرفة.)

ما أجملها وأرقها من غرفة! أحس بالاطمئنان هنا! أحس بالأمان من كل الأخطار … ولكن — أرجوك — لا تنزعج فلن أمكث هنا طويلًا … ليس من عادتي أن أمكث طويلًا مع الأغراب … لا أحد يحب ذلك … وهذا يسعدني على أي حال … فنوع الأمان الوحيد الذي أرجوه — وعزائي وسلوتي الحقيقية — هو ثقتي في أنني لا أحظى من الناس — مهما اختلفت ألوانهم ومشاربهم — إلا بلا مبالاة … بمستوى ثابت وعام من اللامبالاة … وهذا يطمئنني ويؤكد لي صورتي عن ذاتي؛ أي أنني ثابت وذو وجود مادي … أما إذا أبدى أحدهم اهتمامًا بي أو (لا قدر الله!) إذا بدا أن أحدًا يمكن أن يرضى عني رضاءً حقيقيًّا … فسوف يكون ذلك مصدر إزعاج شديد لي … ولكن هذا الخطر بعيد الاحتمال … لحسن الحظ.

(وقفة.)

وأنا أتحدث إليك بهذه الصراحة المزعجة لأنك بوضوح رجل تحب الصمت … وهو صفة محببة إلى النفس … وأنك غريب علي … ولأنك – بوضوح أيضًا – عين العطف!

(وقفة.)

هل من عادتك أن تتجول وحدك على ربوة هامستد؟
هيرست : لا.
سبونر : ولكنك لا يمكن أن تتوقع أن ترى أمثالي في جولاتك، مهما قلت وقدرت! أليس هذا صحيحًا؟
هيرست : صحيح!
سبونر : كثيرًا ما أتجول أنا نفسي فوق ربوة هامستيد دون أن أتوقع شيئًا! لقد مضى عهد التوقع بالنسبة لي! ألا توافقني على هذا؟
هيرست : نعم.
سبونر : التوقع — أو الانتظار — حفرةٌ، أو فخ يمكن أن يقع المرء فيه! ولكنني أتطلع حولي بطبيعة الحال، وأسترق النظر من وراء الأشجار ومن خلال الغصون؛ بل إن أحد الظرفاء أطلق عليَّ ذات يوم لقب «المتطلع من بين الغصون». عبارة رديئة التركيب!
هيرست : عبارة ركيكة!
سبونر : أقسم أنك على حق.

(وقفة.)

هيرست : يا له من ظريف!
سبونر : ما أصدق حكمك! لم يعد في أيدينا الآن، لم يبق لنا إلا اللغة الإنجليزية، فهل نستطيع إنقاذها؟ هذا هو السؤال!
هيرست : تعني كيف يتم إنقاذها؟
سبونر : تقريبًا.
هيرست : لن يتم إنقاذها إلا عن طريقك أنت.
سبونر : ما أكرمك وما أنبلك! وربما عن طريقك أنت أيضًا؛ رغم أنني لا أجد دليلًا يمكن أن يثبت لي صحة هذا الفرض!

(وقفة.)

هيرست : لأنني لم أتحدث كثيرًا؟
سبونر : أنت هادئ صموت … وهذه نعمة؛ هل يمكنك أن تتصور كيف يكون الحال إذا كان كلٌّ منا ثرثارًا مثلي؟ أمر لا يطاق!

(وقفة.)

على فكرة! بالنسبة لاستراق النظر، لا بد أن أوضح لك شيئًا واحدًا … إنني لا أتطلع ولا أسترق النظر إلى المداعبات الجنسية؛ فلقد مضى عهد ذلك إلى الأبد. هل تفهمني؟ عندما تفصح أغصاني — إذا جاز هذا التعبير — عن مداعبات جنسية — مهما كانت درجة التوائها — أجد أنني لا أرى إلا بياض العيون في مواجهتي، عيون تتخم شهيتي، وتلغي المسافة بيني وبينها … وإذا لم تكن تستطيع أن تحافظ على المسافة بينك وبين الآخرين، إذا لم تستطع أن تحافظ على العلاقة الموضوعية بينك وبين عالم المادة فسترى أن اللعبة لا تستحق الجهد … ومن ثَمَّ فعليك أن تنسى الموضوع وأن تتذكر أمرًا واحدًا: أن أشد الضرورات هو أن تُبقِي الفراغ ماثلا أمام عينيك … والفراغ في ضوء القمر بصفة خاصة … بل المزيد والمزيد منه دائمًا!
هيرست : إن خبرةً طويلة تكمن خلف حديثك.
سبونر : وتحته! الخبرة أمر تافه … لكل إنسان حظه منها ويمكن أن يقص خبرها على الآخرين … إن لدي خبرة تكفي لإشباع المفسرين والمحللين النفسيين … عالم الأحلام الخيالي … وأستطيع شخصيًّا أن أرسم لك خطًّا بيانيًّا عن أي خبرة تريدها لتلائم ذوقك أو ذوقي … «لعب عيال!» لا يمكن أن أسمح بتشويه الحاضر … فأنا شاعر ولا يهمني إلا حيث أكون دائمًا … حاضرًا ونشيطًا.

(هيرست ينهض. يتجه إلى البار ويصب الفودكا في كأسه.)

– هل تعديت حدودي؟
هيرست : أنتظر منك أن تتعدى حدودًا أبعد من هذه بكثير!
سبونر : حقًّا؟ أرجو ألا يكون معنى ذلك أنني أثير اهتمامك.
هيرست : على الإطلاق!
سبونر : الحمد لله! تملكني الخوف لحظة أو لحظتين!

(هيرست يزيح الستارة ويتطلع من النافذة للحظة قصيرة ثم يغلقها ويظل واقفًا.)

ولكنك محق على أي حال … إن حدسك صائب … فأنا أستطيع أن أتعدى أبعد من هذه الحدود، وبصورة متعددة يمكنني أن أتقدم، وأحافظ على مواقعي الدفاعية، وألقي ببديل في المعمعة وأنادي سلاح الفرسان؛ بل أدفع بكل شيء إلى الأمام، واثقًا أنه حينما يتدفق الفرح وينساب فلن تستطيع قوة في الأرض أن توقفه! والذي أحاول أن أقوله — إذا كان مقصدي قد فات عليك — هو أنني رجل حُر.

(هيرست يصب لنفسه كأسًا من الفودكا ويشربها. يضع الزجاجة على المائدة. ويتقدم بحذر من كرسيه ويجلس.)

هيرست : لم نستضف في المنزل رجلًا حرًّا منذ وقت بعيد.
سبونر : أنتم؟
هيرست : أنا.
سبونر : هل ثَم آخر؟
هيرست : ماذا تعني؟
سبونر : آخرون؟ أشخاص؟
هيرست : شخص آخر؟
سبونر : أرى قدحين على هذا الرف.
هيرست : القدح الأخرى لك.
سبونر : والأولى؟
هيرست : هل تريد استعمالها؟ تريد شرابًا ساخنًا؟
سبونر : هذا خطر! سأستمر في شرب الويسكي … إذا كان لي أن أفعل!
هيرست : تفضل.
سبونر : شكرًا.

(يتجه إلى البار.)

هيرست : صب لي كأسًا من الويسكي أنا الآخر … لو سمحت!
سبونر : بكل سرور … ألم تكن تشرب فودكا؟
هيرست : يسعدني أن أشاركك في شرب الويسكي.

(سبونر يصب الويسكي.)

سبونر : أتشربه دون إضافة شيء … كما هو؟
هيرست : قطعًا …كما هو.

(سبونر يحضر إلى هيرست كأسه.)

سبونر : في صحتك .
هيرست : في صحتك .

(يشربان.)

قل لي … هل تتجول كثيرًا بالقرب من الحانة المسماة «جاك سترو»؟
سبونر : إنني أعرفها منذ صباي المبكر!
هيرست : هل تشعر أنها ما تزال حانة مثيرة محيرة مثلما كانت في أيام قطاع الطرق، عندما كان يغشاها قطاع الطرق؛ وخاصة «جاك سترو»؟ جاك سترو العظيم! أتحس أنها تغيرت كثيرًا؟
سبونر : لقد غيرت مجرى حياتي!
هيرست : يا لله! هل غيرته فعلًا؟
سبونر : أذكر ليلة من ليالي الصيف … كنت أشرب فيها مع مهاجر من المجر … كان قد نزح حديثًا من باريس.
هيرست : نفس الشراب؟
سبونر : كلا بطبيعة الحال!
لعلك قد حدست أنه كان من الطبقة الأرستقراطية في المجر!
هيرست : حدست ذلك فعلًا!
سبونر : في تلك الأمسية من أمسيات الصيف — وتحت تأثيره — تذوقت لأول مرة في حياتي طعم الهدوء … وجمال السكون وسط الصخب والضجيج. كان تأثيره عليَّ فريدًا هادئًا … دون رغبة منه في التأثير … كان يكبرني كثيرًا … ولم تكن توقعاتي في تلك الأيام — وأعترف أنني كنت أحيا بتوقعات وتطلعات حينئذٍ — أقول … لم أكن أتوقع أن أراه حينئذٍ، كنت قد أطلقت العنان لقدمي فساقتني إلى ربوة هامستد، وكان ذهني أسيرًا لذكريات زادت حدة بشاعتها عن المألوف، فوجدت نفسي دون أن أعي — ورغم أن ذلك لم يدهشني كثيرًا — واقفًا أمام البار في حانة «قلعة جاك سترو». ووجدتني أطلب قدحًا كبيرًا من الجعة. وبعد أن دفعت النقود حملت قدحي وشققت طريقي بصعوبة بالغة بين موائد اصطف حولها حشد كبير من الأدباء والمتأدبين الذين يثيرون في النفس قدرًا غير عادي من الاشمئزاز وهم يرشفون الجعة بشفاه علاها الزبد. وفجأة وجدتني أصطدم دون وعي — وأنا أحمل قدحي في يدي — بمائدته الصلعاء السمراء الثابتة … كان أصلع تمامًا.

(وقفة.)

أعتقد أنني بعد أن تجرعت نصف قدحي ولم أعد إليه بعد ذلك، أعتقد أنني تكلمت، فجأة … تكلمت فجأة … وتلقيت استجابة … نعم استجابة — لا أستطيع ان أجد كلمة أبلغ من هذه — استجابة لم أرَ مثلها.
هيرست (مقاطعًا) : ماذا كان يشرب؟
سبونر : ماذا؟
هيرست : ماذا كان يشرب؟
سبونر : بيرنود!

(وقفة.)

دهمني في تلك اللحظة تقريبًا إحساس بأنه على قدر من الرزانة، لم أكن قد عهدته من قبل في أي شخص.
هيرست : وماذا قال لك؟

(سبونر يحدق فيه.)

سبونر : هل تتصور حقًّا أنني أتذكر ما قاله لي؟
هيرست : لا.

(وقفة.)

سبونر : ما قاله لي … منذ هذه السنين الطويلة كلها … لا يهم … ربما لم يكن ما قاله لي … ولكن طريقة جلوسه هي التي لم أنسها طول حياتي؛ بل إنها — أؤكد لك — هي التي شكلتني على هذه الصورة.

(وقفة.)

وقد قابلتك في نفس الحانة هذا المساء؛ ولكن حول مائدة مختلفة.

(وقفة.)

وإني أعجب لك الآن مثلما عجبت له ذات يوم … ولكن ترى هل سأعجب لك غدًا مثلما أعجب له اليوم؟
هيرست : لا أعرف.
سبونر : لا يمكن لأحد أن يعرف.

(وقفة.)

