الفصل السادس

اليونان والروس

الروس والدين القويم

وقضت مصالح الروس بالاستيلاء على المضائق والانطلاق منها إلى المياه المتوسطة الدافئة، وعظَّم الشعب الروسي الإيمان القويم وأجلَّه وأراده منيع الساحة حصين الناحية، لا يناله مبشر بروتستانتي، ولا يطمع فيه طامع روماني، فاهتم بشأن الرعايا الأرثوذكسيين العثمانيين ولم يدخر عنهم وسعًا.

وسادت السكينة بعد معاهدة كوجك قينارجة فترة من الزمن، ولكن الشعب الروسي ظل متشبثًا بموقفه التقليدي. وفي السنة ١٧٨٣ نقض الروس العهد وضموا القرم بالرغم من تهادنهم مع الدولة، فخشيت فرنسة وإنكلترة توغل الروس في الأملاك العثمانية ونصحتا للباب العالي بالنزول عن القرم وكوبان، فتم ذلك بمقتضى معاهدة القسطنطينية في كانون الثاني سنة ١٧٨٤. وجدد الباب العالي اعترافه بحق روسية في التدخل في شئون الدولة الداخلية لحماية الرعايا الأرثوذكسيين. ثم خرج الروس في السنة ١٧٨٧ إلى القرم في موكب حافل، ولما وصلوا في طريقهم إلى خرسون كتبوا على أحد أبوابها: «الطريق إلى بيزنطة»؛ فثارت خواطر المسلمين واضطر الباب العالي إلى إعلان الحرب، فجاءت معاهدة ياسي في السنة ١٧٩٢ تثبت معاهدتي قينارجة والقسطنطينية وتعترف لروسية بالقرم بكامله وباقي الأراضي العثمانية إلى نهر الدنيستر.

وجاء نابوليون بعد حملته على مصر وسيطرته على ألمانية والنمسة يقوي تركية ليعتمد عليها ويستخدمها ضد روسية وإنكلترة. ولكن بنيان الدولة العثمانية كان قد أصبح منخورًا يهدد بالانهيار عند هبوب العاصفة. وانتصر نابوليون في موقعة فريدلند على روسية وبروسية فقابل القيصر في تيلسيت سنة ١٨٠٧ ووافق على تقسيم الدولة العثمانية، ولكنه أصر على أن تبقى القسطنطينية وبلاد الرومللي تابعتين للدولة العثمانية، فأصر القيصر على أخذ القسطنطينية، فلم تأتِ المفاوضات بنتيجة. وقامت الحرب بين روسية وتركية في السنة ١٨٠٩، واستمرت ثلاث سنوات، فعجَّل القيصر بعقد معاهدة بخارست سنة ١٨١٢ استعدادًا لهجوم نابوليون على روسية.

وانعقد مؤتمر فيينة في السنة ١٨١٥ فلم يتعرض للمسألة الشرقية؛ لأن الروس أصحاب النفوذ الأول في هذا المؤتمر خشوا أن يفقدوا حرية العمل المنفرد في الدولة العثمانية. فلما سقطت دولة نابوليون واستتب السلام في الغرب عاد الروس إلى مواصلة مشاريعهم في الشرق، وكانت أسباب النزاع بين الروس والأتراك متوافرة بفضل الحقوق التي كسبتها روسية على رعايا السلطان المسيحيين، فاعتبرت موسكو أن الواجب يقضي عليها بتحرير هؤلاء من حكم العثمانيين.

وهال الباب العالي أن يرى دول أوروبة تدخل في حِلْفٍ مقدس وتظهر كأنها أسرة واحدة تعمل بتعاليم الأسفار والإنجيل، فخاف أن يكون المقصود من هذا الحلف إثارة حرب صليبية جديدة، فكتب يستفهم من حكومتي لندن وفيينة، فأجابتاه بأن يستفهم من موسكو فطمأنته. ولكنها كانت قد آوت قره جورج زعيم الصرب سنة ١٨١٣، ثم ساعدت ميلوش زعيمهم الثاني سنة ١٨١٧، وأدخلت في خدمتها كثيرين من اليونانيين أمثال كابوديسترياس والأخوين أبسيلنتي، وساعدت اليونان على تأليف جمعيتهم السرية «هيتايرية فيليكي»، واتسعت دائرة هذه الجمعية حتى انضم إلى صفوفها في غضون ست سنوات (١٨١٤–١٨٢٠) كل يوناني ذي مكانة.

وأُعلنت الثورة على الحكم العثماني في ياشي في السادس من آذار سنة ١٨٢١، وكان زعيمها الأول ألكسندروس إيبسيلنتي ضابطًا في الجيش الروسي. واندلعت نيران الثورة في المورة وبعض الجزر، فألقى الأتراك القبض على غريغوريوس الخامس البطريرك المسكوني وهو يقوم بصلوات عيد الفصح وجرُّوه إلى باب الكنيسة بثيابه الحبرية وشنقوه، فأثار هذا العمل حَنَقَ الشعب الروسي وأضرم غيظه. فأخذت الحكومة الروسية تتحين الفرص لإعلان الحرب والتدخل في الثورة اليونانية. وحاولت بريطانية تحاشي العمل الروسي المنفرد فكانت معاهدة في لندن أوجبت استقلال اليونان، فلم يُذعن الباب العالي، فجاءت موقعة نوارين البحرية وزحف الجيش الروسي عبر الدانوب، فأكره العثمانيين على الاعتراف باستقلال اليونان (١٨٢٨).

الروس وكنيسة أوروشليم (١٨١١–١٨٤٤)

وقضى واجب حماية الدين القويم بتسهيل الحج وحماية الحجاج، وبدأت وفود الحجاج الروس تصل إلى المهد والقيامة في السنة ١٨١١، وتكاثروا سنة بعد سنة، فأنشأت الحكومة الروسية قنصلية لها في القدس في السنة ١٨١٩. وتُوفي أثناسيوس الخامس البطريرك الأوروشليمي في السنة ١٨٤٤ فذكَّرت سفارة روسية الباب العالي بالتقليد الأرثوذكسي، وأوجبت انتخاب خلفه في أوروشليم نفسها لا في القسطنطينية، فرفعت أخوية القبر المقدس كيرلس الثاني إلى السدة الأوروشليمية (١٨٤٥–١٨٧٢). وكانت هذه الأخوية قد قبلت في عدادها راهبًا روسيًّا اسمه أرسانيوس. وعُني هذا الراهب بشئون الحجاج الروس وشاهد ما كانوا يقاسونه من الضيق والتضييق في أثناء إقامتهم في القدس. فلما أوفدته الأخوية إلى روسية لجمع الإحسانات دعا لإنشاء مقر للحجاج الروس في القدس. وفي السنة ١٨٣٩ تبنى قسطنطين باسيلي رأي أرسانيوس وألحَّ على تنفيذه، وأشار بتخصيص دير الصليب المقدس أو بترميم ديري القديسة تيودورة وإبراهيم وإيواء الحجاج فيهما، ولم يتخلَّ رهبان القبر عن هذين الديرين، ولكنهم تبرعوا بترميمهما على حساب الأخوية.

وشاطر المجمع الروسي المقدس المجمعين الأنطاكي والأوروشليمي مخاوفهما من اهتمام اللاتين بنصارى الشرق، فأوفد في الرابع العشرين من حزيران سنة ١٨٤٢ الأرشمندريت بورفيريوس أوسبنسكي إلى القدس لدرس الموقف عن كثب، وقام بوفيريوس بالمهمة الموكولة إليه خير قيام وعاد في السنة ١٨٤٤، فأشار على المجمع الروسي بوجوب التدخل الفعلي واقترح إرسال أسقف روسي إلى أورشليم وعددًا من الرهبان المثقفين للإقامة في المدينة المقدسة وإعطاء المثل الصالح في الحياة الرهبانية الحقة، ونقل الكتب الدينية وغيرها إلى العربية وتوزيعها في الأوساط الأرثوذكسية المحلية. فقبل المجمع الاقتراح وأمر بورفيريوس بتنفيذه، ولكنه لم يزوده بالأموال اللازمة.

نبذة روسية عن كنيسة أنطاكية (١٨٥٠)

وعطف الروس حكومة وشعبًا على كنيسة أنطاكية منذ أيام البطريرك مكاريوس، وشجعوا العطاء بسخاء في عهد مثوديوس، كما سبق وأشرنا، وازداد اهتمامهم في النصف الأول من القرن الماضي بمصير الأرثوذكسيين والأرثوذكسية في أبرشيات أنطاكية فكثر البحث وتعددت التقارير. وظهرت في السنة ١٨٥٠ نبذة باللغة الروسية عن كنيسة أنطاكية حوت معلومات شتى مفيدة.١

البطريرك

والبطريرك الأنطاكي بموجب هذه النبذة يجب أن يكون من أبناء كنيسة أنطاكية، وأن يُنتخب انتخابًا من الشعب والإكليروس الأنطاكيين. وظل البطريرك الأنطاكي في عرف صاحب النبذة يُنتخب انتخابًا من أبناء كنيسة أنطاكية منذ القرون الأولى حتى بداية القرن الثامن عشر حينما أصبح انتخابه بيد المجمع القسطنطيني نظرًا لانتشار الكثلكة. ويتمتع البطريرك الأنطاكي في رأي صاحب هذه النبذة بحق دعوة المجمع لتوطيد النظام في الكنيسة أو لإصلاح شئونها، وهو مسئول في جميع أعماله وفي إدارة الأوقاف أمام المجمع الأنطاكي. وللبطريرك الحق في تأديب الرعايا الأرثوذكسيين بالسجن أو الإقصاء، ولكنه لا يجرؤ على ممارسة هذا الحق لخوفه من التحاق أبنائه بالكنائس التي اتحدت مع رومة أو مِن تدخُّل قناصل الدول. وله أن ينظر في الدعاوى الحقوقية بين أبناء رعيته برضا الطرفين، وللسلطات التركية أن تبطل هذه الأحكام عند اللزوم، وليس للباشاوات ومحاكمهم أن ينظروا في الدعاوى التي تُقام على البطريرك، فالحق في ذلك يعود إلى الباب العالي. وللمجمع الأنطاكي حق النظر في كل مخالفة كنسية يرتكبها البطريرك، وهو مسئول عن طاعة الأرثوذكسيين وخضوعهم للسلطات التركية، وقد تُحجَز حريته أو تُنهى حياته إذا لجأ رعاياه إلى العنف والتمرد على هذه السلطات. وفي السنة ١٨٢٦ قاسى البطريرك مثوديوس مرارة السجن لمناسبة الثورة اليونانية، وسُمح له بالخروج من السجن يوم عيد الفصح فقط ثم أُعيد إلى الحبس. وفي السنة ١٨٤٥ تعهَّد مثوديوس أمام باشا دمشق بإخلاء رعاياه في حاصبيا إلى السكينة وعدم التعدي على الدروز، فلان الأرثوذكسيون لأمر البطريرك وأطاعوه، ولكن الدروز ذبحوا مائتين وخمسين أرثوذكسيًّا وأهانوا النساء والأولاد. وللبطريرك وكيل في القسطنطينية كالباشاوات، ولكن التماساته من الباب العالي تتم على يد البطريرك القسطنطيني.

ومقر البطريرك في دمشق ليس واسعًا، ولكنه ليس ضيقًا وهو قديم غير مرتب. ويقيم الأرشمندريت وكيل البطريرك والكاتبان في غرف حقيرة ضيقة على السطح، وليس للمسيحيين الأرثوذكسيين في دمشق سوى كنيسة واحدة هي كنيسة البطريركية. وقد خصصت إحدى حناياها لاسم القديس نقولاووس وجُدِّدت بالمال الذي جمعه مطران بعلبك في موسكو.

وكنيسة أنطاكية فقيرة ويعود فقرها إلى أسباب أربعة؛ أولها: أن البطريرك سيرافيم الذي دان بالكثلكة نقل إلى لبنان مالها المنقول، وأن أقرباء البطريرك كيرلس نهبوا البطريركية عند وفاة هذا البطريرك في السنة ١٧٢٠. والثاني: أن انقسامات هذه الكنيسة في القرنين السادس عشر والسابع عشر أثقلت كاهل البطريرك والأهلين بالديون. والثالث: أن النزاع بين الروم والروم الكاثوليك الذي دام قرنًا كاملًا أدى إلى خسائر جمة. والرابع: أن الحروب والفتن التي ميَّزتِ النصف الأول من هذا القرن في سورية أفقرت المسيحيين جدًّا.

الأبرشيات

وأبرشيات أنطاكية كانت ست عشرة في القرن الماضي، أما الآن فإنها عشر فقط، فقد ألحقت أبرشية أكيس أو أخالتكيس بالكنيسة، وأبرشيات هيليوبوليس وآمد وبصرى وتدمر وأرضروم قد انمحقت تمامًا. ولقب أسقف هيليوبوليس أمسى شرفيًّا يحمله الأسقف الموجود في موسكو. واللقب أسقف بالميراس يطلق على رئيس دير القديس اسبيريدون، وأسقف صور وصيدا وحده يحمل لقب متروبوليت، أما الباقون فإنهم رؤساء أساقفة. والأسقف الأنطاكي ينور النفوس بكلام الله ويقدسها بالأسرار ويضبطها بالقانون. وهو يشارك شعبه الفقر والذل والاضطهاد، ويزورهم جميعًا فقراء وأغنياء مرة في السنة ليعيش من التقدمة، وبابه مفتوح دائمًا للإرشاد والقضاء والحماية والضيافة. والبطاركة وبعض الأساقفة يونانيون منذ بداية القرن الماضي، وقد خدموا الكنيسة خدمات جليلة، فإنهم حفظوا استقلالها عن رومة وقضوا على الانقسام وضبطوا الأديرة وحموها من عسف المشايخ وذويهم، وقد أوقفوا انحياز الأساقفة العرب إلى رومة وأسمعوا المتحدين مع رومة صوت الكنيسة كلها وصوت الأمة اليونانية.

الأديار

والأديار البطريركية خمسة؛ دير القديس جاورجيوس ودير سيدة البلمند ودير النبي إلياس ودير سيدة صيدنايا ودير القديسة تقلا. ودير القديس جاورجيوس في أبرشية عرقة ولا نعرف مؤسسه ولا نعلم شيئًا عن تاريخ تأسيسه، وقد رممه البطريرك أثناسيوس في السنة ١٧٠٠ ووسعه البطريرك مثوديوس في السنتين ١٨٣٧ و١٨٣٨. ورهبانه سوريون وعددهم ثلاثون وليس لهم هيغومينس يدبر شئونهم، ولكن البطريرك يعين من الرهبان من يقوم بهذه الوظيفة. وأوقاف الدير واسعة تشمل الزيتون والتوت والكرمة ويقوم على حرثها والاعتناء بها شركاء يتقاضون ربع دخلها. وسكان المنطقة على اختلاف مللهم يكرمون الدير ويزورونه تبركًا واحترامًا، وأشدهم تعلقًا به النصيرية؛ فإنهم ينذرون أولادهم عند الولادة للقديس جاورجيوس شفيع الدير ويستفكونهم عن الزواج بهدايا يقدمونها للدير. ويخرج الرهبان مرة في السنة لِلَمِّ العطايا فيقدم النصيريون على العطاء حيثما كانوا. وأكرم ملوك الكرج هذا الدير فقدموا له الأواني والحلل المقدسة، وسمحوا لرهبانه بجمع التبرعات في بلاد الكرج مرة في كل ثلاث سنوات.

