الفصل الثامن

ملاتيوس الثاني

مدرسة البلمند (١٨٩٩-١٩٠٠)

وجعل البطريرك ملاتيوس والمجمع باكورة أعمالهم العودة إلى مدرسة إكليريكية لتثقيف عقول المرشحين لخدمة الكنيسة وتهذيبهم في علوم الدين والدنيا.١ فأقروا افتتاحها في مطلع السنة ١٩٠٠ في دير البلمند واختاروا غريغوريوس الراهب الورع متروبوليت طرابلس وكيلًا لها، وغطاس قندلفت خريج مدارس اليونان الإكليريكية مديرًا وأستاذًا للعلوم اللاهوتية فيها. وأسرع غريغوريوس إلى بيروت لإيجاد سائر الأساتذة، فخصَّ جرجس همام الشويري بشطر وافر من جهده ودعاه لتعليم الرياضيات واللغة العربية. وكان الهمام قد عاد من جامعة أدنبرج مبرزًا في الرياضيات العالية وفي الأسلوب الحديث في التعليم، ولا سيما في طريقته المستحدثة في تعليم اللغة العربية.

وفي الثامن والعشرين من تشرين الثاني سنة ١٨٩٩ أعلن غريغوريوس وكيل المدرسة الإكليريكية الجديدة شروط الدخول ولائحة الدروس، فجاءت الشروط هكذا: (١) لا يُقبل تلميذ في صف دروس السنة الأولى قبل بلوغه الخامسة والعشرين من عمره. (٢) يُسمح بدخول التلميذ في أي صف من الصفوف الثلاثة الأولى بحسب استعداده الذي يظهر باختباره عند الدخول، وأما في صف السنة الرابعة فبعد مطالعة دروس الصف الذي قلبه. (٣) عند الدخول يختبر التلميذ في القراءة الفصحى العربية وفي مبادئ الصرف والنحو والجغرافية والحساب والتاريخ الشريف وفي مبادئ اليونانية إن أمكن. (٤) لا يُنقل تلميذ من دروس سنة إلا بعد أن يطالعها في السنة القانونية ويختبر فيها في آخر السنة ويظهر أهلًا للانتقال إلى دروس سنة أعلى. (٥) يُشترط على التلميذ قبل دخوله أن يظهر لمدير المدرسة شهادة معمودية وشهادة تبين حسن سلوكه قبل دخوله، ويقدم لغبطة البطريرك الأنطاكي صكَّ تعهد بأنه عند حلول الوقت المناسب يدخل في الطغمة الإكليريكية ويكون تحت أمر غبطته، ويخضع لنظام المدرسة ويبقى فيها إلى نهاية دروسه. ويقدم كفيلًا معتمدًا يكفله بأنه إذا خالف التعهد يدفع عنه عشرين ليرة عثمانية مقابلة لمصاريف تعليمه وملبوسه وسكنه ومأكوله وسائر لوازمه عن كل سنة مدرسية ولو أقام منها في المدرسة وقتًا قليلًا. (٦) إن المدرسة تقدم للتلاميذ المتعهدين بالدخول في الطغمة الإكليريكية كل لوازمهم من كتب وملبوس وغير ذلك، فضلًا عن مصروف التعليم والمأكول والسكن، ولا تكلفهم بارة الفرد من أجل هذا كله. (٧) دروس المدرسة إلزامية لجميع التلاميذ. (٨) لا يرخص لأحد من التلاميذ بالخروج من دائرة المدرسة إلا لأسباب ضرورية وبمعرفة المدير. (٩) من يخالف نظام المدرسة إلى حد يستدعي فصله عنها فلا يُعفى من القيام بإيفاء المبلغ الذي عليه كما لو خالف تعهده بالدخول في الطغمة الإكليريكية.

وجاء في لائحة الدروس عدد الساعات في كل سنة فكانت اثنتين وثلاثين في كل أسبوع في السنوات الثلاث الأولى، وثلاثين في الرابعة والخامسة وأربعة وعشرين في السادسة. أما اللغات فإنها العربية واليونانية والعثمانية والروسية. وأما العلوم فإنها الحساب والجبر والهندسة والطبيعيات وعلم الهيئة والتاريخ الشريف، وتاريخ الكنيسة والكتاب المقدس ومؤلفات الآباء الأطهار واللاهوت والفلسفة وتفسير القداس والصلوات والخطابة والوعظ والحقوق الكنسية والموسيقى الكنسية.٢