سأسالك سؤالًا آخر: هل تعرف مصدر قوتي؟
هيرست : القوة؟ لا.
سبونر : لم يحبني أحد قط.
هذا هو مصدر قوتي. هل أحبَّك أنت أحد قط؟
هيرست : لا، لا أظن هذا.
سبونر : نظرت ذات يوم في وجه والدتي. كان ما رأيته فيه هو الشر بعينه، الشر الصافي النقي! وقد أسعدني الحظ «نفدت بجلدي». تريد أن تعرف طبعًا ما الذي فعلته حتى أثير لوالدتي كل هذه الكراهية.
هيرست : سكرت سكرًا بينًا.
سبونر : صحيح. وهل تعرف كم كان عمري حينذاك؟
هيرست : ثمانية وعشرون.
سبونر : صحيح. ولكنني تركت المنزل بعد ذلك على الفور.

(وقفة.)

ومع ذلك فلا بد أن أقول إن والدتي لا تزال سيدة جذابة من عدة نواحٍ. لا يجاريها أحد في صنع الفطائر.

(هيرست ينظر إليه.)

فطائر الوشنة … لا تجارى.
هيرست : من فضلك … صب لي قدحًا آخر من الويسكي.
سبونر : بكل سرور.

(سبونر يأخذ الكأس. يصب الويسكي فيها ويعطيها إلى هيرست.)

سبونر : ربما حان الوقت لأعرفك بنفسي؛ اسمي سبونر.
هيرست : آه.
سبونر : وأنا أحب الفنون حبًّا جمًّا … وبخاصة فن الشعر … وأثقف الشباب فيه … لدي منزل مفتوح يَؤُمه الشعراء الشبان … يقرءون لي أشعارهم فأعلق عليها وأقدم لهم القهوة ولا أتقاضى أجرًا … وأسمح للنساء بزيارتي أيضًا. منهن من يكتب الشعر ومنهن من لا يكتب. بعض الرجال لا يكتبون الشعر. معظم الرجال لا يكتبون الشعر. ولكن نوافذنا الفرنسية تؤدي إلى الحديقة؛ نفتحها وتنهمك زوجتي في صب أقداح كبيرة من العصير وتضع فيه الثلج … وعندما تحل أماسي الصيف ترتفع أصوات الشباب أحيانًا لتردد الأغاني دون موسيقى، وتستلقي أجسام الشباب في الضوء الخابي، وتنساب زوجتي بين الظلال في ردائها الطويل … ماذا يضيرنا؟ أعني من ذا الذي ينكر علينا ذلك؟ من ذا الذي يستطيع أن يناصبنا العداء ونحن نحاول أن نبقى على شعلة الفن، وعلى شعلة الفضيلة من خلال الفن؟
هيرست : الفضيلة من خلال الفن (يرفع كأسه) في صحتك المستمرة!

(سبونر يجلس لأول مرة.)

سبونر : وعندما اشترينا منزلنا … عندما اشترينا منزلنا الصغير … قدمنا الشاي لزوارنا في الحديقة.
هيرست : وأنا أيضًا.
سبونر : في الحديقة؟
هيرست : أنا أيضًا.
سبونر : اشتريت بيتًا؟
هيرست : شاي في الحديقة.
سبونر : ماذا حدث لهم؟ ماذا حدث لبيوتنا؟ ماذا حدث لحدائقنا؟

(وقفة.)

كن صريحا. قل لي. لقد كشفت عن شيء. لقد أشرت إشارة واضحة إلى ماضيك. لا تسحبها. إننا نشترك في شيء. ذكرى رعوية. إننا إنجليز. نحن الاثنان.

(وقفة.)

هيرست : في كنيسة القرية. عُلقت زهور على الأخشاب لتكريم فتيات المنطقة اللاتي يقال إنهن مِتْنَ عذارى.

(وقفة.)

ولكن الزهور لا تقدم للفتيات فقط، وإنما لجميع من يموتون دوان زواج، وفي صدورهم الزهور البيضاء التي تصوغها حياة الشرف.

(وقفة.)

سبونر : تعني أن هذا التكريم لا يقتصر على فتيات المنطقة، بل يشمل شبان المنطقة أيضًا؟
هيرست : نعم.
سبونر : وتعني أن الكبار الذين يموتون دون زواج يتم تكريمهم بنفس الطريقة؟
هيرست : بالتأكيد.
سبونر : لقد بهرتني! زدني! هبني المزيد من أخبار الانحرافات الصغيرة التي اتسمت بها حياتك وزمانك. حدثني — بكل نبرات الثقة والذكاء التي تملكها — عن التركيب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبيئة التي وصلتَ فيها إلى سن الرشد. هبني المزيد!

(وقفة.)

هيرست : لا مزيد.
سبونر : حدثني إذن عن زوجتك.
هيرست : أي زوجة؟
سبونر : كم كانت جميلة ورقيقة ومخلصة. قل١ لي كم كانت سرعة قفزها في الهواء، وكم كانت سرعة إلقائها الكرة على الخشبات الثلاث؟ قل لي إذا كانت يمكن أن تنتبه للكرات «الاسكرو»؟ وما إذا كانت يمكن أن تصد رميتها إليها مباشرة بسهولة أكبر من صدها كرة تلتف لتصطدم في النهاية بالخشبات؟ وبتعبير آخر … هل كانت قادرة على إرسال الكرات الملتوية؟

(صمت.)

لن تقول. دعني إذن أقول لك أنا … إن زوجتي … كان لديها كل شيء. عينان وفم وشعر وأسنان وأرداف وأثداء؛ كل شيء. وأرجل.
هيرست : جرفتها بعيدًا.
سبونر : جرفت من بعيدًا؟
زوجتك أم زوجتي؟

(وقفة.)

هل هي هنا الآن. زوجتك؟

(وقفة.)

هل كانت هنا قط؟ هل كانت قط هناك. في منزلك الصغير؟ من واجبي أن أخبرك أنك فشلت في إقناعي. أنا شريف وذكي. وأنت تعطيني أقل مما أستحق. ترى هل تعامل هذه السيدة بنفس روح الإنصاف التي تعاملني بها؟ إنني لأعجب إذا كنت تهتم على الإطلاق بالتعريفات الدقيقة حقًّا، ومن ثَمَّ بالتعريفات التي تتسم بالشاعرية في جوهرها. إنني لأعجب إذا كنت تذكرها حقًّا وصدقًا … إذا كنت قد أحببتها حقًّا وصدقًا … إذا كنت حقًّا قد دللتها … إذا كنت حقًّا قد هدهدتها … إذا كنت حقًّا قد رعيتها رعاية الأزواج … إذا كنت حقًّا قد أُغرمت بها ولم تحلم بذلك حلمًا زائفًا وحسب! لقد ناقشت هذه الفروض مناقشة جادة، وأجدها جميعًا هزيلةً باليةً!

(صمت.)

كانت عيناها — على ما أعتقد — عسلية!

(هيرست يقف في حذر. يتقدم — وهو يترنح إلى حدٍّ ما – من البار ويصب لنفسه ويسكي ويشرب.)

هيرست : عسل زفت.
سبونر : يا لله! يا لله! هل أحس برنة أسف هنا؟

(وقفة.)

عسل زفت؛ أتساءل: هل رأيت عسلًا زفتًا قط؟ أو حتى عيونًا عسلية؟

(هيرست يرميه بالكأس فلا تصيبه بل تتدحرج على البساط.)

هل أحس برنة عداء؟ هل أحس — مع احترامي — برنة شرب أقداح جعة كثيرة تبعثها كئوس الويسكي الذي يجرح؟ الذي يجرح؟

(صمت.)

هيرست : الليلة … يا صديقي تراني في الجولة الأخيرة من السباق … وقد نسيت العدو منذ زمن بعيد.

(وقفة.)

سبونر : استعارة! لقد تحسن الموقف.

(وقفة.)

أستطيع أن أقول — رغم أننا لم نتعرف إلا منذ وقت قصير — أنك تفتقد إحدى مقومات الرجولة، وهي أن تثق ثقة كاملة في الشراب: أن ترفع قدحًا إلى فمك واعيًا أنه قدح، وأن تعلن أنه قدح، ثم تستمر في ولائك لهذا القدح كأنما خرج من معدتك، أو كأنما ولدته أنت … تنقصك هذه المقدرة — في رأيي.

(وقفة.)

أرجوك أن تغفر لي صراحتي … إنها محض جنون وليست قائمة على خطة محددة … ولذلك فأرجو ألا تعترض إذا أخرجت مسبحتي وسجادة الصلاة حتى أحيي ما أعتقد أنه عجزك.

(يقف.)

أحيي. وأوافق. وأعلن أنني في مقدمتك يا من تشمل الجميع! انتبه إلى ما أقول، إنني شاهد لا يمكن تجاهله؛ بل يمكن أن أكون صديقًا.

(هيرست يقبض على البار ويتصلب.)

أنت في حاجة إلى صديق. إن أمامك طريقًا طويلًا يا بني … وسوف تجد نفسك — عما قريب — تذرعه وحيدًا. اجعلني الملاح الذي يقود سفينتك؛ إذ إننا حين نتحدث عن النهر فنحن نتحدث في الحقيقة عن بناء منخفض عميق ومبلل! وبعبارة أخرى لا تحتقر أبدًا اليد التي تمتد لتساعدك، وخاصة إذا كانت ممتازة ونادرة مثل يدي. وليس امتياز العرض الذي أتقدم به هو الشيء النادر حقًّا … بل العرض نفسه … مجرد تقدمي بالعرض … لم يسبق له مثيل. إنني أقدم نفسي إليك باعتباري صديقًا. فكر قبل أن تتكلم.

(هيرست يحاول أن يتحرك، ولكنه يتوقف ثم يقبض على البار.)

تذكر هذا. لقد فقدت زوجتك العسلية اللون. لقد فقدتها وماذا تستطيع أن تفعل؟ لن تعود إليك مطلقًا … لن تغني لك ترلم تم تم … ترلم تم تم!
هيرست : لا.

(وقفة.)

هذه العزلة … هذا القفر … لا يتحرك … لا يتغير ولا يتقدم في السن … ولكن يظل إلى الأبد … كالجليد … كالجليد … متجمد … وصامت.

(هيرست يرخي قبضته من البار. يترنح عبر الغرفة ثم يتساند إلى كرسي.)

(ينتظر ثم ينهض ثم يتحرك ويقع.)

(سبونر يرمقه.)

(يزحف هيرست نحو الباب يفتحه ثم يزحف خارجًا منه.)

سبونر يظل ساكنًا.
سبونر : لقد رأيت هذا سالفًا في لحظة يكون واقفًا ويستدير للخروج هكذا، من تحت الباب. زاحفًا!

(يتأمل الغرفة. يتجول فيها. يفحص كل شيء فحصًا دقيقًا. يقف وتشتبك يداه خلف ظهره ويظل يتأمل الغرفة.)

(صوت باب يغلق في مكان ما بالمنزل.)

(صمت.)

(يفتح الباب الأمامي للمنزل … ثم يتصفق بشدة.)

(يتصلب سبونر في وقفته.)

(فوستر يدخل الغرفة — مرتديًا حلة غير رسمية — يقف جامدًا عندما يرى سبونر. يقف وينظر إليه.)

(صمت.)

فوستر : ماذا تشرب؟ يا لله! كم أنا عطشان! كيف حالك؟ سأموت عطشًا.

(يذهب إلى البار فيفتح زجاجة جعة ويصب لنفسه قدحًا.)

ماذا تشرب؟ لقد تأخرنا كثيرًا … وقد أنهكني التعب. هذا هوما أريد. (يشرب) تاكسي! … مستحيل. سائقو التاكسي يعادونني. شيء ما فيَّ يزعجهم. أحد العوامل المجهولة. ربما الطريقة التي أسير بها. أو ربما لأنني أرحل متنكرًا … (بعد أن يشرب) آه … انكسر العطش! هذه الجعة تصنع المعجزات! كيف حالك؟ ماذا تشرب؟ من أنت؟ كنت أتصور أنني لن أدرك الموعد. يا لها من رحلة. ليس هذا فحسب فأنا أعزل لا أحمل مسدسًا في لندن. ولكن هذا لا يهم. فما دمت تستطيع أن تعيش في الشرق فلا خوف عليك. وقد نجحت أنا في الشرق. ومع ذلك فأنا أحب المنارات الصغيرة؛ مثل هذا المنار. هل قابلت صاحب المنزل؟ إنه والدي. والليلة هي ليلة يوم العطلة ولذلك قرر أن يبقى في المنزل، ويستمع إلى بعض الأغاني الشعبية الألمانية. أرجو أن يكون قد أمضى أمسية هادئة وممتعة. وبهذه المناسبة … من أنت؟ وماذا تشرب؟
سبونر : أنا صديق له.
فوستر : لستَ من النوع الذي يصادقه.