ثم يذكر كاتب هذه النبذة دير البلمند وعناية البطريرك مثوديوس به وجد أثناسيوس الأب الراهب وسعيه لتجديد الدير وإنشاء مدرسة إكليريكية فيه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في فصل سابق. وينتقل صاحب النبذة إلى الشوير فيصف بإيجاز ديرها — دير النبي إلياس — فيقول: إنه صغير ذو كنيسة صغيرة أنيقة. ثم يذكر عناية هيغومينة الأب مكاريوس اليوناني وسعيه لتوسيع الدير بإنشاء غرف جديدة في طبقته العليا سنة ١٨٤٢-١٨٤٣، وبجعل عدد رهبانه ثمانية وعدد الخدم ثمانية أيضًا.

ويصف صاحبنا دير سيدة صيدنايا فيقول إن عدد غرفه ثمانون وإن عدد راهباته ثمانٍ وثلاثون. ثم يشيد بفضلهن وانقطاعهن وترفعهن عن أكل اللحوم واكتفائهن بالخبز والبرغل والزيت، وخضوعهن لراهبة ينتقيها البطريرك لتدبير شئونهن، وقيام أمينين على إدارة الدير أحدهما كاهن من كهنة الدير والآخر علماني من دمشق أو صيدنايا. وبعد ذكر الأيقونة العجائبية والكنيسة يخلص إلى القول: «إن الدير جنينة أزهار مكرَّسة لفائقة الطهارة ومستشفًى لشفاء النفوس الخاطئة، وينبوع نعمة ومبعث نور للعذارى.» ودير مارِ تقلا معلولا «عش النسر» مهمول ليس فيه سوى هيغومينس وشماس ومبتدئين.

ثم ينتقل واضع هذه النبذة إلى أديار الأبرشيات فيذكر بإيجاز ديرَي القديس دومينيوس والنبي إلياس في أبرشية عرقة، وديورة مار يعقوب وسيدة الناطور وسيدة كفتين ومارِ متر ومارِ جرجس في أبرشية طرابلس، وأديار سيدة حماطورة وكفتون والنورية ومار جرجس الجرف ومار ميخائيل بقعاتا ومار جرجس سوق الغرب في أبرشية بيروت.

الكهنة

والكهنة خدام الرعية يُذكروننا بعهد الرسل، فإنهم ينتقون من الشعب انتقاء مواطنين متعلمين محترمين مزوجين متقدمين في السن ضابطين أمورهم البيتية. والكاهن السوري لا يعول على رعيته فإنه مستقل في أموره المادية له بيته ورزقه وأبناء يقومون بحاجاته عند الكبر. وهو أول خدام الشعب يعمل وفق رغائبه ويضحي لأجل خلاصه عملًا بأوامر السيد، وهو لا يستكبر ولا يتجاوز حده خشية استبداله بغيره، ويختلف الشعب في أمر انتقاء الكاهن فينقسم على نفسه وعندئذٍ يتدخل الأسقف بلباقة ليعيد السلام والوئام.

وليس لكنيسة أنطاكية طبقة من الوعاظ المتجولين، ففي القسطنطينية وإزمير وأوروشليم وغيرها وعاظ متجولون يرشدون حيثما تدعو الحاجة بإذن الأسقف وامتثالًا لأمره. والكنائس الشرقية فرَّقت منذ القدم بين الكهنة المعلمين المرشدين والكهنة خدام الرعية؛ إذ ليس على هؤلاء إلا أن يتحلَّوا بالإيمان والصلاح، أما أولئك فيجب أن تكون لهم موهبة الفصاحة.

ولا بدَّ من الاعتراف برزانة الكاهن الأنطاكي وتواضعه وترفُّعه عن الغرض ومحافظته على القانون الكنسي واجتهاده في تعليم أولاد رعيته.

وبين الذين يعملون في حقل الرب ويقدمون المثال الصالح وكيل البطريرك الأرشمندريت أغاثنغلوس Agathangelos، فهو يوناني وديع في الأناضول يجيد التركية والعربية ويحسن تصريف الأعمال. ومنهم أثناسيوس هيغومينس دير البلمند، فهو وقور موهوب نشيط يجيد الوعظ ويحسن الإدارة. ومكاريوس هيغومينس دير النبي إلياس يوناني يحظى بعطف الأمير حيدر الحاكم في لبنان، وقد افتقد الأمير في محنته يوم نفي بأمر السلطات المصرية فآوى زوجة الأمير وأولاده. وهو غيور يستعطف الأمير لحماية الأرثوذكسيين من الظلم؛ ولذا تعلق هؤلاء به وزاد احترامهم له. وأشعيا هيغومينس دير حماطور يوناني أيضًا يجيد اللغة العربية ويفهم تقاليد الرعية وعاداتها، وهو فصيح اللسان سليم الاستنتاج. والأب يوسف (مهنا) خادم رعية دمشق أبو عائلة كبيرة تقي صبور متواضع، وقد لبى دعوة البطريرك فحث الأهلين على إرسال أولادهم إلى مدرسة الطائفة، وتولى تعليم الأسفار فيها واللغة العربية والمنطق. وقد أدى اهتمامه بالمدرسة إلى الانقطاع عن خدمة الرعية، فانقطع عنه وارد البطرشيل، وهبَّ أولاده لمعونته المادية ليتمكن من تكريس وقته للمدرسة. والأب اسبيريدون خادم الرعية في طرابلس أحد تلامذة الأب يوسف، وهو طرابلسي رزين يدرس قواعد اللغة العربية في مدرسة طرابلس. والأب المعرِّف المرشد في أبرشية بيروت تقي ورع يعمل في المطبعة لإعداد المخطوطات وطبع الكتب الكنسية.

المدارس والتعليم

وقلما يخلف أبناء الكهنة آباءهم في الخدمة؛ ومن هنا خلو الكنيسة الأنطاكية من كهنة في مقتبل العمر. ورغب البطريرك مثوديوس في جمع اثني عشر شابًّا من مختلف الأبرشيات لإعدادهم للخدمة الروحية، ثم عدل لضيق المكان وقلة المورد. وليس للطائفة مدارس للعامة، فانتقاء الكهنة يتم بالانتخاب. وليس هنالك خَدَمة معيَّنون (قندلفت) ولا كَتَبَة؛ وبالتالي فإن الضرورة تقضي بالجمع في مدارس الطائفة بين تعليم العامة والتعليم الكنسي. وجميع الطلبة يتعلمون الموسيقى الكنسية والتعليم المسيحي والتاريخ المقدس ليفهموا دينهم ويحسنوا التعبد في الكنيسة.

ويقترح صاحب النبذة إنشاء معهد للوعظ والتبشير يضم عددًا من الرهبان الصغار الذين زهدوا في العالم وكرَّسوا حياتهم لله والكنيسة والعلم، فيعدُّهم مِلحًا للأرض ونورًا للعالم ويؤهلهم للوعظ ورئاسة الكهنوت، ثم يقول إن هذا كان رائد مدرسة البلمند، ويضيف أن للطائفة مدارس ثلاث في دمشق وبيروت وطرابلس، ويؤكد صاحبنا أن مثوديوس البطريرك أنشأ مدرسة دمشق، وأن المال اللازم لإنشائها جاء من الإحسانات التي جُمعت في روسية في السنتين ١٧٣٦ و١٨٣٩ ومن تبرعات روسية أفرادية جمعها لهذه الغاية بطريرك أوروشليم. أما التعليم في هذه المدرسة فإنه كان ابتدائيًّا وثانويًّا وشمل الثانوي اللغات العربية والتركية واليونانية وشيئًا عن البيان والمنطق تلقاه بعض الطلبة على يد الأب يوسف مهنا.

ونشأت مدرسة بيروت في المطرانية وبتبرعات أبناء الطائفة ومساعدات أديار الأبرشية، ثم وسِّعت في السنة ١٨٤١ بالمال الذي جاءها من الشعب الروسي لهذه الغاية، وبالمعونة التي قدمتها خزينة القبر المقدس. وبرنامج التعليم فيها هو برنامج مدرسة دمشق يضاف إليه اعتناء خصوصي باللغتين اليونانية والإيطالية وبالحساب والجغرافية. وبلغ عدد الطلبة في هذه المدرسة في السنة ١٨٤٣ المائتين.

وقامت مدرسة طرابلس في المطرانية أيضًا في بيت يخص القبر المقدس وبتبرعات المطران وصندوق الكنيسة، وشمل التعليم فيها الدورة الابتدائية وصفًّا ثانويًّا واحدًا. وعلَّم معلِّم علماني سبعين طالبًا العلومَ الابتدائية في بيت بالقرب من كنيسة القديس جاورجيوس في المينا وذلك على حساب الأهالي.

ومطبعة بيروت قديمة العهد تعطلت بعد أن قصف الروس بيروت، ثم عادت إلى العمل في السنة ١٨٤٢ بعد أن استوردت أمهات الحروف من فرنسة، وهي تطبع ألوف النسخ من المزامير وخدمة القداس.

الشعب والكنائس

والشعب الأرثوذكسي الأنطاكي متدين متزن معتدل نشيط، وحماة الإيمان فيه الأمهات والكهنة والتقاليد والعادات. وعلى الرغم من كثرة الضرائب وتنوع البلص وشدة الفقر فإن الشعب يؤدي بوجه طليق النورية للأساقفة والتبرعات للأديار والمدارس والكنائس.

وتسمح السلطات العثمانية بترميم الكنائس وإعادة بنائها، ولكنها تطلب شهادة المسلمين بصحة ما يطلبه النصارى من حيث المكان الذي يقام فيه البناء وحجم هذا البناء. وإذا رغب الشعب في إنشاء كنيسة جديدة فإنهم يكرسون بيتًا من البيوت لهذه الغاية ويتعبدون فيه مدة من الزمن، ثم يسعون للحصول على شهادة من المسلمين تثبت قيام كنيسة في محل البيت المهدوم.

ولا تخلو مدينة أو قرية من كنيسة، وكنائس المدن أنيقة أما كنائس القرى فإنها فقيرة. وعدد الكنائس التي هدمتها الزلازل أو نهبتها أيدي الألبانيين ورعاع القوم في الحوادث الأخيرة في لبنان يربو على السبعين. ولا بدَّ من ترميم هذه الكنائس وتأثيثها، والواجب يقضي بالتعاون مع إخواننا المسيحيين في سورية. وفرنسة والنمسة تمدان الموارنة والمتحدين مع رومة بمبالغ كبيرة من المال، فهل ينسى الشعب الروسي السوريين المتحدين معه بالإيمان، وموسكو قلب روسية قد رحبت بالاستجداء الذي قام به متروبوليت هيليوبوليس؟

ويذكر صاحب هذه النبذة عدد الأرثوذكسيين في أبرشيات أنطاكية في السنة ١٨٥٠ فيجعلهم ١٤٠٠ في أبرشية أدنة، و٤٠٠٠ في أبرشية اللاذقية و٤١٦٠ في أبرشية حماة و٣٢٠٠ في أبرشية حمص و١٢٠٨٠ في أبرشية عرقة و٧٨٠٠ في أبرشية طرابلس، و٢٠٠٠٠ في أبرشية بيروت و٥٦٠٠ في أبرشية صور وصيدا و٢٨٠٠ في أبرشية سلفكية وهيليوبوليس و٤٨٠٠ في أنطاكية ودمشق وحوران و٥٠٠ في حلب، بحيث يصبح مجموعهم ٦٦٣٤٠ نسمة. ويُذكر لهذه المناسبة أن عدد الروم الكاثوليكيين كان آنئذٍ ٣٦٧٣٥، وعدد الموارنة ١٢٠٦٧٧.

أيروثيوس البطريرك الأنطاكي (١٨٥٠–١٨٨٥)

وكان أثناسيوس الخامس البطريرك الأوروشليمي قد رقد بالرب في السنة ١٨٤٤ بعد رئاسة دامت سبعة عشر عامًا، وكان قد أقام في قيد حياته أيروثيوس مطران الطور ووكيله في القسطنطينية خليفةً له في الكرسي الأوروشليمي، فعُرف أيروثيوس بالذياذوخوس. وكان هذا الأمر — أي ولاية العهد — قد جرى بعض مرات في الكرسي الأوروشليمي وانتهى بولاية عهد أيروثيوس، وحرص أيروثيوس في أثناء ولاية عهده على استقلال الكرسي الأوروشليمي فصدَّ تدخُّلَ البطريرك المسكوني في أمور أوروشليم مرارًا. فلما قضى أثناسيوس في السنة ١٨٤٤ سعى البطريرك المسكوني بأيروثيوس لدى السلطات العثمانية وأفسد الحالة، فأشار إلى تجوال أيروثيوس في روسية لجمع الحسنات واتهمه بالتحيز للروس وخدمة مصالحهم، فاعترض الباب العالي على ترشيح أيروثيوس فانتخب المجمع الأوروشليمي كيرلس متروبوليت الله بطريركًا على أوروشليم، فعرف بكيرلس الثاني (١٨٤٥–١٨٧٢).