وجوب تعليم الإكليروس

وحملت مجلة «المنار» الأرثوذكسية في عددها الصادر في الخامس والعشرين من تشرين الثاني سنة ١٨٩٩ مقالًا شائقًا لمدير هذه المدرسة غطاس قندلفت في تعليم المرشحين للخدمة الإكليريكية الشريفة، جاء فيه أن هذه الخدمة لا تقوم بإتمام بعض الرسوم والأعمال والفروض الخارجية؛ لأن رائدها هو قيادة البشر إلى الكمال بنعمة الله في الفضيلة والتقوى وإنارتهم لمعرفة الله بالإيمان به إيمانًا قويمًا ولنيل خير مرضاته. وأهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإكليريكي هي الاستعداد الطبيعي لهذه الخدمة ومعرفة مقتضياتها وما تفرضه من الواجبات وحسن السيرة والسريرة وطيب الأثر والذكر، فالخدمة الإكليريكية هي أشرف الخدم تؤهل صاحبها ليكون آلة للنعمة الإلهية وللكرازة الإنجيلية ونورًا يضيء بالفضائل وينير العقول بالمبادئ ومِلحًا يصلح كل ما أفسدته الأيام، وراعيًا يقود الخراف إلى مروج الخلاص ويبعد عنهم الذئاب الخاطفة، وللحصول على ذلك يجب عليه أن يحمل عصا الرعاية الروحية التي هي عصا الخطابة والإقناع ويرفع ترس الإيمان والفضائل ويستل سيف الحق ذا الحدين ليقطع به جميع ضلالات المناقضين.

والحرب اليوم عوان، وهي أشد قوة من مصادمات العصور القديمة، فمحاربو الديانة المسيحية اليوم يقاومون الكتاب المقدس نفسه والتقليد الشريف بكل ما يسرته لهم مطالعات التاريخ والفلسفة. فهم ينبذون التقليد وينكرون سلطان الكتاب المقدس وصحته وصدق نسبته إلى مؤلفيه، ولا يعترفون بسلامته من التحريف، وكثيرون ينبذون المبادئ الأولى في الدين المسيحي فلا يقبلون بوجود إله روحي قائم بذاته، ولا يميزون بين المادة والروح.٣

افتتاح المدرسة الإكليريكية

وفي التاسع من كانون الثاني سنة ١٩٠٠ احتفل في دير البلمند بقداس إلهي، وبعد نهايته تم تدشين المدرسة الجديدة على يد الأرشمندريت أيوانيكيوس رئيس الدير الجديد وسائر آباء الدير وحضور جمع غفير من القرى المجاورة، فتقدم الشكر للإله العلي الذي ألهم لتأسيس هذا المشروع المقدس، ثم قدمت الأدعية للسلطان وللبطريرك وللمتروبوليت الوكيل، ووقف في الختام غطاس قندلفت مدير المدرسة وأستاذ اللاهوت فيها فألقى خطابًا في فضل العلوم وفائدتها.

ملاحظات بطريركية

وفي أواخر السنة ١٨٩٩ حملت الجرائد والمجلات الأرثوذكسية منشورًا بطريركيًّا رعائيًّا شعاره: «وكونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.» وتضمن هذا المنشور ملاحظات بطريركية «هدفت إلى الحرص على آداب الملة وتوفير أسباب سعادتها وراحتها وتحسين ظروفها الصحية العامة.» وتناولت الخطبة والعرس والمعمودية والمعايدات وزيارة المرضى ومواد متفرقة أخرى. وقال طيب الله ثراه: «إذا قللنا فئة ما يُقدم عربونًا في الخطبة لا نقصد امتهان مقام الخطيب أو الخطيبة، بل بالأحرى تيسير الأمور وتسهيل الطرق لتكثر هذه العلائق التي ينتج عنها ازدياد الملة ونموها ونضارتها وزهاؤها، وهكذا القول في الزواج فإننا نحترم شرف هذا السر، ونعلم أنه مكرم ومضجعه بغير دنس. والله إنما خلق المرأة لتعين الرجل، ولو رأى استغناءه عنها لما أوجدها؛ ولذلك لا يجوز وضع العوائق والصعوبات في سُبل الزواج. والأعياد اجتماعات حبية تجلب البركة والخير على المحتفلين بها لا اللعنة والضيق اللذين ينجمان عن البذل والتبذير. والشفقة والحنو فضيلتان في الإنسان، ولكن عيادة المرضى في غرفهم تجلب العدوى في بعض الأحيان، والموت عند المسيحيين جسر ينقل الذين في الأرض إلى السماء، فلا يجوز الاجتماع حول الميت والندب والصراخ.»٤

البراءة السلطانية

وثبتت الحكومة العثمانية انتخاب ملاتيوس الثاني وأصدرت بذلك براءة سلطانية وأرسلتها إلى والي سورية، فأعلم الوالي البطريرك بوصولها، فقام البطريرك في السادس والعشرين من نيسان سنة ١٩٠٠ يصحبه مطارنة عكار واللاذقية وديار بكر لزيارة الوالي «دولتلو ناظم باشا» والتشرف باستلام البراءة. فاستقبل الوالي البطريرك «بما فُطر عليه من اللطف والإيناس.» وأكد البطريرك إخلاصه لحكومة المتبوع الأعظم «وبسط أكف الضراعة والابتهال إلى الإله المتعال أن يحرس ويصون بوقايته جلالة السلطان ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان.»٥