(يدخل بريجز إلى الغرفة ويقف. ربعة القوام ولا يرتدي حلة تقليدية.)

بريجز : من هذا؟
فوستر : اسمه صديق. هذا هو السيد بريجز يا سيد صديق. اسمه الأستاذ بريجز. وأنا الأستاذ فوستر، من عائلة إنجليزية قديمة. جون فوستر. جاك. جاك فوستر، اسم إنجليزي قديم.
فوستر. جون فوستر. جاك فوستر. فوستر. واسم هذا الرجل بريجز.

(وقفة.)

بريجز : رأيت السيد صديق من قبل.
فوستر : رأيته من قبل؟
بريجز : أعرفه.
فوستر : تعرفه حقًّا؟
بريجز : رأيتك من قبل.
سبونر : ممكن … ممكن.
بريجز : نعم. إنك تجمع أقداح الجعة الفارغة من الموائد في حانة منطقة تشوك فارم.
سبونر : صاحب الحانة صديقي. وعندما ينقص عدد مستخدميه أقدم له يد المساعدة.
بريجز : من قال إن صاحب الحانة صديقك؟
فوستر : هو.
بريجز : أنا أعني حانة «رأس الثور» في تشوك فارم.
سبونر : نعم. نعم. أنا أيضًا.
فوستر : أعرف حانة «رأس الثور»؛ صاحبها صديقي.
بريجز : إنه يجمع الأقداح.
فوستر : حانة من الطراز الأول … إنني أعرف صاحبها منذ سنوات.
بريجز : يقول إنه صديق صاحبها.
فوستر : يقول إنه صديق صديقنا أيضًا.
بريجز : أي صديق؟
فوستر : صاحب هذا المنزل.
بريجز : إنه صديق الجميع إذن.
فوستر : إنه صديق الجميع. كم عدد أصدقائك جميعًا يا سيد صديق؟
بريجز : ربما لا يستطيع أن يحصيهم.
فوستر : آه! لقد أضيف اسمي الآن أيضًا. فأنا صديق آخر من أصدقائك الجدد. أنا أجدُّ أصدقائك الجدد. وليس هذا الرجل. ليس بريجز. إنه ليس صديقًا لأحد. فالناس يميلون إلى الحذر من بريجز. ويترددون في تقديم ذواتهم كلها إليه. ولكنهم يحبونني أنا من أول نظرة.
بريجز : أحيانًا يحبونك من أول نظرة.
فوستر : أحيانًا حقًّا … ولذلك فعندما أسافر لا أنال سوى الذهب! لا أحد يقدم لي الحثالة! فالناس تشرق وجوههم فورًا لمرآيَ — خاصة النساء — وخاصة في سيام أو بالي. يعرف أنني لا أكذب. حدثه عن الفتيات السيامية.
بريجز : وقعن في غرامه من أول نظرة.
فوستر (إلى سبونر) : ولكنك لست سياميًّا حقًّا؟
بريجز : إنه أبعد ما يكون عن السيامية!
فوستر : هل سبق لك أن زرت تلك البلاد.
سبونر : زرت أمستردام.

(فوستر وبريجز يحدقان فيه.)

أقصد أن ذلك آخر مكان زرته. فأنا أعرف أوروبا خير المعرفة … واسمي سبونر بهذه المناسبة. نعم. في عصر يوم من الأيام … في أمستردام … كنت أجلس في مقهى على ضفة قناة. كان الجو رائعًا … وإلى مائدة أخري في الظل يجلس رجل يُصَفِّر صفيرًا خافتًا. كان يجلس دون حراك إلى درجة الجمود، وعلى جانب القناة كان صياد. اصطاد سمكة ثم رفعها في الهواء، فهلَّلَ الجرسون وصفق ثم ضحك الرجلان؛ الجرسون والصياد. وكانت فتاة صغيرة تسير قريبًا منهم فضحكت، وكان هناك عاشقان يسيران بالقرب منها فتعانقا … وارتفعت السمكة في خيط السنارة في الهواء … ولمعت السمكة والسنارة في الشمس وهما يتأرجحان، واندفع الدم إلى وجه الصياد من الفرحة. فقررت أن أرسم لوحة للفتاة والجرسون والطفلة والصياد والعاشقين والسمكة وفي الخلفية — في الظل — الرجل الجالس إلى المائدة الأخرى، وأن أسمي اللوحة «ذو الصفير الخافت». أو «ذو الصفير». فلأسألكما: إذا كنتما رأيتما اللوحة وعنوانها، ترى هل كان يبدو محيرًا؟

(وقفة.)

فوستر (إلى بريجز) : أتود الإجابة على هذا السؤال؟
بريجز : لا … تفضل … أجب أنت عليه.
فوستر : حسن! بالنسبة لي شخصيًّا فأعتقد أن العنوان كان يمكن أن يحيرني؛ بل ربما كنت قد سعدت بها.

(وقفة.)

هل سمعت ما قلته؟ ربما كنت قد سعدت باللوحة. فمن شأن العمل الفني الجيد أن يثيرني. أتفهمني؟ … لست حمارًا تمامًا … فاهم؟

(وقفة.)

أسعدني أن أسمع أنك رسام، لا بد أنك ترسم في أوقات الفراغ.
سبونر : صحيح.
فوستر : وهل رسمت تلك اللوحة حقًّا؟ «ذو الصفير الخافت»؟
سبونر : لم أرسمها بعد — بكل أسف.
فوستر : لا تؤجلها أكثر مما ينبغي؛ فربما فقدت الإلهام.
بريجز : هل رسمت قدح جعة من قبل؟
سبونر : لا بد أن تأتي لترى مجموعتي، في أي وقت تريد.
بريجز : مجموعة ماذا؟ أقداح الجعة؟
سبونر : لا … لا … مجموعة لوحات.
فوستر : وأين تحتفظ بها؟
سبونر : في منزلي الريفي. سنحتفي بك أيما احتفاء.
فوستر : من الذي سيحتفي بي؟
سبونر : زوجتي وابنتاي.
فوستر : حقًّا؟ هل سأروق لهن؟ ما رأيك؟ هل يحببنني من أول نظرة.
سبونر (يضحك) : ممكن جدًّا.
فوستر : وماذا يمكن أن يقُلنَ عنه؟ (مشيرًا إلى بريجز).

(سبونر ينظر إلى بريجز.)

سبونر : إنهن كريمات إلى أبعد الحدود.
فوستر : أنت حسن الحظ.
ماذا تشرب؟
سبونر : ويسكي.

(فوستر يتجه إلى البار، ويصب قدحًا من الويسكي ويقف حاملًا إياه.)

فوستر : ماذا تفهم من هذه القصة؟ عندما كنت في الشرق … ذات يوم … اقترب مني متشردٌ حقيرٌ عجوزٌ … نصف عارٍ … وطلب مني عدة شلنات … لم أكن أعرفه … كان غريبًا تمامًا … ولكنني أدركت على الفور أنه مشبوه، كان معه كلب. لم تكن لهما إلا عينٌ واحدةٌ! ومن ثم ألقيت إليه بقطعة نقود، فالتقط هذه القطعة ونظر إليها في اشمئزاز ثم ألقاها ثانيًا، فاتجهت بصورة تلقائية لالتقاطها، وأطبقت يدي عليها، ولكن القطعة اللعينة اختفت كالسحر. لم تقع مني على الأرض أو تختفي هنا أوهناك، ولكنها اختفت وحسب. اختفت كالسحر … وهي في طريقها إلى يدي. وبعدها صب عليَّ بعض الشتائم ومضى مع كلبه. آه، كدت أنسى؛ هذا هو كأس الويسكي (يعطيه الكأس) كيف تفسر هذه الحادثة؟
سبونر : كان من الحواة.
فوستر : أتعتقد هذا حقًّا؟
سبونر : من الحكمة ألا تتصور أن الحادثة وقعت على الإطلاق.
فوستر : ألا تؤمن بغموض الشرق؟
سبونر : إنها خدعة من خدع الحواة في الشرق.
فوستر : ليس لها معني؛ تقصد؟
سبونر : بكل تأكيد. في صحتك. (يشرب).

(يدخل هيرست. مرتديًا روب دي شامبر.)

بريجز يتجه إلى البار ويصب الويسكي.
هيرست : لا أستطيع النوم. نمت قليلًا على ما أعتقد. ربما كان هذا كافيًا. نعم. استيقظ. كنت أحلم. أحس بابتهاج. من سيقدم لي كأس ويسكي؟

(هيرست يجلس. بريجز يحضر الويسكي.)

يا إلهي! أهذه كأسي؟ كيف عرفت؟ كنت تعرف. أنت حساس جدًّا. في صحتك. هذه أول كأس أشربها اليوم … في أي يوم نحن؟ كم الساعة؟ أما زلنا بالليل؟
بريجز : نعم.
هيرست : نفس الليلة؟ كنت أحلم بشلال … لا … لا … كنت أحلم ببحيرة … وأعتقد أن هذا كان … منذ وقت قريب. هل تذكر متى أويت للفراش؟ أكنا بالنهار؟ من المفيد أن ننام بعد العصر، بعد تناول الشاي وقطعة توست. تسمع البدايات الخافتة لأصوات المساء ثم لا تسمع شيئا على الإطلاق. بينما ينهمك الناس في كل مكان آخر في الاستعداد للعشاء، تكون أنت في سريرك وقد أغلقت نوافذك وسبقت العالم إلى النعاس!

(يقدم كأسه إلى بريجز فيملؤها ويعيدها إليه.)

أمر يدعو للاكتئاب. ما هو؟ الحلم! نعم. الشلالات. لا … لا … البحيرة. الماء. الغرق. شخص آخر. ما أجمل أن يكون لك رفيق. هل تتخيل كيف يمكن أن تصحو هنا فلا تجد أحدًا، ولا ترى إلا الأثاث يحدق فيك؟ شيء مزعج. لقد خبرت هذا الوضع ومررت بتلك الفترة — في صحتك — ثم اهتديت إلى البحث آخر الأمر. مثلكم. خطوة حكيمة حاولت أن أضحك وحدي … مؤسف. هل تناولتم جميعًا مشروباتكم؟

(ينظر إلى سبونر.)

من هذا؟ صديق لكم؟ ألا تُعَرِّفونني به؟
فوستر : إنه صديق لك.
هيرست : لقد كنت أعرف في الماضي أناسًا ممتازين، ولدي ألبوم صور في مكان ما، سأبحث عنه حتى تبهرك الحقائق. جميل جدًّا. كنت أجلس على الكلأ وحولي سلال الطعام. كان لي شارب. وكان لعديد من أصدقائي شوارب. وجوه ممتازة. شوارب ممتازة. وما هي الروح التي كانت تحيي المنظر؟ رقة المشاعر بين الإخوان. كانت الشمس ساطعة وقد أطلقت الفتيات شعرهن الجميل؛ بعضه داكن اللون وبعضه أحمر. كل ذلك في الألبوم. سأبحث عنه حتى تبهرك جاذبية الفتيات؛ رشاقتهن والليونة التي يجلسن بها ويقدمن الشاي. كل ذلك في الألبوم.

(يفرغ كأسه في جوفه. ثم يرفعها فارغة.)

من أكثرهم كرمًا وتعطفًا هنا؟

(بريجز يأخذ الكأس إلى البار.)

