الفصل الخامس

وصول البروتستانت إلى الشرق واتساع الجبهة

أبرشية حلب (١٧٢٩–١٧٦٦)

وعاد جراسيموس من المنفى في نحو السنة ١٧٢٩. وكان يبطن الكثلكة فيجتذب إليها من استطاع سرًّا ويرفع اسم سلفسترس علنًا ويقدم له «النورية والعوايد». ثم علم الكاثوليكيون أن رجلًا حلبيًّا مسيحيًّا يقال له المنصوري دخل في دين الإسلام في الآستانة وأصبح طبيبًا لدى الباب الهمايوني، وعلموا أن المنصوري هو أخو الراهب ميخائيل الحكيم البلمندي، فاستقدموا ميخائيل إليهم وأكرهوا جراسيموس متروبوليت حلب وصديقه أغناطيوس متروبوليت حمص على سيامة ميخائيل أسقفًا على حلب. وكان أغناطيوس ممن يبطن الكثلكة أيضًا، فسام هذان الأسقفان ميخائيل أسقفًا باسم مكسيموس. وكانوا قد كتبوا إلى المنصوري في فصل أبرشية حلب عن الكرسي الأنطاكي وأن يكون مطرانها مستقلًّا بنفسه يدفع مالًا إلى الدولة كأحد البطاركة، فبادر المنصوري أخو مكسيموس إلى إجابة طلبهم، واستصدر أوامر سلطانية سامية بفصل مطرانية حلب واستقلالها على أن تؤدي إلى الباب العالي في كل سنة مائتين وخمسين غرشًا وستين غرشًا للوزير الأعظم والدفتردار، وأرسل الأوامر باسم أخيه. ولما تم لهم ذلك أرسلوا جراسيموس إلى لبنان، فجاء وأقام بدير مارِ ميخائيل، وأجروا له نفقة حينًا من الزمن ثم قطعوها عنه، فاغتاظ واغتمَّ وأَلَمَّ به مرض في ركبتيه، فوصف له رهبان الدير نطولًا من مغلي بعض العقاقير، وجعلوا فيه رجليه فصاح: لقد احترقت! ومات لساعته. ولما صار للحلبيين أسقف منهم جاهروا بمذهبهم وأظهروا قسوسهم، وشرعوا في اضطهاد أبناء الكنيسة، فمن هؤلاء من فر نازحًا ومنهم من بقي مستترًا في بيته.١
وجاء في تقرير الأب سيغوران Seguran اليسوعي المعاصر أنه بعد إفراز أبرشية حلب على هذا الوجه في الثالث عشر من نيسان سنة ١٧٣٠ وبعد دفع خمسة وأربعين كيسًا لهذه الغاية نجح سلفسترس في نقض هذا القرار في السنة ١٧٣٢، وأرسل وكيلًا عنه في ٢٠ تموز سنة ١٧٣٣ حبيبًا الأعور. ففر مكسيموس إلى جبل لبنان، فأنفق اليسوعيون ثمانية آلاف وخمسمائة غرش وجددوا الأفراز بواسطة والي حلب وقاضيها بعد أن دفعوا ثانية سبعة آلاف وخمسمائة غرش، فعاد مكسيموس إلى الكرسي في السنة ١٧٣٤. وكلَّ سلفسترس وعدل عن المقاومة اثنتي عشرة سنة، «ثم تحرك كيرلس فغضب سلفسترس» فأرسل وكيلًا يضبط الكنيسة وأمرًا بنفي ستة من وجوه الطائفة، «فقاومناه وأرشينا ومنعناه وتكلفنا مقدار عشرة آلاف غرش.» فأرسل جناديوس مطرانًا على حلب، فوصل جناديوس في رابع العنصرة سنة ١٧٤٦ ومعه جوقدار الصدر الأعظم وأوامر بضبط الكنيسة وإرسال اثني عشر كاهنًا ووجيهًا إلى الآستانة، «فوقع الهرب وكبس البيوت وضرب العصي إلى حد الألف والإشراف على الموت تحت الضرب، فوزنَّا إلى جوقدار الوزير ٧٥٠٠ غرش وإلى حضرة الباشا ٧٥٠٠ ثم ٢٥٠٠. وبوسيلة هذه المصارف والرشوات صرنا نقدس بهياكل خصوصية من غير مشاركته مقدار سنة. وهدد سلفسترس جناديوس فهرب من حلب، فأخرجنا الكهنة المشاقين من الكنيسة وتسلمناها فدفعنا ١٢٥٠٠ غرش ما عدا الرشوات عند الأبواب، وصرفنا على عرضحال إلى الآستانة ٨٥٠٠ غرش ولأجل بيورلدي في حلب ٥٠٠٠ غرش، ولأجل الصلاة عند الإفرنج ٥٠٠٠ غرش. ثم أرسلنا وكيلًا إلى الآستانة لفرز المطرانية باسم السيد مكسيموس وفوضناه بإنفاق ما يريد. وقبل وصوله جاء ابن ديب وكيلًا من قِبل سلفسترس فقبض على ثلاثة من الكهنة وثلاثة من العوام وتسلم الكنيسة في السنة ١٧٤٩. ثم وُفِّقنا إلى من رأف من أرباب الدولة فأخرج لنا براءة سلطانية بتجديد الأفراز، ووصلت هذه البراءة في التاسع من تشرين الأول سنة ١٧٤٩، وتكلفنا على تسجيلها في السراي والمحكمة ١٢٥٠٠ غرش، فيكون جملة الذي وزناه من استيلاء سلفسترس إلى هذه الواقعة ٣٢٢٧٥٥ غرشًا. تحريرًا في ٧ أيار سنة ١٧٥٠».
وفي اليوم السادس عشر من شهر تشرين الثاني سنة ١٧٥٠ وصل صفرونيوس «متجلببًا بشعار الرياء والورع المصطنع»، وأظهر انشقاقه وأكد أنه لن يقبل أحدًا يشاركه في قداسة ما لم يستفهم منه ويجادله في حقائق إيمانه، وتكلفنا على تسجيل براءته خوفًا من ضرره ٣٥٠٠ غرش. وفي الثاني من نيسان سنة ١٧٥٢ حبس الباشا جميع الكهنة والشمامسة، ورثى حضرة المُلا والأعيان وأكابر البلدة لحالتنا وأمروا أن نعرض حالنا لدى الشرع الشريف في أثناء غياب الباشا في الجردة، ففعلنا فحكم المُلا على صفرونيوس وقسوسه وحبسه في القلاية وحبس القسوس في الحبس العام في باب قنسرين، «فوزنا في هذه الدعوى ٧٥٠٠ غرش» وتسلمنا الكنيسة في ٢٤ أيلول سنة ١٧٥٢. وفي اليوم الثامن من تموز سنة ١٧٥٤ جددنا براءة إلى مطراننا مكسيموس فوزنا فوق الستةِ آلاف غرش خمسةَ عشر ألف غرش لتسجيلها في حلب. وجاء مكسيموس في ١٥ تشرين الأول سنة ١٧٥٤ فاستقام عندنا مدة، ثم أخرجوا براءة لصفرونيوس وردت في ٢٩ تشرين الأول سنة ١٧٥٦ فدفعنا من تكاليف هذه البراءة أربعة آلاف غرش. وقبضوا على سيدنا كير مكسيموس ونفَوه إلى قلعة أدنة في ٨ تشرين الثاني سنة ١٧٥٦، ثم عاد إلى حلب في ١١ نيسان سنة ١٧٥٧. وطلبنا تجديد أفراز المطرانية ولكن من الطولة والخوف الذي اعترى سيدنا فرَّ إلى لبنان من أول تشرين الثاني سنة ١٧٥٨. وجاءت براءة الأفراز، ولكن سيدنا لم يرجع. وما مرَّ برهة من الزمان حتى تجددت براءة باسم المطران فيليمون فدخل حلب في ٥ أيار سنة ١٨٥٨.٢
وتتفق رواية المؤرخ المجهول الأرثوذكسي وما جاء في تقرير الأب اليسوعي في الخطوط الكبرى، ولكنها تذكر لجوء الكاثوليكيين إلى الإهانة والرشق بالحجارة والشتم وما إلى ذلك من أعمال غفل عنها صاحب التقرير اليسوعي. وأهم من هذا وذاك قوله إن الطبيب أثناسي الذي رافق الوزير راغب باشا والي حلب مدة ولايته نقل إلى المجمع القسطنطيني ما شاهده من الفوضى في كنيسة حلب، فأجابه هذا المجمع: «وما عسانا نحن أن نصنع إذا كان بطريركها قد تخلى عنها، أما إذا وجهها لنا نظرنا لعلنا نستطيع أن نصلح شئونها»، فكتب أثناسي إلى البطريرك سلفسترس فوهب أبرشية حلب إلى الكرسي القسطنطيني. فرفع البطريرك القسطنطيني الأمر إلى الباب العالي وطلب إلحاق حلب بأبرشيته، وأن يؤدي هو الأموال المفروضة عليها فأجابوه إلى ذلك وأصدروا له أمرًا به.٣

خضوع حلب للكرسي القسطنطيني

وفي السادس من تشرين الثاني حسابًا شرقيًّا سنة ١٧٥٧ اتخذ المجمع القسطنطيني قرارًا ضمَّ به أبرشية حلب إلى أبرشيات الكرسي القسطنطيني. وأهم ما جاء في هذا القرار أن سلفسترس اقترح هذا الإلحاق من تلقاء نفسه نظرًا للصعوبات التي لقيها في ضبط شئون هذه الأبرشية، وأن واجبات الكرسي القسطنطيني قضت بحماية جميع الجاليات المسيحية والعناية بشئونها، وأن الامتيازات التي تمتع بها هذا الكرسي خوَّلته الإشراف على شئون جميع المسيحيين للإصلاح والتعضيد. ومما جاء في هذا القرار التاريخي خبر ترشيح الأب الراهب فيليمون بروتوسنكلوس أبرشية دركون Derkon لأسقفية حلب.٤

البطريرك فيليمون (١٧٦٦-١٧٦٧)

وبعد انتقال السيد سلفسترس تذاكر الأساقفة والوجهاء بشأن انتداب خليفة له، وكان وقتئذٍ في القسطنطينية حبر جليل تميَّز بالتقوى والفضيلة والعلم والدراية من أبناء الكرسي الأنطاكي هو السيد صفرونيوس (الكلزلي). وكان هذا السيد قد تربَّى منذ نعومة أظفاره في العلوم الدينية واشتهر بتضلعه في اللغات العربية واليونانية والتركية. وكان يجيد الخطابة والوعظ في هذه اللغات الثلاث، وكان قد انتدب مطرانًا على عكة ثم مطرانًا بالوكالة على حلب. وعند وفاة سلفسترس كان قد انتقل إلى القسطنطينية واستقام فيها، فكتب كثيرون من الشعب الأنطاكي والمطارنة إلى البطريرك المسكوني وإلى متاوس البطريرك الإسكندري وبرثانيوس البطريرك الأوروشليمي يلتمسون إقناع السيد صفرونيوس بقبول السدة الأنطاكية، فلم يقبل صفرونيوس «وآثر الإخلاد إلى الراحة والسكون.»٥ ولم يرَ البطاركة والمجمع القسطنطيني أن يبقى الكرسي الأنطاكي «مهملًا بلا رئيس كالجسد الخالي من الرأس والروح.» فعقد البطاركة الثلاثة ومجمع رؤساء الكهنة القسطنطيني مجمعًا لانتقاء من يصلح لرعاية كنيسة أنطاكية، فوقع انتخابهم على فيليمون «لكونه مجربًا في رتبة رئاسة الكهنوت متصفًا بالمناقب الفاضلة السنِية معروفًا بحسن العبادة يحكم ويقضي بحسب قانون الإنجيل والناموس أمينًا بالقضايا الكنيسة؛ ولذلك رقي إلى السدة البطريركية وشُرطن في كنيسة المسيح الكبرى المقدسة وصار بطريركًا قانونيًّا وراعيًا روحانيًّا، مقدمًا على مطارنة كنيسة أنطاكية سيدًا حقيقيًّا وشرعيًّا، باقتبال هذه النعمة العظيمة والموهبة الكبرى.» وكتب برثانيوس البطريرك الأوروشليمي مثل هذا وحضَّ الإكليروس والشعب الأنطاكيين على استقبال فيليمون بفرح وعلى اعتباره راعيًا وبطريركًا، «وهو يسلك معكم ومع الجميع بمحبة وسلامة وهدوء كما سلك سابقًا، والرب الإله الناهض من القبر لثلاثة أيام يبارككم أنتم ونساؤكم وأولادكم، ويوفقكم بجميع أعمالكم نفسًا وجسدًا، ويسبغ عليكم أتم البركات السماوية.»٦
وفي أواخر تشرين الثاني خرج فيليمون من الآستانة فجاء بيروت وأقام فيها بضعة أيام، ثم ذهب إلى دمشق فدخلها في الثامن من كانون الأول سنة ١٧٦٦، فأمَّ الكنيسة المريمية وصلَّى وبارك. وفي اليوم التالي قابل المتسلم والقاضي فقرئت براءته وسجلت وعاد إلى البطريركية، ثم استدعى المطارنة فلبَّى الدعوة سبعة واشتركوا معه في صلوات عيد الميلاد مع عدد كبير من الكهنة والشمامسة، «ولكن يا حيف ثم يا حيف ما كمل ذلك اليوم؛ لأنه من بعد القداس انطلق البطريرك والمطارنة إلى المائدة وأكلوا لحومًا ودجاجًا محشيًّا»، وشاركهم الرهبان في ذلك، وبلغ الخبر المسيحيين الأرثوذكسيين «فانغموا جدًّا ووقع البلبال من هذا الحال؛ لأنه سابقًا لم تكن العادة أن يأكلوا لحومًا رهبان الروم جهارًا.»٧

مجمع دمشق (١٧٦٧)

وقبل خروج فيليمون من دمشق لتفقد شئون الرعايا عقد مجمعًا مع سبعة مطارنة واتخذ القرارات التالية:

القانون الأول: انتداب رئيس الكهنة يكون برأي المجمع وليس برأي البطريرك فقط. القانون الثاني: إذا اتفق وقدم عرض على رئيس كهنة فمن غير فحص المجمع لا يدان. القانون الثالث: في غياب البطريرك لا يصير وكيل في دمشق إلا بمعرفة المجمع؛ أي لا يصير وكيل للبطريرك رجل عامي. القانون الرابع: المختصين في كل الأبرشيات فليكونوا طائعين لرئيس كهنتهم كما ينبغي. القانون الخامس: السيمونيا لا توخذ في الشرطونيات. القانون السادس: ينبغي لكل رئيس كهنة أن يعمل وصية في متروكاته ويوهب الجزء الأكبر للكرسي. القانون السابع: حلل رياسة الكهنوت وفرش الأرض وطقم المطبخ فليبقوا للمطران بعد وفاة مطرانها؛ أي لمطران البلد والباقي يعطى للكرسي. القانون الثامن: عرض كنائسي يجب أن يصير بعلم المجمع وليس برأي واحد. القانون التاسع: بعد نياح البطريرك الأنطاكي الوقتي لا يصير بطريرك آخر بغير فحص المجمع؛ أي رؤساء كهنة الكرسي وإرادتهم وإذا صار فلا يقبل. القانون العاشر: البطريرك الموجود في الكرسي الأنطاكي ليس له أن يتنزل بإرادته فقط، بل بإرادة المجمع. القانون الحادي عشر: مدخول الكرسي ومصروفه جميعه يتحرر في دفتر بخوف الله وبضمير نقي ولا يصير فيه خلل.