وعقيب رقاد البطريرك مثوديوس البطريرك الأنطاكي انتدب الشعب الأنطاكي أيروثيوس متروبوليت بيروت بطريركًا لأنطاكية، والتمسوا بواسطة البطريركية القسطنطينية قبول ذلك الانتخاب لدى المراجع الإيجابية، ولكن أيروثيوس الذياذوخوس مطران الطور بذل الوسائل لتخويله هذه المنصة كما يستفاد من تحرير زخريا مطران معلولا إلى زخريا مطران عكار الصادر عن دير مار تقلا في أول تشرين الأول سنة ١٨٥٠. وفازت المساعي فنُصب أيروثيوس الذياذوخوس بطريركًا على أنطاكية في القسطنطينية، واستلم عصا الرعاية في كنيسة بطريركيتها في التاسع من تشرين الأول سنة ١٨٥٠. ولم يشأ أيروثيوس بيروت مناصبته العداوة خوفًا من أن تجد الأيدي الأجنبية الغربية يدًا للفساد.٢

أبرشيات أنطاكية

وجاء في السينتغماتيون Syntagmation الصادر عن البطريركية المسكونية سنة ١٨٥٥ أن المطارنة الخاضعين لكيريوس أيروثيوس الفائق الغبطة والفائق القداسة بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق كانوا كما يلي: (١) متروبوليت حلب وأكسرخوس سورية الأولى الفائق الشرف. (٢) متروبوليت أبيفانية وأكسرخوس سورية الثانية الفائق الشرف. (٣) متروبوليت اللاذقية وأكسرخوس الثيوذورياذة الفائق الشرف. (٤) متروبوليت سلفكية أو معلولا وأكسرخوس سورية الفائق الشرف. (٥) متروبوليت آمد أو أيديسة وأكسرخوس ما بين النهرين الفائق الشرف. (٦) متروبوليت صور وصيدا وأكسرخوس فينيقية الساحلية الفائق الشرف. (٧) متروبوليت طرابلس وأكسرخوس فينيقية اللبنانية الفائق الشرف. (٨) متروبوليت بيروت وأكسرخوس فينيقية الساحلية الفائق الشرف. (٩) متروبوليت أدنة التي تدعى باياس وأكسرخوس قيلقية الأولى والثانية الفائق الشرف. (١٠) هيليوبوليس التي تدعى بعلبك وقد تضاءلت. (١١) بالميراس وقد اختفت. (١٢) أركاذية التي تدعى عرقة وعكار. (١٣) متروبوليت ثيودوسيوبوليس التي تدعى أرضروم وأكسرخوس أرمينية الكبرى الفائق الشرف. (١٤) متروبوليت أكيكوس الفائق الشرف.٣

الخط الهمايوني ونظم الكنيسة (١٨٥٦)

وأحب نابوليون الثالث أن يستميل الإكليروس الكاثوليكي في فرنسة لتدعيم سلطته فيها، فداهن وتملَّق وأظهر اهتمامًا كبيرًا وغَيرة شديدة على مصالح الكنيسة اللاتينية في الشرق، فأثار قضية الأماكن المقدسة في أوروشليم وتوابعها. فهب الروس للدفاع عن حقوق الروم الموروثة في هذه الأماكن نفسها. ولم ترضَ بريطانية عن مطامع الروس في شرق المتوسط والبلقان، فاختطَّت لنفسها سياسة «المحافظة على سلامة الدولة العثمانية». وكانت حرب في القرم وكانت معاهدة في باريس سنة ١٨٥٦، وأوجبت هذه المعاهدة عدم التدخل في شئون الدولة العثمانية الداخلية، وعدم الانفراد في حلِّ ما ينشب من مشاكل بين الدولة المسيحية وبين السلطان. ورأى السلطان أن يُطمئِن الدولَ المسيحية وشعوبها عن مصير رعاياه المسيحيين، فأصدر خطًّا همايونيًّا أعلن فيه المساواة بين المسلمين والمسيحيين في السلطنة وألحقه بنص معاهدة باريز،٤ فدخلت النصرانية في دور قانوني جديد في علاقاتها بالإسلام والمسلمين.

وكان البطريرك القسطنطيني بعد أن ينتخبه مطارنة كرسيه ووجهاء شعبه ينال براءة سلطانية تؤيد حقوق الملة، وتمنع مداخلات الحكام والموظفين في المسائل الروحية والملية وفي الاختلافات الواقعة بين الرؤساء الروحيين والشعب. وكان لدى البطريرك المنوه به مجلس مختلط مؤلَّف من إكليروس أبرشية القسطنطينية وبعض العلمانيين كوكيل البطريرك لدى الباب العالي وترجمان البطريركية وغيرهما. وكان هذا المجلس يهتم في جميع الشئون الكنيسة وغيرها مما يتعلق بملة الروم. وفي زمن البطريرك صموئيل في السنة ١٧٦٨ تألَّف مجمع من اثني عشر مطرانًا من متقدمي مطارنة الكرسي القسطنطيني، وأُنيط به أمر العناية بالمسائل التي تتعلق بعموم الأبرشيات للكرسي القسطنطيني. وأما المجلس المختلط فتُرِكت له العناية والاهتمام بشئون القسطنطينية وحدها.

وبعد نشر الخط الهمايوني سنة ١٨٥٦ أُلغي هذان المجلسان وتغيَّرت طريقة الإدارة والنظام تغيرًا كليًّا، ففَصَلَتْ سلطة الرؤساء الروحيين في إقامة محاكم لديهم، وتقرر تأليف محاكم نظامية مختلطة يحكم فيها بالسواء لجميع رعايا السلطان من أي مذهب أو ملة كانوا. وصدرت الإدارة السنية بأن يتألف قوميسيون عمومي من إكليروس وعلمانيين لكل ملة يُنظر في شئونها بحسب الامتيازات الممنوحة قديمًا للرؤساء الروحيين، ويحدد بموجب هذه الامتيازات حقوق الإكليروس وواجباتهم وفقًا للسنن الدينية ومقتضيات العصر، ويرتب كيفية انتخاب البطاركة والمطارنة مبينًا كل ذلك في لوائح تُعرض على الحكومة العثمانية في مدة محدودة لتصديقها.

وإجابة لمنطوق هذا الخط الهمايوني اجتمع في السنة ١٨٥٧ قوميسيون عمومي للملة الأرثوذكسية مؤلف من إكليروس وعلمانيين من آباء وأبناء كنيسة القسطنطينية. وترتبت أمور الملة في هذا القوميسيون طبقًا للمبادئ الأساسية التي وُضعت في الخط الهمايوني. وبعد مجادلات شديدة ومذكرات طويلة أذاع هذا القوميسيون نظامًا للبطريركية القسطنطينية سنة ١٨٦٠ وأقرته الحكومة العثمانية وأدرجته في دستور الدولة كجزء من نظامها.٥ وبعد مدة روجع في قوميسيون جديد وتنقَّحت بعض المواد.

وتحدد في هذا النظام الجديد أن يصير انتخاب البطريرك القسطنطيني من جمعية مؤلَّفة من أعضاء المجمع ومن وجهاء المِلَّة وكبار الموظفين لدى الحكومة، من أبناء الطائفة ومن وكلاء أرباب الصنائع والحِرَف ونواب أحياء القسطنطينية وممثلي الأبرشيات التابعة للكرسي القسطنطيني. وأعطي الحق لكلٍّ من مطارنة الأبرشيات أن يقدم في مدة أربعين يومًا إلى الهيئة المنتخبة اسم مرشح من مطارنة الكرسي القسطنطيني الذين يكونون قد خدموا في إحدى الأبرشيات القسطنطينية مدة لا تقل عن سبع سنوات، وكان على المطران أن يرسل ورقة الترشيح ضمن ظرف مختوم. وتقررت أيضًا طريقة لاشتراك الشعب في الترشيح، وتعين أن تقدم لائحة بأسماء المرشحين إلى الباب العالي الذي له أن يستثني من هذه اللائحة أسماء الأشخاص الذين لا يرى فيهم اللياقة بالنظر إلى أمور الملكية، ثم يُرجع اللائحة إلى البطريركية في ظرف أربع وعشرين ساعة من إرسالها مستبقيًا من الأسماء المدرجة فيها ما لا يقل عن الثلاثة. ومن هذه الأسماء الباقية في اللائحة بعد إرجاعها من الباب العالي ينتخب جميع أعضاء مجلس الانتخاب الإكليريكيين والعلمانيين ثلاثة بالأكثرية. وبُعيد ذلك يجتمع أعضاء الهيئة المنتخبة الإكليريكيون فقط وينتخبون بعد الصلاة واستلهام الروح القدس في الكنيسة الكاتدرائية واحدًا من هؤلاء الثلاثة بطريركًا مسكونيًّا، ثم يبلغ الباب العالي فتصدر إدارة سلطانية بقبوله.

وتألَّف بموجب هذا النظام الجديد مجمع من اثني عشر عضوًا يكون بمعية البطريرك ليشترك معه بالمذاكرة في الشئون الكنسية المحضة والحكم فيها وفي كل ما يتعلق بإدارة الكرسي. واشترك في عضوية هذا المجمع بالتناوب جميع مطارنة الكرسي القسطنطيني بنوع أن كل سنة يتجدد نصف أعضائه فيخدمون فيه سنتين.

وأقيم أيضًا مجلس مختلط مؤلَّف بمعرفة البطريرك من أربعة من أعضاء المجمع المقدس أقدمهم ينوب عن قداسته في رئاسة هذا المجلس ومن ثمانية أعضاء من وجهاء الله. وتخصص له النظر في المسائل المتفرعة عن الزيجات والطلاق والإرث ومالية الأديار البطريركية وسائر الأملاك والأوقاف في العاصمة وما يُحال إليه من شئون الملة الزمنية من الأبرشيات.

وفرض أن يشترك جميع أعضاء المجمع في العمل والإدارة وفي التوقيع مع البطريرك على جميع المذاكرات والكتابات والأوراق المتعلقة بإدارة الكرسي. وفرض أن يلبث البطريرك في الكرسي مدى الحياة إلا إذا ظهرت منه حركة مخالفة للقوانين والنظامات، فيطلب المجلس المختلط فصلًا بأكثرية ثلثي المجمع والمجلس. وعندما تعرض مسائل مهمة يجمع البطريرك جمعية عمومية من هيئة أعضاء المجمع والمجلس للمذاكرة وتنوير ما يلزم.

وتحددت شروط ترشيح الأساقفة وانتخابهم، وكان أهمها السيرة الحسنة والخبرة في الإدارة، وإجادة اللغات اليونانية والتركية والسلافية، وإكمال العلوم الكنسية بعرف أساتذة كلية خالكي،٦ وتقلَّدوا مناصبهم ببراءات سلطانية فزاد نفوذهم عند الولاة، وتوجَّب أن يكون لدى كل أسقف مجلس روحي من كهنة وقوميسيون زمني من المتقدمين والشيوخ يستشيرهم الأساقفة في الظروف المهمة. وينظرون في أمور المسيحيين ويشتركون مع الأساقفة في إدارة الشئون الملية كما تسوغه القوانين المقدسة والنظامات العالية.
وسنَّت كنيسة أوروشليم قانونًا مماثلًا في السنة ١٨٧٣ فأقرَّته الحكومة العثمانية وأصبح ساري المفعول. أما كنيسة أنطاكية فإنها شرعت في وضع قانون لها في السنة ١٨٩٠، ولكنها لم تنجزه قبل السنة ١٨٩٨، وسيجيء الكلام عنه في حينه. وظل البطريرك الأنطاكي ومعظم الأساقفة ينالون براءات سلطانية تشبه براءات إخوتهم القسطنطينيين، وظلوا يعرضون أمورهم الهامة على الباب العالي بواسطة بطاركة القسطنطينية. وجاء في كتاب «الأرج الزاكي» لأمين ضاهر خير الله أن أيروثيوس استخف بالمجمع الأنطاكي المقدس وأشاح سمعًا عن نصائحه، ولكنه عندما عجز عن القيام بالأعمال في أواخر أيامه سمح بالقوميسيون الزمني فتدرجت الطائفة في مراقي النجاح، وكثر في دمشق رجالها وازدهرت مدارسها.٧

عودة إلى الأرثوذكسية (١٨٥٧–١٩٥٩)

وفي أوائل السنة ١٨٥٧ دعا إكليمنضدس بطريرك الروم الكاثوليك إلى الحساب الغربي، فقبل البعض بذلك وامتنع البعض الآخر. وكان على رأس الممتنعين أساقفة بيروت وزحلة وبعلبك وصيدا والخوري يوحنا حبيب والخوري غبريال جبارة. واشتد الخلاف فعقد الأساقفة مجمعًا في عين الذوق فوق زحلة. وأَمَّ الآستانة الكاهنان يوحنا حبيب وغبريل جبارة، فوصلاها في أيَّار السنة ١٨٥٩ واتصلا بمجمع البطاركة المنعقد فيها آنئذٍ وفاوضا باسم أنصارهما في سورية ومصر، وعادا إلى حضن الكنيسة بقرار من مجمع البطاركة سجَّله باللغة العربية غفرائيل كاتب البطريرك أيروثيوس الذي أصبح فيما بعد متروبوليت بيروت.٨

الحركة أو الطوشة (١٨٦٠)

وفي السنة ١٨٣٢ انتشر على المسيحيين رأيهم والتبس عليهم وجه الصواب فرأوا في انتصار المصريين على الأتراك العثمانيين فوزًا لهم وانطلاقًا وتحريرًا، فنزعوا ملابس التحرز وأزالوا كلفة الاحتشام، فخرج بعض السفلة من نصارى دمشق «وزوَّقوا جملًا وركَّبوا عليه رجلًا مسلمًا من أهالي حارة الخراب يُسمى حمزة الذكرة، وأعطَوْه مسودتي عرق، وأحضروا المشاعل وزوَّقوها بالأزهار والفاكهة وعملوها على كسم الصلبان، ومشوا من طالع القبة في صفوف وأخذوا يغنون: «إبراهيم باشا يا منصور الله يلعن المقهور!» وكانوا كلما مشوا بعض خطوات يقفون، فيمسك حمزة المسودة بيده ويلوح بها ويصرخ: المسيح قام. فغضب المسلمون وتوعدوا.»٩
وخرج المصريون وعادوا إلى مصر (١٨٤١)، وجاء العثمانيون يرتبون الأموال الأميرية على لبنان كما كانت في عهد الشهابي الكبير، فقبل الدروز بها، أما الموارنة فإنهم عارضوا «وعملوا جمعيات متعددة حضرها الوجوه والمطارنة وحرروا عروضًا للدولة. ومن جملة ما حرروه أن مال الجزية يتوجَّب دفعه على من يحتاج حماية الدولة، وأما هم لا يحتاجون إليها لا، بل إنهم يحمون جوارهم، وقدموه للوالي لكي يقدمه للدولة، فنصحهم أن يسترجعوه وراجعهم بذلك مرارًا فما زاده إلا غرورًا واستكبارًا فالتزم الوالي لتقديمه، وجاهروا بانتمائهم لدولة أجنبية فتغير باطن الدولة نحو النصارى.»١٠

وجاء الخط الهمايوني في السنة ١٨٥٦ يساوي النصارى بالمسلمين أمام القانون ويُبطل مفعول الشرع في أمور وأمور، وشرعت السلطات العثمانية بتطبيقه، فتساقط البعض في الغرور وأوغلوا وتجاوزوا الحد في الغواية. وقضت مصالح نابوليون الثالث الشخصية بالظهور بمظهر المدافع عن حقوق الكنيسة الكاثوليكية في الشرق. ولم يرضَ الموارنة عن نظام القائمقاميتين ورأوا فيه إجحافًا بحقوق الطائفة في القائمقامية الدرزية وأحبوا العودة إلى حكومة لبنانية موحدة. واختلفوا في عودة الشهابيين إلى الحكم، فاقترح قنصل فرنسة في بيروت جعل الرئيس الروحي؛ أي البطريرك رئيسًا زمنيًّا على غرار دولة الفاتيكان، فلاقى اقتراحه ترحيبًا في نفس المطران طوبيا عون، وراح هذا يدعو إلى «كسر الجرة» في دير القمر على حد قول جرجس بك صفا. واتصل قنصل فرنسة بخطار بك العماد للغرض نفسه كما شهد بذلك الخوري إبراهيم كيوان أمام رشيد بك نخلة. ثم انكسرت الجرة في بيت مري كتف عين سعادة مقر المطران طوبيا عون. وحرض والي دمشق الدروز وسلحهم كما يشهد بذلك الدكتور ميخائيل مشاقة، وتودد «وود» القنصل الإنكليزي إلى الدروز وشجعهم على التدخل في شئون النصارى في حاصبيا وحماية الأقلية منهم ضد رأي الأغلبية، كما سبق وأثبتنا، فكان ما كان من أمر الحركة في لبنان والطوشة في دمشق وبعض المدن الأخرى.