ماذا يكون الحال لو لم تكونا — أنتما الاثنان — هنا؟ ربما جلست هنا إلى الأبد في انتظار غريب يأتي ليملأ لي كأسي … وماذا كنت أفعل أثناء انتظاري؟ أتفحص الألبوم؟ أضع خططًا للمستقبل.
بريجز (وهو يحضر الكأس) : إذن كنت تزحف إلى الزجاجة وتحشرها بين فكيك.
هيرست : لا … إنني أشرب محتفظًا بكرامتي.

(يشرب وينظر إلى سبونر.)

من هذا الرجل؟ هل أعرفه؟
فوستر : يقول إنه صديق لك.
هيرست : أصدقائي الحقيقيون يتطلعون إليَّ من الألبوم.
كان لي عالمي … ولي عالمي الآن … لا تتصوروا أنه بعد أن مضى هذا العالم، بعد أن انتهى، سوف أسخر منه أو أشك فيه أو أتساءل ما إذا كان قد وجد حقًّا وصدقًا. لا … نحن نتحدث عن شبابي … شبابي الذي لا يمكن أن يرحل … لا … لقد وجد … كان صلبًا وكان الناس فيه أيضًا ذوي صلابة ولكن … تغيرت صورته في الضوء، إذ كان حساسًا لكل الأضواء المتغيرة.

عندما وقفت سقط ظلي عليها … فرفَعَت عينيها إليَّ … أعطني الزجاجة … أعطني الزجاجة.

(بريجز يعطيه الزجاجة فيشرب منها.)

لقد ولت. هل كانت موجودة؟ لقد مضت … لم تكن موجودة قط … وهي باقية.
إنني أجلس هنا إلى الأبد.

ما أشد عطفك! أود أن تخبرني ما حال الطقس. أودك أن تخبرني في أي ليلة نحن؛ في هذه الليلة، أم الليلة القادمة، أم الليلة الماضية — أقصد — قبل البارحة؟ تفضلوا. أكره أن أشرب وحدي. فعلًا … عَمَّ كنت أتحدث؟ الظلال. الأضواء من خلال أوراق الأشجار. والقفز والتواثب. بين الأشجار. العشاق الصغار. شلال صغير. كان حلمي البحيرة. من كان يغرق في حلمي؟ كانت تعمي البصر. أذكرها. لقد نسيتها. أقسم بكل مقدس. توقفت الأضواء. واشتد لذع البرد. هناك فجوة في داخلي. لا أستطيع أن أملأها. هناك نهر يفيض من خلالي. لا أستطيع أن أوقفه. إنهم يطمسونني. من الذي يفعل ذلك؟ إنني أختنق. إنها وسادة. وسادة معطرة تضغط على وجهي. إن أحدهم يحاول قتلي. رفعت عينيها إليَّ … فأصابني الدوار. لم أر في حياتي أجمل منها. كان سمًّا زعافًا، فلا يمكن أن يتصور أن نحيا هكذا.

لا أذكر شيئًا. إنني أجلس في هذه الغرفة، وأراكم جميعًا … كل واحد منكم. لقاء اجتماعي، تسوده روح التعاطف. هل أنا نائم؟ لا يوجد ماء. لا أحد يغرق. نعم. نعم. هيا. هيا. هيا.

صفروا … تكلموا … تكلموا … إنكم لتسخرون مني يا أولاد اللئام … أيها الأشباح … الأشباح الطويلة، إنكم تصدرون أصواتًا وأستطيع أن أسمع همهماتكم؛ وأرتدي قميصًا أزرق قشيبًا في لوكاندة «ريتس» — وأعرفه جيدًا — الجرسون الذي يقدم النبيذ. بوريس. بوريس. لقد عمل هناك سنوات وسنوات. ظلال تعمي البصر. ثم شلال.
سبونر : كنت أنا الذي يغرق في الحلم.

(يقع هيرست على الأرض. يهرع الجميع إليه. فوستر يتحول إلى سبونر).

فوستر : غور.

(بريجز يعين هيرست على النهوض … هيرست يبعده عنه.)

هيرست : اتركني.

(يقف على قدميه.)

(سبونر يتجه إليه.)

سبونر : لديه أحفاد … مثلي … مثلي … لقد أنجب كلانا … لقد تقدم بنا العمر … أعرف ما يريد … دعني أضع ذراعي في ذراعه.
احترموا شيخوختنا … هيا تعال … سأعينك على الجلوس.

هؤلاء الناس لا يعرفون الشفقة.
فوستر : يا لله!
سبونر : أنا صديقك الحقيقي … ولهذا كان حلمك … مؤلمًا … لقد رأيتني أغرق في حلمك … ولكن لا تخف … لم أغرق.
فوستر : يا لله!
سبونر (إلى هيرست) : تود أن أصنع لك بعض القهوة؟
بريجز : يظن أنه جرسون في أمستردام.
فوستر : الخدمة غير مضافة.
بريجز : بينما هو مجرد جرسون مسئول عن أقداح الجعة في حانة «رأس الثور»، ومسئول عن التواليت أيضًا.
فوستر : لا بد أن مضيفنا كان في حانة «رأس الثور» هذا المساء؛ حيث قابل أحدهم (مشيرًا إلى سبونر) لسوء الحظ. (إلى سبونر) اسمع يا ولد … أعتقد أنه قد حدث سوء تفاهم من نوعٍ ما … فلست هنا في تواليت عند أحواض السفن؛ ولكن في منزل رجل ثري … رجل ذي منجزات هامة … هل تفهم ذلك؟

(يتحول إلى بريجز.)

ما الداعي للكلام؟ قل لي … هه؟

(يتحول ثانيًا إلى سبونر.)

اسمع يا قفل. إننا نحمي هذا السيد المحترم من النساء، من ذوي الحيل، ومن الأشرار، ونستطيع أن نقضي عليك دون تردد. إننا نعتني بهذا السيد. ولا دافع لنا سوى الحب.

(يتحول إلى بريجز)

لماذا أتحدث إليه؟ إنني أضيع الوقت مع شخص ميئوس منه. لا بد أنني سأُجَن. أنا عادة لا أتكلم. فليس ثمة ما يدفعني على الكلام … عادة ما أخلد إلى الصمت.

(يتحول إلى سبونر.)

أعرف حقيقة الأمر. ثمة شيء فيك يبهرني.
سبونر : سلوكي.
فوستر : لا بد أنه كذلك.
بريجز : رأيت بعض العمال يؤدبونه.
فوستر : أعتقد أنه ما دام العمال قد دخلوا في الموضوع فقد انتهى كل شيء (إلى سبونر) اسمع. حاسب وخذ حذرك. هل تفهمني؟ هل عثرت لتوك على رجل ثري وقوي. وهذا ما لم تعتد عليه يا ولد، كيف يمكنني أن أوضح لك؟ هذه طبقة مختلفة، منطقة عمل مختلفة. إنه عالم حرير … عالم أورجانزا … عالم ترتيب الزهور … عالم كتب الطهي من القرن الثامن عشر. لا علاقة له بالتفاح المسكر والبطاطس المحمرة. هذا عالم حمام اللبن … عالم الأجراس الحريرية … عالم النظام.
بريجز : ليس تافهًا.
فوستر : ليس تافهًا. إننا نتعامل مع السلطة الأصلية. لا زيف هنا ولا تقليد … نحن لا نفتح أي زجاجة براندي معتقة. حذارِ أن تسقط في الرمال المتحركة! (إلى بريجز) لماذا لا أقطع رأسه وأستريح؟
سبونر : إنني من نفس عمر سيدك، وكنت أقوم بنزهات في الخلاء أيضًا في نفس الوقت الذي كان يتنزه فيه.
فوستر : اسمع يا صديقي. هذا الرجل الذي يجلس على هذا الكرسي … رجل خلاق. فنان. إننا نعينه على الحياة. إننا في موضع ثقة. لا تحاول دق إسفين في منزل سعيد … أتفهمني؟ لا تحاول أن تجرد الحياة العائلية من معناها.
بريجز (إلى فوستر) : إذا لم تكن أنت تستطيع فأنا أستطيع.

(يتقدم من سبونر، ويشير إليه أن تعال بإصبعه السبابة.)

بريجز : تعال هنا.
هيرست : أين السندويتشات؟ اقطعوا الخبز.
بريجز : إنه مُقَطَّع.
هيرست : إنه مقطع! قطعوه.

(بريجز يقف ساكنًا.)

بريجز : سأذهب لتقطيعه.

(يخرج من الغرفة.)

هيرست (إلى سبونر) : أعرفك من مكان ما.
فوستر : لا بد أن أنظف المنزل. لن يفعل ذلك غيري. إن مستشارك المالي سيتناول معنا طعام الإفطار. لا بد أن آخُذ ذلك في الاعتبار. ذوقه يتغير من يوم ليوم. أحيانًا يطلب بيضًا مسلوقًا وتوست، وأحيانًا عصير برتقال وبيضًا باللبن، وأحيانا بيضًا مضروبًا وسلمون مدخنًا، وأحيانًا عجة عش الغراب وشامبانيا. سوف يشرق الصباح بعد لحظة. يوم جديد. ومستشارك المالي يحلم بإفطاره. إنه يحلم بالبيض … البيض … البيض. أي نوع من البيض؟ لقد تعبت. لم يغمض لي جفن طول الليل. ولكن هذا الأمر لا يتوقف. لا شيء يتوقف. كلها شمبانيا … تلك هي حياتي. هناك فترات قصيرة أفيق فيها لأنجز عملًا ما … وأحس بعدها بالإرهاق الشديد … لا أستطيع أن أجاري نبض الحياة في لندن. لا أحد يدري ما ينقصني في الواقع.

(يدخل بريجز ويقف ويستمع.)

إنني أفتقد الفتيات السياميات. أفتقد فتيات بالي. لا تجد أمثالهن هنا. تراهن من حين لحين. على سُلَّم مدارس اللغات. يتعلمن الإنجليزية. لسن على استعداد لتبادل الضحكات والقبلات بلغتهن الأصلية. ليس في شارع ريجنت على أي حال. ضحكة وقبلة. أحيانًا لا أجدني أطمع في أبعد من هذا … لا أستطيع أن أفعل شيئًا آخر بطبيعة الحال. أستطيع أن أحيا حياة مختلفة. لا شيء يضطرني أن أضيع وقتي في البحث عن كلبه! يمكنني أن أجد العمل المناسب فأعيش سعيدًا. العمل المناسب والسعادة المناسبة.
بريجز : لقد نفد الخبز؛ إنني أنظر إلى مدير المنزل. مريض نفسي. عصابي! يفضل الفراغ. قَوَّاد حقير. يفضل مضايق الملايو؛ حيث يقدمون له وجبة ساخنة على سرير ذي أربعة أعمدة. ليس سوى قضيب متشرد. (إلى سبونر) ابتعد.

(سبونر يبتعد عن طريقه.)

بريجز (إلى هيرست) : انهض.

(هيرست ينهض ببطء، فيقوده بريجز من يده إلى الباب.)

بريجز (إلى هيرست) : استمر في السير … لا تنظر إلى الخلف.
هيرست : أعرف ذلك الرجل.

(بريجز يصحب هيرست إلى خارج الغرفة.)

(صمت.)

فوستر : هل تعرف ماذا رأيت ذات يوم في الصحراء؛ في صحراء أستراليا؟ رجلًا يسير حاملًا مظلتين. مظلتان. في القفار.

(وقفة.)

سبونر : هل كانت السماء تمطر؟
فوستر : لا … كان الجو صحوًا. كدت أسأله عن سر المظلتين … ولكنني عدلت عن ذلك.
سبونر : لماذا؟
فوستر : لا شيء … قلت لا بد أن يكون مجنونًا، وإذا حادثته فسوف تختلط عليَّ الأمور.

(فوستر يتجول في الغرفة، ويقف لدى الباب.)

اسمع. هل تعرف ما يحدث عندما ينطفئ النور فجأة؟ سوف أريك. هذا ما يحدث … انظر!

(يطفئ النور.)

(إظلام.)