وسطِّرت هذه القوانين ووقَّع عليها جميع مطارنة الكرسي الأنطاكي وأُرسلت إلى القسطنطينية فوقَّع عليها البطريرك القسطنطيني السيد صموئيل وقُبلت في الكنيسة العظمى، وأجاب البطريرك القسطنطيني بقبولها.٨

التطواف الرعائي والوفاة (١٧٦٧)

وبقي فيليمون في دمشق ثلاثة أشهر وجعل الخوري ميخائيل بريك وكيلًا على الكنيسة وخرج يتفقد شئون الأبرشيات، ووصل إلى صيدنايا ومعه «وكيله الشرير جرجس، فسلب الدير وعرَّى الطاقة الشريفة، وقام إلى معلولا وأراد أن يبلص النصارى الكاثوليكيين فقاموا عليه وأخرجوه من عندهم بإهانة. وأرادوا أن يقتلوا جريس الوكيل، فعاد جريس إلى دمشق واشتكى على نصارى معلولا وجرَّمهم وأخيرًا صار قتله على يد أستاذهم.»٩ أما البطريرك فإنه تابع السير فزار حمص وحماة ومنها إلى حلب فوصلها في السبت الخامس من الصوم. وفي يوم سبت إلِعَازار شرطن أحد شمامسته نيوفيطوس قسًّا، وفي اليوم التالي في أحد الشعانين رقَّاه إلى مطرانية حلب وكان قد تذاكر بشأنه مع البطريرك القسطنطيني، وأقام في حلب إلى خميس الصعود. ثم خرج منها إلى إدلب فاللاذقية، فأقام فيها مدة قصيرة وتُوفي يوم الخميس في الخامس من تموز ودفن فيها، وقيل: إن العذراء أماتته سريعًا؛ لأنه سلب ديرها وعرى طاقة الشاغورة من زينتها. وكان مكاريوس (صدقة) مطران صور وصيدا قد حاول في السنة ١٧٦٤ أن يضبط مدخول الدير فأخذ مفتاح الطاقة من الرئيسة نمفيذورة وأعطاه لقسيس كان معه، فخرجت نار من الطاقة وأحرقت القلائد والمعلقات والقون.١٠

كنيسة بيروت (١٧٦٧)

وأنشأ الكاثوليكيون في بيروت أمطوشًا وكنيسة وسلموها إلى رهبانهم، وأراد الأرثوذكسيون أن يجددوا بناء كنيستهم؛ لأنها قديمة وضيقة فلم يوافق يوانيكيوس المتروبوليت على ذلك. ثم أرسله البطريرك سلفسترس بالميرون إلى قبرص، فانتهز الشعب البيروتي فرصة غياب المتروبوليت وهدموا الكنيسة ورسموها متسعة جدًّا وشرعوا في تجديد بنائها وأتموه سنة ١٧٦٧، ثم بدءوا بتركيب الأيقونسطاس والأمبون. وفي يوم الأحد الثاني من الصوم الكبير الواقع في الرابع من آذار سنة ١٧٦٧ بينما كان المطران يقدس في هيكل السيدة في بيت النساء والشعب كله في داخل الكنيسة سقطت قبة الكنيسة الوسطى وسُمع لها صوت كالصواعق، واندفع الشعب كبارًا وصغارًا طالبين الفرار فمات سبعة وثمانون. وعاد الشعب إلى تجديد البناء بإشراف المتقدم فيهم يونس نقولا فتم ذلك في السنة ١٧٧٢، ولم تقم كنيسة مثلها في البلاد العربية.١١

البطريرك دانيال (١٧٦٧–١٧٩١)

وبعد وفاة فيليمون اختلف الأساقفة فيمَن يقيمون خلفًا له، فاختار بعضهم يوانيكيوس متروبوليت بيروت، وأيَّد آخرون مكاريوس متروبوليت صور وصيدا وقالوا: إن سلفسترس كان قد انتدبه في آخر أيامه، ومال غيرهم إلى برثانيوس متروبوليت طرابلس واختار غيرهم غير هؤلاء.١٢ فكتب الأعيان بذلك كله إلى المجمع القسطنطيني فاتخذ هذا المجمع قرارًا بسيامة بابا دانيال بروتوسنكلوس البطريرك المسكوني بطريركًا على أنطاكية وذلك في اليوم السادس من آب سنة ١٧٦٧.
ومما جاء في هذا القرار التاريخي أن فيليمون خشي قبيل وفاته انطفاء نور الأرثوذكسية في كنيسة أنطاكية، فكتب ينتدب بابا دانيال لرئاسة هذه الكنيسة، وأن أعضاء المجمع المقدس القسطنطيني ذكروا أعمال «ذي الاسمين سيرافيم أو كيرلس»، فاستهولوا تكرار هذه الأعمال وإمكانية تهجم أحد المليتنين واستيلائه على الكرسي بالرشوة وتبذيره أموال الرعية، وأن كنيسة القسطنطينية رأت من واجبها أن تستعمل صلاحياتها المستمدة من النظام القديم الذي يخوِّلها بصفتها رأس الجميع حق العناية بالجميع والمحافظة على مصلحة الكل، فأقامت بناءً على اقتراح فيليمون كير دانيال البروتوسنكلوس العظيم بطريركًا على أنطاكية بموافقة كير أفرايم البطريرك الأوروشليمي.١٣

ووصل البطريرك الجديد إلى مركزه في دمشق في مطلع السنة ١٧٦٨ فزار الوزير وقدم له هدية فرحب به وأكرمه. وكان «قصير القامة واليد» شحيحًا ضنينًا قصير العنان قليل الخير متقاعسًا متراجعًا خافض الجناح متطامن النفس حريصًا يحب المال ويشره إلى كسبه. وأعظم من ذلك فإنه كان يدين بالفائدة فعرف ﺑ «البطريرك المرابي»، فشكاه الدمشقيون إلى صفرونيوس البطريرك المسكوني «فوقعت الشرور وقامت الضغون وتألفت الجمعيات.» وشكت دمشق بدورها من قلة الألفة وتقطعت أحزابًا وتفرقت في الرأي والهوى، فتدخل صفرونيوس في أواخر السنة ١٧٧٧.

كاتدرائية دمشق

وقام في جوار البطريركية آنئذٍ كنائس ثلاث: البرانية على اسم القديس كبريانوس والقديسة يوستينة، والجوانية وهي المريمية الكاتدرائية، والثالثة تحت الأرض على اسم القديس نقولاووس، وكان يدفن فيها البطاركة والمطارنة والكهنة قبل أن عادت مقبرة التل إلى ما كانت عليه.

وفي السنة ١٧٥٩ زُلزلت الأرض فتقوضت أركان المريمية، فسندت أقواسها وعلَّقت سقوفها وأَمَّها المؤمنون للعبادة. ثم أشرفت على الانهيار فصلوا في كنيسة القديس نقولاووس. وفي السنة ١٧٧٩ وافق الوزير محمد باشا العظم على الترميم فاستعان دانيال ببرنابا مطران صيدنايا وجدد بناء المريمية والبرانية ورفعا سقف كنيسة القديس نقولاووس.١٤ وعُني الخوري خريسطوفوروس المصابني المتوحد بدير القديس جاورجيوس في صيدنايا فأزاح الصخرة التي كانت في داخله واستبدل سقفه الخشبي بعقد حجري، فأصبح «نزهة للناظرين».١٥

فرنسة والكثلكة في الشرق

وجاء في التعليمات التي أعدتها حكومة لويس الخامس عشر إلى سفيرها الجديد في الآستانة الماركيز دي فيلنوف Villeneuve في الحادي عشر من آب سنة ١٧٢٨ أن لحكومة جلالته أهدافًا ثلاثة لنشر الإيمان في تركية: تنصير المسلمين، وهدي المشاقين، واقتلاع بذور الهرطقة. وجاء أيضًا أن أساقفة رومة حذروا المرسلين ونهوهم عن التبشير في الأوساط الإسلامية خشية وقوعهم تحت طائل الشرع الثقيل الوطأة. والروم والأرمن في هذه التعليمات يكرهون اللاتين ويضطهدون الكاثوليكيين، وحماية الكاثوليكيين واجبة إما باللجوء إلى السلطات العثمانية وإما باجتذاب رؤساء الكنائس، واللجوء إلى السلطات أمر دقيق مخطر. وأفضل من هذا أن يصار إلى اجتذاب رؤساء الكنائس اليونانية والأرمنية كأن يقال لهم: إن سلطتهم وطقوسهم لا تُمس، وإنه ليس للمرسلين أي هدف زمني وإن غايتهم إزاحة الحواجز التي تبعد الكنائس بعضها عن بعض لرفع منزلة النصارى في عيون المسلمين وتعظيم قدرهم.١٦
وما كاد هذا المركيز يستقر في منصبه في الآستانة حتى أمطره أساقفة الكاثوليك ورهبان الإفرنج وابلًا من الرسائل يستحثونه فيها على توطيد بطريركية كيرلس خدمة للكثلكة في الشرق. فتبصَّر في طلبهم وتقصَّى وأعاد النظر وتأمل، فوجد أن القوانين المرعية قضت بأن يرشِّح بطريركُ القسطنطينية لمنصب البطريرك الأنطاكي مَن رأى فيه الكفاءة فيوافق السلطان ويعترف. ثم وجد أيضًا أن الروم أغنى من الكاثوليك واللاتين، وأن نفوذهم في القسطنطينية أقوى، وأن الأرمن يناصرون الروم فيزيدونهم قوة؛ ولذلك كله رأى هذا السفير الإفرنسي أن مصلحة الكثلكة في الشرق قضت بإبعاد كيرلس عن مركز الرئاسة وإبعاد كل إكليريكي يشتهر بحبه لرومة وطاعته لها، وبتأييد الإكليريكيين الأرثوذكسيين المعتدلين في الرأي المتزنين في العمل، وبردع المرسلين عن غيِّهم وحبس عنانهم.١٧
وعاد المركيز السفير إلى معالجة الموضوع نفسه في السنة ١٧٤٠ فأعدَّ تقريرًا مطولًا في موضوع سياسة فرنسة الدينية ضمَّنه آراءه على ضوء اثنتي عشرة سنة من الخبرة في شئون الدولة العثمانية ورعاياها المسيحيين، فجاء رأيه بعيد الغور محكمًا، فهو يقول إنه ما فتئ يحض الرهبان المرسلين على تطبيق الآية: «باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم»؛ لأن ما يحيق بالمسيحيين من ضيم في ظل الأتراك العثمانيين إنما ينشأ عن مسيحيين آخرين يعاكسون إخوانهم فيشجعون الأتراك بتفرقهم على الظلم والتظلم، وإذا كانوا يتباغضون لاختلافهم في العقيدة، فإن تفرقهم ناجم عن تباغضهم أيضًا. وليس أفضل والحالة هذه من التحلي بالرفق والدعة والمحبة والحكمة، وعلى المرسلين أنفسهم أن يرفقوا ببعضهم أولًا ويتحابوا فيوفروا لسفراء جلالته شيئًا كثيرًا من الراحة وعدم الارتباك.١٨
ومما جاء في التقرير الذي أعده المركيز السفير سنة ١٧٤٠ أن الروم والسلطات العثمانية اعترضوا على إقامة المرسلين الرومانيين في المدن الخالية من التجار الإفرنسيين والقناصل، مدعين أن السبب الذي يبرر وجود هؤلاء الآباء هو القيام بالخدمات الروحية لهؤلاء التجار والقناصل. ويضيف السفير أنه إذا كانت المادة الأربعون من امتيازات السنة ١٦٧٣ ثبتت إقامة المرسلين حيث كانوا آنئذٍ فإن هذه الامتيازات نفسها تفرض على هؤلاء المرسلين «الانكفاء داخل حدود واجباتهم». وإن الأتراك والروم يفسرون هذا النص بأنه يوجب على المرسلين أن يحصروا ممارسة طقوسهم ضمن أوساطهم الخاصة وأوساط مواطنيهم، وأنه لا يجوز لهم أن يقبلوا رعايا السلطات في كنائسهم، ولا أن يزوروهم في بيوتهم أو أن يعلموا أطفالهم في مدارسهم لإخضاعهم إلى سلطة البابا. ثم يفيد المركيز أن الروم استصدروا في السنة ١٧٢٥ براءتين أوجبتا منع المرسلين من الدخول إلى بيوت المسيحيين رعايا السلطان، وإكراه الذين اتبعوا طقوس الإفرنج على العودة إلى دينهم وطرد المرسلين من الأماكن الخالية من القناصل. ويضيف السفير أن هذه الأوامر نُفِّذت في ديار بكر والموصل وبغداد وأرضروم، وأنها على وشك التنفيذ في دمشق، وأن ترجمان الباب العالي يوناني يسعى بما لديه من وسائل لحماية مصالح ملته.١٩

الروس والأرثوذكسية

وخطا الشعب الروسي في عهد بطرس الأكبر (١٦٨٩–١٧٢٥) خطوات واسعة في سبيل العمران، وتدرب الجيش على الطرق الحديثة. وكان البحر البلطي لا يزال في قبضة أسوج، والأسوج في يد الترك؛ فكان لا بد من مناوأة أسوج. وبعد حروب طويلة جاءت معاهدة نيستاد سنة ١٧٢١ فتنازلت أسوج لروسية عن ليفونية وأيثونية وأنجيرية وكريلية وغيرها. وأخذ الروس من الترك آزاق في السنة ١٦٩٦، ثم توقف تقدمهم لما نزل بجيشهم من هزيمة في السنة ١٧١١ عند نهر البروث، ولكن ما لبثت هذه الفترة أن انقضت وعادت روسية إلى مناوأة الترك طول القرن الثامن عشر بلا انقطاع.

وكان الشعب الروسي ولا يزال وديعًا مسالمًا في طبيعته لا يحب الاعتداء، ولكنه أرثوذكسي في الصميم لا يرى إلا الهدى، شديد التمسك بتقاليد الرسل وقرارات المجامع المسكونية فَخُور بتراث الآباء يأبى الضيم وتعصف في رأسه النخوة، فرافق النهضة العمرانية شعور بأن موسكو هي رومة الثالثة، وأنها حامية الدين القويم.

وفي منتصف القرن الثامن عشر تولَّى مصطفى الثالث عرش العثمانيين (١٧٥٧–١٧٧٣)، وكان مولعًا بالحروب. فلما رأى أن ازدياد نفوذ الروس في بولونية يتعاظم خشي على بلاده. ورأت ذلك أيضًا الحكومة الفرنسية بالنسبة لبلادها فوافقته على رأيه؛ ولذلك عزم الباب العالي على منازلة الروس. وقوَّى عنده هذا العزم أن الروس كانوا منذ السنة ١٧٦٥ يحرضون اليونان والبوشناق ونسور الجبل الأسود على الخروج على الدولة. وفي السنة ١٧٦٨ اشتد حَنَقُ الباب العالي؛ إذ دخلت الجنود الروسية أملاك الدولة أثناء مطاردتهم لبعض البولونيين الفارين من وجوههم وأحرقوا بلطة التابعة لخان القرم أحد ولاة الدولة، فأعلن الباب العالي الحرب على روسية في السادس من تشرين الأول سنة ١٧٦٨ لذلك، وبحجة الدفاع عن حرية البولونيين.

ولازم سوء الطالع الدولة العثمانية من أول نشوب الحرب، فلم تلبث أن انهزمت أمام الروس على نهر الدنيستر؛ فاحتلَّت روسية مولدافية (البغدان) والفلاخ وبسارابية والقرم. وفي خلال هذه المدة كان الأسطول الروسي ظافرًا في البحر فانتصر على أسطول العثمانيين في شزمى، ولولا ما أبداه القبودان حسن باشا الجزائرلي من الشجاعة لأحدق الخطر بالقسطنطينية نفسها. وما زالت الجيوش الروسية تَجِدُّ في الفتح حتى عبرت الدانوب واكتسحت بلغارية وهددت القسطنطينية من البر، فخشي الأتراك العاقبة وطلبوا الصلح في السنة ١٧٧٤.

الروس حماة المسيحيين (١٧٧٤)

وأبرم الروس مع الأتراك العثمانيين معاهدة كوجوك قينارجه في السنة ١٧٧٤، وهي أهم معاهدة عُقدت بين روسية والدولة العثمانية، وأول طور جدي في تاريخ المسألة الشرقية. ولم تنل روسية بهذه المعاهدة أملاكًا شاسعة؛ إذ كان ما أخذته قاصرًا على كنبورن وكرتش وآزاق والأقاليم المجاورة لها مما ثبت قدمها على شمال البحر الأسود، ولكنها نالت بها حقوقًا سياسية كبيرة كان لها شأن عظيم في المستقبل. فالدولة العثمانية قبلت في هذه المعاهدة أن تضمن لروسية حكومة عادلة وحرية دينية للرعايا المسيحيين، وجعلت لروسية الحق في المطالبة بحقوق هؤلاء الرعايا كلما رأت حاجة إلى ذلك.

فقد جاء في المادة السابعة من هذه المعاهدة ما تعريبه:

إن الباب العالي يتعهد الدين المسيحي والكنائس المسيحية بحماية دائمة، ويسمح لوزير بلاط روسية أن يحتج متى شاء لصالح الكنيسة المشيدة في القسطنطينية المشار إليها في المادة الرابعة عشرة ولصالح من يخدم فيها.

وجاء في المادة الرابعة عشرة أنه يحق لبلاط روسية أن ينشئ بالإضافة إلى كنيسة السفارة كنيسة عمومية في ضواحي غلطة تدعى الكنيسة الروسية اليونانية. وفصلت المادتان السادسة عشرة والسابعة عشرة نوع الحماية الواجب تطبيقها في الأراضي، والجزر التي احتلتها الجيوش الروسية في أثناء الحرب ووعدت بالجلاء عنها.