واتصل القَسُّ جورج وِليَامس الإنكليزي بالبطريرك أيرونيوس في أوائل آب السنة ١٨٦٥ فحلَّ ضيفًا عليه في دير مار إلياس الشوير، وأطلع القس البطريرك على ما كان يقوم به القس يوحنا نيل من تفتيش عن المصادر لتاريخ كنيسة أنطاكية، ورجاه أن يسمح له بالاطلاع على محفوظات الكرسي الأنطاكي فقال البطريرك إنه لم يبقَ من هذه شيء بعد إحراق البطريركية في دمشق.١١

وطالب أيروثيوس الحكومة العثمانية بالتعويض عما حلَّ بالبطريركية والكنيسة المريمية من تخريب وتدمير في أثناء الطوشة، وقام إلى الآستانة بنفسه مرتين لهذه الغاية، فنال مبلغًا من المال أنفقه في ترميم المقر البطريركي وإعادة بناء الكنيسة المريمية كما تنطق بذلك الكتابة المنقوشة على جدار هذه الكنيسة.

التوراة والإنجيل (١٨٤٨–١٨٦٥)

ورغب المرسلون البروتستانتيون في نشر الكتاب المقدس على العرب أجمعين، فألَّفوا في السنة ١٨٤٧ لجنة لهذه الغاية برئاسة الدكتور عالي سميث وعضوية الدكتورين وليم طومس وكرنيليوس فانديك. فاتصلت اللجنة بالمراجع العليا في الولايات المتحدة وحثتهم على الموافقة، راجية اجتذاب العرب المسلمين إلى مطالعة التوراة والإنجيل. وفي الحادي عشر من شباط سنة ١٨٤٨ فاوضت هذه اللجنة جمعية انتشار الكتاب المقدس الأميريكية في أمر ترجمته إلى اللغة العربية، وقررت نقل المعلم بطرس البستاني من عبية إلى بيروت ليكون تحت تصرف لجنة الترجمة، واستعانت بمواهب الشيخ نصيف اليازجي للغاية نفسها. فكان المعلم بطرس ينقل النص من العبرية أو اليونانية إلى العربية مستعينًا بالسريانية، ثم يحيل ما يعرِّب إلى الشيخ نصيف لينقيه من كل صبغة أعجمية. وكان الدكتور عالي سميث يعيد النظر بالمقابلة بين النص العربي والأصل العبري أو اليوناني. وكانوا عند الانتهاء من هذه المراحل الثلاث يدفعون بما عرَّبوا إلى المطبعة لصف الأحرف وإعداد ثلاثين نسخة توزع على الثقاة في سورية ومصر وألمانية، فتعاد إلى اللجنة منقحة حاملة عددًا من الملاحظات. وأشهر الثقاة الألمان الذين اشتركوا في هذا العمل الأساتذة؛ فلايشر Fletischer في ليبزيغ ورويديغر Rodiger في هالي وفلويغل Flugel في درزدن وبرناور Behrnaver في فيينة. ورأى البعض أن يأتي التعريب في أسلوب فصيح قرآني، ولكن معظم البروتستانت الوطنيين آثروا عبارة بسيطة صحيحة. وتم تعريب الإنجيل في التاسع من آذار سنة ١٨٦٠، والتوراة في العاشر من آذار سنة ١٨٦٥، وأشرف الشيخ يوسف الأسير إشرافًا نهائيًّا على اللغة والأسلوب.١٢

وظهر الكتاب بثوبٍ قشيب ووزِّع توزيعًا وأقبل المسيحيون على اقتنائه وقراءته، وتصفحه الآباء الكاثوليكيون فهالهم حذف بعض الأسفار وادعاء المرسلين أن ما حذفوا ليس من الكتاب الكريم، وأنهم ألفوا في موضوع الحذف كتبًا طبعوها ووزعوها بين الناس. ولمس الآباء الكاثوليكيون اختلافًا في الترجمة في بعض آيات الإنجيل والرسائل، فاعتبروا هذا الاختلاف تحريفًا لموافقة مذهب البروتستانت. فأوعز رئيس الرسالة اليسوعية إلى بعض رهبانه أن يكتب شيئًا في الرد على البروتستانت، فألَّف في ذلك كتابين عنوان الأول منهما: «كشف المغالطات السفسطية ضد بعض الأسفار الإلهية»، وهو يتضمن الأدلة على أن نسخة كتاب الله الكاثوليكية والأسفار القانونية الثانوية صحيحة النص صادقة الرواية لم يدخل عليها دَخَل ولا فساد، وعنوان الثاني: «كشف التلاعب والتحريف في مس بعض آيات الكتاب الشريف»، وفيه بيان الآيات التي «لعبت بها يد البروتستانت وحرفتها عن مواضعها» لموافقة مذهبهم.

وفي غضون ذلك ورد استحسان المجمع المقدس في رومة لَمَّا رُفع إليه أمر ترجمة كتاب الله إلى اللغة العربية لمقاومة البروتستانت برعاية بطريرك اللاتين في أوروشليم. فترجم الآباء الكتاب عن العبرانية واليونانية، وجمعوا إلى النص الأصلي النسخ القديمة التي في يد الكنيسة الكاثوليكية لمقابلته، وهي الترجمة اللاتينية والسريانية واليونانية المعروفة بالسبعينية. «غير أنه كان إذا عرض إشكال في بعض الآيات التي تتعلق بالإيمان أو الآداب يكون الاعتماد على ما في النسخة اللاتينية» التي اتخذها الآباء دستورًا يرجع إليه على الإطلاق؛ لأنها هي المعول عليها في الكنيسة الكاثوليكية وقد ثبتت في المجمع التريدنتيني، فظهر الكتاب الشريف في السنوات ١٨٧٦–١٨٧٨ على غاية ما يُرام من الرونق وحسن الوقع.١٣ وساعد الآباءَ في تصحيح العبارة وتثقيفها الشيخ إبراهيم اليازجي؛ فجاءت مهذبة اللفظ محكمة النسج متينة الحبك.١٤
وكنيستنا الأرثوذكسية تميز الأسفار بعضها عن بعض فتدعو بعضها كتبًا قانونية والباقي منها تدعوه كتبًا غير داخلة في القانون أو كتبًا كنسية أو كتب التلاوة. واللفظ اليوناني قانون Canon يدل على معانٍ كثيرة؛ منها المسطرة والجدول والقاعدة واللائحة، والمراد بكلمة قانون في كلامنا هذا هو الجدول أو مجموعة الكتب المقدسة التي تعتبرها الكنيسة موحًى بها من الله وتتخذها قانونًا للحقيقة. والكتب القانونية هي التي نظمتها الكنيسة في قانون الأسفار المقدسة بحسب تعليم الرسل الإلهيين والآباء الطاهرين والمجامع المقدسة. وتعتبر الكنيسة هذه الكتب القانونية قانونًا للحقيقة لا يتغير كما قال القديس أثناسيوس الكبير في رسالته في الأعياد:

إننا نقبل الكتب التي دخلت في القانون ونعتبرها إلهية؛ لأنها مصدر الخلاص، فليروِ العطشان ظمأه بالكلمات التي فيها، وهي وحدها تكرِّز بتعليم حسن العبادة، ولا يزيدن أحد عليها شيئًا ولا يحذفن منها شيئًا.

والقانون الذي نعتبره جدولًا لأسفار العهد القديم يتضمن الأسفار الآتية: (١) كتاب التكوين. (٢) كتاب الخروج. (٣) كتاب اللاويين. (٤) كتاب العدد. (٥) تثنية الاشتراع. (٦) كتاب يشوع بن نون. (٧) كتاب القضاة وسِفر راعوت كَذَيْلٍ له. (٨) كتاب الملوك الأول والثاني كقسمين لكتاب واحد. (٩) كتابا الملوك الثالث والرابع. (١٠) كتاب الأيام الأول والثاني. (١١) كتاب عزرا الأول والثاني، وهذا دعاه اليونان كتاب نحميا. (١٢) كتاب إستير. (١٣) أيوب. (١٤) المزامير. (١٥) أمثال سليمان. (١٦) الجامعة له. (١٧) نشيد الإنشاد له أيضًا. (١٨) أشعيا النبي. (١٩) أرميا. (٢٠) حزقيال. (٢١) دانيال. (٢٢) الأنبياء الاثني عشر الصغار.

والقانون الذي نعتبره جدولًا لأسفار العهد الجديد يتضمن البشائر الأربع لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا، والرسائل الأربع عشرة لبولس، ورسالتين لبطرس وثلاثًا ليوحنا وواحدة ليعقوب وواحدة ليهوذا وكتابَي أعمال الرسل والرؤيا.١٥

وأما الكتب التي لم تدخل في القانون فعلى شهادة باسيليوس الكبير هي الأسفار التي فَرض الآباء قراءتها على المسيحيين، ولا سيما على من أقبل إلى الديانة المسيحية حديثًا؛ ولذلك دُعيت أيضًا كتب التلاوة. وبما أنها كانت تتلى في الكنائس لتعليم الموعوظين والمؤمنين سميت كتبًا كنسية. وقد قال فيها يوحنا الدمشقي في شرحه للإيمان الأرثوذكسي أنها تُدعى مفيدة ومعزية، ولكنها لم تُحْصَ مع الكتب الأولى. وكنيستنا لا تزال حتى الآن تضمها إلى الأسفار القانونية في مجموعة واحدة جريًا على ما تلقته من المسيحيين القدماء الذين كانوا يضمون إليها كتبًا مفيدة كرسائل إقليمس ورسالة هرماس، وكانوا يتلون من فصولها في الصلوات والاجتماعات. ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن الكتب القانونية جاءت بِوَحْيٍ من الله، وأما المتلوة فإنها مفيدة وجديرة بكل إكرام، وقد قبلتها كنيستنا لتهذيب الأخلاق بآدابها النقية التي تنطبق على كلام الله والناموس الإلهي. والكتب التي لم تنتظم في قانون الكتاب المقدس محصورة في العهد العتيق، وهي: كتاب طوبيت وكتاب يهوديت وحكمة سليمان وحكمة يشوع بن سيراخ، وسفرا عزرا الثاني والثالث وأسفار المكابيين الثلاثة، ويضاف إلى منزلة هذه الكتب نُبَذٌ تتبع الكتب القانونية عادة؛ وهي صلاة منسى كَذَيْلٍ لكتاب الأيام الثاني، ونبذ من سفر إستير وتسبحة الفتية الثلاثة تُضم إلى الفصل الثالث من نبوة دانيال وتاريخ سوسنة العفيفة في الفصل الثالث عشر من تلك النبوة، وقصة بعل والتنين في الفصل الرابع عشر من تلك النبوة أيضًا.

وكتب التلاوة شيء وكتب الأبوكريفة شيء آخر، فهذه معزوة اختلاقًا إلى الرسل أو إلى تلامذتهم ولم تُحصَ في قانون الكتاب المقدس ولا كانت بمثابة كتب التلاوة، بل إن الكنيسة أعلنت أنها في عِداد الكتب المزورة ونبذتها وحرمت مطالعتها.١٦

وليس لدينا من النصوص المعاصرة ما يُفصل لنا موقف البطريرك أيروثيوس من النزاع الذي نشب بين المرسلين البروتستانتيين والمرسلين اللاتينيين حول الكتاب المقدس في النصف الثاني من القرن الماضي، ولكننا لا نشك في أنه وقف موقفًا أرثوذكسيًّا.

وما رواه هنري جَسَب عن الأب غفرائيل جبارة من تقدير للترجمة البروتستانتية، وإعجاب بنشاط الدكتورين عالي سميث وكرنيليوس فانديك لا يعني في حد ذاته أن الأب غفرائيل جبارة وافق على ما جاء من اختلاف في ترجمة سِفر الأعمال والرسائل بين النصوص الأرثوذكسية والكاثوليكية من الجهة الواحدة، وبين النصوص البروتستانتية من الجهة الأخرى،١٧ بل يجب ألا ننسى أن الأب مكاريوس الرملي هبَّ لطبع كتب التلاوة لدى ظهور الترجمة البروتستانتية، واجتهد في المقدمة أن يبرهن أن هذه الكتب هي مما يجب إلحاقه بالكتاب المقدس.

وكان مثل هذا قد جرى في أواسط القرن التاسع عشر في الأوساط الأرثوذكسية اليونانية، فإنه عندما حاول بعض المرسلين البروتستانتيين أن ينشروا ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية الحديثة بدون أن يضموا إليها كتب التلاوة قام الكاهن قسطنطين أيكونوموس كنيسة القسطنطينية وألَّف كتابًا كبيرًا لتفنيد مزاعم البروتستانت وطبعه سنة ١٨٤٩.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه في السنة ١٨٦٧ الْتَأَم مؤتمر لامبث Lambeth الأول، فوجه الدكتور أرشيبولد كامبل رئيس أساقفة كانتربري نداءً إلى البطريرك المسكوني غريغوريوس السادس أظهر فيه رغبته في اتحاد الكنيستين الإنكليكانية والأرثوذكسية، فأجابه غريغوريوس جوابًا لطيفًا، ولكنه لم يُخفِ الصعوبات التي اعترضت السبيل.

أيروثيوس والقضية البلغارية (١٨٥٨–١٨٧٢)

وصدر الخط الهمايوني (١٨٥٦) وأمر الباب العالي بتنفيذه، واجتمع الإكليروس القسطنطيني والوجوه والأعيان للنظر في تطبيقه، فاجتهد مطارنة اليونان أن يكون أعضاء القوميسيون من اليونان فقط، وبالكد دخل فيه أربعة أعضاء من البلغار. والشعب البلغاري الخاضع للبطريركية المسكونية آنئذٍ ضاهى عدد اليونان أو زاد، ولما اجتمع القوميسيون وشرع في وضع النظام الجديد للملة الأرثوذكسية لم يعبأ بالتشكيات التي عرضها نواب الأبرشيات البلغارية وحدد أن يصير انتداب المطارنة من البطريرك القسطنطيني ومجمعه ورتَّب انتخاب البطريرك على طريقة توافق شعور اليونانيين فقط.