جولة رعائية (١٩٠٠)

وبدأ البطريرك جولاته الرعائية بزيارة أبرشية بيروت ولبنان، فخفَّت ركابه تفقد شئون ديره في ضواحي الشوير في أواخر أيار السنة ١٩٠٠. فأرسل ناظم باشا ياوره وخمسة فرسان إلى المقر البطريركي واستناب في وداع البطريرك كلًّا من خليل الخوري ويوسف طنوس، وأخذ سلام غبطته في محطة القطار فرقة من الضابطة، وصحب البطريرك نيقوذيموس مطران عكار وأرسانيوس مطران اللاذقية والأرشمندريت بولس أبو عضل وكاتب البطريرك حبيب كومين، فسار بهم القطار حتى صوفر فحل البطريرك وحاشيته ضيوفًا على جبران سرسق. وفي صباح اليوم التالي نهض البطريرك إلى حمانا فقدم الشكر في كنيسة الملة وزار كنيسة الموارنة. وما إن جاوز خراج حمانا حتى لقيه وفد كبير من جميع طوائف أرصون يتقدمهم الكهنة والأعيان. ولدى وصوله إلى أرصون قدم الشكر في كنيسة الطائفة وزار كنيسة الموارنة واستراح في منزل الخوري جرجس مجاعص، ثم زار سلمان بك شقير بكباشي الضابطة اللبنانية، واستتلى المسير بموكبه فخرجت بعبدات لاستقباله عند السفيلة، فزار مدرستها حيث ألقيت القصائد والخطب في اللغات العربية واليونانية والإفرنسية والإنكليزية.

ولم يتجاوز موكبه بعبدات حتى أقبل عليه وفد من المحيدثة يتقدمهم مدير القاطع الشيخ يوسف حاتم، فقدم الشكر في كنيسة المحيدثة وسار إلى دير مار إلياس البطريركي في ضواحي الشوير، فضاقت الطرق بوفود الشوير وبتغرين وعين السنديانة وغيرها، وأمامهم الإنجيل الطاهر ومدير الشوير حبيب أبو فاضل والكهنة بحللهم الكنسية وتلامذة مدرسة الشوير الأرثوذكسية. وسار الجميع حتى الدير فكان الآباء كهنة الدير ورهبانه وآباء الرهبانية الحلبية المارونية، فذهب الجميع إلى الكنيسة حيث أسدى البطريرك لله شكرًا خالصًا. وألقى الأرشمندريت بولس أبو عضل كلمة أثنى فيها على العواطف البنوية ودعا للذات الشاهانية وسأل للجميع البركة. وفي يوم الأحد خدم البطريرك الأسرار الإلهية وشاركه مطران عكار ومطران اللاذقية. وعقيب القداس اجتمع وجهاء الشوير وبقية القرى المجاورة في بهو الاستقبال، فألقى بعض تلامذة مدرسة الشوير الأرثوذكسية بحضور رئيسها الخوري يوحنا مجاعص القصائد ابتهاجًا بقدوم راعي الرعاة. وفي ظهر النهار نفسه قدم وفد الرهبانية الحناوية الشويرية الكاثوليكية والمطران نعمة الله سلوان الماروني، وعند الغروب وصل قنصل روسية المسيو ليشن وحاشيته. ويوم الجمعة في الثاني من حزيران زار الدير البطريركي قائمقام المتن الشيخ رشيد الخازن مهنئًا باسم نعوم باشا متصرف لبنان، ثم جاء وفد بسكنتا يتقدمهم الكهنة وملحم أغا نكد وراجي أبو حيدر، فانبرى صبري أندريا أحد أساتذة المدرسة الروسية في بسكنتا، فأبان عظم السرور الذي حاق «جميع السوريين الأرثوذكسيين» بارتقاء رئيس رعاتهم، وزار غبطته الشوير، فاستقبلته الجماهير على اختلاف المذاهب يتقدمهم الصليب الكريم والإنجيل الطاهر والكهنة بملابسهم الحبرية، فسار غبطته توًّا إلى كنيسة السيدة الأرثوذكسية ثم زار كنيسة مار بطرس للروم الكاثوليك.