اضطهاد الروم في بيروت ولبنان

واستفحل في هذه الآونة أمر علي بك الكبير وتاقت نفسه إلى الاستقلال، فأعلن مصر بلدًا مستقلًّا في السنة ١٧٦٩ واستولى على جدة لتكون له مركزًا لتجارة الهند، ولم يلبث أن سيطر على باقي جزيرة العرب. ثم وجَّهَ هِمَّته لفتح الأقطار الشامية، فأنفذ جيشًا بقيادة محمد بك أبي الذهب، فكان النصر حليفه، واستولى على كثير من مدن الشام مستعينًا بالشيخ ظاهر العمر صاحب بلاد بشارة وعكة. ورأى أبو الذهب أن الدولة ربما التفتت لمصر وأرجعتها إلى سلطانها، فخطب ود الباب العالي وقصد مصر بالجيش الذي كان معه في بلاد الشام، فاستولى على وادي النيل وفرَّ علي بك إلى عكة واحتمى بظاهر العمر حاكمها. وهنا وجد أسطولًا لروسية ففاوضه بشأن تحالفه معها فأمده الأسطول بالذخيرة والمال. وانحاز الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان إلى جانب الدولة العثمانية، فقصفت العمارة الروسية بيروت في السنة ١٧٧١ ولم تبتعد عنها إلا بعد أن دفع الأمير يوسف ٢٥٠٠٠ ريال إلى الأميرال الروسي، ثم عادت هذه السفن بعد سنة لتخرج أحمد الجزار من بيروت وتسلمه إلى الأمير يوسف وذلك لقاء ثلاثمائة ألف غرش.٢٠
ولدى وصول العمارة الروسية خرج المسيحيون من بيروت إلى الجبل وخرج معهم رئيس كهنتهم نيوفيطوس، فنُهبت أرزاقهم وخربت دورهم. ثم جاء الأمير يوسف فغرَّم مسيحيي بيروت بنصف ما دفع إلى الروس. وكانت الحرب لا تزال مستعرة بين الروس والعثمانيين، فنشبت فتنة في بيروت أدت إلى فرار أهلها المسيحيين إلى الجبل مرة ثانية، واغتنم الرهبان الكاثوليكيون هذه الفرصة «فأغروا» الشيخ سعد الخوري كاخية الأمير يوسف «وزينوا» له اضطهاد الأرثوذكسيين، «على ما عنده من الميل إلى ذلك»، فأطلق يده في الضغط عليهم وعذب أناسًا منهم وصادر آخرين وقتل جماعة من نبلائهم، وأخذ منهم عدة كنائس وسلمها إلى الكاثوليكيين، وقتل من المتقدمين بين الأرثوذكسيين اثنين اتهمهما بالخيانة أحدهما عبد الله بن مالك والثاني أسعد إلعازار.٢١

اضطهاد النصارى في دمشق

وتقوَّى ضاهر العمر الشيعة ونهب جبخانة عثمان باشا والي الشام وأراد أن ينهب الحُجَّاج ويأخذ المحمل. ثم أقبلت العساكر المصرية بقيادة محمد بك أبي الذهب، فطلب عثمان باشا من النصارى مالًا كثيرًا وجمع في نصف نهار ثلاثين ألف غرش، والتقى الجيشان في سهل داريا فولَّى العثمانيون الأدبار وهربوا إلى حمص وحماة، واستولى المصريون والشيعة على دمشق، ثم انسحب محمد بك أبو الذهب «ولم يعلم أحد سبب رجوعه إلى مصر.» فعاد عثمان باشا إلى دمشق وعاد معه الأمير يوسف شهاب حاكم جبل الشوف بعساكره، «وتنمروا على الدمشقيين وحصل منهم ثقلة وبهدلة للمسلمين حتى صاروا يدخلوا الدروز والنصارى الذين معهم الجامع الأموي بزرابيلهم ونومسوا النصارى قليلًا.» ثم خرج هؤلاء إلى أوطانهم «فتنمَّر المسلمون على النصارى ووقع البلص والعوان والظلم والعدوان شيء لا يوصف حتى إن نصارى كثيرين دشَّروا بيوتهم، وأخذوا حريمهم وأولادهم وفروا هاربين إلى الجبل.»٢٢

معمودية اللاتين (١٧٥٥–١٧٧٤)

وقال الجميع قبل الانشقاق وبعده بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. واعترف مجمع القسطنطينية الذي الْتَأم في السنة ١٤٨٤ بمعمودية اللاتين، واكتفى الآباء أعضاؤه بمسح اللاتينيين العائدين إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية بالميرون المقدس. وشك الآباء الروس في صحة معمودية اللاتين، وأوجب بعضهم تجديد التعميد، ولكن الآباء اليونانيين الذين اشتركوا في مجمع موسكو (١٦٦٦-١٦٦٧) أوجبوا الاعتدال والاكتفاء بمسحة الميرون.

ثم شنَّت رومة هجومها على الكنيسة الأرثوذكسية وبثَّت رسلها اليسوعيين والكرمليين والكبوشيين في أبرشيات أوروشليم وأنطاكية والقسطنطينية، فجاءوا مدرَّبين مثقَّفين مسلَّحين بالمال والنفوذ. فاستهال الآباء الأرثوذكسيون الأمر وتروَّعوا، ولا سيما وأن المرسل الغربي فاق الكاهن الشرقي بالعلم والثقافة وفن الجدل. فهبَّ دوسيثيوس Dositheos البطريرك الأوروشليمي (١٦٦٦–١٧٠٧) للدفاع بالعلم فأنشأ في السنة ١٦٨٠ على نفقة الكرسي الأوروشليمي مطبعة ياسي اليونانية. ثم جمع النصوص اليونانية اللازمة للدفاع عن الإيمان القويم فنشر في السنة ١٦٩٢ كتاب «الكتلوغ»، وفي السنة ١٦٩٨ كتاب «المحبة» وفي السنة ١٧٠٥ كتاب «الفرح»،٢٣ وتُوفي قبل أن ينشر «تاريخ بطريركية أوروشليم»، فظهر هذا المصنف المفيد في السنة ١٧١٥ بإشراف خريسنطوس نوتاراس Notaras مُذَيَّلًا بترجمة البطريرك المتوفى.٢٤

وتابعت رومة هجومها فضاعفت هيرارخية أنطاكية وأنشأت كنيسة جديدة في الشرق، فلجأ البطاركة الشرقيون اليونانيون إلى الحرم واستعانوا بالسلطات العثمانية والقوة والعنف للصمود في وجه التيار الروماني، واعتبروا الفروقات الخمسة خروجًا كافيًا على التقاليد الموروثة لوصم رومة وأتباعها بالهرطقة، والتعيير بالهرطقة جر أصحابه إلى إعادة النظر في موقف الكنيسة الأرثوذكسية من معمودية اللاتين.

وفي حوالي السنة ١٧٥٠ رغب بعض اللاتين في الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية القسطنطينية، فاختلف الآباء في كيفية قبولهم وقال البعض بوجوب تعميدهم وقال آخرون بالاكتفاء بمسحة الميرون Myro Chriesthai. ورُفع الأمر إلى البطريرك المسكوني كيرلس الخامس فقال بوجوب التعميد، فثار ثائر المرسلين الرومانيين في الشرق واحتجوا وضجوا فوافقهم في موقفهم «عدد كبير» من الأرثوذكسيين،٢٥ وأيَّد البطريرك المسكوني كل من ميثاوس بطريرك الإسكندرية وسلفسترس بطريرك أنطاكية فقالا بوجوب «بتر الأطراف الفاسدة»،٢٦ وتدخَّل بعض الممثلين الديبلوماسيين في هذه القضية فأنكروا على كيرلس فعلته وشددوا عليه النكير،٢٧ واستغل بعض الطامعين في الكرسي البطريركي هذا الظرف، فتعددت حوادث التنفيذ فتنازل كيرلس عن الكرسي في السنة ١٧٥٢ وتبوأ السدة القسطنطينية بائيسيوس. وأصبح كيرلس بطل الأرثوذكسية، وأمسى بائيسيوس أمام جمهور المؤمنين صديق رومة والكثلكة، وتزعم معارضة بائيسيوس راهب زاهد اسمه أوكسنتيوس كان قد نال إعجاب المؤمنين بما تم على يده من المعجزات. وأيَّد هذا الراهب كيرلس في موقفه من معمودية اللاتين فأوجب تعميدًا جديدًا، وظن بائيسيوس أن لكيرلس يدًا في ذلك، فأرسل إلى جزيرة خالكي مقر كيرلس الجديد من فاتحه كلامًا في المعارضة وعلاقته بها. فأقسم كيرلس في كنيسة والدة الإله في خالكي أن ليس له أية علاقة مع الراهب المعارض. ودعا بائيسيوس الراهب العجائبي إليه للبحث معه في موضوع معمودية اللاتين، فأبى ظانًّا أن البطريرك سيأمر بالقبض عليه ويبعده عن القسطنطينية، فأَمَّ أنصار الراهب ومريدوه الكنيسة يوم الأحد ونادوا بسقوط بائيسيوس «صديق الأرمن واللاتين»، وهجموا على البطريرك وأخرجوه بالعنف إلى الشارع، ولولا تدخل الشرطة لحدث ما لا تُحمد عقباه. وذهب المجمع إلى مقر الصدر الأعظم ونادوا بسقوط بائيسيوس وإعادة كيرلس إلى الكرسي، وبعد يومين؛ أي في السابع من أيلول سنة ١٧٥٢، وفد كيرلس على مقر الوزارة مصحوبًا بالمطارنة فتردَّى «الجبة البطريركية» وعاد إلى رئاسة الكنيسة.٢٨
ويذكر مكاريوس المؤرخ المعاصر هذه الأمور جميعها ويشير إلى اضطهاد الأرثوذكسيين في بولونية وطمع اللاتين في الأماكن المقدسة في فلسطين وقيام هيرارخية كاثوليكية مستقلة في أبرشية أنطاكية، فيؤكد أن ما جرى في القسطنطينية كان مظهرًا من مظاهر الدفاع عن الدين القويم.٢٩
وعُني كيرلس بإصلاح الإدارة فألف لجنة شعبية ووكل إليها النظر في الأمور المالية المادية وتفرغ هو للعمل في الحقل الروحي، وكان من أهم ما فعل في هذا الميدان أنه أنشأ مدرسة عالية في آثوس ودعا عالم اليونان آئنذٍ أفجانيوس بولغاريس لتولي شئونها، وشجع تعليم الأسفار المقدسة وشرحها وتفسيرها بموجب تعاليم الآباء.٣٠
وظل وصول كيرلس إلى البطريركية يحز في صدور بعض المطارنة والأعيان، فعاد هؤلاء إلى البحث في معمودية اللاتين فشجبوا موقف كيرلس منها ووصموه بالخروج على التقليد المقدس،٣١ واتهموه بالعطف على أعداء رومة في الغرب؛ أي على البروتستانت، والسعي للتقريب بين هؤلاء وبين الكنيسة الأرثوذكسية! ثم اتخذوا موقفًا قانونيًّا فقالوا: إن البطريرك أوجب تجديد التعميد بدون قرار من المجمع المقدس، فأظهر كيرلس استعداده لعرض القضية على المجمع المقدس والأراخنة للبت فيها وترك الأساقفة أحرارًا في موقفهم من معمودية اللاتين إلى أن يبت المجمع المنتظر فيها.
والْتأم المجمع القسطنطيني في نيسان السنة ١٧٥٥ فشجب موقف كيرلس من معمودية اللاتين كما نبذ تعليم خريستوفوروس أيتولية في الموضوع نفسه،٣٢ فرد كيرلس بحرم بطريركي عرف باﻟ Anathematismos وخاطب به عموم الإكليروس الأرثوذكسي. وأهم ما جاء في هذا الحرم أن كيرلس فتَّش كتب المجامع والآباء فلم يجد مبررًا للرش بالماء Rhantismos في ممارسة سر التعميد؛ ولذلك فالرش في نظره بدعة من البدع لا مبرر لها ولا يجوز السكوت عنها. وجاء في هذا الحرم أيضًا أن المطارنة المجتمعين ضغطوا على البطريرك مهددين، فأبى محافظةً على سلامة الإيمان الأرثوذكسي، وأنه بناء على ذلك يُعلن المحافظة على التقليد سالمًا واعتبار رسالة المطارنة خروجًا وهرطقة، وهو بالتالي يلعن ويحرم كل من يقبل رسالة المطارنة من الإكليروس والشعب مستنزلًا غضب الله داعيًا عليهم بالويلات البشرية.٣٣
وبعد أن رشق كيرلس المطارنة ومن قال قولهم بهذا الحرم أعد بيانًا قانونيًّا في المعمودية أسماه الأوروس Oros ومنع بموجبه الاعتراف بمعمودية اللاتين والأرمن، ثم أسبغ على هذا البيان صفة كاثوليكية جامعة بما ناله له من تأييد رسمي من بطريرك أوروشليم برثانيوس وبطريرك الإسكندرية متثاوس، وصدر الأوروس في السنة ١٧٥٥ نفسها، ولعل خريستوفوروس الأيتولي عاون البطريرك في إعداده.٣٤ والله أعلم.
وبدأ كيرلس بيانه بإظهار أهمية المعمودية للخلاص، ثم أبان ضرورة التجدد وأهمية الماء في هذا الدور. وانتقل بعد هذا إلى صحة التغطيس ثلاثًا فوجدها في تقليد الرسل وقوانينهم، ثم اعتبر الرش تعديلًا لهذه القوانين والتقاليد وبالتالي دسًّا وإفسادًا، وأوجب اعتبار من يُعمد بالرش نجسًا عملًا بقوانين ديونيسيوس وقرارات المجمع البنثكتي Penthekti الخامس السادس.٣٥
واحتار سلفسترس البطريرك الأنطاكي في أمره، وكان لا يزال في حاجة إلى تأييد المجمع القسطنطيني في نزاعه ضد رومة وعمالها، فلم يوقِّع الأوروس، ولكنه لم يعلن موقفه منه. وظل الحال على هذا المنوال حتى السنة ١٧٧٤ عندما تبنى نص الأوروس دانيال الأنطاكي البطريرك القائم آنئذٍ، وأوجب تعميد اللاتين والأرمن وغيرهم.٣٦

البطريرك أنثيميوس (١٧٩٢–١٨١٣)

وأَمَّ دانيال القسطنطينية في أواخر السنة ١٧٩١ وشكا ضعف جسده وعجزه عن القيام بمهام الكرسي الأنطاكي. وفي الخامس عشر من كانون الأول قدَّم استعفاءه من هذا المنصب الرسولي وأشار بانتداب أنثيميوس أسقف هيلينوبوليس خلفًا له، فوافق المجمع القسطنطيني وقَبِل استعفاءه ونصَّب أنثيميوس بطريركًا على مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق.٣٧
وجاء في سجلات البطريركية المسكونية بتاريخ العاشر من كانون الأول سنة ١٧٩١ أنه نزولًا عند رغبة المسيحيين في حلب، الذين أخذوا الدَّين البالغ ثلاثة آلاف غرش على عاتقهم، ونظرًا لاستقرار السلم في هذه الأبرشية فإن المجمع القسطنطيني المقدس يعيد هذه الأبرشية إلى كنيسة أنطاكية، ويوجب على أسقفها أن يذكر اسم بطريرك أنطاكية ويخضع له بالناموس والتقوى.٣٨

وجاء أنثيميوس إلى قبرص مسقط رأسه ومنها إلى اللاذقية فطرابلس فبيروت فعكة، حيث قابل الجزار وأطلعه على نص البراءة السلطانية. ثم انطلق منها إلى دمشق فرضي المجمع الأنطاكي به؛ نظرًا لعلمه وفضله وتقواه، وقلَّده زمام البطريركية الأنطاكية، ورتَّب المجمع معاشًا قدره ألف غرش في السنة إلى البطريرك المستقيل دانيال المقيم في جزيرة صاقز.