ولما كان من واجبات هذا القوميسيون أن ينظر في كيفية تسديد الديون البطريركية البالغة آنئذٍ ثمانية ملايين غرش حدد أن يشترك في تسديدها جميع الأرثوذكسيين الخاضعين للبطريرك القسطنطيني، فرفض نواب الولايات البلغارية أن يوافقوا على هذه القرارات وانسحبوا من القوميسيون واعترضوا على كيفية تأليفه، واهتمت الحكومة العثمانية لمطالب البلغاريين ولم توافق على النظام الجديد للملة الأرثوذكسية إلا بعد أن أضافت المادة الثامنة عشرة، وهذا نصها:
تصرف الدقة الكاملة وتبذل الملاحظات اللازمة من طرف مجمع المطارنة على التشكيات المعروضة على البطركخانة بالتتابع من طرف طائفة البلغار، بسبب الصلوات والمواعظ التي تُتلى في الكنائس، وبعد أن يجري التدقيق والتحقيق على هذه التشكيات وبأية درجة هي يحصل السعي وتبذل الغيرة على أسباب ووسائط ما يلزم لتسدية الكيفية لأجل راحة المرقومين وتسكين خواطرهم.١٨
وكان للبلغار في الآستانة كنيسة في بلطة يقيمون فيها فروضهم الدينية باللغة البلغارية، وكانوا قد أقاموا كنيسةً أخرى في السنة ١٨٥١ في الفنار، وكان في السنة ١٨٦٠ مُتَرَئِّسًا على كنيسة بلطة الأسقف أيلاريون، وفي قداس الفصح لم يذكر أيلاريون البطريرك ولم يقم الدعاء له، بل ذكر كل أسقفية أرثوذكسية. ودُعي إلى المجمع بحضور البطاركة الإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، فأجاب أن تصرفه يتفق ورغائب الشعب البلغاري. ثم دُعي ثانية إلى المجمع فلم يلبِ الطلب ولم يتأخر عن رسم كهنة وشمامسة بدون إذن البطريرك. ووافق البطريرك المسكوني كيرلس السابع (١٨٥٥–١٨٦٠) على انتقاء الأساقفة بدون تفريق بين يوناني وبلغاري، فلم يرضَ البلغاريون بهذا الحل، وقاموا بتظاهرات في القسطنطينية وفي بعض المدن البلغارية، فاضطرب الباب العالي وتوجَّس خيفة، فقدَّم كيرلس البطريرك استعفاءه،١٩ ولم يعترف أيلاريون بالقائمقام البطريركي، وبعد مدة اتحد معه أفكسنذيوس مطران دراخ وبائيسيوس مطران فيليبوبولي، وأعلنوا استقلال الكنيسة البلغارية ورئاسة أيلاريون.٢٠ ثم انضم إلى هؤلاء المطارنة أربعة مطارنة آخرين، وبدأ هؤلاء يتجولون بين صفوف الشعب البلغاري يحرِّضونه على نبذ الطاعة للبطريرك المسكوني. وكان وجهاء الشعب البلغاري في أثناء هذه الأمور قد عينوا لهم نوابًا في الآستانة وفوضوهم النظر في هذه المسألة، فأخذوا يتداولون في إيجاد وسيلة لحسم الخلاف وقرروا ما يجب إجراؤه ليتم الاتفاق عليه، وحصروه في ثمانية بنود، وقدم للبطريركية المسكونية بواسطة الحكومة العثمانية. فجمع صفرونيوس البطريرك المسكوني (١٨٦٣–١٨٦٦) مجلسًا عموميًّا وأوضح أمامه سير الحوادث ومطالب البلغار، فرفض المجلس هذه المطالب، فأصرَّ البلغار، فاقترح البطريرك الجديد غريغوريوس السادس (١٨٦٧–١٨٧١) إقامة إكسرخسية بلغارية تشمل جميع الأبرشيات الواقعة بين جبال البلقان ونهر الدانوب، فلم يلقَ هذا الاقتراح قبولًا في الأوساط البلغارية ولم يرضَ عنه البطاركة السابقون، وبينما كان البطريرك يؤمِّل أن توافق الحكومة العثمانية على اقتراحه وردت إليه تذكرة من وزير الخارجية في الثالث من تشرين الثاني سنة ١٨٦٨ مصحوبة بلائحتين لأجل حسم الخلاف، وطلبت منه أن يقبل واحدة منهما أو أن يرى في طريقة أخرى تنطبق على رغائب الفريقين، فأجاب البطريرك في منتصف كانون الأول أن الطريقة المثلى لحسم الخلاف هي عقد مجمع مسكوني؛ لأن سلطته على بلغارية مستمدة في أساسها من قرارات المجامع المسكونية. وحرر البطريرك في الوقت نفسه إلى جميع الكنائس الأرثوذكسية المستقلة عارضًا أفكاره بشأن عقد مجمع مسكوني للنظر في القضية البلغارية، على أن الباب العالي لم يظهر ارتياحه إلى عقد هذا المجمع ولم يرخص به، بل باشر حسم الخلاف وأصدر في ١١ آذار سنة ١٨٧٠ فرمانًا سلطانيًّا اعترف فيه باستقلال كنيسة البلغار.٢١

مجمع القسطنطينية (١٨٧١)

ولما صدر الفرمان السلطاني اضطر البطريرك المسكوني أن يلح بشأن عقد المجمع المسكوني، فرفضت الحكومة العثمانية طلبه، ولم تستحسن كنائس روسية ورومانية والصرب عقد المجمع، وحرضت البطريرك المسكوني على معاملة الشعب البلغاري بالرفق والتساهل والمحبة المسيحية، فاضطر البطريرك أن يستعفي، فانتخب المجمع خليفة له أنثيميوس السادس (١٨٧١–١٨٧٣)، فاحتج أنثيميوس على تأسيس الأكسرخوسية، فلم يلتفت البلغار إلى احتجاجه، فدعا للبطريرك المسكوني البطاركة في أواخر آب السنة ١٨٧٢ للنظر في المسألة القائمة، فلبى الدعوة صفرونيوس البطريرك الإسكندري وأيروثيوس البطريرك الأنطاكي وصفرونيوس رئيس أساقفة قبرص، واشترك في أعمال هذا المجمع ثلاثة من البطاركة القسطنطينيين المتنازلين وخمسة وعشرون من مطارنة الكرسي القسطنطيني، وفي السادس عشر من أيلول سنة ١٨٧١ أصدروا الحكم على السيد أنثيميوس أكسرخوس البلغار ومن تبعه أو تشرطن منه من الأساقفة والكهنة والشمامسة والشعب، واعتبرهم مشاقين وقطعوهم من الشركة مع الكنيسة الأرثوذكسية؛ لأنهم أحبوا العرق وفرقوا بين الأجناس البشرية وأثاروا الفتن القومية.٢٢

اجتماع بيروت (١٨٧٢)

وأعلنت البطريركية المسكونية حكم مجمع القسطنطينية إلى الكنائس الأرثوذكسية المستقلة التي لم تشترك في المجمع، فأظهرت هذه الكنائس عدم استحسانها، وكان كيرلس الثاني البطريرك الأوروشليمي في الآستانة، ولكنه لم يشترك في أعمال المجمع ولم يقبل بحدوده، فاجتمع رهبان أخوية القبر وحكموا عليه بالعزل، وانتخبوا بروكوبيوس متروبوليت غزة بطريركًا محله، فهاج الشعب الأرثوذكسي في فلسطين، وامتنع معظم رؤساء الكنائس المستقلة عن إرسال الرسائل السلامية.

وأظهر الشعب الأنطاكي كدره أيضًا، واجتمع المطارنة في بيروت في السنة ١٨٧٢ وأقاموا الحجة على بطريركهم لخروجه على الطريقة التي حددوها له في رسالة بعثوا بها إليه يحرضونه فيها أن يكون رسول سلام بين اليونان والبلغار، وأن يجتهد في إقناع كنيسة القسطنطينية أن تسلك بالتساهل وطول الأناة وتتخذ التدابير السلمية المقتضية، حيث لا خطر في المذهب، وأن الانشقاق الممقوت الناتج عن غيرة، لكن ليس بمعرفة حسب قول رسول الأمم الإلهي هو مذموم ومستوجب لعنة جميع الأجيال المسيحية السالفة، وأخيرًا ألحوا عليه أن يسحب توقيعه من أعمال هذا المجمع.٢٣

الجمعية الروسية الأرثوذكسية (١٨٨٢)

واضطر الأرشمندريت بورفيريوس أوسبنسكي أن يغادر فلسطين عند نشوب حرب القرم (١٨٥٣) ولم يعد إليها، ووضعت الحرب أوزارها (١٨٥٦) فعاد المؤمنون الروس إلى الاهتمام بشئون الأراضي المقدسة والحجاج، فأوفدوا في السنة ١٨٥٨ قوميسيونًا روسيًّا برئاسة كيرلس أسقف ميليتوبوليس، فتبنى القوميسيون برنامج بورفيريوس أوسبنسكي، وجاء الغراندوق قسطنطين في السنة ١٨٥٩ فوضع حجر الزاوية لكنيسة الثالوث الأقدس «المسكوبية».

وفي ربيع السنة ١٨٨١ أَمَّ أوروشليم الأمراءُ: سرجيوس وبولس وقسطنطين، حاجِّين مصلين، فاستقبلهم البطريرك الأوروشليمي أيروثيوس وكافة الإكليروس وحيَّاهم الشعب بالهتاف «أورا»، فزاروا القبر المقدس وجثوا مصلين لنفوس الراقدين من آبائهم. ثم حيَّاهم البطريرك باسم أم الكنائس وشكر الله والدمع يتساقط على خديه لاهتمام الشعب الروسي بالكنيسة المقدسة، وتعددت صلوات الأمراء عند المهد والقبر وبلَّلت دموعهم الأرض، وأنشئوا تذكارًا لوالدتهم في بستان الجثمانية هيكلًا لا تنقطع الصلاة فيه، ولدى عودتهم إلى روسية انتظم أصدقاء فلسطين فيها جمعية إمبراطورية أرثوذكسية برئاسة الأمين سرجيوس وعطف القيصر. واحتُفل بتأسيس هذه الجمعية في الحادي والعشرين من أيار سنة ١٨٨٢ في بطرسبرج في قصر الأمير الحاج نقولا الأكبر وبحضور الأميرة الزائرة الأولى ألكسندرة. وافتتح الاكتتاب لهذه الجمعية بلاتون متروبوليت كِيف فقدَّم ألف ريال، واتخذتِ الجمعيةُ الناصرةَ مركزًا لأعمالها فعُنيتْ بالتعليم الابتدائي والتطبيب المجاني.

أيروثيوس مخلص وفيٌّ

وقضى أيروثيوس خمسة وثلاثين عامًا في رعاية كنيسة الله في أنطاكية وسائر المشرق متحليًا بنقاوة الإيمان واستقامة الرأي وإعلاء منار الدين، مترفعًا عن كل ما يمت إلى العنصرية بِصلة غير مفرِّق بين يوناني وعربي. وكان ثاقب النظر عالي الهمة يحسن انتقاء الرجال لخدمة الكنيسة، فسام عددًا من كبار الرجال الذين خدموا كنيسة أنطاكية أفضل الخدمات. وليس من العلم أو العدل بشيء أن نقول مع بعض مَن كتب في جو الثورة على البطريرك اسبريدون أن البطاركة اليونانيين المتأخرين «لم يعملوا إلا على انحطاط الأرثوذكسية لا على تقويمها، فقد أهملوا تعليم الشعب مبادئ الإيمان الأرثوذكسي، ولم يكترثوا لتهذيب الأحداث ولم يعتنوا في إعداد وعاظ، ولم يصرفوا أقل عناية من أجل الأديار، بل قد أهملوا كل ما به خير الكرسي، وعند وفاتهم كانوا يتركون لأقاربهم أو للمشيدات الخيرية في أوطانهم كل ما كانوا يجمعونه من الأموال الوافرة من دخل الكرسي دون أن يترك البعض منهم شيئًا يستحق الذِّكر لمصلحة الكرسي، أو لعضد الأرثوذكسية فيه أو لعمل الخير في هذه البلاد.» نقول: ليس من العدل بشيء أن نطلق الكلام بهذا الشكل ونتناسى جهاد مثوديوس في سبيل الأرثوذكسية الحقة، وسعيه لإعلاء شأن الكنيسة في جميع الأبرشيات الخاضعة له، وقد سبق لنا الكلام في أعماله ومبراته، ولم يكن أيروثيوس أقلَّ منه فضلًا، وقد ذكرنا شيئًا من مآثره، ولنا فيما يأتي عن بعض المطارنة في عهده ما يثبت اهتمامه برعاية الكنيسة رعاية صالحة، ومساهمته في يقظة أرثوذكسية محلية مباركة انبعثت ثمارها بعد وفاته.

ملاتيوس اللاذقية

هو ميخائيل بن موسى الدوماني الدمشقي، ولد في دمشق في الثامن من تشرين الثاني سنة ١٨٣٧، ونشأ في دمشق والتحق بالمدرسة البطريركية فأخذ منها مبادئ اللغات العربية واليونانية والتركية والإيطالية. ومالَ بكل عواطفه إلى التوشُّح بالأسكيم فانتقل إلى المدرسة الإكليريكية البطريركية التي كانت آنئذٍ بإدارة الخوري يوسف مهنا، فاستنفد علومها. وقدم النذر في السنة ١٨٥٧، ونال من البطريرك أيروثيوس التفاتًا وعناية. فلما شخص البطريرك إلى الآستانة في ١٨ أيلول سنة ١٨٥٨ كان ملاتيوس من خواص حاشيته، وهناك حلَّ في مقام جليل لدى البطاركة الأربعة الملتئمين وقتئذٍ للنظر في تنظيم الكنائس على ضوء الخط الهمايوني ولحل المشكلة البلغارية وغير ذلك، فسامه البطريرك الأوروشليمي كيرلس شماسًا بإدارة أيروثيوس البطريرك الأنطاكي وذلك في أحد العنصرة في ٢٢ أيار سنة ١٨٦٠. وعاد ملاتيوس مع معلمه سنة ١٨٦١ إلى بيروت، وقدَّر أيروثيوس أتعاب ملاتيوس ومواهبه فرقاه في درجات الكهنوت، فلما ترمَّلت أبرشية اللاذقية سنة ١٨٧٥ رشَّحه لرعايتها، وألقى الله في رُوع المطارنة فانتخبوه وسيمَ مطرانًا على اللاذقية في ١٩ تشرين الثاني سنة ١٨٦٥.

واستلم ملاتيوس مهام الأبرشية في أوائل السنة ١٨٦٦ فجمع أوقاف الكنائس إلى قلم واحد وأسس مدرسة للذكور وخصص واردات الأوقاف للمدرسة، واعتنى بترميم الكنائس في اللاذقية وفي توابعها، فجدد سبع كنائس في الأبرشية. وفي السنة ١٨٦٩ منحه السلطان الوسام المجيدي والملك جورج وسام المخلص الذهبي، ولمزيد اهتمامه بنشر العلوم الدينية أرسل على نفقته الأرشمندريت جراسيموس مسرة والأستاذ باسيل جبارة إلى مدرسة خالكي اللاهوتية فنالا شهادتها.٢٤

ميصائيل صور وصيدا

هو ابن الخوري صموئيل استبريان أيكونوموس كرسي اللاذقية من عائلة شريفة عريقة بالكهنوت تتوارثه أبًا عن جد، وكانت ولادته في أول تشرين الثاني سنة ١٨٢٨ في نفس مدينة اللاذقية، وتربَّى منذ الصغر على الآداب الأرثوذكسية، ونشأ على مبادئ الديانة القويمة يرضعها في بيت أبويه، ولما شب أرسله والده إلى دمشق حيث تلقى العلوم اللاهوتية على الخوري يوسف مهنا وغيره وباقي العلوم المدنية واللغتين التركية واليونانية وآداب اللغة العربية. وبعد أن أكمل دروسه أنفذه البطريرك أيروثيوس إلى دير البلمند ليدرِّس الرهبانَ العلومَ اللاهوتية واللغتين التركية واليونانية. وذهب البطريرك إلى الآستانة للنظر في قضية البلغار مع أخيه القسطنطيني، ولدى وصوله إليها أنفذ له أمرًا يطلبه ليكون في معيته مديرًا للقلم العربي. وبإيعاز من البطريرك رسَّمه صفرونيوس مطران طرابلس شمَّاسًا إنجيليًّا في أيار السنة ١٨٥٨. وعقيب ذلك لبَّى دعوة البطريرك وسافر حالًا إلى الآستانة، وبقي بمعيته سنتين في الآستانة، فأتقن دروسه فيها وعاد مع البطريرك إلى دمشق. وكان البطريرك يعتمد على درايته وحسن مداركه في قضاء الأمور المهمة. وفي السنة ١٨٦٢ أرسله إلى صور لأجل بناء كنيستها، فبقي في صور إلى أن أكمل بناء الكنيسة، وأرسله البطريرك إلى جهات مختلفة لفضِّ المشاكل، فكان يتميز بالاستقامة وحسن السياسة. وفي أواخر السنة ١٨٦٥ سافر البطريرك إلى الآستانة فترك ميصائيل وكيلًا عنه في الكرسي البطريركي. وطال غياب البطريرك سنتين تقريبًا فحل ميصائيل مشكلة كنيسة القديس يوحنا الدمشقي واسترجعها من يد الكاثوليك، وكان ذلك في أيام ولاية رشدي باشا الملقَّب بشرواني زارده. وعاد البطريرك إلى دمشق في حوالي السنة ١٨٦٧ فأنفذ ميصائيل إلى مصر لقضاء بعض الأمور الطائفية، ثم تُوفي جراسيموس (طراد) متروبوليت صور وصيدا، فانتخب المجمع بناء على ترشيح البطريرك أيروثيوس الأب ميصائيل مطرانًا على صور وصيدا، وتمَّت سيامته في المريمية في دمشق بحضور مثوديوس زحلة وصفرونيوس طرابلس وسيرافيم.