وأعلن البطريرك رغبته في زيارة الرعية في بيروت في الثاني والعشرين من حزيران، فأَمَّ الدير البطريركي وفد بيروتي من قِبل مطران الأبرشية ومجلس الملة فيها والجمعيات الخيرية الست الخيرية ودفن الموتى والتعليم المسيحي ومساعدة المرضى والقديس بولس واتحاد البر. وفي صباح الثاني والعشرين برح البطريرك الدير متجهًا نحو بيروت، فاستقبله في عين عار قائمقام المتن وفارسان من الضابطة اللبنانية وساروا بمعيته حتى أنطلياس، وكان ينتظر البطريرك هناك غفرائيل متروبوليت بيروت، وإسكندر بك التويني ممثل المتصرف، وجم غفير من السراة والوجهاء، وخطب الخطباء فألقى إبراهيم بك الأسود صاحب جريدة لبنان قصيدة قال في مطلعها:

لمثلك لاق مدح المادحين
وشكرك واجب دَيْنًا ودينا
كأنا والقوافي زاهرات
نفوق بها نظام الأولينا

ولدى وصول البطريرك إلى جسر نهر بيروت حد الولاية رحب به ميشال أفندي أده ترجمان الولاية باسم الوالي رشيد بك وقنصل روسية وأنطون أفندي سالم ترجمان قنصل اليونان، ووفد ماروني من قِبل جمعية طوبيا البار وأخويه مار مارون وأخوَّة الفقراء. وارتقى البطريرك عربة الوالي وأمامه ياور الولاية وكوكبة من الفرسان، وسار والجماهير وراءه حتى بلغ الحديقة الحميدية (ساحة البرج) فبارك الجماهير وترجَّل وذهب توًّا إلى الكاتدرائية يتقدمه الصليب الكريم والإنجيل الشريف والكهنة والشمامسة وتلامذة مدرسة الثلاثة الأقمار. ودخل الكنيسة فقدم الشكر لله العالي، ثم رقي السدة الرعائية وقال: «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم، ما أبهج هذا اليومَ السعيد الذي يسَّرت لنا فيه العناية الإلهية البلوغ إلى هذه المدينة الزاهرة والوقوف في هذه الكنيسة المقدسة ومشاهدة نيافة أخينا الوقور السيد غفرائيل راعيكم الجزيل الطهر، وجميعكم على أحسن حال من الصحة والرفاه سِيمتكم التمسك بالإيمان المسيحي القويم، وعلمكم التفاني في خدمة بعضكم بالمحبة تحت ظل حكومة متبوعنا الأعظم! فاسهروا واثبتوا في الإيمان. كونوا رجالًا وتقووا ولتصر كل أمروكم في محبة. اسلكوا بحسب الدعوة التي دعيتم بها بكل تواضع ووداعة وطول أناة محتملين بعضكم بعضًا في المحبة، مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام. لا تنسوا فعل الخير والشركة؛ لأنه بذبائح مثل هذه يُسرُّ الله، اخضعوا للرئاسات والسلاطين.»

وجاء قنصلا روسية واليونان مهنئين والسيدة مريم تشيركاسوف «رئيسة المدارس الروسية في بيروت» ولجنة مجس الملة والوفد الماروني ومطران الروم الكاثوليك ملاتيوس فكاك، وزار البطريرك سراي الحكومة فجرى له استقبال شائق لائق وقابله الوالي باللطف والاحترام.

مدرسة جامعة في بيروت

وبحث البطريرك في أثناء وجوده في بيروت حاجات الطائفة مع مطرانها وأعيانها، فلمس لمس اليد خوفَ الطائفة من نشاط المرسلين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في حق الدعاية الدينية، وكان هذا الخوف قد تزايد فظهر أثره في الصحف والمجلات الأرثوذكسية، فقالت «المحبة» في عددها الصادر في أثناء إقامة البطريرك في بيروت: «إن المدارس التي جعلت غايتها اقتناص الأولاد من أحضان والديهم وإغراءهم على خيانة مذهبهم وتعليمهم التعصب وبُغض كل ما هو خارج عن دينهم فحقها أن تهدم هدمًا وتحرق حرقًا وتباد عن وجه الأرض؛ لأنها إنما وجدت لتفرق لا لتجمع، وتهدم لا لتبني، وتؤخر لا لترقي.» نقول: لمس البطريرك هذا الخوف المتزايد فعين لجنة بيروتية للنظر في إنشاء مدرسة جامعة برئاسة الأرشمندريت بولس أبي عضل، وعقدت هذه اللجنة جلسات متتالية، «فأقرت كل ما فيه نيل الرجاء، وشرعت في إخراج هذا المشروع من حيز الفكر إلى حيز العمل متدرعة بالحزم والحكمة.»٦

البطريرك في اللاذقية

وفي الخامس والعشرين من تموز سنة ١٩٠٠ سار البطريرك إلى سراي الحكومة في بيروت لزيارة الوالي وإعلامه بعزمه على السفر إلى اللاذقية، فاستقبل وشيع بالإجلال والإكرام. ثم زار البطريرك قنصلي روسية واليونان للغاية نفسها. وفي السادس والعشرين ركب غبطته متن الباخرة النمساوية فجرى له عند المرفأ وداع رسمي، وركب زورقًا خاصًّا وحيته الباخرة برفع الأعلام وأبحرت تُقِلُّ الحَبْرَ الأنطاكي وحاشيته إلى اللاذقية.