الفصل الثاني

الصباح

(سبونر وحده في الغرفة … الستائر لا تزال مغلقة؛ ولكن أشعة الصباح تتسلل إلى الغرفة.)

(سبونر جالس.)

(يقف. يسير ببطء نحو الباب، يدير المقبض بجهد شديد ثم يتراجع.)

سبونر : لقد مررت بهذه التجربة من قبل. الصباح. وباب مغلق. منزل من الصمت والغرباء.

(يجلس ويرتعد.)

(ينفتح الباب. يدخل بريجز ممسكًا بمفتاح في يده. يرتدي حُلَّة. يزيح الستائر. ضوء النهار.)

بريجز : طلبوا إليَّ أن أسألك إن كنت جوعانًا.
سبونر : الطعام؟ لا أقترب منه.
بريجز : لم يأت المستشار المالي، تستطيع أن تتناول طعام الإفطار الذي جهزناه له. كان قد اتصل تليفونيًّا ليحدد الموعد ثم اتصل ثانيًا ليلغيه.
سبونر : والسبب؟
بريجز : جاك هو الذي كلمه بالتليفون، وليس أنا.
سبونر : وما السبب الذي قدمه لصديقك؟
بريجز : جاك يقول: إنه قال إنه قال إنه وجد نفسه — فجأة ودون سابق إنذار — في خضم مصيبة مالية «أصلية» كبيرة.

(وقفة.)

سبونر : الواضح أنه بحاجة إلى مستشار.

(وقفة.)

بريجز : لن أحضر لك طعام الإفطار إذا كنت سوف تهدره.
سبونر : أكره الإهدار!

(بريجز يخرج.)

لقد جربت هذا من قبل. الباب المفتوح. دخول رجل غريب. تقديم الصدقات. سمك القرش في المرفأ.

(صمت.)

(يدخل بريجز حاملًا صينية عليها أطباق طعام الإفطار مغطاة بأطباق فضية، وزجاجة شمبانيا في دلو به ثلج.)

(يضع الصينية على منضدة صغيرة، ويأتي بكرسي إلى المنضدة.)

بريجز : بيض مضروب. هل أفتح زجاجة الشمبانيا؟
سبونر : هل هي مثلجة؟
بريجز : متجمدة.
سبونر : افتحها إذن.

(يبدأ بريجز في فتح الزجاجة، سبونر يرفع أغطية الأطباق ينظر إلى المحتويات، ثم يضع الأغطية جانبًا، ويضع الزبد على التوست.)

سبونر : من الذي يقوم بالطهي؟
بريجز : نشترك في حمل الأعباء … أنا وجاك.

(بريجز يصب الشمبانيا. يقدم كأسًا. يرتشف منه سبونر.)

(وقفة.)

سبونر : شكرًا.

(يبدأ سبونر في تناول الطعام. بريجز يسحب كرسيًّا إلى المائدة ويجلس عليه، وينظر إلى سبونر.)

بريجز : نحن أصدقاء من زمن بعيد أنا وجاك … تقابلنا لأول مرة على ناصية شارع … لا بد أن أقول إنه سوف ينكر هذه القصة … روايته تختلف عن روايتي … كنت أقف على ناصية شارع، واقتربت سيارة … كانت سيارته … سألني عن الطريق إلى شارع بولسوفر، قلت له: إن شارع بولسوفر يقع في منطقة مليئة بالشوارع ذات الاتجاه الواحد — منطقة معقدة ومتشابكة المرور — منطقة من السهل على المرء أن يدخلها؛ ولكن المشكلة هي أنه إذا دخلها فسيكون من الصعب عليه الخروج منها. قلت له إنه إذا أراد أن يصل إلى شارع بولسوفر فأفضل طريق هو أن ينحرف إلى اليسار في أول عطفة، ثم إلى اليمين عند العطفة الثانية في ذلك الشارع، ثم إلى اليسار في العطفة الثالثة في الشارع التالي، حتى يقابله دكان أدوات منزلية، وهنا عليه أن «يلف» الميدان بحذاء الرصيف حتى يصل إلى الزقاق الثاني إلى اليمين ويقف، وهناك سيجد نفسه في مواجهة عمارة عالية تشغلها مكاتب وشركات، أمامها فناء نصف دائري. ويمكنه أن يستفيد من هذه العمارة بأن يدور في الفناء ويخرج من الجهة المقابلة ويتبع الأسهم البيضاء على الأرض، ثم يسير في الطريق حتى يتخطى إشارتي مرور، ثم ينحرف يسارًا عند أول إشارة مرور خضراء يصادفها. وينبغي ألا يغيب برج المواصلات اللاسلكية عن نظره لحظة واحدة طبعًا، وهنا يجب أن يسير بالسيارة إلى الخلف ليهبط في موقف السيارات تحت الأرض، ثم ينقل «الفتيس» إلى الموضع الأول والثاني ويستمر في السير حتى يجد نفسه في شارع بولسوفر دون أي مشكلة على الإطلاق؛ ولكنني حذرته من أنه بعد أن يعثر على شارع بولسوفر يمكن ألا يستطيع الخروج منه. قلت له: إنني أعرف بعض الناس الذين كانوا وما يزالون يذرعون شارع بولسوفر جيئةً وذهابًا عامًا بعد عام، ولا يستطيعون الخروج منه. لقد ضيعوا شبابهم المنحوس هناك! والذين يسكنون هناك وجوههم غبراء ويأسهم شديد؛ ولكن أحدًا لا يهتم بهم — لأن الناس لا تهتم، هل تفهم؟ — إلا بالكسب غير المشروع.
أرسلت رسالة إلى صحيفة التايمز حول هذا الموضوع بعنوان «الحياة في طريق مسدود» دون نتيجة، على أي حال، قلت له ربما كان من الأفضل أن تنسى هذا الموضوع تمامًا ولا تذهب إلى شارع بولسوفر. أذكر أنني قلت له: هذه الرحلة التي تريد القيام بها … لا بد أن تنساها … يمكن أن تؤدي بك إلى الهلاك. ولكنه رد قائلًا: إن عليه أن يوصل طردًا لمكان ما. على أي حال، بذلت كل هذا الجهد معه لأن له وجهًا صبوحًا مشرقًا، وأحسست أنه رجل يميل على الدوام إلى فعل الخير؛ فأنا عادة لا أكترث بمساعدة أحد. لا بد أن أقول لك إنه سوف ينكر هذه القصة؛ لديه رواية أخرى لما حدث.

(سبونر يضع الغطاء على الطبق.)

(بريجز يصب الشمبانيا في كأس سبونر.)

متى كانت آخر مرة تناولت فيها الشمبانيا على الإفطار؟
سبونر : إذا شئت الصدق والأمانة فأنا من شاربي الشمبانيا.
بريجز : حقًّا؟
سبونر : أنا خبير بالنبيذ (يشرب) ديجون. في الثلاثينيات زرت منطقة ديجون لأتذوق الأنبذة مع مترجمي الفرنسي. وحتى بعد أن مات ظللت أذهب إلى ديجون حتى لم تعد صحتي تسمح.

(وقفة.)

هوجو كان رفيقًا حسنًا.

(وقفة.)

سوف تسألني بالطبع عما كان يترجم لي! والإجابة هي قصائدي، فأنا شاعر.

(وقفة.)

بريجز : كنت أظن الشعراء شبابًا!
سبونر : أنا شاب. (يمد يده إلى الزجاجة) أصب لك كأسًا؟
بريجز : لا … شكرًا.

(سبونر يفحص الزجاجة.)

سبونر : أحسنت الاختيار!
بريجز : لم أخترها أنا.
سبونر (وهو يصب) : ترجمة الشعر من أصعب ما يمكن؛ لم يعد يمارس هذه الحرفة باقتدار حقيقي إلا أهل رومانيا.
بريجز : ألا تظن أن الوقت مبكر … ولا يحتمل هذه المناقشة؟

(سبونر يشرب.)

لا بد أن تشرب الزجاجة كلها؛ أوامر الأطباء.
سبونر : هل يمكن بالمناسبة أن أسأل لماذا أنا محبوس في هذه الغرفة؟!
بريجز : أوامر الأطباء.

(وقفة.)

قل لي متى تريد القهوة.

(وقفة.)

لا شك أنه أمر رائع … أن تكون شاعرًا ولك معجبون، ومترجمون … وأن تكون شابًّا … أنا لست هذا ولا ذاك!
سبونر : نعم … ذكرتني … لا بد أن أرحل، لا بد أن أحضر اجتماعًا في الثانية عشرة … شكرًا جزيلًا على الإفطار!
بريجز : أي اجتماع؟
سبونر : اجتماع هيئة تحرير؛ أنا عضو في هيئة تحرير مجلة شعر أُنْشِئت حديثًا، سنعقد أول اجتماع لنا في الثانية عشرة، لا أستطيع التأخر.
بريجز : أين الاجتماع؟
سبونر : في حانة (رأس الثور) في منطقة (تشوك فارم) … صاحب الحانة تكرم فسمح لنا باستخدام غرفة خاصة في الدور الأول.
من المهم جدًّا أن يكون الاجتماع خاصًّا؛ لأننا سنناقش سياسة المجلة.
بريجز : حانة رأس الثور في تشوك فارم؟
سبونر : نعم. صاحبها صديقي … ولهذا أتاح لنا استخدام غرفة خاصة. صحيح أنني قلت إن اللورد لانسر سوف يحضر الاجتماع … وعلى الفور قرر أنَّ درجة معينة من العزلة ينبغي أن تتوفر لنا.
بريجز : اللورد لانسر؟
سبونر : راعينا.
بريجز : هل هو أحد قادة الجيش الذي حارب في البنغال؟
سبونر : كلا … كلا … إنه من أصل نورماندي.
بريجز : رجل ثقافة؟
سبونر : ممتاز من كل ناحية.
بريجز : بعض من هؤلاء الأرستوقراطيين يكرهون الفنون.
سبونر : اللورد لانسر رجل شرف، يحب الفنون، وقد أعلن حبه هذا على الملأ، وهولا ينكث عهدًا قطعه على نفسه؛ ولكن … لا بد أن أرحل الآن؛ لا يوافق اللورد لانسر على الرأي القائل بأنه للشعراء ألا يكترثوا بالزمن.
بريجز : جاك في حاجة إلى من يرعاه.
سبونر : جاك؟
بريجز : إنه شاعر.
سبونر : شاعر؟ حقًّا؟! حسن … يستطيع إذا شاء أن يرسل لي بعض نماذج من شعره منسوخة على الآلة الكاتبة. مسافات واسعة. على ورق كوارتو. ويستحسن أن يرسل نسخًا أخرى في مظروف مستقل من مكتب بريد آخر — حتى يضمن وصول أحد المظروفَين في حالة ضياع أحدهما، أو استيلاء بعضهم عليه — وبداخله مظروف آخر عليه عنوانه وطابع بريد. وسوف أقرأها.
بريجز : هذا تعطف منك!
سبونر : العفو! قل له إنه يستطيع أن يتطلع إلى حكم بالغ الأمانة والدقة، و — إذا جاز لي أن أقول ذلك — حكم بالغ الحساسية.
بريجز : سأخبره؛ إنه بحاجة ماسة إلى من يرعاه. يمكن لرئيسه أن يرعاه طبعًا؛ ولكنه غير مهتم … ربما كان السبب أنه هو نفسه شاعر … ربما كان ثمة غيرة في الموضوع … لا أدري! وهذا لا يعني أن رئيسه ليس كريمًا عطوفًا … فهو كذلك حقًّا. إنه متحضر إلى أبعد الحدود؛ ولكنه بشر على أية حال.

(وقفة.)

سبونر : رئيسه … شاعر؟
بريجز : ماذا بك؟ إنه ليس شاعرًا فحسب … إنه كاتب مقالات، وناقد أيضًا … إنه أديب.
سبونر : شعرت أن وجهه ليس غريبًا عليَّ!

(يدق التليفون. يتجه بريجز إليه، يرفع السماعة وينصت.)