واتخذ ميصائيل حاصبيا مركزًا لسكناه فذبَّ فيها عن الطائفة صامدًا في وجه المرسلين البروتستانت، وكان كثير التجول في أنحاء الأبرشية، رادًّا هجمات الطوائف الغربية، مصلحًا شئون الرعية، باذلًا بسخاء من وقته وماله.

غفرائيل بيروت

ولد في دمشق في الخامس من شباط سنة ١٨٢٥ من أبوين أرثوذكسيين تقيين هما نعمة الله شاتيلا وتقلا مخلع، وكانت والدته ابنة بروتوبسلتي الكرسي الأنطاكي يوسف مخلع، وكان عمَّاها مطرانين؛ أحدهما: أثناسيوس متروبوليت بيروت، والآخر: جراسميوس متروبوليت سلفكياس. وتلقى «جورجي» علومه الابتدائية في المدرسة البطريركية فأكملها في التاسعة من عمره، وبعدها أخذ في نساخة الكتب. وفي العاشرة دخل المدرسة البطريركية التي أنشأها البطريرك مثوديوس وعيَّن لها معلمًا كاتبه ينِّي بابا دوبولوس، فدرس جورجي فيها مبادئ اليونانية، ثم تجرَّد لاقتباس صناعة نسج الحرير. وفي الرابعة عشرة أخذه والده لمحل شغله في دمشق ليدربه بنفسه على أعماله وليتوكأ على همته في أشغاله التجارية. وبعد نصف سنة تُوفي الوالد فأخذ جورجي على عاتقه القيام بحاجات بيت أبيه وتربية أشقائه القاصرين. ثم شب أخوه فضل الله فاعتمد عليه في دمشق وشخص إلى القدس الشريف تبركًا واستدرارًا للفائدة التجارية، وذهب منها إلى إزمير فالآستانة لمهام تجارية.

وتُوفي البطريرك مثوديوس وجورجي شاتيلا في الآستانة، فحضر حفلة تنصيب أيروثيوس. ولما رأى وداعة البطريرك الجديد وتقواه ألقى الله في رُوعه أن يكرِّس حياته لخدمته تعالى، فرغب إلى البطريرك الجديد بواسطة ديمتري شحاده أن يجعله راهبًا ليكون بمعيته. وكان البطريرك أيروثيوس في حاجة إلى رجل يعرف العربية واليونانية ليكون كاتبًا ومساعدًا له في أشغاله، فضم غفرائيل إلى معيته وألبسه ثوب الرهبنة في أمطوش القبر المقدس في الآستانة في التاسع من آذار سنة ١٨٥١ وسماه غفرائيل بدلًا من جورجي. وعاد أيروثيوس إلى دمشق وعاد شماسه معه ونفث الله في صدر غفرائيل أن يسعى لدى أيروثيوس بإنشاء مدرسة يتثقف بها فتيان وطنيون في العلوم الروحية تهيؤًا للانتظام في سلك الإكليروس، فتكلل مسعاه بالنجاح وتألَّف فريق من اثني عشر تلميذًا لهذه الغاية. واستقدم البطريرك معلمين للغة اليونانية أحدهما من إزمير والآخر من أثينا. وعين لمساعدة الخوري يوسف مهنا المعلم يوسف عربيلي والمعلم يوسف الدوماني. وفي أيلول السنة ١٨٥٨ قام البطريرك إلى الآستانة فرافقه غفرائيل ونال عطف البطاركة الأربعة لما فُطر عليه من الأمانة والتقوى والغيرة. وفي أيار السنة ١٨٦٠ احتفل بخدمة القداس في أمطوش القبر المقدس في الآستانة البطريركان الأنطاكي والأوروشليمي، فسام أيروثيوس غفرائيل قَسًّا، وسام البطريرك الأوروشليمي ملاتيوس (الدوماني) شمَّاسًا. وفي عيد الميلاد من السنة نفسها رقَّى أيروثيوس الأب غفرائيل إلى رتبة أرشمندريت وعيَّنه رئيسًا للأمطوش الأنطاكي في موسكو.

وقام غفرائيل من الآستانة إلى موسكو في الخامس من آب سنة ١٨٦١، وأقام هناك تسع سنوات، فجدد كنيسة الأمطوش وقام بمهامه بأمانة ونشاط وغَيرة، فأحبه متروبوليت موسكو فيلاريتوس وشمله القيصر إسكندر الثاني بعطفه. واغتنم غفرائيل فرصة وجوده في روسية فأرسل كثيرًا من الأيقونات التي يزدان بها أيقونسطاس كاتدرائية دمشق وجدرانها، وأرسل أيضًا كثيرًا من الأواني.

وفي السابع والعشرين من أيلول سنة ١٨٦٩ اجتمع مطارنة الكرسي الأنطاكي في دير سيدة البلمند لانتخاب مطران لكرسي بيروت، فأجمع المطارنة على انتخاب غفرائيل، فأجاب شاكرًا مستعفيًا. ثم تكرر الطلب من البطريرك والشعب فدافع دون القبول نحوًا من سنة ثم أحنى عنقه. وقام من موسكو إلى بيروت فوصلها في الثاني والعشرين من أيلول سنة ١٨٧٠. وأَمَّ دمشق فسامه معلمه البطريرك أيروثيوس بمشاركة مثوديوس سلفكياس وميصائيل صور وصيدا وسيرافيم أيرينوبوليس. وتوسم الشعب خيرًا، وسكنت عواصف الاضطراب والانقسام التي استغرقت خمس سنوات كانت فيها الأبرشيات مترملة.

وأول عمل قام به غفرائيل أنه دفع من ماله الخاص نحوًا من خمسة وسبعين ألف غرش كانت ديونًا على أديرة الأبرشية لا تكفي إيرادات الأديرة لدفع فائدتها، وأخذ يهتم في إصلاح أرزاق الأديرة وبناياتها وإيجاد الرهبان فيها منفقًا من ماله الخاص حيثما يرى موارد الأديرة غير كافية.

وكان في أثناء إقامته في روسية قد ابتاع من ماله الخاص كثيرًا من الأواني الكنسية والملابس الكهنوتية الجديدة فوزَّعها على كنائس الأبرشية. وتحقيقًا لرغائبه في تعليم الإكليروس أخذ على عهدته مدرسة الطائفة الكبرى في بيروت، وأنفق عليها من ماله نحوًا من ألف ليرة عثمانية ذهبًا علاوة على إيرادها، ودعا إليها تلامذة من أبرشيته لينظمهم فيما بعد في ملك الإكليريوس، فنبغ من هؤلاء غريغوريوس حداد الذي أصبح فيما بعد مطرانًا على طرابلس وبطريركًا أنطاكيًّا. ومنهم أيضًا مكاريوس صوايا، ثم أخرجت تلك المدرسة من يد غفرائيل، فأنشأ في السنة ١٨٨٣ مدرسة إكليريكية على حسابه الخاص واتخذ لها مقرًّا في قلايته نفسها، وأنشأ أو جدد ثلاثين كنيسة وسام سبعة وسبعين كاهنًا مُنفقًا على أكثرهم مدة تعلمهم في قلايته. ومهَّد السبيل لإنشاء الجمعيات الخيرية، فأسس في السنة ١٨٧٧ جمعية التعليم المسيحي لتتلو في أيام الآحاد على شبان الملة وأولادها فصولًا من الكتاب المقدس وتآليف الآباء ومواعظ وخطبًا دينية. وفي السنة التالية (١٨٧٨) نظم جمعية القديس جاورجيوس للعناية بالمرضى وتدريب الممرضات، وأنشأ مستشفى القديس جاورجيوس. وفي السنة ١٨٨٠ أسس جمعية زهرة الإحسان لتعليم البنات وتدريب الممرضات. وقامت في السنة ١٨٨٢ جمعية القديس بولس لمساعدة كنائس الأبرشية والاعتناء بالكهنة.

نيقوذيموس عكار

هو نقولا بن قسطنطين زوغرا فوبولوس، وُلد في الآستانة سنة ١٨٣٩ وكان وحيدًا لوالديه ومحبوبًا منهما، وبعد ولادته ببضعة شهور توفيت والدته ثم والده فعاد يتيمًا، فأخذه إليهما عماه نقولا وباسيلي، فعاش عندهما نحوًا من سنتين. وفي السنة ١٨٥٤ سافر مع أحد أقربائه إلى القدس قاصدًا الانتظام في سلك الرهبنة، فمثل لدى البطريرك كيرلس فأعجبته نجابته ولوائح ذكائه ونشاطه، فدفعه إلى مطران الأردن ليكون مبتدئًا عنده، فأدخله هذا المطران في المدرسة الطائفية هناك، ولما أتم دروسه لبس الأسكيم. وفي السنة ١٨٦٦ غادر القدس ذاهبًا إلى وطنه مدينة القسطنطينية، فمر في ثغر بيروت ودفع إلى البطريرك الأنطاكي أيروثيوس تحارير كان قد سلمه إياها رهبان القدس يطلبون بها إلى البطريرك الأنطاكي أن يبقيه لديه ليتدرج في مراتب الكهنوت لما كانوا قد توسموه به من النشاط والاقتدار، فأمسكه البطريرك الأنطاكي لديه ولم يأذن له بالذهاب. وفي تلك السنة سيم خريسندوس (اليوناني) مطرانًا على عكار، فأرسل البطريرك نيقوذيموس ليكون شماسًا عنده. وفي السنة ١٨٦٧ سام خريسندوس الراهب نيقوذيموس شماسًا. وفي السنة ١٨٧٠ سامه كاهنًا وأرسله رئيسًا على دير القديس ضوماتيوس في قضاء الحصن، فأقام هناك ست سنوات. وفي السنة ١٨٧٦ سيم أرشمندريتًا ورئيسًا على دير مار إلياس الريح في قضاء صافيتا ووكيلًا عن المطران في جميع أشغال الأبرشية، وبقي هناك ثماني سنوات. وفي سنة ١٨٨٤ تُوفي خريسندوس فعهد أيروثيوس بالوكالة على الأبرشية إلى نيقوذيموس.

ويلاحظ هنا أن بعض رجال الإكليروس اليوناني الذين تسلموا كراسي الأبرشيات الأنطاكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا مثال التقوى والصلاح، وأنهم خدموا الكنيسة الأنطاكية خدمة مسيحية كاملة؛ فالسيد بنيامين متروبوليت غفرائيل وسلفه كان من التقوى والغيرة والفضيلة على جانب عظيم، والسيد أيوانيكيوس متروبوليت طرابلس كان متوشحًا بالعفاف متجملًا بأفضل الصفات المسيحية، وأجمعت الألسن على غيرة الأرشمندريت أغاثنجلوس يمين مثوديوس البطريرك، وعلى طهارته ورأفته وتكريس حياته لخير الكنيسة. وأجاد بعضهم اللغة العربية؛ فأنثيميوس متروبوليت صيدا وضع قاموس مفردات بين اليونانية والعربية، ونيكيفوروس متروبوليت حماة خطَّ المزامير بالعربية بيده، وباخوميوس متروبوليت صيدنايا استنسخ الإنجيل بالعربية.

أيروثيوس والعلوم الإكليريكية العالية

وترفَّع أيروثيوس عن النعرة الجنسية، فأوفد إلى مدرسة خالكي ومدارس روسية من الإكليريكيين الوطنيين من عاد إلى كنيسة أنطاكية ودافع عنها ورفع شأنها، فإنه علم في السنة ١٨٧٠ بنجاح أسعد عطا الله في مدرسة سوق الغرب الأرثوذكسية التي كان يديرها المعلم يوسف عربيلي، وتثبت البطريرك من نبالة أسعد ودماثة أخلاقه فضمه إلى بطانته متوسمًا به أن يكون من متقدمي خدمة الأسرار الإلهية، ووشحه بالأسكيم وأخذه إلى دمشق وألحقه بالمدرسة البطريركية. وفي السنة ١٨٧١ سامه متوحدًا وأطلق عليه اسم المجاهد العظيم عن الإيمان القويم أثناسيوس. وفي السنة ١٨٧٢ رسمه شماسًا إنجيليًّا وصحبه معه إلى الآستانة، ثم أذن له في ١٨٧٩ أن يلتحق بمدرسة خالكي. وفي السنة ١٨٨٣ سامه أرشمندريتًا ورأسه على دير مار إلياس الشوير، فأقام فيه ثلاث سنوات متفانيًا في الخدمة، وجمع لديه فريقًا من التلامذة أعدَّهم للرهبنة ودرَّسهم بنفسه اللغتين اليونانية والعربية والموسيقى والحساب والجغرافية؛ منهم الخوري موسى مرهج الشويري.