وأظهر المسيحيون في أنطاكية رغبةً في تشييد كنيسة لهم في المكان الذي دُعي فيه المؤمنون مسيحيين أولًا، فلاقت رغبتهم استحسانًا في نفس أنثيميوس وعاونهم في ذلك فاستصدر لهم براءة سلطانية تخولهم البناء المنشود. واندفع كبيرهم «أبو سابا» فتبرع بجميع المال اللازم وباشر الأمر وشرع في البناء. ولم يَرُقِ الأمر القاضي بعض من شد أزره، فادَّعى أن النصارى إنما يُنشئون قلعة لا معبدًا ورفع شكواه بذلك إلى السلطان، فأمر السلطان بشنق أبي سابا وثلاثة من الكهنة وشماس!٣٩

البطريرك سيرافيم (١٨١٣–١٨٢٣)

وتُوفي أنثيميوس في دمشق ودفن فيها، فانتدب الشعب والإكليروس الأنطاكيون سيرافيم متروبوليت أركاذيو بوليس فنصَّبه المجمع القسطنطيني بطريركًا على أنطاكية. وكانت المشاحنات الأرثوذكسية الكاثوليكية لا تزال ثائرة وكلٌّ يتذرَّع بما عنده من وسائل. وكانت وسائل الروم تنحصر في غالب الأحيان ببراءات سلطانية يستصدرونها من عاصمة الدولة إلى الولاة والحكام المحليين لرد الروم الكاثوليكيين إلى طاعة رؤسائهم الشرعيين مطارنة الروم وعلى رأسهم البطريرك، أو لتسليم ما استأثروا به من كنائس معينة أو لدفع عائدات الأكاليل والعمادات والجنازات إلى السلطات الأرثوذكسية المحلية. وكان الروم الكاثوليكيون يقاومون نفوذ الموظفين الأرثوذكسيين في عاصمة الدولة بنفوذ الموظفين من أبنائهم في دوائر الحكم في حلب ودمشق وطرابلس وعكة.٤٠

الكتبة الكاثوليكيون

وكان قد رافق السعيَ لانفصال الروم الكاثوليكيين شعور بالمسئوليات التي أوجدها هذا الانفصال وإقدام على العلوم ولا سيما الدينية منها. فتميزت الأوساط الكاثوليكية الجديدة بكثرة نسبية في عدد المتعلمين من أبنائها، وغزا هؤلاء المتعلمون الدواوين الحكومية المحلية في الربع الأول من القرن التاسع عشر فتربعوا في كراسيها، ولا سيما في دواوين أيالة صيدا حيث كانوا جميعهم من الروم الكاثوليك،٤١ وأشهر من اشتهر من هؤلاء الكتبة إبراهيم صبَّاغ وأولاده في عكَّة وعبود البحري وأخوه جرمانوس وحنا عند إبراهيم باشا أوزون قطراغاسي في حلب أولًا وفي مصر بعد السنة ١٨٠٨، والمعلم ميخائيل العورا في صور وابنه حنا وحفيده إبراهيم في عكة. وكان ميخائيل هذا يحسن الإنشاء في العربية والتركية والفارسية، والأخوان إبراهيم وخليل النحاس ابنا عم حنا العورا، وقد كتب الأول في عكة والثاني في صور وفضول الصابونجي وأخوه ونقولا الترك وبطرس كرامة في بيت الدين.٤٢

كنيسة صيدا (١٨١٨)

وفي خريف السنة ١٨١٨ أَمَّ عكة زخريا متروبوليت عكار حاملًا فرمانًا سلطانيًّا موجهًا إلى سليمان باشا والي أيالة صيدا، يشير إلى خروج الروم الكاثوليكيين عن طاعة رؤسائهم الأرثوذكسيين وأتباعهم طائفة الإفرنج واستئثارهم «بجملة كنايس» منها كنيسة صيدا، ويوجب تخليص هذه الكنائس من يد الكاثوليكيين، وأكره هؤلاء على تقديم عائدات الأكاليل والجنازات والعمادات إلى السلطات الروحية الأرثوذكسية. وحمل زخريا متروبوليت عكار رسالة من البطريرك سيرافيم إلى المعلم حاييم اليهودي ذي النفوذ الكبير في ديوان عكة ورسائل غيرها من أخوه حاييم وابن عمه سلمون من دمشق توجب السعي الجِدي لتنفيذ الأوامر السلطانية.٤٣

وبلغ أمر هذا الفرمان وهذه الرسائل مسامع أعيان الروم الكاثوليك في عكة فاضطربوا. وكان الخوري سابا الكاتب مدير الرهبنة المخلصية آنئذٍ في عكة فاتصل بحاييم فتثبت من صحة الخبر، «وثاني يوم أخبر الكتَّاب والطائفة فراجعوا المعلِّم حاييم واستعملوا ساير وسايل التذلل والخضوع، وذكَّروا حاييم بضعف طائفة الكاثوليك، وبأنها منذ القدم مختصة به وبوالده وبعيلتهم، ولكن جميع هذا ما أفاد.»

ويضيف المعلم إبراهيم العورا صاحب «تاريخ ولاية سليمان باشا» أنه في السنة ١٨١١ أبرز بطريرك الروم أنثيميوس مثل هذا الفرمان إلى سليمان باشا نفسه، وكان آنئذٍ والي دمشق وعكة، فاتصل المعلم حنا العورا ولد إبراهيم المؤرخ بالمعلم حاييم وأظهر غيظه وعزمه على المقاومة، فقال حاييم: «وتربة أبي عندي خاطرك بألف بطرك!» وأوقف التنفيذ، فأظهر البطريرك الحب واللطف للمعلم حنا، وأرسل له هدية صندوقًا من الشمع الكافوري الأبيض وصندوقًا من الصابون الممسَّك وطاقية جشكلي هندي وساعة ذهبية.٤٤
واطَّلع سليمان باشا على نص الفرمان الجديد الذي حمله إليه زخريا متروبوليت عكار فأمر برؤية الدعوى على الوجه الشرعي بحضور القاضي وحضور عبد الله باشا نائبًا عن الوالي. وجاء القاضي وجلس في مجلس خصوصي مقابل ديوان الوزير. ونهض عبد الله باشا وجلس وكيلًا عن الوزير، ودخل زخريا متروبوليت عكار إلى جانب القاضي، ووقف وكلاء الروم الكاثوليك في المجلس «وانفتحت الدعوى». وسارت الدعوى في صالح الروم فثار ثائر الروم الكاثوليكيين ودخل المعلم حنا العورا على عبد الله باشا: «ووجده عمال يتوضى وقارب الخلاص، فإذ نظره الباشا قال له: تفضل يا معلم حنا، فتمنى والدي وبقي واقفًا ناحية إلى أن خلص وتنشف وجلس مكانه، فتقدم والدي بكل سرعة ومسك أقدامه وقال له: كنت أتمنى أن الباري تعالى ينعم عليَّ بأن أموت قبل وفاة والدك وليِّ نعمتي العادل كريم الشيم صاحب الناموس المضف، وليس أنا فقط، بل أولادي وعيلتي وكامل طايفتي أوفق وأيسر من أن نشاهد الذل والخراب والأذية في أيامك، الأمر الذي ما كنت أتأمل ولا أفتكر أن أصادفه في أوقات ابن علي باشا العادل المشهور، فكيف حسُن عندك تضيع شرف والدك الذي صرف حياته لأجل «تربيتك عندي» على الحق والعدل لكي توافق خاطر «أعداء الدين» على من هم عبيدك وأرقاء نعمتك ونعمة أبيك؟ «يا حيف على تعبي عليك ويا حيف على أملي فيك!» وحالًا سقطت دمعته على وجهه.»٤٥
واتصل عبد الله باشا بالقاضي وعاد المجلس لسماع الدعوى فتغيرت لهجة القاضي وعمل الروم الكاثوليك بنصيحة المعلم حاييم، فادعوا أن الكنيسة موضوع البحث كانت للسريان الكاثوليك فوهبوها لهم لقلة عدد هؤلاء في صيدا، فحكم القاضي بنصف كنيسة للروم وبنصفها الآخر للروم الكاثوليك. وصدر عن سليمان مرسوم بذلك مؤرخ في الخامس من صفر سنة ١٢٣٥ تشرين الثاني سنة ١٨١٩ وهذا نصه:

قدوة النواب المتشرعين نايب محروسة صيدا حالًا السيد محمد سعيد أفندي زِيد فضله وافتخار العلماء الكرام المأذون بالإفتاء، أفندي زِيد علمه وفرع الشجرة الزكية قيمقام نقيب السادات والأشراف أفندي زِيد شرفه وقدوة الأماثل والأقران متسلمنا فيها حالًا الحاج سليمان أفندي زِيد قدره.

بعد السلام التام المنهي إليكم قبل تاريخه، حضر لطرفنا مطران الذميين القاطنين بناحية عكار بالوكالة عن قدوة الملة المسيحية البطريق سيرافيم بطريق طائفة الروم الأنطاكي المقيم بدمشق الشام خُتمت عواقبه بالخير، وقرر على مسامعنا بأن البطريق المرقوم منصوب بطريق من قِبل الدولة العلية والسدة الخاقانية صانها رب البرية على طائفة الذميين الروم الكاينين بأنطاكية وطرابلوس الشام، والشام وصيدا، وأن ساير كنائس طائفة الروم وأوقافها تحت نظارة المسفور بموجب براءة سلطانية، وأعرض لدينا صورة البراءة ممضية.

وادَّعى أن كنيسة الروم الكائنة في صيدا فهي تحت تصرفه وتحت نظارته، وأن الذميين الكاثوليكيين المقيمين بصيدا واضعين يدهم على الكنيسة المذكورة فضولًا من غير مساغٍ شرعي ولا أمر سلطاني، والتمس استردادها ورفع يدهم عنها، فاقتضى أن أحضرنا الذميين الكاثوليكيين القاطنين بصيدا، وهم إبراهيم الزهار وإبراهيم سركيس ويعقوب الزهار وقسطنطين عكاري وإلياس الكركجي وحنا دبانه وجبران بولاد وحنا زكار وساير وجوه طايفة الكاثوليكيين. ورفعنا استماع دعواهم إلى حاكم الشريعة الغراء قاضي محروسة عكة حالًا افتخار القضاة والحكام السيد محمد أبو الهدى أفندي التاجي زِيد مجده، بحضور أمير الأمراء كبير الكبراء الفخام ذي القدر والاحترام صاحب العز والاحتشام كتخدانا ولدنا السيد عبد الله باشا دام إقباله. وصارت المرافعة بينهما، وطلب المطران المسفور رفع يد الكاثوليكيين عن الكنيسة المذكورة، فأجابوا أن الكنيسة هذه بالأصل كنيستان إحداهما إلى طائفة الروم والثانية إلى طائفة السريان الذميين، ومن بعد انقراض السريان من قديم الزمان رفعوا الحائط الذي كان بين الكنيستين لأجل التوسع وصارت الكنيسة واحدة، وأن الحصة التي تخص طائفة الروم لم يزالوا واضعين يدهم عليها، والذي تخص طائفة السريان الكاثوليكيين واضعين اليد عليها وهي بأيديهم. وأن طلب البطريق المرقوم إلى الكنيسة جميعها فهو بغير حق. فطلب منهم حاكم الشرع بينةً على إثبات مدَّعاهم وأحضروا بيِّنتهم إلى مجلس الشرع.

وقبل تاريخه حضر لنا إعلام من الأفندي المومى إليه بصورة المرافعة الذي حصلت، فاقتضى الآن أن نصدر لكم مرسومنا هذا من ديوان عكا المحمية مرسِلين لكم الإعلام الذي حضر لنا من الأفندي المومى إليه بهذا الخصوص؛ لكي تطلعوا على كيفية المادة وتسجلوا مرسومنا هذا والإعلام الشرعي بالسجل المحفوظ، وتخطروا خوري طائفة الروم والرعايا الكاثوليكيين أن لا يفارشوا كنيسة الروم في حصتهم المصرف بنظارتها البطريق المسفور بموجب براءة شريفة سلطانية، وتنبهوا على خوري الروم المسفور في أي وقت أراد يجري دينه لا أحد يتعارضه فيه. وكذلك الحصة التي تخص السريان تبقى الآن طائفة الكاثوليك يجروا دينهم فيها في الوقت الذي يريدوا إجراءه إلى حين يصدر لكم مرسوم ثاني من طرفنا بإعطاء رابطة هذه المادة مع الكاثوليكيين بوجه التفصيل، حيث إن هذه الحصة المتعلقة بالسريان منوطة إلى رأينا، اعلموا ذلك واعتمدوه. في ٥ صفر سنة ١٢٣٥. الحاج سليمان والي صيدا وطرابلس حالًا.٤٦

البطريرك مثوديوس (١٨٢٣–١٨٥٠)

ومضى سيرافيم مستقبلًا وجه البقاء في السنة ١٨٢٣ وانتقل إلى دار القرار في دمشق ودفن فيها. وأجمع الأساقفة والأعيان على قسطنديوس رئيس أساقفة سيناء وكتبوا إلى الكنيسة العظمى القسطنطينية ينتدبونه بطريركًا على أنطاكية. ولكن قسطنديوس تمنَّع وأعرض فنصَّب المجمع القسطنطيني مثوديوس متروبوليت أنقيرة بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق.

ونهض مثوديوس من القسطنطينية قاصدًا دمشق بطريق البر فاستغرقت رحلته خمسة أشهر وخمسة أيام. وكان قد أرسل أمتعته بحرًا فغرقت مقابل رأس كستيلوريزو. وما إن وصل إلى دمشق وسجل براءته فيها حتى هب لمقاومة الكثلكة، وكان عزيز الجانب شديد الشكيمة لا تلين قناته لغامز،٤٧ فبذل قصارى جهده لمقاومة الكثلكة، فلجأ إلى الطرق الاغتصابية واضطهد ونفى.

الدولة تعترف بالأرمن الكاثوليك (١٨٢٨)

وشمل برنامج رومة إدخال الأرمن في الطاعة منذ أوائل القرن السابع عشر، فانشقوا على أنفسهم انشقاق الروم، وتنادوا واختلفت كلمتهم وتشعبت آراؤهم. وانتظم الكاثوليكيون منهم كنيسة مستقلة وأقاموا منذ السنة ١٧٤٠ بطريركًا عليهم. ولكن الدولة ظلَّت تعتبرهم خاضعين في أمورهم الدينية وأحوالهم الشخصية للبطريرك الغريغوري القسطنطيني. واستحكم الشقاق بينهم واشتد الاضطهاد، ولا سيما في السنوات ١٦٩٩ و١٧٠٢ و١٧٥٩ و١٧٨٢.

واغبرَّ الجو وأظلم في السنة ١٨٢٨ وتقوضت دعائم المحبة، فجرى في القسطنطينية نفسها ما لا يمت إلى المسيحية بِصلة. فرفع برتو أفندي تقريرًا بذلك إلى السلطان محمود الثاني، فقبَّح السلطان وأنكر وعيَّن ناظرًا مسلمًا يُعنَى بشئون الأرمن الكاثوليك الزمنية ووكل أمورهم الروحية إلى القاصد الرسولي نفسه،٤٨ ثم خوَّل الكاثوليكيين من الأرمن حق انتداب أسقف يتولى شئونهم الزمنية والروحية. وفي الثالث من كانون الثاني سنة ١٨٣١ أصدر براءة سلطانية اعترف بها برئاسة الأسقف آغوب وبالملة الأرمنية الكاثوليكية،٤٩ وربط السلطان بهذه البراءة جميع الطوائف الكاثوليكية بالأسقف الأرمني المستقل، وخوَّله حق قضاء أشغالهم أمام المراجع الحكومية الرسمية ورفع بذلك سلطة البطاركة غير الكاثوليك عنهم.

ممارسة الحقوق المكتسبة (١٨٢٨–١٨٣٤)

ومارس الروم الكاثوليكيون هذه الحقوق المكتسبة فرمموا كنائسهم في دمشق وغيرها من المدن والبنادر، ودخل بطريركهم مكسيموس مظلوم دمشق، وعاد الكهنة الروم الكاثوليكيين إلى لبس القلاليس الممنوعة، وامتنع الشعب الكاثوليكي عن دفع العائدات الروحية إلى السلطات الأرثوذكسية، وأعلن عدد من الأرثوذكسيين خضوعهم لرومة في دمشق وحمص وطرابلس وحاصبيا.٥٠

براءة باسيليوس (١٨٣٤)

واستصدر الأسقف المستقل أروتين الأرمني في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول سنة ١٨٣٤ براءة سلطانية باسم باسيليوس مطران مصر وتوابعها على الروم الكاثوليكيين. واعترف محمد علي باشا عزيز مصر آنئذٍ بمضمون هذه البراءة التاريخية كما يلي:

إن أروتين قدم عريضة مختومة أبان فيها أن الروم الملكيين القاطنين في محروسة مصر المتعلقين به ليس لهم رئيس يتصرف بشئونهم، وأن المطران الراهب باسيليوس كفؤ للقيام بمهام الرئاسة، وأنه يحدد خمسة آلاف أخشاية محصول رئاسته المطلوبة، وأن أروتين قدم خمسة آلاف وفوقها عشرة آلاف أخشاية. وأنه ابتداء من اليوم الحادي والعشرين من تشرين الأول سنة ١٨٣٤ تبدأ رئاسة باسيليوس على الروم الكاثوليك في مصر.

وأوجب السلطان بعد هذا على الكاثوليكيين التابعين لرئاسة باسيليوس أن يراجعوه «بالأمور المتعلقة بعاداتهم وألا يتجاوزوا كلامه الذي بالطريقة وألا يتعدوا ذلك.» وأوجب السلطان أيضًا ألا يحول حائل دون تلاوة الإنجيل في بيت المطران المذكور، وألا يعترض أحد على توليع القناديل ووضع الصور والكراسي والتبخير ومسك العكاز، وأن يمتنع الضباط والميرميرانات وطائفة أهل العرف عن تعجيز هؤلاء واستدرار المال منهم بوجهٍ غير شرعي «وأن لا يرفعوا صوتهم عليهم بإعلان الكفر.»