(بريجز يرفع الصينية ويخرج بها.)

(سبونر يجلس ساكنًا.)

بريجز : حاضر.
سبونر : لقد جربت ذلك من قبل. الصوت غير المسموع. المستمع. الأمر من الطابق العلوي.

(يصب الشمبانيا.)

(هيرست يدخل مرتديًا حُلَّة. يتبعه بريجز.)

هيرست : تشارلز … شكرًا على تعطفك بالمجيء!

(يصافح سبونر.)

هل أكرموا وِفادتك؟ دنسون! أحضر لنا بعض القهوة.

(بريجز يترك الغرفة.)

تبدو في أتم صحة … لم تتغير على الإطلاق. لا بد أنها رياضة الاسكواش … تحافظ على قوامك وصحتك … أذكر أنك كنت لاعبًا ماهرًا في جامعة أكسفورد. ما زلت تمارسها؟ تفكير سديد وعاقل! يا لله! لقد مضت سنوات وسنوات … متى التقينا آخر مرة؟ أظن أننا تناولنا الغداء معًا آخر مرة في عام ١٩٣٨م؛ في النادي. هل تتذكر ذلك أنت؟ كان معنا كروكسلي … ومن أيضًا؟ وكان معنا مرياث … نعم أتذكر ذلك كله الآن … وبيرستون سميث. يا لها من شلة! ويا لها من ليلة! إذا صحت ذاكرتي؛ لقد ماتوا الآن جميعًا بطبيعة الحال. كلا! كلا! يا لي من أبله! يا لي من مغفل! إنني أذكر آخر مرة التقينا فيها حقًّا؛ كانت في عام ١٩٣٩م في مقصورة في ملعب لورد للكريكيت. في مباراة ضد فريق جزر الهند الغربية. وكان هاتور وكرمتون يصدان الضربات بإحكام رائع، وكان قسطنطين يوجه الكرات، وكانت الحرب تلوح في الأفق. أتعتقد أنني على حق؟ لقد شربنا معًا زجاجة نبيذ رائعة. وإنك لتبدو في نفس اللياقة البدنية التي تميزت بها آنذاك. هل مرت الحرب عليه بسلام؟

(يدخل بريجز بالقهوة ويقدمها على المنضدة.)

شكرًا يا دنسون! اتركها هناك … شكرًا!

(بريجز يترك الغرفة.)

كيف حال إمیلي؟ يا لها من امرأة! (يصب القهوة) سوداء؟ كيف حالك؟ يا لها من امرأة! لا بد أن أقول لك إنني وقعت في غرامها ذات يوم … لا بد أن أعترف لك … خرجت معها لنحتسي الشاي في فندق دورشستر، وبحت لها باشتهائي … قررت أن أواجه الموقف دون خوف … اقترحت عليها أن تخونك؛ قلت لها إنك إنسان ممتاز ورائع حقًّا … ثم استطردت قائلًا إنني لا أريد منها أي شيء يخصك … أنت؛ ولكنني أردت منها ذلك الجزء الذي تحتفظ به كل النساء لوقت عصيب. لكم عانيت حتى أقنعها! قالت إنها تحبك حب العبادة، وإن حياتها ستفقد معناها لو خانتك. وهنا أعملت فيها سحر الفطائر المشربة بالزبد، والقشدة الصافية، والقطايف الشهية، والفراولة الطازجة … حتى استسلمت … لا أظن أنك علمت بهذا قط … ماذا؟! لقد تقدم بنا العمر كثيرًا فلم نكترث لهذه الأمور … ألا توافقني؟

(يجلس ممسكًا بالقهوة.)

استأجرت بيتًا صغيرًا لفترة الصيف. وكانت تأتي لي في سيارتها مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع … كنت جزءًا لا يتجزأ من رحلاتها إلى السوق … كنتما تسكنان في منزل في المزرعة … مزرعة والدها … وكانت تزورني في العصر — ساعة الشاي — أو في الصباح — ساعة القهوة — الأوقات البريئة! كانت لي طوال الصيف … بينما كنت تتصور أنها لك!

(يحتسي القهوة.)

كانت تحب المنزل الريفي … كانت تحب الزهور مثلما أحبها … زهور النرجس، وحنك السبع، والأقاحي، والبانسيه، والبنفسج، والقرنفل!

(وقفة.)

يداها الرقيقتان.

(وقفة.)

لا يمكن أن أنسى طريقة ترتيبها للزهور.

(وقفة.)

هل تذكر حين صحبتها إلى فرنسا؟ أكان ذلك في عام ۳۷م؟ لقد كنت معكما على ظهر الباخرة نفسها … لم أغادر قمرتي … كانت تأتي إليَّ أثناء تأديتك التمرينات الرياضية … كان حماسها لا يُجارى! ولم أشهد في حياتي مثله! … آه … حسنًا!

(وقفة.)

كنتَ دائمًا مشغولًا بصحتك وقوامك، لا غبار على ذلك … كان لك قوام رائع … قوام ریاضي بطبيعته … كنت تحصل على الميداليات، وينقش اسمك على الشهادات، ويحفر بالذهب على الرخام. إذا وصل العَدَّاء يومًا إلى آخر الشوط، وحاز قصب السبق، فسوف يكون الأول في كل شيء … طول حياته. لا يمكن لشيء أن يلطخ تلك اللحظة الذهبية … أما زلتَ تعدو؟ لماذا لم نكن نلتقي إلا نادرًا بعد أن تركنا الجامعة؟ أعني … كان لديك أمر آخر يشغلك، فأنت أديب مثلي … صحيح أننا كنا نخرج معًا أحيانًا للنزهة مع تابي ولم وباقي الشلة، وكنا نتناول كأسًا أو كأسين من الويسكي في النادي؛ ولكننا لم نوثق عرى صداقتنا قط … ترى ما السبب؟! لقد نجحت أنا في وقت مبكر … طبعًا!

(وقفة.)

ألم تقل إنك استمتعت بالحرب؟
سبونر : إلى حدٍّ ما … نعم.
هيرست : عظیم عظیم! كنتَ في الطيران؟
سبونر : في البحرية.
هيرست : عظیم عظيم! المدمرات؟
سبونر : زوارق الطوربيد.
هيرست : رائع! رائع! قتلت بعض الألمان؟
سبونر : واحد أو اثنين.
هيرست : برافو!
سبونر : وأنت؟
هيرست : كنت في المخابرات العسكرية.
سبونر : آه!

(وقفة.)

هيرست : واستأنفت نشاطك الأدبي بعد الحرب؟
سبونر : طبعًا.
هيرست : وأنا كذلك.
سبونر : أعتقد أنك نجحت إلى حدٍّ كبير.
هيرست : إلى حدٍّ كبير جدًّا! لقد تخطيت أفضل فترات نشاطي.
سبونر : هل ترى ستِلَّا الآن؟

(وقفة.)

هيرست : ستِلَّا؟
سبونر : لا يمكن أن تكون قد نسيت.
هيرست : ستلا من؟
هيرست : ونستانلي؟
سبونر : أخت «بنتي ونستانلي».
هيرست : آه! «بنتی»! لا … لا أراها مطلقًا.
سبونر : كنت مبهورًا بها إلى حدٍّ ما.
هيرست : هل كنتُ مبهورًا بها حقًّا يا صديقي؟ كيف عرفت؟
سبونر : كنت أنا مولعًا ﺑ «بنتي» وكان غاضبًا منك إلى حدٍّ كبير … كان يريد أن يلكمك في وجهك!
هيرست : لماذا؟
سبونر : لأنك أغويت أخته.
هيرست : وما شأنه هو بهذا؟
سبونر : كان أخاها.
هيرست : هذا هو ما أعنيه.

(وقفة.)

ماذا تعني بالضبط؟ لا أفهمك.
سبونر : «بنتی» عرَّف ستلا بروبرت، كان يحب روبرت جدًّا، وكان الشاهد في عقد قرانهما. كان هو وروبرت صديقَين حميمَين. كان يهدد بأنه سيجلدك.
هيرست : من؟
سبونر : «بنتي».
هيرست : لم يستجمع شجاعته يومًا ليحدثني في ذلك بنفسه.
سبونر : ستلا رجَتْه ألا يفعل … توسلت إليه أن يكف يده … وتوسلت إليه ألا يخبر روبرت.
هيرست : فهمت … ولكن من أخبر «بنتي»؟
سبونر : أنا الذي أخبرته؛ كنت أحب «بنتي» جدًّا، كما كنت أُكن لستلا إعزازًا كبيرًا.

(وقفة.)

هيرست : يبدو أنك كنت صديقًا قويًّا للعائلة.
سبونر : أساسًا «أرابيلا» … كنا نركب الخيل معًا.
هيرست : أرابيلا هنسكوت؟
سبونر : نعم.
هيرست : كنت أعرفها في أكسفورد.
سبونر : وأنا أيضًا.
هيرست : كنت أحب أرابيلا جدًّا.
سبونر : كانت أرابيلا تحبني جدًّا … ولم يكن «بنتي» واثقًا من درجة تعلقها بي، أو الصورة التي اتخذها إعجابُها بي.
هيرست : أرجوك أن توضح لي ما تعني … أرجوك!
سبونر : «بنتي» كان يثق فيَّ، كنت أشبينه عندما تزوجا، وكان يثق في أرابيلا.
هيرست : دعني أحذرك أنني كنت دائمًا شديد الإعجاب بأرابيلا؛ كان والدها أستاذي، وكنت أحل ضيفًا عليهم في البيت.
سبونر : كنت أعرف والدها معرفة وثيقة … وكان يهتم بي اهتمامًا كبيرًا.
هيرست : كانت أرابيلا فتاة ذات حساسية … بالغة الرهافة، وغاية في التحضر.
سبونر : صحيح.

(وقفة.)

هيرست : أتريد أن تقول إنك كنت على علاقة غرامية بأرابيلا؟
سبونر : علاقة من نوعٍ ما … لم تكن تريد علاقة كاملة. كانت تكتفي بشيء واحد يشبع هوايتها الخاصة، وهي التهام الذكر.

(يقف هيرست.)

هيرست : بدأت أرى أنك وغد حقير … كيف تجرؤ على الحديث عن أرابيلا هنسكوت بهذه الطريقة؟!
سأضع اسمك في القائمة السوداء وأشطبه من النادي!
سبونر : سيدي العزيز … هل تسمح لي بأن أُذَكِّرك أنك كنت تخون ستلا ونستانلي مع إميلي سبونر زوجتي أنا — طوال صيف مديد ملوث — وأن هذه الحقيقة كان يعرفها الجميع آنذاك في شتى المقاطعات المحيطة بلندن؟ وهل لي أن أذكرك أيضًا أن «ميوريل بلاكوُود» و«دورين باسبي» لم تستطيعا قط الشفاء من دكتاتوريتك الجنسية المجنونة المدمرة؟ وهل لي أن أذكرك أيضًا أن خبر صداقتك وإفسادك لجفري رامسدن في جامعة أكسفورد … قد شاع وأصبح حديثَ الجميع في باليول وكاتدرائية كرايستشيرش؟
هيرست : هذا سب وقذف! … كيف تجرؤ على هذا؟! سوف آمر بجلدك!
سبونر : إنك أنت يا سيدي الذي سلك سلوكًا شائنًا مع الجنس اللطيف … والذي كانت زوجتي ألطف وأرق ممثل له … إنك أنت الذي سلك سلوكًا شاذًّا وشائنًا تجاه المرأة التي ربطني بها الرباط المقدس.
هيرست : أنا يا سيدي؟! سلوكًا شاذًّا وشائنًا؟!
سبونر : شائنًا حقًّا! … لقد باحت لي بكل شيء!
هيرست : هل تصغي إلى هذر زوجة فلاح؟
سبونر : أجل! لأنني كنت ذلك الفلاح.
هيرست : لم تكن فلاحًا یا سیدي؛ بل عابث بنفسه في العطلات!
سبونر : لقد كتبت قصيدة مدح (وسكس) في منزل صيفي في ضيعة «وست أبفيلد».
هيرست : لم يسعدني الحظ بقراءتها.
سبونر : إنها مكتوبة بالنظام الثلاثي، وهو شكل فني — واسمح لي أن أقول ذلك — لم تستطع أن تتقنه أنت يومًا ما.
هيرست : هذا تعدٍّ صارخ! من أنت؟ ماذا تفعل في منزلي؟

(يتجه إلى الباب وينادي.)