جراسيموس يارد (١٨٤٠–١٨٩٩)

وزار أيروثيوس البطريرك راشيا في السنة ١٨٥١ فتقدم منه الولد الأرثوذكسي جورجي أسبر يارد والتمس إلحاقه بمدرسة دمشق البطريركية فوعده بذلك، ولما عاد البطريرك إلى دمشق طلب جورجي إليه وأدخله إلى المدرسة، فدرس العربية واليونانية على الخوري يوسف مهنا. وفي السنة ١٨٥٨ انتدب معلمًا لمدرسة حماة الأرثوذكسية فأظهر من براعة التعليم والتهذيب ما خلَّد له الذكر الحسن في تلك المدينة. ثم رأى البطريرك أن يزيد علم هذا الشاب النابغة فألبسه الأسكيم ودعاه جراسيموس وألحقه بخالكي سنة ١٨٦٠ ثم بامطوش موسكو سنة ١٨٦١. وفي السنة ١٨٦٢ التحق جراسيموس بمدرسة موسكو الإكليريكية فأتم دروسه القانونية فيها سنة ١٨٦٨، ومن ثم دخل كلية بطرس بِرج العليا فحاز قصب السبق على أقرانه وأكمل العلوم اللاهوتية والفلسفية وأتقن لغات أوروبية جديدة. وفي السنة ١٨٧٢ نال الشهادة الرسمية من الصنف الأعلى وسمي أستاذًا لمدرسة بسكوف، ثم اختير رئيسًا لمدرسة ريغا في فنلاندة، ثم أستاذًا لتاريخ الكنيسة الشرقية في مدرسة بطرسبرج، فبحث وصنف في مواضيع متعددة، وخص فوطيوس العظيم بشطر وافر من وقته فوضع كتابًا في هذا الموضوع لا يزال مرجعًا من أفضل المراجع حتى يومنا هذا.٢٥ وكان يلقي المواعظ والخطب في الكنائس الروسية الكبرى والمحافل والأندية، فيحتشد ألوف مؤلفة لاستماع عظاته النفيسة وخطبه البليغة. وسنة ١٨٨٣ انتقاه نيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي واعظًا للكرسي الأوروشليمي. وسنة ١٨٨٥ جاء بمعية هذا البطريرك إلى بيروت فارتقى منبر الكنيسة الكاتدرائية وفسَّر خبر جريح اللصوص فأدهش الجمهور.

البطريرك جراسيموس (١٨٨٥–١٨٩١)

وأقام السيد أيروثيوس على المنصة البطريركية الأنطاكية خمسة وثلاثين عامًا، ثم دعاه الله إلى شيخوخة متناهية فخلا مكانه في السنة ١٨٨٥. واجتمع الأساقفة للنظر فيمن يخلفه، وأراد بعض الوطنيين منهم أن يشركو الشعب في الانتخاب فنابذهم غفرائيل متروبوليت بيروت، فاحتكموا للناموس، وعند مطالعته لم يجدوا قانونًا يخول الشعب حقوق التدخل، فقال أغابيوس (صليبا) إنه وارد لأحد الشراح رأيًا خصوصيًّا لا قانونيًّا كنسيًّا، وأحضر الحاشية المشار إليها؛ وعندئذٍ قرر المجمع أن يرشح من يريد كالسابق ثم يظهر اسم المرشحين لعقلاء الشعب (الأراخنة) ليظهروا ما لديهم حتى إذا لم يكن للشعب ما يقال يظل للمجمع ملء الحرية. ومن تلك السنة؛ أي سنة ١٨٨٥ سرت هذه العادة في الكنيسة الأنطاكية.٢٦
وخشيت المقامات اليونانية الإكليريكية أمر ترشيح إكليريكي وطني فنقلوا إلى السلطات العثمانية أن الوطنيين يميلون إلى الروس، وتدخل يواكيم الرابع البطريرك المسكوني ونيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي في أمر الانتخاب فأيدت السلطات العثمانية ترشيح جراسيموس متروبوليت سكيثوبوليس (بيسان)، فتم انتخابه في ٢٩ أيار سنة ١٨٨٥، وصدرت البراءة السلطانية به بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق،٢٧ ويرى بافييذس المؤرخ اليوناني أن الدعاة الروسيين كانوا منذ منتصف القرن التاسع عشر قد بدءوا يثيرون نعرة عنصرية علمانية في أبرشيات الكرسي الأنطاكي٢٨ ما فتئت أن ذرَّت قرنها في انتخاب جراسيموس ثم في إسقاط اسبيريدون:

باسم الإله المثلَّث الأقانيم غير المنقسم، قد الْتأمنا نحن مطارنة الكرسي الرسولي الأنطاكي المقدس في كنيسة دمشق الكاتدرائية التي على اسم نياح سيدتنا والدة الإله الدائمة البتولية مريم. وبناءً على ما تقرر في الجلسات الأولى من عمل الانتخاب شرعنا في الانتداب قانونيًّا وفي وسطنا أيقونة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الطاهرة؛ لإيجاد وانتخاب شخص فيه الأهلية واللياقة لضبط زمام الكرسي الرسولي البطريركي الأنطاكي المقدس، والقيام بمهامه روحيًّا وزمنيًّا، فوضعنا أولًا اسم قدس أخينا جراسيموس مطران بيسان الكلي الطهر من مطارنة الكرسي الرسولي البطريركي الأوروشليمي المقدس، وثانيًا قدس أخينا يوحنا مطران قيسارية الجزيل الوقار من مطارنة الكرسي الرسولي القسطنطيني المقدس، وثالثًا اسم قدس أخينا فيلوتاوس مطران إزمير الجزيل طهره من مطارنة الكرسي القسطنطيني أيضًا، الذين أدرجت أسماؤهم في هذا السجل البطريركي الشريف؛ لبيان دائم وإيضاح ثابت. وبعد التضرع والابتهال إلى إلهنا العظيم واستمداد روحه القدوس وإعطائنا انتدابنا السري القانون وقع الانتخاب بصوت عمومي على قدس جراسيموس مطران بيسان الكلي الطهر، فقدمنا لله الضابط الكل الشكر القلبي، وبادرنا بتقديم التلغراف الإشعاري لسيادة المنتخب الموما إليه مَمضِيًّا من جميعنا. وقد صار هذا الاجتماع يوم الأربعاء الواقع في ٢٩ شهر أيار سنة ١٨٨٥ مسيحية في دمشق الشام المحمية.

التواقيع: ملاتيوس مطران اللاذقية، سيرافيم مطران أيرينوبوليس ونائب بائيسيوس مطران أرضروم، ميصائيل مطران صور وصيدا، غفرائيل مطران بيروت ولبنان ونائب صفرونيوس مطران طرابلس، أغابيوس مطران أداسيس، جرمانوس مطران ترسيس واطنة، خريسانتوس مطران عكار، مثوديوس مطران زحلة ونائب جرمانوس مطران حماة.٢٩

وأبصر جراسيموس النور في استروس في شبه جزيرة المورة في الثامن عشر من آب سنة ١٨٣٩، ونشأ نحيف الجسم حاد الذكاء رقيق المعاشرة لطيفًا لبقًا، وتحلى بالعلوم الإكليريكية العالية وأجاد اليونانية والتركية وتكلم العربية، وأحبه مطارنة الكرسي الأنطاكي وتعاونوا معه، وأحب هو كنيسة أنطاكية وتمنى لها النجاح والرقي. وتعاون مع الشعب فنظم مجلسًا مليًّا بطريركيًّا وسام عددًا من المطارنة الأكفاء وأحب الأرشمندريت أثناسيوس عطا الله ورغب إليه أن يقيم لديه ليكون يده اليمنى وأذنه المستمعة أصوات الرعية، وعينه الباصرة حاجات الشعب، وأبقاه عنده خمسة أشهر. غير أن لجاجة الشعب في حمص وتوابعها وتعلقهم بأثناسيوس جعل البطريرك يرشحه لكرسي حمص. وسامه مطرانًا عليها في ٢٥ آذار سنة ١٨٨٦، وفي هذه السنة نفسها رقد بالرب السيد جرمانوس (زيوت) متروبوليت حماة، فرفع المؤمنون الحمويون عريضة إلى البطريرك يلتمسون بها الأرشمندريت غريغوريوس جبارة راعيًا لهم، وكان جراسيموس يتجول في تفقد شئون الأبرشيات فلما وصل إلى طرابلس اجتمع لديه عدد من المطارنة للمذاكرة، فجرى ترشيح غريغوريوس وأخذت أصوات الحاضرين والغائبين كالسيد نيقوذيموس مطران ديار بكر، فأصابت الدعوة الإلهية غريغوريوس فشخص البطريرك إلى اللاذقية وسامه مطرانًا على حماة وتوابعها في شباط السنة ١٨٨٧. وفي السنة ١٨٨٩ تُوفي بيسوع خريسنذوس (صليبا) متروبوليت عكار ومتوديوس (صليبا) متروبوليت سلفكياس. وكان نيقوذيموس محبوبًا جدًّا من الشعب في عكار، وكان قد قضى خمس سنين يقاسي أمرَّ العذاب في كرسي ديار بكر فانتخبه المجمع مطرانًا على عكار، وانتخب المجمع جراسيموس (يارد) واعظ الكرسي الأوروشليمي مطرانًا على سلفكياس، فسامه البطريرك بالاشتراك مع أغابيوس (صليبا) متروبوليت أداسيس وسيرافيم متروبوليت أيرينوبوليس، وذلك في الكنيسة المريمية. وفي يوم عيد البشارة سنة ١٨٨٩، وكان الشقاق قد ثار في طرابلس في آخر أيام راعيها صفرونيوس (نجار)، فلما مضى مستقبلًا وجه البقاء ثارت عواصف المخاصمات، فانتقى البطريرك جراسيموس الشماس غريغوريوس حداد قائدًا لسفينة طرابلس في أيام محنتها، فأحسن الانتقاء للمرة الخامسة. وكان غريغوريوس لا يزال في بيروت فسامه غفرائيل قَسًّا ونال نعمة رئاسة الكهنوت في العاشر من أيار سنة ١٨٩٠ من يد البطريرك جراسيموس بمشاركة السيدين سيرافيم ونيقوذيموس، وهل يقال فيمن ينتدب هؤلاء الرجال الكبار إلى الكراسي الشاغرة إنه غير مكترث للمسئولية الملقاة على عاتقة؟! وهل يقال إنه آثر اليونانيين على الوطنيين بعد هذا الانتقاء؟

الأنوار في الأسرار

ومن مآثر هذا البطريرك اليوناني أنه اعترف بعلم الشماس جراسيموس مسرة وفضله، فشجعه على أداء رسالته ومنحه لقب «واعظ الكرسي الأنطاكي». وكان ملاتيوس متروبوليت اللاذقية قد استنشق في جرجي ابن اسبيريدون مسرة في اللاذقية نسيم أمل فدعاه لتكريس النفس في خدمة الله، فلبى وترك بيت أبيه في صيف السنة ١٨٧٣ وتوشح بالأسكيم باسم جراسيموس يوم عيد الميلاد من السنة نفسها. ثم توسم ملاتيوس في هذا الراهب مستقبلًا جيدًا فأرسله في صيف السنة ١٨٧٥ إلى القسطنطينية ليلتحق بمدرسة خالكي منيطًا بالعناية فيه الشيخ ديمتري شحاده نزيل القسطنطينية آنئذٍ، وعاد جراسيموس إلى اللاذقية في صيف السنة ١٨٧٩ فسامه معلمه شماسًا إنجيليًّا يوم عيد الرب، ثم دفتريفونًا لكرسي اللاذقية، وعاد الشماس جراسيموس إلى خالكي وأتم دروسه فيها ونال شهادتها في السنة ١٨٨٢ ممضية من رئيس المدرسة ومصدقة من البطريرك المسكوني يواكيم الثالث، وهي أول ديبلومة نالها سوري من تلك المدرسة، ثم عاد إلى اللاذقية وأقام في خدمة كنيستها سنتين فدعاه أيروثيوس السعيد الذكر ليستلم إدارة القلم اليوناني في البطريركية، وجاء البطريرك جراسيموس فسماه في أحد العنصرة سنة ١٨٨٦ في حفلة حافلة في الكاتدرائية المريمية واعظ الكرسي الأنطاكي.٣٠
ولما كانت الكتب الدينية الغريبة عن روح الكنيسة الأرثوذكسية قد تكاثرت في البلاد العثمانية واللغة العربية وكانت أيادي العلماء تتداولها ويقرؤها الفقهاء والبسطاء، ولما كانت الكتب الأرثوذكسية الموضِّحة صحيحَ التعليم والمفنِّدة ما بعُد عن الرأي القويم قليلة العدد؛ حيث وجدت لانحصار ما وجد منها خطًّا ببعض أفراد أو لا وجود لها مطلقًا في أكثر الأنحاء والبلاد. ولما كانت الخدمة في نشر الحقائق الدينية القويمة فرضًا واجبًا ومعاضدة أبناء الكنيسة الأرثوذكسية دينًا لازبًا؛٣١ هبَّ هذا المعلم في اللاهوت لخدمة كنيسة أنطاكية بالتأليف والتعريب لنشر تعليم الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية، فنشر أولًا رسالة أفجانيوس البلغاري المعروفة بالبينات الجليلة، وأتبعها بكتاب جليل عنوانه «الأنوار في الأسرار» وطبعه بالمطبعة اللبنانية في بيروت سنة ١٨٨٧.

وقال جراسيموس مسرة في تقديم هذا الكتاب: إنه لما كانت أسرار الكنيسة السبعة موضوع اختلافات متعددة بين الكنيسة المقدسة الجامعة وبين سواها من الكنائس، رأى أن يجعل مقدمة خدمته الدينية كتابًا في الأسرار السبعة، يبحث فيها إجمالًا وفي كل منها أفرادًا نشأتها وتاريخها وما أحدث فيها وابتدع، فطالع وقابل ما كتبه في ذلك أشهر المؤلفين الكنائسيين من شرقيين وغربيين أرثوذكسيين وغير أرثوذكسيين، وعد منهم ما عدا القدماء أرميا بطريرك القسطنطينية وغفرائيل مطران فيلادلفية وسمعان التسالونيكي ويوحنا الدمشقي ومكاريوس مطران موسكو، واعتراف الرأي القويم ورسالة البطاركة والتعليم المسيحي وكتب الخدمة، فجاء كتابًا مستوفي الشروط وافيًا بالمقصود.

وفي السنة ١٨٨٨ دعاه بطريرك الإسكندرية لخدمة الكنيسة السورية في الإسكندرية فسامه البطريرك الأنطاكي قَسًّا، ثم أرشمندريتًا في ٢١ تشرين الثاني من هذه السنة. وفي آذار السنة ١٨٨٩ جعله البطريرك صفرونيوس الإسكندري معلمًا للاعتراف في كنيسة القديس مرقس، وفي حزيران السنة التالية انتخبه المجمع الأنطاكي مطرانًا لحلب، ولكنه لم يلبِّ الدعوةَ «لاعتبارت صحية».