ومنحت هذه البراءة الكهنة الكاثوليكيين حق الإشراف على الزواج ومنعتهم عن إجرائه بدون إذن المطران، وعن الطلاق وأخذ امرأة على امرأة، وهددتهم بالتأديب في حال المخالفة، ونهت أصحاب القدرة عن إكراه الكهنة بقولهم: «زوجوا هذه الحرمة إلى هذا النصراني!» وحرَّمت أيضًا إكراه الكهنة على دفن مَن هم على غير طريقتهم. وإذا أوصى بعضهم بشيء إلى البطريرك أو القسوس لأجل الكنائس، فليؤخذ ما أوصى به من الورثاء بمعرفة الشرع. ومَن يتوفَّى من القساوسة وسائر أبناء الطائفة من غير وارث يتسلَّم موجوداته المطران، ولا يحق لبيت المال أن يتدخل في ذلك. ولا تُسمع الدعاوى المتعلقة بالشرع الشريف التي تقام على المطران أو الكهنة خارج الديوان الهمايوني في الآستانة، «ويجب ألا يغتصب أحد النصارى على الإسلام من دون رضاه.» ولا يعارَض المطران في حوائجه ولبسه وعكازه أو في محل سكناه.٥١
وأنفذ مكسيموس القس توما القيومجي إلى مصر في السنة ١٨٣٥ ليدير شئون الطائفة الكاثوليكية فيها، وما إن وصل إليها وخرج لقضاء أشغاله فيها لابسًا لباس الروم التقليدي حتى قبض «يسقجي» البطريرك الإسكندري عليه وساقه إلى البطريركية. فأمر البطريرك بحبسه وأكرهه على «قلع القلوسة ولف الشال»، فشكا توما أمره إلى العزيز فمنع هذا البطريرك عن التدخل في شئون الروم الكاثوليك عملًا بنص البراءة السلطانية.٥٢

مجمع طرابلس (١٨٣٦)

فشقَّ الأمر على البطريركَيْن الإسكندري والأنطاكي واشتدَّ عليهما، فدعا مثوديوس مطارنة الكرسي الأنطاكي إلى مجمع في «نواحي طرابلس» في آب السنة ١٨٣٦، واتصل الآباء المجتمعون ببطريرك الإسكندرية وجمعوا الأموال من الرعايا وأنفذوا من اختاروه إلى القسطنطينية لدرء هذا الخطر الجديد، وادعوا أن لبس القلاليس مختص بهم وطالبوا بمنع الكاثوليكيين عن التزيي بأزياء الروم؛ كي يتمكن الشعب من التفريق بين الإكليروسين. فاستدعى كارلوس كرابيد أزيان البطريرك الكاثوليكي في الآستانة وكيل البطريرك مكسيموس الخواجه يوسف حجار وحضه على جمع المال لمقاومة بطريرك الروم في الدوائر الرسمية. وفي أواخر أيار السنة ١٨٣٧ صدر فرمان سلطاني موجه إلى عزيز مصر محمد علي باشا يمنع تغيير المذهب، ويوجب بقاء كل نصراني على مذهبه ويردع القساوسة الكاثوليكيين عن التزيي بزي الروم وعن التحرك بجمعية خلاف أطوار الرعية عند انتقالهم من محل إلى محل.٥٣

مثوديوس في مصر (١٨٣٧–١٨٤٠)

وأرسل البطريرك القسطنطيني الفرمان السلطاني إلى مثوديوس البطريرك الأنطاكي، فهبَّ هذا لساعته يطالب بالتنفيذ. ولما كان الفرمان السلطاني موجهًا إلى محمد علي باشا عزيز مصر، وكان مكسيموس آنئذٍ في وادي النيل يتفقد شئون رعيته طلب مثوديوس إلى محمد شريف باشا حكمدار الأيالات الشامية أن يأذن له بالسفر إلى مصر لمقابلة العزيز والتحدث إليه في أمر الفرمان الجديد، فأجاب الحكمدار الطلب. وقام البطريرك من دمشق في صيف السنة ١٨٣٧ إلى طرابلس ومنها إلى أهدان لمقابلة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وقائد جيوشه. وأصغى السر عسكر المصري إلى ما قاله البطريرك الأنطاكي، ثم أجاب أنه لا يريد التدخل في المسائل الدينية الطائفية، ولكنه مستعد لعرض الشكوى أمام والده في مصر. ورجع مثوديوس إلى طرابلس يرافقه زخريا مطران عكار، وقاما منها إلى بيروت وجمعا الأموال اللازمة وأبحرا إلى الإسكندرية فوصلا إليها في أوائل أيلول، ورفعا أمرهما إلى العزيز وتُلي الفرمان السلطاني على مسامعه فأمر بتنفيذه وتسجيله في المحكمة الشرعية.

وسام البطريرك مكسيموس الخوري يوسف الكفوري «مطرانًا على قلاية بطريركية الإسكندرية» ودعاه باسيليوس ليوافق نص البراءة التي استصدرها أروتين الأرمني الأسقف المستقل. وشارك البطريرك في وضع اليد يوسف ناتسيو الأسقف اللاتيني العابر الطريق آنئذٍ وأسقف هالينة النائب الرسولي على طائفة الأقباط الكاثوليكيين في مصر، وذلك في الخامس من أيلول سنة ١٨٣٧،٥٤ ثم أقام مكسيموس المطران الجديد نائبًا بطريركيًّا له في مصر. وكانت الحكومة الإفرنسية قد منحت مكسيموس التبعة الإفرنسية منذ السنة ١٨٢٢، فشاور مكسيموس قنصلية فرنسة في المشكلة القائمة، فأشارت بأن يجعل البطريرك نائبه باسيليوس يلتمس إحالة النظر في الدعوى القائمة بين الروم والروم الكاثوليك أمام المحكمة الكبرى أو أمام الديوان الخديوي أو إعطائه مهلة كافية لعرض الحقائق لدى الباب الهمايوني في الآستانة،٥٥ فأجاب العزيز أنه لا يتدخل في أمور الديانات، وإنما يأمر بتنفيذ البراءات والفرمانات كما ترد، وأنه ليس على الروم الكاثوليكيين إلا أن يستصدروا فرمانًا جديدًا يخولهم الحقوق التي يطلبونها.٥٦
وطالب الروم بتنفيذ الأوامر السلطانية فاضطر مكسيموس وكهنته أن يقيموا في الدار البطريركية، وألا يغادروها خشية التنفيذ الجبري. وأكدت القنصلية الإفرنسية في الإسكندرية أنها تعتبر الدار البطريركية الكاثوليكية داخلة في حمايتها بموجب نصوص الامتيازات الأجنبية، واتصل القنصل بالديوان الخديوي ورجا التريث، فأكد حبيب أفندي لمثوديوس وقنصل اليونان أن الديوان منفذ الأوامر السلطانية ولكنه لم يفعل.٥٧

مكسيموس رئيس مرخَّص (١٨٣٧)

وفي السادس عشر من تشرين الثاني سنة ١٨٣٧ تسلم مكسيموس بريد الآستانة، فإذا به براءة سلطانية ترخص له السلطة والسيطرة على الروم الكاثوليكيين في بطريركيات أنطاكية وأوروشليم والإسكندرية، وهي مؤرخة في أول شعبان سنة ١٢٥٣؛ أي في الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة ١٨٣٧:

إن الراهب المسمى كرابيد بطريرك الكاثوليك الذين في إسلامبول وتوابعها قدم لدى سدتي السنية عرضحالًا مختومًا، يذكر فيه أنه قد لزم تعيين مرخص على جميع الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أبرشيات أنطاكية والإسكندرية والقدس الشريف الداخلين تحت بطريركية الكاثوليك. وأن قدوة مختار الملة المسيحية المسمى مكسيموس مظلوم المتروبوليت ختمت عواقبه بالخير الحامل براءتي هذه الهمايونية، حيث إنه مقتدر على رؤية أمور المرخصية وإدارتها، فاستدعى أن يعطى له براءة سنية مع درج الشروط فيها بتوجيه لمرخصية المذبورة إلى المتروبوليت مكسيموس المذكور بشرط تقديم مقدار من الدراهم إلى الخزينة العامرة على وجه الهدية، فهذا هو مضمون العرضحال المقدم ذكره.

فبعد المراجعة في القيود تبين أنه من مقتضيات الشروط المدرجة في براءتي العلية الشأن التي بيد البطريرك المرسوم، أنه إذا لزم تعيين مرخص للمحلات الداخلة تحت ملل هذه البطريركية حسب المقتضى على موجب عاداتهم، ووضع رسم الهدية على قدر تحمُّله واستدعى أن تعطى له براءة مجددة، فتسلم الهدية المعينة نقدًا إلى الخزينة العامرة وتعطى له براءة شريفة مجددة مع درج الشروط فيها. وقد عيَّن هو على المرخصية المرقومة في هذه المرة خمسة عشر ألف عثماني على وجه الهدية، وأعطي له البيان من محلها بتسليم الهدية المذكورة نقدًا إلى الخزينة العامرة؛ فأصدرت براءتي هذه الهمايونية على موجب فرماني العالي الشأن المبرز قبلًا.

وقد أمرت بأن المتروبوليت مكسيموس مظلوم حاملها يدبر مرخصية جميع الكاثوليكيين الذين في بطريركيات أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف، وأن الطائفة الذمية الكبار والصغار والقسوس والرهبان والرجال والنساء الذين على المذهب الكاثوليكي الموجودين في المحلات التابعة لمرخصيته يلزم أن يعرِفوه رئيسًا مرخصًا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم، ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله، ولا يحدث منهم قصور في طاعته.

ثم لا أحد يتعارض المتروبوليت المذكور في بيته ولا في سائر البيوت عن قراءة الإنجيل وإجراء اعتقاده، ولا أحد يقول: أنتم أيها الكاثوليكيون تجرون في بيوتكم اعتقادكم وتقرءون الإنجيل وتعلقون القناديل وتضعون كراسي وتصاوير وستارات وتبخرون بالمباخر وتمسكون العكاكيز بأيديكم، فلا يتعارضهم أحد في شيء من اعتقادهم جميعها. ولا يُصنع لهم تعللًا وتعجيزًا لأجل جلب المال من طرف الميرميرانات ولا من قبل الضباط كافة، ولا من جهة أهل العرف جميعًا، فلا يصير عليهم أدنى تعدٍّ بغير حق مخالف الشرع الشريف.

والذين يموتون من المطارنة والقسوس والرهبان والقسيسات وغيرهم مهما أوصوا به إلى الفقراء، أو لكنائسهم أو لبطريركهم، تكون وصيتهم نافدة مقبولة ولا تصير من أحد مداخلة بها بوجه من الوجوه، بل تكمل على موجب اعتقادهم وقاعدتهم وبشهود جماعة كاثوليكيين من طائفتهم تُسمع دعاويهم شرعًا.

ولا أحد من المتقدمين يتعارض قائلًا للمرخص أرسل هذا القسيس الفلاني بهذا الوجه أو بذاك، ولا يصير جبر أو تعدٍّ بهذا الشأن أصلًا.

وإذا اقتضى للمتروبوليت المذكور أن يحضر إلى الآستانة لأجل مصلحة، فالقسيس والراهب الذي يوكله عوضًا عن ذاته لا أحد يمانعه أو يتعرض له من طرف أهل العرف ولا من غيرهم بوجه من الوجوه قطعًا. ولا يقول أحد للمرخص المذكور أنا أتبعك جبرًا لأجل خدمتك؛ إذ لا رخصة لأحد بذلك.

والأشياء المختصة بالمتروبوليت المذكور أو بكنائسه متى بلغت إلى الأساكل أو إلى الأبواب فليس لأحد أن يطلب عليها شيئًا من كمرك أو باج أصلًا.

وإذا اقتضى للمرخص أن يرسل من قِبله إنسانًا لجمع ميرياته ومحاصيله من أهالي القرى والأمكنة الأخرى فليعطَ لهم دليل في الطرقات. ومباح لهم أن يغيروا ملابسهم، وأن يتقلدوا الأسلحة الحربية لأجل تحصين ذواتهم من الأشقياء. وليس لأحد من طائفة أهل العرف أو من الحكام أن يعترضهم لأجل جلب المال أو عوائد أو هدايا أو بنوع من الأنواع بتة، ولا يطالبهم أحد بشيء بخلاف الشرع الشريف أصلًا.

ولا تسمع دعوى على المتروبوليت المذكور ولا على قسوسه ولا على المختصين به إلا في ديواني الهمايوني في آستانة دار السعادة لا في مكان آخر قطعًا.

وإذا اقتضى أن يحبس بإذن الشرع الشريف أحد من الرهبان أو من القسوس أو من الراهبات فلا يكن ذلك عند الضابط، ولا يقدر بدون رضاه أن يحوشه هو، بل إن المتروبوليت يمسكه ويحبسه عنده، ثم لا يجبر الذي على الإسلام أصلًا بدون رضاء.

والأشياء الحاصلة للمتروبوليت لأجل مأكولاته من كرومه وأرزاقه، وكذلك الآتية إليه باسم التصديق من حلو أو دهان وعسل وغير ذلك، فوكلاء الكمارك وجماعتهم الذين في الأساكل والأبواب لا يتعارضونهم بالمنع عن الإدخال ولا بطلب شيء برسم كمرك البتة. والحذر من المخالفة! وهكذا مهما يكون مختصًّا بكنائسهم وأديرتهم من كروم وبساتين وطواحين وقرى ومزارع ومراعي وأراضي وغيرها، ونظيرها أوقاف كنائسهم من بيوت ودكاكين وأملاك وموجودات وأشجار مثمرة وحيوانات مع سائر مأكولهم، فليكن في ضبطهم وتصرفهم المطلق، ولهم فيه دستور العمل من دون أن يتداخل به أحد أصلًا.

ثم إن الكنائس مع الأديرة المختصة بالطائفة المذكورة لا يتعارض أمرًا من أمورها أحد من طائفة أهل العرف بتفتيش لأجل بيولردي أو غيره، ولا يحدث لهم بذلك ممانعة أو تجريم، بل تكون كنائسهم وأديرتهم في ضبطهم وتصرفهم.

وبدون إذن المتروبوليت المذكور ومعرفته لا أحد من قسوسه يعقد زواجًا لا يكون جائزًا في اعتقادهم ومذهبهم. ومن حيث إن الطلاق والزواج بامرأة أخرى عدا الامرأة الحية ليس جائزين عندهم، فلا يعطى لأحد منهم رخصة بذلك أصلًا، بل إذا حدث أمر مغاير لمذهبهم فالذين باشروه يتأدبون حالًا بالقصاص حسبما يستحقون. وإذا أراد البعض من الطائفة المذكورة أن يعقد زواجًا عند طائفة أخرى فلا يعقدوه له. ولا أحد من ذوي الاقتدار يغصب أحدًا من القسوس مع عقد زواج لأحد بخلاف اعتقادهم. ثم إذا حدث منازعة فيما بين البعض من الكاثوليكيين، إما لعقد زواج أو لأمر من الأمور كافة أو من الاختصاصات جميعها فليحضر المتخاصمون أمام المتروبوليت المذكور أو أمام الذين يعينهم لأجل رؤية الدعاوي مثل ما يقتضي الحال. وإذا لزم أن يحلف يمينًا لأحد هؤلاء فيحلفه في الكنيسة على موجب اعتقادهم.

وإذا اتفق البعض من الطائفة المذكورة لأجل مقتضى أغراضهم أن يرفعوا الدعوى إلى القضاة أو إلى الحكام، فلا أحد من طرف القضاة أو الحكام يتعارض أو يتداخل فيها، وإن فعل أحد بالخلاف فيُجرم.

وإذا مات أحد في حالة مخالفة مذهبهم وأراد القسوس أن لا يتعاطوا دفنه لأجل مقتضى مذهبهم فلا أحد من القضاة، ولا من الحكام ولا من الضباط ولا من ذوي المقدرة، يجبر القسوس برفع ذلك الميت ودفنه أو يصنع بهذا الشأن أدنى تعدٍّ.

والتعميرات والترميمات التي تُقتضى لكنائسهم وأديرتهم فيأذن الشرع الشريف أن تعمَّر وترمم من غير أن يصير من طرف أحد أدنى تداخل.

وإذا كان لأحد دين فليحذر من أن يتعارض بسببه حوائج الكنيسة أو الأديرة حتى ولا بطريق الاسترهان، وإن كان أحد يتجاسر على أخذ شيء من ذلك يرد حالًا بمعرفة الشرع.

والذي يموت من القسوس أو القسيسات بلا وارث فالمتروبوليت المذكور كبطريرك يستولي على ما يكون للميت، مهما كان من موجودات ودواب وغير ذلك، لجهة الميري له من دون أن يتداخل بذلك أحد من طرف بيت المال أو القسام أو المتولين أو الشوباصية أو يضع يده على ماله أو نقوده أو شيء من سائر مخلفاته.

ولتؤدِّ الطائفة المذكورة ما عليهم لمتربوليتهم في كل سنة رسوم ميرية وصدقات وسائر المرسومات البطريركية تمامًا ولا تصير في ذلك مرادة من أحد.

وإذا تقدم أعراض من الباشاوات أو القضاة أو النواب في سوء حال المرخص المذكور أو قسوسه أو في عزل أحد منهم أو نفيه، فالشكوى التي تصدر في حق أحد منهم لا تُقبل دون الفحص الكامل والوقوف على صحة الأمر، وبغير ذلك لا يصغَ إلى كلام أحد أصلًا. وفي فرضية إذا صدر فرمان أو أمر شريف بتاريخ مقدم أو مؤخر لا يُعتبر ولا يعمل به في مكانه.

ويكونون جميعًا مرخصًا بإجراء عقائدهم في كنائسهم وأديرتهم وأمكنة زيارتهم المعلومة، ولا تحصل في ذلك ممانعة البتة من طرف أهل العرف، ولا من جهة غيرهم لا في دفن موتاهم ولا في قراءتهم خلوًّا من معارضة أحد لهم بذلك.