دنسون! ويسكي وصودا!

(يتجول في الغرفة.)

الواضح أنك وغد دنيء، «تشارلز وذربي» الذي عرفته كان سيدًا مهذبًا، أما الآن فقد تضاءل حجمه وانكمش … إنني لآسف لك … أين الحماس الأخلاقي الذي غذى كيانك يومًا ما؟ ألقيت به في القمامة؟

(بريجز يدخل. يصب الويسكي والصودا. ويقدمه إلى هيرست. هيرست ينظر إليه.)

ألقي في القمامة … ألقي في القمامة تمامًا … (يشرب) لا أفهم … لا أفهم … وأنا أرى ذلك الآن أمامي … ودائمًا … كيف يمكن لأكثر الناس حساسية وثقافة أن يتحول بهذه السهولة … وبين عشية وضحاها … إلى رجل فظ الطباع … شرير … قاطع طريق. لم يكن يتحول أحد في الماضي (على أيامي)، كان الرجل يوجد فحسب. ولم يكن باستطاعة شيء أن يغيره إلا الدين. وكان هذا — على الأقل — بؤسًا رائعًا.

(يشرب ويجلس في كرسيه.)

لسنا أفراد عصابة من الأشرار. وأنا على استعداد للصبر والتحمل … سأكون كريمًا وعطوفًا. سأريك مكتبتي؛ بل ربما أريتك غرفة المكتب؛ بل ربما أريتك قلمي ونشافتي؛ بل ربما أريتك مسند قدمي.

(يرفع كأسه.)

كأس أخرى.

(بريجز يأخذ الكأس ويملؤها ويعيدها.)

بل ربما أريتك ألبوم الصور … ربما رأيت فيه وجهًا يذكرك بوجهك أنت … بالرجل الذي كنتَ يومًا ما … ربما رأيت وجوه آخرين؛ في الظل … أو خدود آخرين … تستدير، أو فك هذا أو ذلك … أو قفاه … أو عينيه وقد ظللتها القبعات، فربما ذكرتك بآخرين كنت تعرفهم يومًا ما … كنت تظنهم قد ماتوا من زمن بعيد؛ ولكنك تستطيع أن تراهم يتطلعون إليك … ينظرون إليك من طرف خفي … إذا كنت تستطيع أن تواجه الشبح الطيب … إذا كنت تسمح بحب الشبح الطيب أنهم يكنون كل هذه العاطفة … لعاطفة الحبيبة في وجوههم … أنكن لها احترامًا. من المؤكد أنها لن تخلي سبيلهم ولكن … من يدري؟! … ربما أعطيتهم راحة … من يدري؟! … فربما عادت إليهم الحياة … في أغلالهم … في القدور التي تشتمل على رفاتهم … هل تعتقد أنه من القسوة أن نعيدهم إلى الحياة بعد أن حبسوا وثبتوا في أماكنهم؟ کلا … ثم كلا … إنهم في أعمق أعماقهم يريدون أن يستجيبوا للمسة أو لنظرة منك … وحين تبتسم تفيض قلوبهم بفرح طاغٍ! ولذلك أقول لك لا بد أن تعطف ويرق قلبك للموتى، مثلما تريد من الناس أن يعطفوا عليك ويرق قلبهم لك الآن … فيما تعتبر أنه حياتك.

(يشرب.)

بريجز : إنهم خواء یا صديقي، خواء … الموتى الخواء.

(صمت.)

هيرست : خطأ.

(وقفة.)

أعطني الزجاجة.
بریجز: لا.
هيرست : ماذا؟
بريجز : قلت لا!
هيرست : لا أريد الهذر … لا أريد المعاكسات … أعطني الزجاجة!

(وقفة.)

بريجز : لقد رفضت.
هيرست : الرفض يمكن أن يتسبب في الفصل.
بريجز : لا يمكنك أن تفصلني.
هيرست : ولم لا؟
بریجز: لأنني سأرفض الرحيل.
هيرست : إذا قلت لك ارحل، فسوف ترحل … أعطني الزجاجة!

(صمت.)

(هيرست يوجه الكلام إلى سبونر.)

هيرست : أحضر الزجاجة.

(سبونر يتجه إلى البار. بريجز لا يتحرك. سبونر يمسك زجاجة الويسكي ويسير إلى هيرست. هيرست الويسكي ويضع الزجاجة إلى جواره.)

بریجز: سأشرب كأسًا أنا أيضًا.

(بريجز يأخذ كأسًا إلى حيث وُضعت الزجاجة، فيصب منها كأسًا ويشرب.)

هيرست : يا للصفاقة! ومع ذلك فلا يهم … لقد اتسم دائمًا بسوء الخلق. هل تمطر الآن؟ غالبًا ما تمطر السماء في شهر أغسطس في إنجلترا. هل نظرت قط إلى القنوات التي يحفرها المطر في الريف الإنجليزي؟ تحت الأغصان الصغيرة المتساقطة وأوراق الأشجار الميتة، ستجد كرات تنس أسود لونها … كانت الفتيات قد ألقت بها حتى تحضرها الكلاب … أو ألقاها الأطفال بعضهم للبعض، ثم تدحرجت فوقعت في القنوات. ضاعت الكرات هناك … نسيها أصحابها وتصوروا أنها ماتت … منذ قرون!

(فوستر يدخل الغرفة.)

فوستر : حان موعد مسيرتك الصباحية.

(وقفة.)

قلت إن موعد مسيرتك الصباحية قد حان.
هيرست : مسيرتي الصباحية؟ لا … لا … بكل أسف ليس لدي وقت للمشي هذا الصباح.
فوستر : حان موعد سيرك فوق الربوة.
هيرست : لا يمكن … لا أستطيع فأنا مشغول جدًّا، لدي عمل كثير.
فوستر : ماذا تشرب؟
سبونر : الشراب العظيم الذي يجرح.
هيرست (إلى سبونر) : يا إلهي! لم يقدم أحد إليك شرابًا. أين كأسك؟
سبونر : شكرًا! لا أحب أن أغير نوع المشروب، لا أحب الخلط.
هيرست : الخلط؟
سبونر : كنت أشرب شمبانيا.
هيرست : طبعًا … طبعًا … نسيت. ألبرت، علينا بزجاجة أخرى.
بريجز : بكل سرور.

(بريجز يخرج.)

هيرست : لا أستطيع! لا يمكن … لدي عمل كثير … لا بد أن أكتب مقالًا في النقد … لا بد أن نفحص الدوسيهات لنرى الموضوع الذي طُلب مني أن أقيمه تقييمًا نقديًّا … يبدو أنني نسيته.
سبونر : يمكنني أن أساعدك في هذا الصدد.
هيرست : حقًّا؟
سبونر : لسببين؛ أولًا: لأن لي أنف ابن عرس … وأستطيع أن أستخرج أي موضوع من الدوسيهات … وثانيًا: لأنني كتبت عددًا من المقالات النقدية … ألديك سكرتير؟
فوستر : أنا سكرتيره.
سبونر : العمل بالسكرتارية لا يتناسب مع مواهبك الكبيرة، وينبغي على الشعراء الشبان أن يقوموا برحلات. الرحيل والمعاناة. يمكنك أن تتطوع في البحرية مثلًا وترى البحر. الرحيل والاستكشاف.
فوستر : سبق لي أن عملت بالبحر، لقد رحلت إلى أماكن شتی وعُدت. وأنا أعمل الآن حيث يحتاجني الناس.

(بريجز يدخل ومعه الشمبانيا. يقف لدى الباب ويستمع.)

سبونر (إلى هيرست) : ذكرت ألبوم صور. يمكنني أن أتصفحه معك. أستطيع أن أذكر أسماء الوجوه التي فيه … نستطيع أن نُخرج الأموات من رقادهم. أجل … أنا واثق أنني يمكن أن أقدم مساعدة كبيرة في هذا المجال.
فوستر : هذه وجوه لا أسماء لها يا صديقي.

(بريجز يدخل الغرفة، ويضع الشمبانييرة على المنضدة.)

بريجز : وسيظلون إلى الأبد دون أسماء.
هيرست : ثمة مناطق في فؤادي لا يستطيع كائن حي … لا يستطيع كائن حي … لا يستطيع … ولا يمكنه قط أن ينفذ إليها.

(بريجز يفتح زجاجة الشمبانيا، ويصب كأسًا يقدمه إلى سبونر.)

بريجز : تفضل … في نضارة الأقاحي (إلى هيرست) تود فتيلًا یا سیدي؟
هيرست : کلا … كلا … سأظل على ما أنا عليه.
بريجز : هل تسمح لي بمشاركة الأستاذ صديق یا سیدي؟
هيرست : بطبيعة الحال.
بريجز (إلى فوستر) : أين كأسك؟
فوستر : لا أريد.
هيرست : ماذا بك؟ كن اجتماعيًّا، اختلط وشارك المجتمع الذي ارتبطت به. الذي ارتبطت به بروابط من فولاذ … اختلط.

(بريجز يصب كأسًا، ويقدمها إلى فوستر.)

فوستر : ما زلنا في الصباح … لم يحن حتى وقت الغداء.
بريجز : أفضل وقت لشرب الشمبانيا هو … قبل الغداء — أيها «البقف»!
فوستر : لا تقل لي يا «بقف»!
هيرست : نحن الثلاثة — وإياكم أن تنسوا — أصدقاء قدماء.
بريجز : ولهذا قلت له يا «بقف».
فوستر (إلى بريجز) : اخرس.

(هيرست يرفع كأسه.)

هيرست : فلنشرب نخب حظنا السعيد …

(همهمات: في صحتك.)

(يشرب الجميع، هيرست ينظر إلى النافذة.)

هيرست : الضوء … هناك … يخبو … لا يكاد يبدو ضوء النهار. إنه يتدهور بسرعة. شيء مقزز! فلنُرخِ الستائر ونضيء المصابيح.

(بريجز يرخي الستائر، ويضيء المصابيح.)

هيرست : آه … استرحت الآن.

(وقفة.)

يا للهناء!

(وقفة.)

سأقرر اليوم أمرًا. ثمة أمور لا بد أن أحسمها اليوم.
سبونر : سوف أساعدك.
فوستر : كنت في «بالي» عندما أرسلوا في طلبي، لم يكن ثمة ما يُجبرني على الرحيل، لم يكن ثمة ما يضطرني إلى المجيء هنا؛ ولكنني أحسست أنني مطلوب، لم يكن هناك مفر. لم يكن ثمة ما يجبرني على الرحيل من تلك الجزيرة الجميلة؛ ولكنني لم أستطع مقاومة الإغراء. كنت يافعًا فحسب … لم يكن لي اسم ولا كيان. وقيل لي إن كاتبًا شهيرًا يطلبني … يريدني أن أصبح سكرتيره، سائقه، مدبر منزله، وكاتبًا يملي عليه. کيف عرف بوجودي؟ من قال له؟
سبونر : اتخذ خطوة تتسم بالجرأة وقوة التصور. قليل من يستطيع أن يفعل ذلك. وقليل من يفعلها. وقد فعلها. ولهذا فإن الله يحبه.
بريجز : أنا الذي رشحتك. كنت وما أزال أحب الشباب لأنك تستطيع أن تنتفع بشبابك، ولكن يجب أن يكون الشباب صريحًا وأمينًا. لم تستطع أن تنتفع به. لقد رشحتك. كنت مفتوح العقل وأمامك الدنيا كلها.
فوستر : أجد العمل مثمرًا … فأنا على اتصال بذكاء من نوع خاص جدًّا، وأجد في هذا الذكاء غذاءً للعقل، ولقد غذاني ووسع آفاقي. ولهذا فهو ذكاء يستحق أن أخدمه. وأجد أن ما يتطلبه مني أمر طبيعي، ليس هذا فحسب؛ إن متطلباته مشروعة. فأنا لا أنتهك أي قانون. راحة للنفس. كان يمكن بسهولة أن أعمل عملًا آخر أخالف فيه القانون؛ ولكن عملي هذا يعطيني إحساسًا بالكرامة والشرف. إحساسي لا يتركني قط … بأنني أخدم قضية.