وبلغت الباخرة طرابلس فوفد إليها متروبوليتها غريغوريوس وعدد من الأعيان والوجهاء مُسلِّمين مودعين. ثم جرت الباخرة قاصدة اللاذقية فَرَسَتْ أمامهم في السابع والعشرين من تموز، وأحدقت بها الزوارق تُقِلُّ وجهاء الروم يتقدمها توفيق أفندي صوايا ترجمان المتصرف وبعض رجال الحكومة. ولدى وصول البطريرك إلى الرصيف استقبله قناصل الدول ووفد ماروني، ثم سار الموكب يتقدمهم فصيلة من الجند وكوكبة من الفرسان والبطريرك والمتروبوليت يباركان الملاقين على الشمال وعلى اليمين حتى مداخل المدرسة، فاستقبله الكهنة بملابسهم الكهنوتية وبالصليب والإنجيل ومشوا أمامه مرتلين حتى كنيسة القديس نقولاووس الكاتدرائية، فصلى ودعا للسلطان وقدم للشعب خلفه أرسانيوس المتروبوليت الجديد وحضَّهم على طاعته ومحبته، وفي الغد زار غبطته ونيافة المتروبوليت شمس الدين باشا متصرف اللاذقية وشريف بك قائمقام العسكرية فردا لهما الزيارة في اليوم نفسه في المطرانخانة. وفي نهار الأحد الواقع في ٣٠ تموز احتفل البطريرك بالقداس الإلهي يشاركه أرسانيوس المتروبوليت الجديد. وفي ختام القداس قرأ الأرشمندريت بولس أبو عضل البراءة الكنائسية المؤذِنة بانتخاب أرسانيوس وسيامته مطرانًا على أبرشية اللاذقية وما يليها.

مجلس للملة في اللاذقية

وفي مساء الإثنين في الحادي والثلاثين من تموز سنة ١٩٠٠ حضر إلى المطرانخانة وجهاء الطائفة وأعيانها لأجل النظر في شئون الملة. ولما تكامل عددهم صلَّى البطريرك مستمدًّا المعونة والهداية، ثم شكر المتروبوليت تلبية الدعوة، وقال: إن الغرض من الاجتماع هو تأليف مجلس ملي ينظر في شئون الطائفة ويحامي عن حقوقها في كل الأبرشية المحفوظة من الله. وبعدما أَلَمَّ بأهمية المجلس وفائدته وأشار إلى كيفية الانتخاب القانوني وزِّعت الأوراق على الجميع لينتخب كل منهم ثمانية أعضاء من أهل اللياقة والاستحقاق والغيرة والحمية. ثم جُمعت الأوراق وأُحصيت الأصوات بكل ضبط وتدقيق، فأصابت الأكثرية ميخائيل سعادة وأنطونيوس سعادة وكومين ويوسف صالح وإبراهيم نصري، وباسيلي كومين وإبراهيم عفيف ويوسف فهد وحبيب مرقس. وفي يوم الثلاثاء في أول آب وزَّع المتروبوليت على الأعضاء رقاعًا يعلمهم بها بصورة رسمية تعيينهم أعضاء مجلس الملة، ويدعوهم مساء الخميس في الثالث من آب لعقد جلسة ينظم فيها هذا المجلس وتسنُّ قوانينه.

وألَّف أرسانيوس والبطريرك لا يزال في اللاذقية محكمةً روحية يرى فيها مع الكهنة «جميع القضايا الدينية»، وبحث أمر الفقراء والمرضى في مجلس الملة، فانتقى بموافقة الأعضاء أربع عشرة سيدة وكتب إليهن ودعاهن إلى بيت المسيو نقولا فيتالي قنصل إنكلترة، فبيَّن غاية الجمعية التي سمَّاها باكورة الإحسان، وحثَّهُنَّ على كساء المعوزات من بنات السترة ومساعدة الفقيرات وزيارة المريضات وإصلاح بعض العادات عملًا بالمنشور البطريركي الرعائي.

مجلس للملة في طرابلس

وفي السابع والعشرين من آب سنة ١٩٠٠ دعا غريغوريوس متروبوليت طرابلس عموم الشعب الأرثوذكسي إلى دار المطرانية لأجل انتخاب أعضاء المجلس الملي، فلبى الدعوة فريق من أبناء الملة وجرى الانتخاب على محوره القانوني فنال أكثرية الأصوات قيصر بك نوفل والأفندية جرجس نقاش وحنا الغريب وسامي صراف وإدوار كاتسفليس وعبد الله نحاس، وأسعد صوايا وسامي خلاط وإبراهيم صدقة وأنسطاسي زريق وأسعد عرقية.