ونظرًا إلى الحيوانات والخيل والبغال المعدَّة لمراكيب المتروبوليت المذكور وأتباعه فلا يعترضها أحد بنوع من الأنواع، وهكذا الدار التي يسكنها هذا المرخص ليس لأحد من أهل العرف أو من الحكام أو غيرهم أن يطلبها لتستعمل منزولًا أو لأجل نزول عساكر فيها. ثم ليس لأحد عليها ولاية بوجه من الوجوه، وكذلك لا يقدر أحد من الميرميرانات أو من أمراء اللواء أو من المتسلمين أو من النظار أو من أصحاب الولاية أو من الضباط أو من الشوباصية أو غيرهم أن يمانعه في ملابسه أو زيه ولا في العكاز المختصة به المعتاد أن يمسكها بيده، ولا أن يصنع له أدنى مزاحمة أو ممانعة في شيء؛ وذلك حفظًا لشروط براءتي هذه العالية الشأن التي بموجبها يكون دستور العمل في ضبط أموره وحلها وربطها بالحرية الكاملة، من دون أن يتعارضه أحد في جميع التصرفات المختصة به بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب. فهكذا اعلموا جميعًا واعتمدوه على علامتي هذه الشريفة. تحريرًا في اليوم الأول من شعبان سنة ١٢٥٣.٥٨

وإذا كان في هذه البراءة اعتراف واضح بما كان يعانيه بعض رجال الدين المسيحيين من تضييق وضغط، فإن فيها أيضًا محاولة رسمية لحمايتهم من ذلك، ففيها ترخيص بتعمير الكنائس وترميمها وحرية الملبس وإظهار شعائر السلطة الدينية وحرية التوصية وصلاحية النظر في الدعاوي ومنع القضاة والحكام عن التدخل في أحكام الأساقفة، فالبراءة من هذه الناحية تبشر بعهد جديد وإصلاح شامل، وهي من حيث علاقة الروم الكاثوليكيين بالروم الأرثوذكسيين تؤذن بالاستقلال التام.

السلطان يبرم وينقض

ثم نقض السلطان ما أَبرم، فأصدر في منتصف تشرين الثاني من السنة ١٨٣٧ فرمانًا جديدًا وجهه إلى عزيز مصر، وأوجب به التحقيق في النزاع القائم بين الروم والروم الكاثوليك بحضور العلماء والأعيان وأهل الخبرة، ورفع النتيجة إلى جلالته ليثبت الحق ويرفع الأذى.٥٩ فاضطرب مثوذيوس وزميله الإسكندري أيروثيوس وفاوضا السلطات المصرية في مهلة ثلاثة أشهر يتمكنان في أثنائها من الدفاع عن حقوقهما المشروعة. وفي أوائل تموز السنة ١٨٣٨ أصدر السلطان فرمانًا أوجب فيه قطع القال والقيل وردع الروم الكاثوليكيين عن التردي بقيافة الروم وتدبير قيافة تشبه الرهبان الكاثوليكيين القائمين في ممالكه المحروسة.٦٠ وما فتئ السلطان يقدم ثم ينخزل ويقر ثم ينقض حتى اضطر الطرفان أن ينتقلا في نزاعهما إلى عاصمة الدولة نفسها. وفي أيلول السنة ١٨٣٨ أصدر البطاركة الأرثوذكسيون الأربعة غريغوريوس القسطنطيني وأيروثيوس الإسكندري ومثوذيوس الأنطاكي وأثناسيوس الأوروشليمي بيانًا قبحوا به الليتنة وخروج الروم الكاثوليكيين.٦١
وشغل هذا النزاع باريس ورومة وبطرسبرج بالإضافة إلى الآستانة، فإن مكسيموس غادر الإسكندرية في خريف السنة ١٨٤٠ إلى مالطة فرومة فباريس مستجديًا مستنهضًا. ثم عاد توًّا إلى الآستانة فوصلها في الثالث والعشرين من آب سنة ١٨٤١ وأقام فيها، وكتب البطاركة إلى السنيودس الروسي واتصلوا بسفارة روسية في الآستانة، فاضطر الباب العالي أن يسعى سعيًا حثيثًا للوصول إلى حل مناسب يَرضى به الطرفان. وفي أوائل تشرين الأول سنة ١٨٤٧ أصدر السلطان عبد المجيد خطًّا همايونيًّا أوجب به اكتساء المطارنة والكهنة والرهبان الملكيين الكاثوليكيين «قلنسوى مسدسة الزوايا بلون مور»، وأوجب أن يكون لون اللاطية فوقها مورًا أيضًا.٦٢

مكسيموس بطريرك مستقل (١٨٤٨)

وخسر مكسيموس جولة «القلوسة» ورضي أن تكون هذه القلوسة مسدسة الزوايا بنفسجية اللون لا مستديرة سوداء كقلوسة الروم الأرثوذكسيين، ولكنه فاز باعتراف الدولة به بطريركًا مستقلًّا عن البطريرك الأرمني الكاثوليكي الذي كان يتبعه منذ السنة ١٨٣٧ بصفة «رئيس مرخص». ففي الثامن من كانون الثاني سنة ١٨٤٨ صدرت براءة سلطانية تعلن هذا الاستقلال وتعترف به، فقد جاء في مقدمات هذه البراءة:

أن الرؤساء المرخصين القائمين على تدبير أمور الكلدان والسريان والموارنة يستمرون في طاعة بطريرك الكاثوليكيين في الآستانة. أما طائفة الملكيين فإنهم في حالة خصوصية؛ لأن بطريركهم قائم بهم بالفعل والعملية منذ القديم.» وبما أنه لم يعطَ براءة بهذه الصفة، وبما أن مجلس الأحكام العدلية رأى أن الضرورة تقضي بإعطائه براءة بذلك؛ فإن السلطان أصدر أمره الهمايوني «في هذا الخصوص، وتعلقت إرادته السنية الملوكية بإجراء ما اقتضى.

ولذلك فإنه أعطى مكسيموس مظلوم براءته الهمايونية متضمنة بطريركيته على الروم الملكيين الكاثوليكيين الموجودين في أنطاكية وإسكندرية والقدس الشريف وسائر الممالك المحروسة، وعلى هؤلاء كبارًا وصغارًا أن يعرفوه بطريركًا عليهم ويراجعوه في الأمور المتعلقة بعاداتهم ولا يتجاوزوا كلامه الذي في محله ولا يبدوا قصورًا في طاعتهم له.

ثم استطرد السلطان فكرر جميع ما ورد في براءة السنة ١٨٣٧ من امتيازات إدارية وسياسية وقضائية وتحرير اجتماعي. وقد أثبتنا نص هذه البراءة الأولى آنفًا فلتُراجع في محلها. ولا تزال البراءة الثانية محفوظة في دار البطريركية الكاثوليكية في دمشق، وقد أحسن الأب يوسف حجار بنشرها بالزنك في كتابه الأنيق «البطريرك مكسيموس الثالث مظلوم» الذي ظهر حديثًا بموافقة سيادة الحبر العلَّامة كيريوس فيليبوس متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما.٦٣

البروتستانت

واستقلت المستعمرات البريطانية في أميريكة الشمالية وأصبحت الولايات المتحدة الأميريكية (١٧٧٦–١٧٨٣). وانتظمت شئون الدولة الجديدة ودرَّت مواردها فتفتحت أمام قادتها وزعمائها آفاق جديدة، وكثر المهاجرون البروتستانت حتى أصبحوا أغلبية السكان، وقال معظمهم بالبروتستانتية الكلوينية فشعروا بواجب التبشير والدعاية لإيمانهم أكثر من اللوثريين والإنكليكان. وانتظم في وليامستون في إنكلترة الجديدة في السنة ١٨٠٦ جماعة من الأتقياء الذين نذروا حياتهم «للعمل في حقل الرب»، فأسسوا في السنة ١٨٠٨ «جمعية الإخوة»، ثم التحقوا بكلية أندوفر لدرس اللاهوت وبثوا دعايتهم في كلية وليم، وقدِّر لهم النجاح فنشأت في السنة ١٨١٠ «المفوضية الأميريكية للتبشير في الخارج»،٦٤ وفي السنة ١٨١٢ اعترف مجلس ولاية مساتشوست التشريعي بهذه المفوضية.
واهتم الإخوان والمفوضون لأمر فلسطين منذ اللحظة الأولى، فأرسلوا في السنة ١٨١٩ بلينيوس فسك ولاوي بارسنس للإقامة في أوروشليم والعمل على تبشير اليهود.٦٥ وأوصوا هذين المبشرَين بدرس الموقف لمعرفة ما يمكن أن يُعمل لمساعدة المسلمين والمسيحيين وسكان مصر وسورية وفارس وأرمينية.٦٦ وأقام فسك في إزمير مدة وجاء بارسنس أوروشليم فوصلها في السابع عشر من شباط سنة ١٨٢١ وأقام فيها يوزع الأسفار ويفسرها. ثم تُوفي بداء الديزنطارية في الإسكندرية في السنة التالية. فلما علم رفيقه بلينيوس فيسك بذلك قام من إزمير إلى مالطة يشوق مرسلًا أميريكيًّا آخر كان يشرف على المطبعة الأميريكية في هذه الجزيرة للعمل في أوروشليم، فآثر تمبل هذا البقاء في مالطة. وكانت كلية أميرست Amherst الأميريكية قد أوفدت يونس كينغ إلى باريز لتعليم اللغات الشرقية في مدرسة باريز على المستشرق الشهير سلفستر دي ساسي، فاتصل فيسك به ودعاه للعمل في الشرق فلبى الدعوة بسرور. وشجعته جمعية التبشير الإنجيلية الإفرنسية٦٧ على ذلك فمنحته مساعدة مالية قدرها مائة دولار في السنة لمدة ثلاث سنوات، فأصبح هذا الشاب الأميريكي أول المرسلين الإنجيليين الإفرنسيين،٦٨ وقام المرسلان من مالطة إلى الإسكندرية فالقدس فوصلا إليها في أوائل السنة ١٨٢٣. ثم التحق بهما إسحاق بيرد موفدًا من قِبل مفوضية التبشير الأميريكية. وجاء بيروت في السنة ١٨٢٣ لويس واي Way نائب رئيس الجمعية اللندنية للتبشير بين اليهود،٦٩ واستأجر مقر الآباء اليسوعيين في عينطورة الزوق وجعله مركزًا لعمله التبشيري، وبعد بضعة أشهر عاد إلى لندن تاركًا لويسهو Lewiswho يعمل لنشر الإيمان.٧٠

البطريرك الأوروشليمي ينقبض ويقبح (١٨٢٣)

وجاء لنيوفيطوس القبرصي أن المرسلين الأميريكيين أقاموا لدى وصولهم إلى القدس عند الأرمن ووزعوا الأسفار المقدسة، ثم أظهروا المحبة لليونان وأقرضوا رهبان القبر المقدس مالًا كانوا في حاجة إليه واستأجروا غرفتين أو ثلاثًا في دير رئيسي الملائكة، ثم وزعوا الخبز يوميًّا على الطلبة الفقراء فبارك الرهبان عملهم الخيري. ولكن المرسلين بدءوا بعد ذلك يُعلمون الأولاد ألا يحترموا الأيقونات والصليب، وألا يصوموا وألا يستشفعوا والدة الإله، فاستدان الرهبان مالًا من اليهود وأعادوا إلى الأميريكيين قرضهم وطردوهم من الدير والمدارس.٧١

وداعات يونس كينغ

وخرج بلينيوس ويونس من القدس في السنة ١٨٢٥ واستقرا في بيروت وجعلاها مركز أعمالهما. وعكف يونس كينغ على درس العربية والسريانية فلازمه أسعد الشدياق لقاء أجر معين. وتُوفي بلينيوس فيسك في خريف السنة ١٨٢٥ ودفن في بيروت.

واستصدرت السلطات الروحية الكاثوليكية فرمانًا سلطانيًّا يمنع توزيع الأسفار المقدسة ويوجب جمع ما وُزع منها (١٨٢٤)،٧٢ واتصل الإكليروس الكاثوليكي الشرقي بيونس كينغ وحَضُّوه على العودة إلى حضن الكنيسة الجامعة. وكان هو قد قرر القيام إلى إزمير والجزر اليونانية فصنف ردًّا على مَن دعاه إلى الكثلكة. ونظر المعلم أسعد الشدياق في الرد فسمَّاه «وداعات يونس كينغ»، ثم نُشر هذا الرد ووُزع في جميع أنحاء الدولة العثمانية.
وجاء هذا الرد في قسمين رئيسيين؛ أولهما: اثنتا عشرة مادة في الإيمان الكلويني، والثاني: ثلاث عشرة ردًّا على السؤال: لماذا لا أقبل الكثلكة؟ وعناوين هذه الردود هي ما يلي: (١) لأن المسيح لا البابا هو رأس الكنيسة على الأرض. (٢) لأن رومة توجب التبتل على الإكليروس وهو أمر منافٍ للأسفار. (٣) لأن المسيح هو الشفيع الوحيد، ولأن لدى رومة شفعاء كثيرين؛ العذراء مريم والقديسين والملائكة. (٤) التوراة تحرِّم عبادة الصور والتماثيل ورومة تُجيزها. (٥) لأن القول بالمطهر يعاكس نص التوراة. (٦) لأن التضرع إلى القديسين لا يتفق والأسفار. (٧) لأن رومة تحرم العامة من كأس الشركة. (٨) لأن رومة تستعمل لغة مجهولة في العبادة. (٩) لأن الإيمان بالبابا يُخالف نص الأسفار. (١٠) لأننا ننال الخلاص بالمسيح لا بالقديسين. (١١) لأن رومة تقر اضطهاد البروتستانت وإفناءهم كما جرى في يوم القديس برتلماوس عندما سقط ثلاثون ألفًا في يوم واحد. (١٢) لأن رومة لا تسمح للشعب بمطالعة التوراة. (١٣) لأنه لا يمكنني أن أصير رومانيًّا والتوراة بيدي، ولأني أتمنى لكم جميعًا أن تصيروا مسيحيين ولا أكترث للقب بروتستانت.٧٣

موقف الموارنة والكاثوليك

وقدم في السنة ١٨٢٤ إسحاق بيرد ووليم غودل والتحق بهما في السنة ١٨٢٧ عالي سميت، وبدءوا العمل الإنجيلي فاستمالوا أسعد الشدياق واثنين من أساقفة الأرمن الغريغوريين، وأنشئوا المدارس لتعليم الأولاد فبلغ عددها في السنة ١٨٢٧ ثلاث عشرة مدرسة ضمَّت ٦٠٠ طالب، فأعد البطريرك الماروني يوسف حبيش حرمًا شديد اللهجة في الخامس عشر من كانون الأول سنة ١٨٢٦، وأمر به فأُعلن رسميًّا في كنيسة بيروت المارونية في الرابع عشر من كانون الثاني سنة ١٨٢٧. وجاراه في ذلك بطريرك الروم الكاثوليكيين أغناطيوس قطان،٧٤ وقُبض على أسعد الشدياق، وسُجن في دير علما ثم في قنوبين، وفرَّ أخوه فارس والتجأ إلى دور المرسلين في بيروت فأرسلوه إلى مالطة.٧٥

البطريرك مثوديوس والمرسلون (١٨٢٧)

وكتب البطريرك مثوديوس نفسه في السابع والعشرين من آذار سنة ١٨٢٧ إلى القسين بيرد وغودل يلفت نظرهما إلى أن مدارسهما تبذر الشقاق بين خِرافه. ثم أمر جراسيموس متروبوليت صور وصيدا بإقفال المدارس في مرجعيون وحاصبيا،٧٦ ولا نعلم السبب الذي حدا بزخريا متروبوليت عكار إلى العطف على المرسلين وأعمالهم، ولعله لم يفعل!

البطريرك مثوديوس وترميم الكنائس

وتميَّزت حكومة محمد علي باشا عزيز مصر بعدلها وتسامحها، فاغتنم مثوديوس الفرصة السانحة ودفع الرعية للعمل على ترميم الكنائس وتوسيعها وإنشاء بعضها إنشاءً جديدًا. فالتمس روم السويدية في منتصف تشرين الأول سنة ١٨٣٣ إعادة إنشاء كنيستين فيها،٧٧ وتقدم روم أنطاكية في أواسط أيار سنة ١٨٣٤ يرجون إنشاء كنيسة لهم، فوافق العزيز على ذلك،٧٨ وفي السابع والعشرين من آذار سنة ١٨٣٩ رفع روم حماة إلى العزيز عريضة أشاروا فيها إلى الظلم الذي لحق بهم في عهد الحكومات السابقة، وأشادوا بعدل الحكومة المصرية، وأيدوا ذلك برجوع النازحين منهم إلى حماة، والتمسوا السماح بتوسيع كنيستهم، فكان لهم ذلك على الرغم من اعتراض المتسلم والقاضي،٧٩ وكتب متروبوليت بيروت في هذه السنة نفسها للبطريرك الإسكندري يرجوه استصدار إذن بترميم دَير مارِ إلياس التينة في ضواحي بيروت، فأحال العزيز الطلب إلى محافظ بيروت محمود نامي بك وعلى قاضيها الشيخ مصطفى الجمالي لإبداء رأيهما، فوافق المتسلم واعترض القاضي مدعيًا أن الشرع الإسلامي لا يجيز ترميم المتهدم من الكنائس والأديار، ويمنع إنشاء الجديد، فضرب العزيز برأي القاضي عرض الحائط متهكمًا ووافق على ترميم الدَّير المذكور،٨٠ ووسَّع مثوديوس بناء دَير مارِ جرجس الحصن في السنة ١٨٣٧، كما أنشأ في دير النبي إلياس في ضواحي الشوير عددًا من الغرف الجديدة (١٨٤١-١٨٤٢).