(يشير إلى بريجز.)

إنه شریکي … إنه الذي رشحني … لقد تعلمت الكثير منه … لقد كان وما يزال دليلي … إنه أكثر من عرفتُ ابتعادًا عن الأنانية … دعُوه يحدثكم … فليتحدث.
بريجز : لمن؟
فوستر : ماذا؟
بريجز : أتحدث لمن؟

(فوستر ينظر إلى سبونر.)

فوستر : إلى … هذا.
بریجز: إلى هذا؟ إلى جامع القمامة؟ عامل المراحيض؟ إلى بائع الروبابيكيا؟ ما هذا الهذر الذي تقوله؟ انظر إليه! إنه يعبئ عصير البؤس في زجاجات، ويخبز فطائر الذل في الأفران … لماذا تتحدث إليه أصلًا؟!
هيرست : صحيح … صحيح؛ ولكن في جوهره رجل صالح … عرفته في أكسفورد.

(صمت.)

سبونر (إلى هيرست) : دعني أسكن معك، وأعمل سكرتيرًا لك.
هيرست : هل ثَم ذبابة كبيرة هنا؟ إنني أسمع طنينًا.
سبونر : لا.
هيرست : هل قلت لا؟
سبونر : نعم.

(وقفة.)

أرجوك أن تعطيني هذه الوظيفة! لوكنت أرتدي حلة مثل حلتك، لرأيتني في ضوء مختلف. إنني ممتاز في التعامل مع التجار، والباعة المتجولين، ورجال الدعاية، والراهبات … يمكن أن أصمت إذا طُلِب مني ذلك، أو إذا دعت الحاجة يمكن أن أكون هشًّا بشًّا … ويمكنني أن أناقش أي موضوع تختاره؛ مستقبل الأولاد، الزهور البرية، أو الألعاب الأوليمبية … صحيح أن الدهر قد أزرى بي؛ ولكن خیالي وذكائي لم تشُبْهما شائبة، ولم تلِن إرادتي على العمل، وما زلت قادرًا على تحمل أخطر وأثقل المسئوليات. ومن ناحية المزاج والطبع فيمكنني أن أتشكل حسبما تريد؛ فإن شخصيتي في جوهرها تتسم بالتواضع. أنا رجل أمين وشريف، زد على ذلك أنني لم أتخط سن التعلم، ومهارتي في الطبخ لا بأس بها. أميل إلى فنون الطهي الفرنسية؛ ولكن الأطباق العادية لا تستعصي عليَّ، وعيني قادرة على اكتشاف التراب في أي مكان، فإذا توليت المطبخ بلغ درجة نادرة من الكمال. وأنا رقيق في معاملة الأشياء فيمكن أن أُعنى عناية بالغة بأطقم الفضيات، وأستطيع لعب الشطرنج، والبلياردو، والبيانو. يمكنني أن أعزف لك قطعة من شوبان … ويمكنني أن أقرأ لك آيات من الإنجيل. أنا رفيق حسن.

(وقفة.)

لا بد أن أعترف أن حياتي العملية اتسمت بالتقلب والتنوع. كنت أحد العناصر الذهبية في جيلي؛ ولكن شيئًا ما حدث! لا أعرف ما هو، ومع ذلك فأنا لا أزال أنا، وقد عشت وتغلبت على الإهانة والحرمان. إنني أنا. إنني أقدم نفسي، ليس بمهانة؛ ولكن بكبرياء عريق. إنني آتي إليك كمحارب، وسوف يسعدني أن أخدمك باعتبارك سیدي! إنني أنحني على ركبتي أمام فخامتك، وأتمتع بالورع والحكمة والكرم والخير. وإذا رفضت هذه الخصال فسوف تخسر كثيرًا. إن من واجبي، باعتباري سيدًا مهذبًا، أن أظل لطيف المعشر جسورًا عاقلًا صموتًا شهمًا في تنفيذي لهذه المهمة أو تلك. ومعنى ذلك أن تظل حياتك الشخصية خاصة بك وسرًّا من أسرارك، ومع ذلك فلن أقبل أن يسيء إليك أحد أقل إساءة. وسيكون سَيْفي على استعداد لتمزيق كل أشكال القوى الشريرة التي تتآمر لتدميرك، وسوف أرى أن واجبي هو أن أظل سمح الوجه سليم الضمير. وسأقبل أن أنازل الموت نفسه من أجلك؛ بل إنني لأصارعه من أجلك بكل جسارة؛ سواء كان ذلك في حومة الوغى، أو في غرفة النوم … إنني فارسك. وإنني لأفضل أن أدفن نفسي في قبر من الشرف على أن أرى الأعداء — محليين أو أجانب — يلطخون كرامتك … إنني تحت (صمت.) أمرك.

(هيرست ما يزال جالسًا لا يتحرك. فوستر وبريجز واقفان دون حراك.)

سبونر : قبل أن تجيب عليَّ، أود أن أقول شيئًا آخر: كثيرًا ما أنظم اجتماعات لقراءة الشعر في غرفة في الطابق الأول من حانة معينة، ويغشاها الكثير عادةً، خاصة من الشباب. ويسعدني أن أخصص لك أمسية كاملة، يمكنك أن تقرأ شعرك على جمهور مهتم ومثقف، جمهور يفيض استعدادًا للحماس والانفعال. أضمن لك امتلاء الصالة بالجمهور، وسيسعدني أن أخصص لك أجرًا مباشرًا، أو — إذا شئت — نسبة معينة من الأرباح. دعني أؤكد لك أن الشباب سوف يتجمهر لسماعك، وسوف تتشرف اللجنة باستضافتك شرفًا كبيرًا. وسيقوم حجة في إنتاجك الشعري بتعريف الجمهور بك — وربما قمت أنا بذاك — وبعد الاجتماع — الذي سينجح دون شكٍّ نجاحًا باهرًا — سنهبط إلى البار في الدور الأرضي؛ حيث سيقوم صاحب الحانة — وهو صديق لي — بتكريمك والترحيب بك! وإلى جانب الحانة مطعم هندي رفيع المستوى، سوف تستضيفك اللجنة فيه. إن وجهك نادرًا ما يُرى، وكلماتك التي يعرفها الجميع نادرًا ما تُسمع، خاصة إذا ألقيتها أنت على الجمهور بثقة … ونبرات المؤلف نفسه … ومن ثَمَّ يمكن لهذا اللقاء أن يصبح ذا صبغة جدٍّ نادرة؛ بل أن يصبح فريدًا من نوعه. أرجوك أن تتأمل جادًّا الدلالات الاجتماعية لهذه المغامرة. سوف تكون موجودًا بشحمك ولحمك. سوف تقابل الشباب ويقابلك الشباب؛ والشيوخ أيضًا الذين كادوا أن يفقدوا الأمل. سوف يتركون بيوتهم بهذه المناسبة ويحضرون. لن يضايقك الصحفيون. وأتعهد أن أتولى بنفسي إبعادهم … إلا إذا وافقت أنت نفسك على ستِّ صور تذكارية، لا أكثر. وإلا إذا كنت تريد حقًّا في تلك المناسبة أن تتحدث. أو إذا أردت أن تعقِد مؤتمرًا صحفيًّا صغيرًا — كما تقول — بعد الاجتماع وقبل تناول العشاء، وهكذا تستطيع أن تتحدث إلى العالم من خلال الصحافة، ولكن هذا أمر ثانوي وليس من شروط اللقاء. فلنقنع نحن بفكرة اللقاء الوثيق في جوٍّ لطيف وخلاق. ولنرتب أمسية يذكرها كل من يشترك فيها.

(صمت.)

هيرست : فلنغير الموضوع.

(وقفة.)

للمرة الأخيرة.

(وقفة.)

ماذا كنت أقول؟
فوستر : قلت إنك ستغير الموضوع للمرة الأخيرة.
هيرست : وما معنى هذا؟
فوستر : معناه أنك لن تغير الموضوع بعد ذلك أبدًا.
هيرست : أبدًا؟
فوستر : أبدًا.
هيرست : أبدًا؟
فوستر : قلت «للمرة الأخيرة».
هيرست : ولكن ما معنى هذا؟ ماذا يعني؟
فوستر : یعني «أبدًا». يعني أن الموضوع قد تغير إلى الأبد، وللمرة الأخيرة، وإلى الأبد، فإذا كان الموضوع هو الشتاء مثلًا، فسوف يكون شتاءً إلى الأبد.
هيرست : وهل الموضوع الشتاء؟
فوستر : الموضوع الآن هو الشتاء، ومن ثَم سيظل الشتاء إلى الأبد.
بريجز : وللمرة الأخيرة.
فوستر : أي إنه سيظل كذلك إلى الأبد … فإذا كان الموضوع هو الشتاء مثلًا فلن يأتي الربيع أبدًا.
هيرست : ولكن دعوني أسألكم، لا بد أن أسال.
فوستر : لن يأتي الصيف أبدًا.
بريجز : الأشجار.
فوستر : لن تورق أبدًا!
هيرست : لا بد أن أسألكم.
بريجز : والثلج.
فوستر : سينزل إلى الأبد؛ لأنك غيرت الموضوع … لآخر مرة.
هيرست : ولكن؛ هل غيرنا الموضوع حقًّا؟ هذا هو سؤالي. هل غيرته أنا؟ هل غيرنا الموضوع؟
فوستر : طبعًا. اقفل الموضوع السابق.
هيرست : وماذا كان الموضوع السابق؟
فوستر : نسيناه … لأنك غيرته.
هيرست : وما هو الموضوع الحالي؟
فوستر : استحالة تغيير الموضوع؛ لأن الموضوع قد سبق تغييره.
بريجز : للمرة الأخيرة.
فوستر : بحيث لن يحدث شيء أبدًا بعد الآن. سوف تظل تجلس هنا إلى الأبد.
بريجز : ولكن … ليس وحدك.
فوستر : لا … سنكون معك. أنا وبريجز.

(وقفة.)

هيرست : لقد جاء الليل.
فوستر : وسوف يظل هنا إلى الأبد.
بریجز: لأن الموضوع.
فوستر : لا يمكن تغييره.

(صمت.)

هيرست : ولكنني أسمع أصوات طيور. ألا تسمعونها؟ أصوات لم أسمعها من قبل. أسمعها كما كانت في الماضي — عندما كنت شابًّا — رغم أنني لم أسمعها في ذلك الوقت، رغم أنها كانت تملأ الهواء من حولنا آنذاك.

(وقفة.)

نعم. صحيح. إنني أسير نحو بحيرة. يتبعني شخص ما من خلال الأشجار. غبت عن نظره بسهولة. أرى جثة في الماء، تطفو على السطح. أنفعل. أنظر وأتأمل، فأرى أنني كنت مخطئًا، لا شيء في الماء. أقول في نفسي إنني رأيت جسدًا يغرق؛ ولكنني كنت مخطئًا فلا شيء هناك.

(صمت.)

سبونر : لا … إنك في عزلة تامة. لا تتحرك أبدًا، ولا تتغير أبدًا، ولا تتقدم في السن أبدًا؛ بل تظل إلى الأبد صامتة ويكسوها الجليد.

(صمت.)

هيرست : فلأشرب نخب هذا.

(يشرب.)

(إظلام بطيء.)
١  هذه الفقرة تشتمل على اصلاحات خاصة بلعبة الكريكيت الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