ما لقيصر لقيصر

ورأى البطريرك الأنطاكي أن الواجب يقضي بالاحتفال بالعيد الفضي السلطاني، فأرسل إلى مطارنة الكرسي منشورًا رعائيًّا أوجب فيه بذل الجهد المستطاع في إعداد الزينة ابتهاجًا بالعيد الفضي السلطاني والاجتماع في الكنائس للدعاء ببقاء ولي النعم مؤيدًا بالنصر. فنفذ الأمر البطريركي في جميع الأبرشيات، وأبرق المطارنة كلٌّ بمفرده وباسم رعيته إلى الأعتاب السلطانية، ولنا في تقرير دوَّنه باسيل جبارة وضمَّنه أخبار هذا الاحتفال في حماة ما ينبئنا عما جرى في الكنائس من هذا القبيل، فهو يقول إنه أقيم في يوم العيد في حماة قدَّاس حبري حضره أعيان المسيحيين والشعب، وإنه قبيل ختام القداس حضر وكيل المتصرف، فرتلت أولًا المجدلة الكبرى، ثم قرئت رسالة بولس الرسول الآمرة بإقامة صلوات وابتهالات من أجل الملوك والحكام والإنجيل الذي صرح فيه السيد بوجوب إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وبعده تلا نيافة المطران غريغوريوس متروبوليت حماة طلبات حارة من أجل حفظ جلالة السلطان وتأييده بالنصر، فأمَّن عليها الشعب أجمع، وفي الليل أُقيمت الأفراح عمومًا حتى كنتَ تحسب أن في كل بيت عرسًا.٧ وجرى مثل هذا في حَلَب برئاسة متروبوليت ديار بكر سلفسترس (زرعوني).

حيث دُعي المؤمنون مسيحيين أولًا

وفي الحادي والثلاثين من آب سنة ١٩٠٠ أبرق البطريرك الأنطاكي إلى رئاسة مجلس الملة في الإسكندرونة ينبئ بوصوله إليها بحرًا في الرابع من أيلول. فاجتمعت الملة في بيت وكيل البطريرك حنا أفندي ظندي صايغ، وانجلى قرار هذه الهيئة عن تأليف لجنة خصوصية للاستقبال. ثم أبرقت هذه اللجنة إلى حلب وأنطاكية وعرصوص بقدوم البطريرك فأخذت الوفود تتوارد من جميع الجهات. وفي صباح الرابع من أيلول أطلَّتِ الباخرة النمساوية رافعة العلم العثماني، فهُرع لاستقبال غبطته أعضاء مجلس الملة والوجهاء وممثلو الطوائف المسيحية. وأرسل قومندان الدارعة العثمانية الراسية في مياه الإسكندرونة زورقًا خصوصيًّا لينقل البطريرك إلى البر، ولما ضاق ظهر الباخرة بالوفود نزل البطريرك والحاشية والوجوه والأعيان إلى البر فاستقبله الكهنة الأرثوذكسيون والأرمن بالحلل الكنسية والصليب والإنجيل، وأخذت سلامة فرقة عسكرية كاملة، فبارك الجماهير وذهب توًّا إلى الكنيسة فصلى وشكر وبارك، ثم صعد الكرسي وعلى جانبيه قائمقام البلدة علي نسيب بك وقائد الموقع وقنصل فرنسة، فلفظ الأرشمندريت بولس أبو عضل خطابًا اختتمه بالدعاء للسلطان، وتكلم الأب بابا يوركي باليونانية مرحبًا. ثم انتقل البطريرك إلى الكنيسة الأرمنية «فدخل هيكلها وصلى وبارك»، ثم قال: إن أعظم سروره في الحياة أن يرى الشعب المسيحي متحدًا برابطة الحب مؤتلفًا ائتلافًا سلميًّا تحت ظل المتبوع الأعظم، ووقف كاهن الأرمن وتكلم بالتركية شاكرًا. وفي اليوم التالي زار البطريرك القائمقام والقومندان وقنصل فرنسة فاستُقبل بالحفاوة التامة، وأنعم غبطته على نجل حنا أفندي صايغ وكيله في الإسكندرونة بثلاث مادوليونات من الذهب الخالص مرصعة بالحجارة الكريمة تمثِّل قيامة الفادي وعليها رسم البطريرك ملاتيوس الثاني.٨

وتكاملت وفود الأنطاكيين فركب البطريرك عربة خصوصية وواكبته كوكبة من الفرسان، وخرج في طريقه إلى حيث دُعي المؤمنون مسيحيين أولًا. ولما بلغ موكبه منتصف الطريق أتى للترحيب بغبطته كاهن بيلان الأرمني ووجوه طائفته فيها، فدخل كنيسة الأرمن وصلَّى وبارك وحضَّ الشعب على أداء فريضة العبودية للمليك الأعظم. وسار من بيلان قاصدًا أنطاكية، فلما بلغ نهر البطريركين وجد في استقباله كثيرين من أهالي أنطاكية بينهم مهران أفندي نجل قنصل ألمانية، فاستراح وتناول الغداء، ثم استأنف السير إلى أن بلغ قسطل الدنك على بُعد نصف ساعة عن أنطاكية، فوجد فيها كبار الموظفين والرجال العسكريين وحيَّته فرقة كاملة من الجيش، وجلس عن يساره قائمقام أنطاكية. وسار باحتفال عظيم فدخل مدينة الله أنطاكية العظمى وذهب توًّا إلى كنيسة القديسين بطرس وبولس، وقدم الشكر لله ثم استناب الأرشمندريت بولس أبا عضل ليدعو ويشكر. وزار في اليوم التالي السراي والثكنة.