مدرسة البلمند الإكليريكية (١٨٣٣–١٨٤٢)

وشعر الوجوه والأعيان والإكليروس بوجوب الانتباه إلى الرهبان لتصمد الكنيسة في وجه التيار الكاثوليكي وتكسر النصال التي كان قد بدأ يسددها المرسلون البروتستانت إلى كبد العقيدة الرسولية المقدسة. وكان مقدام هذه الفئة الأرشمندريت أثناسيوس (قصير) رئيس دير سيدة البلمند البطريركي. ووافق البطريرك مثوديوس وتسايرت أهواء المطارنة، فأنشأ أثناسيوس في السنة ١٨٣٣ مدرسة في الدير المشار إليه، وجمع بها من التلامذة نحو الثلاثين، وأحضر لها الأساتذة فوكل تدريس الدينيات واللغة العربية للخوري اسبيريدون صروف الدمشقي، واللغة اليونانية والموسيقى الكنسية لديمتريوس فيليبيدس، وكان من أساتذتها أيضًا الخوري يوسف الحداد والسيد جراسيموس (فرح) الذي صار فيما بعد مطرانًا على باياس ثم على صور وصيدا.٨١ وتحلى أثناسيوس بوفرة العلم وسعة المعرفة وثبات العزم والحزم وحسن الإدارة والدراية، فأحيا أملاك الدير القديمة وأضاف إليها أملاكًا جديدة، وجدد كنيسة الدير وجهزها بالأواني المقدسة والملابس الشريفة والكتب الروحية المفيدة، وبنى غرفًا جديدة وجهزها بكل ما يلزم، فهب الشبان الأرثوذكسيون يتقاطرون إلى البلمند من جميع أبرشيات الكرسي الأنطاكي قصد التمرن على السيرة الرهبانية. وزها البلمند واشتهر بحسن النظام والطاعة ومحبة الشغل والتعب وخدمة العلم والمعرفة. وقابل أثناسيوس إبراهيم باشا المصري مرتين واستصدر أمرين؛ أولهما: إعفاء الدير من الضرائب، وثانيهما: منع الأمير بشير الشهابي من اغتصاب مطاحنه.٨٢
وفي خلال السنة ١٨٤٠ زار البطريرك مثوديوس مدرسة البلمند وبمعيته زخريا متروبوليت عكار، فاحتفلت المدرسة احتفالًا شائقًا. وسقطت في أثناء التظاهر بالسرور بادرة لفظية بنى عليها زخريا القصور والعلالي، وقذف في قلب البطريرك أمورًا وأمورًا، فلم يطل الأمر على الأرشمندريت أثناسيوس حتى أنذر بما ساءه فأبدى الرغبة بأن يستقيل، فأجابه البطريرك أن استعفاءه قُبل. وهكذا كفَّت يده عن العمل، ورحل إلى أوروشليم بصفة واعظ، وانتثر عقد المدرسة بعد أن أخذت تزهو وتزهر، فتبدد تلامذتها الرهبان، وذهب البعض منهم إلى دير القديس جاورجيوس، والبعض إلى آثوس أو إلى صيدا، ولم يبقَ منهم في الدير سوى اثنين وعشرين راهبًا ينتظرون إصلاح الحال.٨٣

مثوديوس يستجدي الروس (١٨٤٢)

وتخوَّف مثوديوس من اتساع الجبهة ومن لجوء الكاثوليكيين والبروتستانت إلى المدرسة والتعليم في أعمالهم التبشيرية، ولم يرَ في مدرسة الأقمار الثلاثة التي حضَّ على إنشائها في بيروت ما يكفي لدرء الخطر المداهم، فاتصل بالأوساط الروسية ورماهم بآماله، فأشاروا عليه بإرسال مطران إلى روسية يطوف بلدانها لجمع ما يلزم لترميم الأديرة والكنائس وإنشاء المدارس وإعداد الكتب وطبعها.

فأوفد مثوديوس في السنة ١٨٤٢ نيوفيطوس متروبوليت بعلبك لهذه الغاية، وزوده بالتعليمات اللازمة وحمَّله بيانًا بطريركيًّا أنطاكيًّا بواقع الحال، وأرسل البطريرك مع نيوفيطوس كلًّا من الأب الأرشمندريت صفرونيوس والأب الراهب أنثيموس وكاتم أسراره السيد يوحنا باباندوبولو.

ومما جاء في هذا البيان البطريركي أن كنيسة أنطاكية رُزئت منذ القدم بنِير الذل والفقر، ثم أحاطت بها الأخطار فقام الرومانيون الكاثوليكيون يبثون عقائدهم في صدور المؤمنين، ثم اغتصبوا أفضل الكنائس والأديار ونهبوا هياكل العبادة ودور الكتب، فأمست بعض الكنائس والأديار خالية خاوية وأضحت معظم المعابد القائمة فقيرة تنقصها الآنية والأغطية، والمؤمنون هائمون في أودية الجهل تائهون في شعاب البربرية لا مدارس لهم ولا معلمون ولا مؤسسات عمومية تُعنى بشئونهم. وإذا ما أجمل المؤمنون الروسيون الصنع وساقوا الجميل فإن ما يجمع منهم سيكرَّس لإنشاء المدارس والمطابع ولترميم كنيسة القديس نقولاوس العجائبي في دمشق وغيرها من الكنائس القديمة والأديرة، ولتشييد بعض الأبنية المسيحية العامة التي لا يستغنى عنها. ووقَّع هذا البيان البطريركي كلٌّ من البطريرك مثوديوس ورؤساء الأساقفة مثوديوس حمص وبنيامين بيروت ويوانيكيوس طرابلس، وأرميميوس اللاذقية وزخريا عرقة وبرنابا حماة ويعقوب سلفكية وأشعيا متروبوليت صور وصيدا.٨٤

أزمة في كنيسة حاصبيا (١٨٤٤-١٨٤٥)

واقتصر المرسلون الأميريكيون في بادئ أمرهم على التعليم الابتدائي وتوزيع الإنجيل، ثم قَبِلوا مسيحيين شرقيين من الروم والموارنة والأرمن في الشركة، فتكونت نواة لطائفة إنجيلية في بيروت (١٨٢٧). وتابعوا أعمالهم التبشيرية، فتسربت عقائدهم إلى القرى، فهبَّ أحبار الطوائف المسيحية للدفاع، ومنعوا المؤمنين عن إرسال أولادهم إلى مدارس المرسلين البروتستانت. وفي السنة ١٨٣٢ أمر مطارنة اللاذقية وطرابلس وصور وصيدا بإحراق المطبوعات البروتستانية، فتم ذلك باحتفالات علنية في دور الكنائس، واستصدر الآباء اليسوعيون أوامر حكومية رسمية بمنع المنشورات البروتستانية من الدخول إلى أراضي الدولة العثمانية،٨٥ فرد المبشرون الأميريكيون على هذا الإجراء بنقل مطبعتهم من مالطة إلى بيروت (١٨٣٥).
وصادف المرسلون الأميريكيون نجاحًا في حاصبيا، فأَمَّ مدرستهم فيها طلاب من جميع الطوائف والتفَّ حول المعلم المبشر مائة وخمسون شخصًا يدينون بالبروتستانية. فنشأت مشادة عنيفة بين هؤلاء ومعظمهم من الروم وبين جمهور الروم في حاصبيا وتوابعها، فطالب البروتستانت في حاصبيا برفع سلطة الإكليروس الأرثوذكسي عنهم والاعتراف بهم كنيسة مستقلة، فقام مثوديوس البطريرك الأنطاكي من دمشق إلى حاصبيا في خريف السنة ١٨٤٤ واتصل بزعماء الحركة البروتستانتية، وحاول إقناعهم بالعدول عن مطلبهم والعودة إلى حضن الكنيسة، فأجابوا: «يا سيدنا نحن نريد أن نفحص بالإنجيل فإذا وجدنا طريق الخلاص فيكون المطلوب وإلا نبقى نرجع.» وأبصر آخرون رشدهم وثابوا إلى الهدى واستقاموا على الطريقة المثلى، فأصدر البطريرك البركة ورفع الحرم عنهم:

المجد لله دائمًا: مثوديوس البطريرك الأنطاكي برحمة الله تعالى. النعمة والبركة تشملان ابنتنا الروحية المحبوبة بالرب هيلانة زوجة ولدنا الروحي المحبوب بالرب الشيخ يوسف غره (الكفير). فحيث إن ابنتنا المذكورة قد قيل عنها إنه بادي منها كلام غير لايق، وإنه كان حصل بسببها منع في رجوع رَجلها إلى الكنيسة؛ ولهذا السبب تغلظ خاطرنا عليها وما أشبه ذلك، فالآن حيث إن رَجلها ولدنا المذكور قد رجع إلى أحضان أمه الحنونة التي هي كنيستنا الشرقية الأرثوذكسية المقدسة المستقيمة الرأي، وابنتنا المذكورة هيلانة قد قدمت التوبة الحقيقية بصفاوة النية فلتكون مباركة هي ورجلها أيضًا معها من الآب والابن والروح القدس ومنا نحن أيضًا، ويكون أولادها كذلك مباركين وأعمال يدها وجميع تصرفاتها المرضية لعزته تعالى، ونعمته تعالى مع بركاتنا وأدعيتنا تكون شاملة إياها، وإلى رجلها وأولادها وكل من يلوذ فيها، آمين.

أصابع الإنكليز

وكان ريتشارد وود Richard Wood الذي أخرج الموارنة عن صداقتهم التقليدية لفرنسة عام ١٨٤٠ قنصلًا بريطانيًّا في دمشق، وكان ترجمانه ميخائيل مشاقة وقضت السياسة البريطانية بمقاومة الكثلكة وعرقلة أعمال فرنسة في الشرق، وبإحباط مساعي الروس لاستمالة الرعايا العثمانيين الأرثوذكسيين، وقضت هذه السياسة أيضًا بتأييد المرسلين البروتستانتيين في الشرق، ولا سيما الأميريكيين منهم؛ لأنهم ليسوا من رعايا جلالتها البريطانية، ولكنهم يخدمون أغراضها بصورة غير مباشرة، وهكذا فإننا نرى بروتستانت حاصبيا يوجهون عريضة إلى القنصل ريتشارد وود في الثاني عشر من كانون الأول سنة ١٨٤٤ يلتمسون بها رفع الاضطهاد والتضييق الذي حلَّ بهم ويتهمون السلطات المحلية بالتعاون مع البطريرك مثوديوس وتسهيل مهمته.

فاتصل ميخائيل مشاقة بالأمير أحمد ابن الأمير سعد الدين الشهابي وفاتحه كلامًا في موضوع بروتستانت حاصبيا في التاسع عشر من كانون الأول سنة ١٨٤٤، فأجاب الأمير أحمد أنه مسلم لا «يعنيه اختلاف مذاهب النصارى»، وأنه يؤثر باطنًا البروتستانت على غيرهم؛ لأنهم أقرب في الطاعة، ولكنه مُكرَه على طاعة أولياء أمره، وأنه لو تظاهر بحماية البروتستانت لشكا خصومه أمره إلى الوزراء بواسطة جنرال المسكوب. فرأى ريتشارد وود أن يكتب إلى سعيد بك جنبلاط في أمر البروتستانت ويحضه على حمايتهم في حاصبيا بواسطة أعيان الدروز فيها، ومن هنا قول المعلم بطرس البستاني في رسالة له حررها في حاصبيا في ٢٤ حزيران سنة١٨٤٤ أنه «قبل تاريخه بيوم كان قد ذهب الشيخ أمين شمس وأخوه إلى الدار، وأروا المكتوب الذي جاءهم من الشيخ سعيد جنبلاط وعاتبوه بما أظهره لنحو أبو بشارة وجمهورنا، فأجاب الأمير أنه إن شاء الله ما عاد يصدر منه مثل هذا الشيء.»

رأي المعلم بطرس البستاني (١٨٤٥)

ولوى المرسلون عِنانهم وأرادوا أن يقصروا ويكفوا فأخذوا رأي كبير الإنجيليين الوطنيين آنئذٍ صديقهم الحبيب المعلم بطرس البستاني، فحرر رسالة في هذا الموضوع في الثاني والعشرين من كانون الثاني سنة ١٨٤٥ جاء فيها:

أن ترك أهالي حاصبيا ينتج منه شرور كثيرة:

(١) أنه يكون ثقلة واضطهاد شديد على الذين يرجعون من أهالي بلدهم، وربما يصير خطر على حياة البعض منهم. (٢) إذا تركناهم في هذه الحال يصيرون من أشد أعداء طريقتنا وينسبون خراب بيوتهم إلينا، وهذا مما يكون سببًا لسد الباب علينا ليس في جهات حاصبيا فقط، بل في هذه الجهات أيضًا. (٣) أنه ينقطع عند الأكثرين من أهالي البلاد رجا إعطاء الحرية لأن يكونوا بروتستانت. (٤) إذا رجع هؤلاء إلى محلاتهم مذلولين يتحقق لدى الأضداد والأحباب أيضًا أن الدولة تضاد امتداد البروتستانت في هذه البلاد. (٥) أن المحلات الموجودة فيها بعض أناس منَّا تقوى شوكتها علينا، وربما أنهم يفتحون علينا أبوابًا جديدة حتى يصوروا عند الدولة وبقية أضدادنا، وربما عند أحبابنا، بأننا منشئون مفاسد في البلاد ويمنعون الناس الذين تحت سلطانهم عن مبايعتنا ومخالطتنا، ونرجع إلى الحال القديم وتقوى شوكة الإكليروس على رعاياها. (٦) أن الذين يريدون أن يتبعوا الحق أو الذين هم قريبون إلى الحق إذا أرادوا أن يتظاهروا فيه في أماكنهم تقوم عليهم أهالي بلدهم ويعملون بهم ما عمله أهالي حاصبيا بهؤلاء الفقراء المساكين. (٧) حيث إن حاصبيا هي على نوع ما منتظر الجميع أصحابًا وأعداءً، فإذا رأوا انتهاءها على هذه الحال يجعلون يهزون روسهم علينا ويقولون: إيه إيه قد رأت أعيننا! (٨) أن الناس في حاصبيا إذا سمعوا بتركنا لهؤلاء وعدم السؤال عنهم من أحد الأرجح أنهم يهجمون على بيوت هؤلاء وبيوت الباقين هناك ويؤذونهم في مالهم وحالهم. ولكن إذا افتكروا أن مادتهم للآن ممسوكة ولو أن فكرهم وهميًّا، فإن الوهم يمنعهم نوعًا عن إتمام كل مقاصدهم الردية. (٩) إذا فشا هذا الخبر هناك وأراد أصحاب الأعيال من هؤلاء أن يأتوا بعيالهم إليهم أو أراد الباقون هناك أن يرحلوا من البلد يتعرضهم أهاليها خوفًا من رحيل البعض من أقاربهم وأعيالهم معهم، وهذا عندهم مضر لهم ديانة ودنيا. (١٠) متى انقطع حبل الرجا فإن الذين باقون هناك كقسطة المجدلاني وغيره ربما يموت الفكر من عقولهم ولا يعودوا أن يترجوا إمكان تمذهبهم بمذهب البروتستانت هناك، وهكذا يتلاشى هذا الفكر بالكلية ويتركون العادة الحميدة في اجتماع سرًّا للصلوات والقراءة معًا، وناهيك أن أضدادهم يبالغون في منعهم عن ذلك. (١١) إن الذين ماسكون في حبل الباقين هناك مثل المشايخ وبعض الأمراء متى تحققوا لديهم ذلك يخافون ولا يعودون يتجاسرون على حمايتهم وصيانتهم من أعدائهم كما يفعلون الآن حتى ولا يعودون يقبلونهم في بيوتهم. (١٢) متى رأوا ذلك يحرقوا الكتب التي هناك وربما يختلسون الحوايج. (١٣) متى رأت الدولة ذلك ربما أن والي الشام يرسل بطلبهم باجتهاد أو أن والي بيروت يطردهم من كل ولايته.