استقالة البطريرك جراسيموس (١٨٩١)

واستقال نيقوذيموس البطريرك الأوروشليمي في السنة ١٨٩٠ وارتحل إلى القسطنطينية وأقام بها، فلبث الكرسي شاغرًا مدةً إلى أن اجتمع السينودس بعد انقضاء الأعياد الميلادية، وبينما كان الناس في حدس من أمر المنتخب شاع الخبر وتناقلته الجرائد أن لجراسيموس البطريرك الأنطاكي حظوة في السنودس الأوروشليمي. وفي منتصف آذار السنة ١٨٩١ وردت برقية على جراسيموس من سينودس أوروشليم تبشِّره بانتخابه بطريركًا على أم الكنائس، فأمر البطريرك باجتماع قوميسيون الملة، وانتدب بعض الأعيان أيضًا. وحضر الاجتماع أغابيوس متروبوليت أداسيس وسيرافيم متروبوليت أيرينوبوليس وجمهور الكهنة، فأبلغهم البطريرك خبر انتخابه، وطلب إليهم المذاكرة فيما يرونه موافقًا لمصلحة الكرسي أولًا ولمصلحة الكرسي الأوروشليمي ثانيًا. فأجمع الحضور على عدم الموافقة واستعطفوا البطريرك إلى رفض الانتخاب. وفي الغد أبرق البطريرك إلى المجمع الأوروشليمي يشكر ويقول إن قبوله موقوف على رضا الكنيسة الأنطاكية وموافقة الحكومة. وفي اليوم التالي عاد القوميسيون إلى الاجتماع وقرر الإبراق إلى المطارنة بعدم الموافقة وبوجوب الالتماس إلى من يلزم بهذا المعنى. وشفع القوميسيون هذه البرقية برسالة عمومية أفصح بها وأوضح:

غب المصافحة الأخوية واستمداد الدعاء نعرض. قد ورد تلغراف منا لسنودس الروحي بأوروشليم المقدسة لغبطة بطريركنا الكلي القداسة يعلن انتخاب غبطته بطريركًا للكرسي الأوروشليمي المقدس. وبما أن انتقال غبطته من الكرسي الأنطاكي في الأيام الحاضرة والقيام بانتخاب خلف لغبطته موجب لأتعاب كلية تذهب براحة الكرسي الأنطاكي عمومًا والشعب الأرثوذكسي في دمشق خصوصًا، وبما أن غبطته حين بلغه تقديم أسماء المرشحين للبطريركية الأوروشليمية ووجود اسم غبطته بين أسماء المرشحين حَرَّر لمقام الصدارة العظمى يبين لزوم وجوده في الكرسي الأنطاكي، ويستدعي الالتفات لما ينشأ عن انتقاله. وبعد ورود تلغراف الانتخاب لغبطته من السينودس الأوروشليمي المقدس حرَّر أن قبوله موقوف على رضا وقبول الحكومة السنية والكرسي الأنطاكي المقدس، وبما أن تصرف غبطة بطريركنا المشار إليه بصورة موافقة للرضا العالي قد أوجب التفات ورضا الحكومة السنية حتى الآن ونحن في راحة نرغب بقاءها، تقرر في اجتماع عُقد بتاريخه تقديم عريضة للحكومة السنية نبين فيها ما ذكر ونطلب إبقاء غبطته على الكرسي الأنطاكي ومخابرة سيادتكم بهذا الشأن. وعليه بادرنا لتقديم تحريرنا هذا نبين فيه رغبتنا في بقاء غبطة بطريركنا قيامًا بواجب الاحترام المفروض، ومحافظة على الراحة ومنعًا للأتعاب التي يُخشى وقوعها على فرض اضطرار الكرسي الأنطاكي المقدس للقيام بأعباء انتخاب خلف. فنرجو من سيادتكم أن توافقوا المركز في حاساته هذه وإجراء المخابرات اللازمة بسرعة حذرًا من فوات الوقت. في ٢ مارت (شرقي) سنة ١٨٩١، أخوكم بالمسيح سيرافيم مطران أيرينوبوليس، أغابيوس مطران أداسيس، الأرشمندريت أثناسيوس أبو شعر الخوري، عبد الله القصعة الخوري، ميخائيل كركر أولادكم يوسف طنوس، عبده عجمي، جرجي رومية، مخايل صيدح، جبرائيل أسبر أمين أبو شعر، جبرائيل شامية، سمعان لاذقاني، نعمان أبو شعر، جبران لويس، ميخائيل كليلة.

ورفع القوميسيون عريضة موقَّعة من المطارنة والأراخنة إلى والي سورية يظهرون بها امتنانهم من البطريرك جراسيموس، وأنهم في راحة يرغبون استمرارها، وأن انتقال البطريرك للكرسي الأوروشليمي مقيد باتفاق الكنيستين لا بإحداهما فقط، وعليه يلتمسون من دولته مخابرة من يلزم في توقيف الانتخاب. وحمل هذه العريضة إلى الوالي المطرانان سيرافيم وأغابيوس وبعض الوجهاء، فرحب بهم الوالي وأعرب عن استحسانه وقال: إن دمشق بأسرها تأسف لفراق رجل لطيف محب مثل غبطته. وأسرع فرفع العريضة إلى الصدارة العظمى. وبعد يومين جاء والي سورية إلى البطريركية وبلغ البطريرك والوجهاء أن الصدارة ترى ذهاب البطريرك مناسبًا وموافقًا نظرًا لأهمية المركز وثقة الدولة بالبطريرك، وأنه يحب اتخاذ الاحتياطات اللازمة في انتخاب خلف بكل راحة.

وبعد انصراف الوالي عجَّل البطريرك في استقدام المطارنة، وعين السابع عشر من آذار حسابًا شرقيًّا موعدًا للمذاكرة في شئون الطائفة وما يئول إلى صالح الكنيسة وخيرها. وتقاعد المطارنة إلا أحدهم؛ السيد نيقوذيموس متروبوليت عكار، فاستعد البطريرك للسفر وأنفذ خبرًا إلى الوفد المقدسي يستقدمه إلى دمشق، فجاء هذا الوفد وفيه بتريكيوس مطران عكة والأرشمندريت فوطيوس الصغير.

وفي الثامن والعشرين من آذار حسابًا شرقيًّا استدعى البطريرك المطارنة والكهنة وأعضاء القوميسيون وتلا على مسامعهم استعفاءه من الكرسي الأنطاكي، وأمر أن يدرج في سجل البطريركية، فأدرجوه ووقع عليه بخط يده، وأهم ما جاء فيه ما يلي:

إن ارتباطنا عظيم من الكنيستين، ففي الأولى ولدنا وتربينا وكبرنا، وفيها قصصنا شعر رأسنا ولخدمتها تركنا العالم، وأقسمنا بأننا سنكون منصبين إليها حتى آخر نسمة من حياتنا، وفي الثانية نخدم بأمانة وكنا نؤمل أن كل حياتنا ستصرف لأجلها. تلك أمنا تستدعينا وهذه تملك عقلنا وقلبنا وفؤادنا، فما العمل؟ أنخالف الرحمة الإلهية؟ حاشا وكلا! «إن كنا نعيش بالروح فللروح نخضع.» وكيف نناقض نعمة الله طالما الرسول يصرخ: «لا أناقض نعمة الله!» وهكذا بحسب قوانا الضعيفة، وبحسب إرادة ذاك الذي قوته بالضعف تكمل نؤمل في أننا نساعد على خدمة ليست مختصة بهذه الكنيسة فقط أو بتلك، بل شاملة كل جسد الكنيسة التي نحن أعضاؤها متحدين بجسم واحد تحت رأس واحد إلهنا ومخلصنا وربنا يسوع المسيح. وبانفصالنا عنكم نرجوكم ونعظكم قائلين: احترسوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم فيها الروح القدس أساقفة وارعوها بخوف الله وبمحبة الرعية، واهربوا بكل اجتهاد من كل مستجد يزعج سلام الكنيسة والنظام السائد فيها بدون أن تنسوا اللعنة التي وضعها الرسول بولس معلم هذه الكنيسة ضد من يخترع أمورًا مستجدة ويدخل غير ما تسلمتموه واحفظوا الوديعة سالمة.

وفي السابع من نيسان احتفل البطريرك بقداس حبري، وبارك الشعب في ختامه واستودعه الله، ثم ركب وبطانته والوفد الأوروشليمي العربات قاصدين بيروت، وساروا توًّا إلى شتورة حيث قضوا الليل، فلقيهم فيها جراسيموس (يارد) متروبوليت زحلة وتوابعها، ففند للبطريرك قوله في الاستعفاء، وأكد له أن لا مجمع ولا كنيسة يمكنها إرغامه على قبول الانتقال من كرسي إلى آخر طالما هو مستوٍ على الكرسي الرسولي الأنطاكي، وأن حجة غبطته في وجوب الرضوخ إلى إرادة الباب العالي واهية. وتابع البطريرك السير فوصل بيروت مساء الإثنين. ويوم الأربعاء العاشر من نيسان ركب الباخرة الخديوية إلى يافة، وقام على وداعه أهالي بيروت أحسن قيام فشيعوه حتى البحر مستمطرين بركاته وداعين له بالسلامة.

تسرع الأب هنري موسه

وفي السابع عشر من نيسان سنة ١٨٩١ أدرجت صحيفة النيولوغس اليونانية رسالة صدرت عن بيروت وتضمنت خبر استعفاء البطريرك. ومما جاء في هذه الرسالة أن شعائر الشعب الأنطاكي تحركت، وأنهم بكوا لما علموا أن بطريركهم استعفى، وأن البطريرك توجع قلبه وتمزق، ولكنه قضى ست سنوات «في أرض قحلة غير مضيفة الغريب»، فانبرى للرد على هذا الكلام الأخير سليمان الجهيني فأثبت في كتابه «الخلاصة الوافية» وفي الصفحة ١٩ ما دخل على البطريرك جراسيموس مدة وجوده في الكرسي (١٨٨٥–١٨٩١)، فجعله نقلًا عن السجل البطريركي ١١٤٩٣ ليرة عثمانية، وقال: إن الكرسي الأنطاكي فقير بالنسبة إلى الكرسي الأوروشليمي.

وتولى الأب هنري موسه الأبيض تدريس التاريخ الكنسي في مدرسة القديسة حنة في أوروشليم وأعد كتابًا في موضوعه أسماه «تاريخ النصرانية»، ولا سيما في الشرق، وأتى في الجزء الثالث على تاريخ الكرسي الأنطاكي في القرن التاسع عشر فجعل همَّ البطاركة الأرثوذكسيين جمع المال ونقله إلى ذويهم، وقال عن جراسيموس الطيب الذكر: «إنه جزَّ الرعية ونبهها فخطف من دمشق أحد عشر ألف ليرة عثمانية.»٣٢ والواقع أن هذا المبلغ يمثل دخل الكرسي في ست سنوات ولا يشمل النفقات، وكان يجدر بهذا الأب الفاضل رحمه الله أن يذكر أن مثل هذا التسرع لا يقرب وحدة الكنيسة، وأن العلاج الوحيد لجمع الصفوف هو المحبة تلك التي «تتأنى وترفق ولا تظن السوء»!

دَخْل الكرسي البطريركي (١٨٨٥–١٨٩١)

وقد يفيد أن نفصل الكلام في هذا الموضوع، فقد بلغ مجموع دَخْل الأوقاف في بساربية في هذه السنوات الست ١٦١٣ ليرة عثمانية، وريع الأديرة البطريركية ١٦٥٨ ليرة ومن مطارنة الكرسي ١٧١ ومن دمشق والميدان ٣٦٩، ومن الجولة الرعائية ٨٣٨ ومن القداسات ٤٥١ ومن كوبونات عثمانية ٦٢، ومن براءات ووسامات ١٣٦، ومن راتب دولة اليونان ٢٢٣٩، ومن حسنات للمدرسة الإكليريكية ٢٢٧، ومن حسنات من روسية ١٨٦، ومن أخوية القبر المقدس ١٨٠٣، ومن بيوع متفرقة ٤٤٧، ومن أنطاكية ١٩٥، ومن حسنات لكنيسة كفر مشكي (سنة ١٨٨٦) ٦١، ومن حوالات ٣٥٥، ومن حسنة من الغراندوقات الروس ٥٤، ومن مطران سلفكية ٢٥، ومن دير موسكو ١٣، ومن وقفية في روسية ٣٨، ومن ديون جرى استقراضها ١٧٢، ومن فضلة رصيد ٨٧٣.

١  State of the Patriarchate of Antioch, Neale, J. M., op. cit., Appendix III, 213–229.
٢  Williams, G., Appendices to Nealés Patriarchate of Antioch, 190, 189, n. 1.
٣  Mansi, Vol. 40, Col. 497-498.
٤  Testa, I., Recueil des Traités de la Porte Ottomane avec les Puissances Etrangères, V. 132–137.
٥  الدستور ترجمه من اللغة التركية نوفل نعمة الله نوفل بمراجعة وتدقيق خليل الخوري مدير مطبوعات ولاية سوريا (بيروت ١٣٠١)، ج٢، ص٨١٣–٨٤٨.
٦  «الدستور»، ترجمة نوفل نوفل، ج٢، ص٨١٨–٨٢٢.
٧  «الأرج الزاكي في تهاني غبطة البطريرك الأنطاكي»، (بعبدا، ١٨٩٩)، ص٤٢-٤٣.‎
٨  «الأرج الزاكي»، لأمين ضاهر خير الله، ص١٢١، و«مختصر تاريخ طائفة الروم الملكيين»، ص١٢٨–١٣٠.
٩  مذكرات تاريخية لأحد كتاب الحكومة الدمشقيين عُني بنشرها الخوري قسطنطين الباشا، ص٦٧-٦٨.
١٠  منتخبات من «الجواب على اقتراح الأحباب»، للدكتور ميخائيل مشاقة (بيروت ١٩٥٦)، ص١٥٥.
١١  Neale, J. M., op., cit., XV.
١٢  Jessup. H., Fifty Three Years in Syria, I, 66–78.
١٣  «العهد العتيق»، المجلد الأول، مقدمة المترجمين، ص٥–٨.
١٤  «آداب اللغة العربية في القرن التاسع عشر»، للأب لويس شيخو، ج٢، ص٥.
١٥  تجد أيها القارئ غذاءً للنفس علاوة على الدليل التاريخي في مطالعة رسالة القديس باسيليوس الكبير في الأعياد وكتابة السينوبسس: «هاك عدد وأسماء كتب العهد الجديد القانونية التي هي قاعدة إيماننا وعموده ومرساه، وقد كتبها رسل المسيح المختص ونشروها بعدما خاطبوه وتعلموا منه.»
١٦  James, M. R., The Apocryphal New Testament, Being The Apocryphal Gospels, Acts, Epistles, and Apocalypses, Oxford, 1953.
١٧  Jessup, H. op. cit., I, 78.
١٨  «الدستور» تعريب نوفل نوفل، ج٢، ص٨٣١.
١٩  Young, G., Corps de Droit Ottoman, II, 58.
٢٠  Avril, A., La Serbie Chrétienne, 56, 59.
٢١  Yonng, G., op. cit., II, 61.
٢٢  Jehag. F. van Steen, Sujets Ottomans Non-Musulmans, 157-158.
٢٣  Williams, C., Neale J. M., op. cit., 190.
٢٤  «البطاركة الأنطاكيون»، لغطاس قندلفت، مجلة «المنار»، ١٨٩٩، ص٤٢٤.
٢٥  Gerazim Yared, Otzuivui Sovremennikov o sv, Fotiye Patr. konst., Khristyanskoe Chtenie, 1872-1873; Dvornik. F., The Photian Schism, 382, 430.
٢٦  حاشية أمين ضاهر خير الله على متن الصفحة ٥١ من كتابه «الأرج الزاكي»، والشيخ الجليل الذي لم يسميه إجلالًا هو في ترجيحنا غفرائيل متروبوليت بيروت.
٢٧  «الأَرَج الزاكي» أيضًا، ص٤٥.
٢٨  Bapheidès, Ecc. Ist., III, 273.
٢٩  عن السجل البطريركي بالتاريخ بذيله.
٣٠  «روض المسرة»، لإبراهيم الأسود، ص٨–١٠.
٣١  مقدمة «الأنوار في الأسرار»، لجراسيموس مسرة، ص٤-٥.
٣٢  Musset, H., Hist. du Christ. Spécialement en Orient, III, 152-153.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