كتاب التيبيكون

وبينما كان البطريرك يتفقد شئون الرعية في أبرشيات الكرسي الأنطاكي كان تلميذه البار الأرشمندريت جراسيموس مسرة يشتغل ليل نهار ليفاجئ معلمه بهدية تقر لها عينه، فإنه اعتمد الطبعة القسطنطينية الأخيرة من كتاب التيبيكون المصدَّقة من مجمعها المستعملة في كنيستها العظمى، وأضاف إليها فوائد من تيبيكون القديس سابا وكتب الخدمة وسبكها بعبارة عربية خالصة، وطبعها على نفقته وحبسها وقفًا توزَّع على جميع كنائس الكرسي الأنطاكي وأبرشياته وأديرته في المدن والقرى؛ تذكارًا لارتقاء معلمه راعي الرعاة كيريوس كيريوس ملاتيوس الثاني على السدة البطريركية الأنطاكية.

وجاء تيبيكون جراسيموس العربي في لمحة وأربعة أقسام وملحق، واللمحة حوت ترتيب فرض المساء والسحرية وخدمة القداس الإلهي في أيام الآحاد والأعياد على مدار السنة في جميع ظروف وقوعها. والقسم الأول حوى ترتيب الفرض مساء وصباحًا وخدمة القداس الإلهي في بحر الأسبوع، وفي يوم الأحد، وصلاة المساء الصغرى وترتيب السهرانة مع صلاة المساء الكبرى. والقسم الثاني تضمَّن تيبيكون الميناون؛ أي أعياد الشهور الاثني عشر كالأعياد السيدية وأعياد القديسين الممتازين، والقسم الثالث حوى تيبيكون التريودي الذي تضمن ترتيب الخدم من أحد الفريسي والعشار إلى يوم السبت العظيم المقدس، كخدمة الصوم الأربعيني مع ما فيها من الصلوات المسائية والسحرية وصلاة النوم الكبرى وخدمة المديح، وقداس البرويجيازمينا وخدمة سبت الآلام المقدسة. والقسم الرابع تضمن خدمة أعياد البنديكستاري من أحد الفصح المجيد إلى أحد جميع القديسين. والملحق شمل ترتيب حفلات كنائسية كتكريس الكنيسة والغسل الإلهي الشريف الذي يقام يوم الخميس العظيم، ولا سيما كيفية الاحتفال به في مدينة الله أوروشليم المقدسة وشرطونية رؤساء الكهنة وخدمة جنائز الراقدين. وذيَّل جراسيموس هذا الكتاب بتفسير مختصر للكلمات اليونانية الواردة فيه.

التعاليم السنية

وبر بالبطريرك تلميذ آخر وهو غريغوريوس (جبارة) متروبوليت حماة، فأكمل في أواخر السنة ١٩٠٠ كتابًا دافع به عن العقيدة الأرثوذكسية وأسماه «التعاليم السنية». ورفعه إلى معلمه ملاتيوس الثاني البطريرك الأنطاكي، فلمس المعلم فؤاد الكتاب الجديد فدفعه إلى الطبع ورسم بأن يوزع مجانًا على كهنة الكرسي والجمعيات الخيرية.

وأورد غريغوريوس في هذا الكتاب مقدمة في ماهية السر عند الكنيسة ثم استهلَّ الأبحاث أولًا في سر الثالوث الأقدس، وهنا أثبت ما جاء في الكتاب المقدس من الآيات الباهرة الناطقة بهذا السر السامي على العقول البشرية، وبحث في انبثاق الروح الكلي قدسه من الله الآب، فقال: إن الاعتقاد بأن الروح القدس ينبثق من الآب والابن مخالف للتعليم الإلهي؛ لأن «الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الأب هو نفسه قد أخبر.»٩ ولأن هذا الابن الوحيد أخبر أن «أن الروح القدس من الآب ينبثق.»١٠ ولأن الواجب يقضي بالاقتناع بما علمه الرب، والاعتقاد به بدون زيادة «والابن» حذرًا من المذكور في الرؤيا: «من زاد شيئًا على هذه يزيد الله عليه الضربات، ومن أسقط يسقط الله نصيبه من الحياة.»١١ ثم يجيب غريغوريوس على الاعتراض بقول بولس: «أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم.»١٢ وبالقول: «كل ما للآب فهو لي», وغير ذلك من الاعتراضات.