والنتيجة أن الشرور الناتجة من ذلك هي كثيرة، فمنها ما أراها ومنها ما يراها الناس الفطِنون. هذا وإني لا أرى شرًّا من حفظهم، وإذا وُجد شيء من ذلك فلا يكون بالنسبة إلى الشرور الناتجة من عكسه شيئًا. وأنا أعلم أن الخسائر التي صارت بسببهم هي كثيرة؛ ولهذا لا يسوغ لنا أن ننسى كل تلك الخسائر لأجل ما نضيفه إليها من خسارة جزئية، وأنا أظن الناس المسيحيين إذا طلبت منهم المساعدة لهؤلاء الفقراء المضطهدين فلا يحبسون إحسان رأفتهم عنهم؛ لأني أحقق أن محبة الإحسان في كنايس البروتستانت إذا لم تكن أعظم منها في بقية الكنائس فإنها تكون بالأقل مثلها.

والتدبير الذي يظهر لي الآن أنه الأوفق هو: (١) أن يعطى كم غرش للمحتاجين منهم على سبيل الإحسان لكي يبعثوها إلى أعيالهم الذي يعرون جوعًا. (٢) أن شاهين غبريل يخدم عند أحد الأمراء أو المشايخ في هذه البلاد، والأحسن أن يخدم عند الشيخ سعيد جنبلاط. (٣) أن شاهين أبو بركات وناصيف الريس يسكنوا في نيحا تحت نظر الشيخ سعيد ويتعاطيا أمر البيع والشرا. (٤) أن يوسف بندر ونقولا عيد ونقولا حصلب يدقون بارود في عبيه أو بحمدون. (٥) أن إلياس غبريل يتعاطى صناعة الصياغة في عبيه أو بيروت. (٦) أن جريس الريس وأخوه منصور يتعاطى السكافة في كفر متَّى أو غير مكان بالقرب من عبيه. (٧) أن نقولا أبو ناعسة وأولاده يكونون في نيحا أساكفة. (٨) أن فارس الدبغي يبقى في عمله أو يفتح مدرسة في إحدى ضياع الجبل، وإذا وجد أحد بعد هؤلاء يكون تدبيره كتدبيرهم وكل منهم يجتهد على جلب عياله أو يبقيهم هناك حسب إرادته. وإذا تعذر تدبير أحد منهم على الطريقة المذكورة فربما يوجد البعض من المشن يريده أن يخدم في بيته، وأنا أظن أنه لأجل نفوذ هذا التدبير لا يلزم أكثر من ألفين غرش التي أنا مستعد أن أجمعها وأساعد فيها من مالي على قدر استطاعتي.

فأرجوكم ثم أرجوكم لا تسدوا آذانكم عن صراخ هؤلاء الفقراء المساكين ولا تحبسوا أحشا رأفتكم عنهم بعد أن عملتم معروفًا جزيلًا وخيرًا وفيًّا، وأترجاكم أن تنظروا بعين الرحمة إلى ضيقتهم الحاضرة وتفرجوا منها عنهم على قدر إمكانكم، ولأجل تقدمة ما يجب عليَّ لهؤلاء أنا تجاسرت بتقديم أعراضي إليكم لكي تفحصوا ما فيه، وعلى كل حال كل شيء راجع لخاطركم. طالب دعاكم بطرس البستاني.

الأمطوش الأنطاكي في موسكو (١٨٤٨)

وكان فيلارتيوس صاحب التعليم المسيحي المطول ومحب الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة مطرانًا على موسكو، فلما طلب مثوديوس البطريرك الأنطاكي المساعدة في السنة ١٨٤٢ هب فيلارتيوس للعمل وتلبية النداء، فاستأذن المجمع الروسي المقدس بأن تعطى كنيسة الصعود والقديس أيباتيوس في موسكو الواقعة بالقرب من الكرملين للكرسي البطريركي الأنطاكي، فأقر المجمع ذلك ورفعه إلى القيصر فحاز القبول في ٢٢ كانون الأول سنة ١٨٤٨. وفي السنة التالية سلِّمت الكنيسة المشار إليها مع جميع موجوداتها وما يخصها من الأراضي المجاورة إلى الكرسي البطريركي الأنطاكي لبناء أمطوش بطريركي في موسكو. واشترع المجمع الروسي المقدس أن تُستعمل إيرادات هذا الأمطوش لأجل تهذيب الإكليروس والشعب الأنطاكي.

البطاركة والبابا (١٨٤٨)

وتُوفي غريغوريوس السادس عشر في حزيران السنة ١٨٤٦، فخلفه على السدَّة الرومانية بيوس التاسع (١٨٤٦–١٨٧٨). وتحلَّى البابا الجديد بالورع والتقوى منذ حداثته وبالوداعة واللطف والمحبة، وأراد الكنيسة الجامعة واحدة مقدسة، فوجَّه في السادس من آذار سنة ١٨٤٨ رسالة إلى البطاركة الأربعة يدعوهم فيها إلى الشركة مع السدة البطرسية، وبدأت رسالته هذه بالعبارة «على السدة البطرسية العليا» In suprema Petri فعرفت بها.٨٦ ولكن رومة جهلت الشرق إكليروسًا وشعبًا وتجاهلت الماضي، فمدَّت يدها فارضة سلطتها فرضًا مدعيةً بصحة كل ما اشترعت بعد الانشقاق، معتبرة كل ما جرى في الكنائس الأرثوذكسية بعد الانشقاق خروجًا وضلالًا. وحضَّت البطاركة على الاعتراف بالإيمان الكاثوليكي الصحيح والاحتفاظ بالليتورجية اليونانية ما عدا ما أدخل عليها بعد الانفصال مما لا يتفق والإيمان والوحدة الكاثوليكيين. ثم أكدت استعدادها للاعتراف بجميع الدرجات المكتسبة والمساواة التامة بين الكاثوليكيين الجدد والكاثوليكيين القدماء.٨٧ وقد لا يختلف اثنان في حسن النية التي خالجت فؤاد بيوس التاسع، ولكن أسلوب الرسالة جعلها دعوة للدخول في الطاعة لا محاولة حبية للاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه الطرفان وإظهار الندامة والتوبة والاشتراك في جسد واحد ودم واحد.
واستلم البطاركة الدعوة الباباوية وأنعموا النظر فيها منفردين ومجتمعين وأشركوا المطارنة في ذلك، فلم يتمكنوا من الترفع بالمحبة، بل أعدوا دفاعًا وردوا الكيل كيلين،٨٨ ونبشوا الماضي وطعنوا في الادعاءات الباباوية وفي أعمال المرسلين اللاتين في الأوساط الأرثوذكسية، وأشاروا إلى الوحدة التي تربط الكنائس الأرثوذكسية وأكدوا أنهم يتعاونون بالمحبة الأخوية مسترشدين بآراء البطريرك القسطنطيني معترفين بتقدمه وباستمراره بطريركًا في عاصمة الدولة، وفي هذا غمز من قناة البابا لا اعتراف بسلطة السلطان العثماني في أمور الدين والعقيدة كما يزعم بعض المتهورين.٨٩ وأكد البطاركة في الرد على البابا أن إيمانهم اكتمل بالمجامع المسكونية السبعة وهو بالتالي لا ينقص ولا يزيد ولا يتغير،٩٠ وأضافوا أنه لن يجرؤ بطريرك أو مجمع على تغيير الإيمان المقدس؛ لأن الشعب الأرثوذكسي هو الحامي.٩١
١  هذا مما أخبر به أغناطيوس متروبوليت حمص، رواه عنه أناس ثقات فأثبته المؤرخ المجهول (ميخائيل الصباغ) كما سمعه من غير زيادة. «الحقائق الوضية»، ص١١٤.
٢  «تاريخ الطائفة الملكية»، للخوري قسطنطين الباشا، ج٢، ص١٧٥–١٨٩.
٣  «الحقائق الوضية»: ص١١٧.
٤  Neale, J. M., Patriarchate of Antioch, Appenix I, 195.
٥  متثاوس البطريرك الإسكندري إلى كنيسة أنطاكية (٢٩ نيسان سنة ١٧٦٦)، عن سجل العماد في دار الأسقفية الأرثوذكسية في طرابلس، «النعمة»، ١٩٠٩، ص٩١.
٦  برثانيوس إلى المطارنة والكهنة ولفيف الإكليروس والمشايخ والأعيان وأرباب الصنائع والمتسببين ورؤساء المراكب والملاحين، وسائر الشعب المسيحي الأرثوذكسي الذين هم في طاعة الكرسي الرسولي المقدس، حرر في أواخر نيسان في أسبوع التجديدات بعد الفصح المجيد سنة ١٧٦٦، «النعمة»، ١٩٠٩، ص٩٢.
٧  «تاريخ الشام»، للخوري ميخائيل بريك، ص٨٤-٨٥.
٨  «تاريخ الشام»، للخوري ميخائيل بريك، ص٨٨-٨٩.
٩  المرجع نفسه، ٨٧.
١٠  المرجع نفسه أيضًا، ص٩٠.
١١  «نشأة الروم الكاثوليك»، لمجهول، «الحقائق الوضية»، ص١١٩-١٢٠، و«تاريخ الشام»، للخوري ميخائيل بريك، ص٨٩.
١٢  «نشأة الروم الكاثوليك»، ص١١٩.
١٣  Neale, J. M., Patriarchate of Antioch, Appendix, I, 193-194.
١٤  «تاريخ الشام»، للخوري ميخائيل بريك، ص١١٠-١١١.
١٥  المرجع نفسه، ص١١٢-١١٣.
١٦  Rabbath, A., Documents, II, 388-389.
١٧  L’Ambassadeur au Ministre, (15 Janvier, 1730), Rabbath, A., op. cit., II, 391–394.
١٨  Mémoire du Marquis de Villeneuve concernant la Religion, (1740), Rabbath, A., op. cit., II, 563-564.
١٩  Ibid, II, 569-570.
٢٠  «لبنان في عهد الأمراء الشهابيين»، للدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد البستاني، ج١، ص٩٦–٩٩.
٢١  «نشأة الروم الكاثوليك»، «الحقائق الوضية»، ص١٢٠-١٢١.
٢٢  «تاريخ الشام»، للخوري ميخائيل بريك، ص٩٤–٩٩.
٢٣  Tomos Katallages, Tomos Agapes, Tomos Charas.
٢٤  Papadopoulos, Chrys, Dositheos Patriarches Ierosolumon, Jerusalem, 1907; Palmieri, A., Dositheos, Dict. Theol. Cath., IV, Col. 1788.
٢٥  Sathas, C., Mesaionice Bibliothece, III, 204; Papadopoulos, Th., Hist. of Greek Church and People, 161, n. 1.
٢٦  Sathas, C., op. cit.
٢٧  Byzantios, S., Constantinople, II, 33-34.
٢٨  Papadopoulos, Th., op. cit., 164–166.
٢٩  Sathas, C., op. cit., III, 216.
٣٠  Ibid, III, 218-219.
٣١  Rhallis et Politis, Syntagma, V, 143–147.
٣٢  Papadopoulos, Th., op. cit., Appendix I, Section 1.
٣٣  Ibid, 195.
٣٤  Rhantismu Stiliteusis, Papadopoulos, Th., op. cit., 393 ff.
٣٥  Rhallis et Politis, Syntagma, V, 614–616; Oeconomos, C., Soxomena Ecc., I, 478–480; Mansi, Amplissima, Vol. 38. Col. 647–622.
٣٦  Lettre a Iacovos Patmios (1755), Nea Sion, 1905, 238-239; Jugie, M., Schisme Byzantin, 307.
٣٧  Constantius, Patriarch of Antiochs, Neale, op. cit., 188-189.
٣٨  Neale, J. M., Patriarchate of Antioch, Appendix I, 196–198.
٣٩  Russian Pamphlet a propos of the Visit of Neophytos of Heliopolis to Russia, Neale, J. M., op. cit., Appendix II, 208.
٤٠  Constantius, Patriarchs of Antioch, Neale, op. cit., 188-189.
٤١  المعلم حنا العورا إلى عبد الله باشا (١٨١٨): «وليس أنا فقط، بل وكل عبيدك الكتَّاب من طايفة الكاثوليك.» «تاريخ ولاية سليمان باشا»، للمعلم إبراهيم العورا، ص٤٤٧.
٤٢  «آداب اللغة العربية في القرن التاسع عشر»، للأب لويس شيخو، ج١، ص٧-٨ و٢١–٢٣.
٤٣  «تاريخ سليمان باشا»، لإبراهيم العورا، ص٤٣١-٤٣٢.
٤٤  المرجع نفسه، ص٤٤١–٤٤٣.
٤٥  «تاريخ ولاية سليمان باشا»، لإبراهيم العورا، ص٤٤٧.
٤٦  «تاريخ ولاية سليمان باشا»، لإبراهيم عورا، ص٤٥٤-٤٥٥.
٤٧  Constantius, Patriarchs of Antioch. op. cit., 189.
٤٨  Ubicini, A., Lettres Sur la Turquie, II, 255–264, 445.
٤٩  Testa, I., Recueil, V, 138; Young G., Corps de Droit Ottoman, II, 103.
٥٠  «النبذة»، للبطريرك مكسيموس مظلوم، ص١-٢.
٥١  «النبذة»، للبطريرك مكسيموس مظلوم، ص١٤٧–١٥٣.
٥٢  المصدر نفسه، ص١٥٣-١٥٤.
٥٣  المرجع نفسه أيضًا، ص١٦٢–١٦٧.
٥٤  «النبذة»، للبطريرك مكسيموس مظلوم، ص١٨٠–١٨٢.
٥٥  Hajjar, J. Maximos III Mazloum, 88.
٥٦  للنبذة أيضًا، ص١٧-١٨.
٥٧  Charon, C., Hist. des Patriarcats Melkites, II, 176-177.
٥٨  «النبذة»، للبطريرك مكسيموس، ص٢٠٣–٢١١، و«الشهب الصبحية»، ليوسف وردة، ص١٦٦–١٧١.
Charon, C., op. cit., 162–177.
٥٩  «النبذة»، للبطريرك مكسيموس، ص٢١١–٢١٧.
٦٠  المرجع نفسه، ص٢١٨–٢٢٣.
٦١  Mansi, Amplissima, Vol. 40, Col. 267–276.
٦٢  Charon, C., op. cit., II, 207–216; Hajjar, J., op. cit., 93-94.
٦٣  Hajjar, J., Un Lutleur Infatigable le Patriarche Maximos III Mazloum, Harissa, 1956, 99; Steen de Jehay, F. von den, Sujets Ottomans non-Musulmans, 273; Charon, C., op. cit., II, 202–207.
٦٤  The American Board of Commissioners for Foreign Missions.
٦٥  Thompson, A. E., A. Century of Jewish Mission, 176.
٦٦  Strong, W., the Story of the American Board, 80.
٦٧  Société des Missions Evangéliques de Raris.
٦٨  Bianquis, J., Les Nouveaux Devoirs du Protestantisme Francais en Syrie, 24.
٦٩  The London Society for Promoting Christianity among the Jews.
٧٠  Scherer, G., Mediterranean Missions, Beirut. 1939, 1.
٧١  Papadopoulos Kerameus, Analekta, II, 458.
٧٢  Jessup. H., op. cit., I, 36.
٧٣  Ibid., 39-40.
٧٤  Anderson, R. History of the Missions of the A. B. C. F. M. to the Oriental Churches, I, 48-49; Bird, I, Bible Workin Bible Lands, 215, 222–249; Jessup. H., op. cit., I, 44.
٧٥  Bird, I, the Martyr; Tracy, J., op. cit., 280; Jessup, H., op. cit., I, 40, 183.
٧٦  Bird, I., op. cit., 228–231.
٧٧  «المحفوظات الملكية المصرية»، للدكتور أسد رستم، ج٢، رقم ٣٢٣٢.
٧٨  «المحفوظات المصرية» أيضًا، ج٣، رقم ٤٠٤٦.
٧٩  «المحفوظات» أيضًا، ج٤، رقم ٥٧٢٤ و٥٧٢٧.
٨٠  «المحفوظات» نفسها، ج٤، ص٥٩٧٩.
٨١  «الأرج الزاكي»، لأمين ضاهر خير الله، ص٣٧.
٨٢  «تاريخ البطاركة الأنطاكيين»، لغطاس قندلفت، «المنار»، ١٨٩٩، ص٤٣٥-٤٣٦.
٨٣  State of the Patriarchate of Antioch in 1850, Appendix III, Neole, J. M., Patriarchate of Antioch, 218-219.
٨٤  State of the Church of Antioch, Neale, J. M., op. cit., App. II, 210–212.
٨٥  Jessup. H., op. cit., I, 82, 83.
٨٦  Texte et Traduction, Irénikon, VI, 1929, 666–686.
٨٧  Aubert, R., Le Pontificat de Pie IX, 21-22, 580; Musset, H., Hist. du Christianisme, III, 50.
٨٨  Texte dans Mansi, Vol, 40, Col. 377–418; Popescu, T., Enciclica Patriarhilor Ortodocsi deta 1848, (Bucarest, 1935) “résumé en francais”.
٨٩  Pitzipios, L’Eglise Orientale, I, 140.
٩٠  Mansi, Vol. 40, Col. 411.
٩١  Ibid. Col. 407.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