ثم تكلم غريغوريوس في الأسرار إجمالًا فتفصيلًا، ولما أكمل البحث في هذه الأسرار الجليلة انتقل إلى الكلام في رسم علامة الصليب الكريم وفي الآيات الكريمة التي تؤيد القول أن العذراء هي والدة الإله. ثم أتى على تحقيق الشفاعة ووجوب استمداد صلوات القديسين. ثم ذكر الشواهد الكتابية على إكرام الأيقونات المقدسة، وبحث بحثًا جليلًا في أن الخلاص يلزم لنيله إيمان مستقيم وأعمال صالحة، وقفَّى بنبذة نفيسة في أن الصوم مأمور به من الله. واختتم هذه الحقائق بالكلام عن اعتقاد كنيستنا المقدسة الأرثوذكسية، وكونها ما حادت ولن تحيد عما تسلمته من الرسل الأطهار والآباء القديسين، محافظة على وديعة الإيمان النقي في كل العصور حتى انقضاء الدهر.

رفيق المسافر

ونشط في هذه الفترة عينها عبده ينِّي بابا دوبولوس فعرَّب عن اليونانية كتاب «رفيق المسافر» الذي أُعِدَّ بسعي المعلم فوتيرا وبإجازة المجمع القسطنطيني المقدس. ومما قاله معرِّبه: إن الواجبات الدينية والفروض الكنائسية هي من أخص الالتزامات الأولية على كل مسيحي قويم الرأي. وأضاف المعرِّب أنه لما كانت هذه الفروض صعبة التناول لتفرقها في كتب شتى؛ أي في كتب الإنجيل الشريف والرسائل والسواعي وخدمة القداس والتريودي والبندكستاري والميناون والمعزي وغيرها، وكان جمعها لا يتسنى لكل فرد لندرة وجودها أو لغلاء أثمانها، فقضت الضرورة بنقل هذا الكتاب من اليونانية إلى العربية.

شفاعة القديسين

وظهر في حمص في السنة ١٨٩٦ بحث شائق متين في إثبات شفاعة القديسين. ومن أجمل ما جاءَ في هذا البحث الأرثوذكسي المُغفَل الذي نشرته جمعية الغاية الجليلة الأرثوذكسية القول بوحدة المؤمنين بيسوع، وبأنه لا شدة ولا ضيق ولا اضطهاد ولا جوع ولا عري ولا خطر ولا سيف، بل ولا الموت نفسه يمكن أن يفصلنا، وإن انفصال المؤمنين عنا بحسب الجسد لا يمنع اتحادهم معنا بالروح، فالكنيسة موجودة على الأرض وفي السماء، وهي منظورة وغير منظورة، فالأولى تحوي جميع الأرثوذكسيين العائشين على الأرض والثانية تضم نفوس الذين قضوا آجالهم في الإيمان المستقيم والقداسة. ويؤيد وجود الكنيسة على الأرض وفي السماء واتحاد الفريقين قول بولس: «قد اقتربتم من صهيون ومن مدينة الله الحي أوروشليم السماوية وجماعة ربوات الملائكة وموسم كنيسة الأبكار المكثوبين في السماوات، ومن الله ديَّان الجميع، ومن أرواح الصديقين الكاملين ومن يسوع وسيط العهد الجديد.» وهذا يدل دلالة واضحة على وجود الكنيسة في السماء وفي الأرض. وبما أن رأس الكنيستين السماوية والأرضية واحد وجب الاتحاد بينهما لئلا يكون للرأس الواحد جسمان.

وبناء على هذه الوحدة فالكنيسة المجاهدة على الأرض تستدعي في صلواتها قديسي الكنيسة السماوية الظافرة لأجل معاضدتها؛ لأن صلاة البار تقتدر كثيرًا في فعلها. وهكذا فإن كنيستنا منذ نشأتها حتى الآن تطلب في صلواتها شفاعة القديسين الذين جاهدوا على الأرض لأجل المسيح؛ لأنهم بحسب درجاتهم أقرب لله منا، ومتى اقترنت صلواتنا مع صلواتهم تتقدم إلى عرش النعمة كبخور ذكي فينعم الله علينا بما نلتمسه منه؛ لأنه يستجيب للأبرار.

جمعيات التعليم المسيحي

وأدى نشاط المبشِّرين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في حقل التعليم وإقدامهم على اجتذاب الأحداث إلى كنائسهم إلى نشاط مماثل في الأوساط الأرثوذكسية، وسعي حثيث لبث التعاليم المسيحية الأرثوذكسية في المدارس الملية وخارجها. وسبقت أبرشية بيروت غيرها من الأبرشيات في هذا المضمار، فنشأت فيها منذ السنة ١٨٧٧ جمعية التعليم المسيحي وتلتها في السنة ١٨٨٢ جمعية القديس بولس، وسرتِ العدوى إلى سائر الأبرشيات فلم تخلُ أبرشية من جمعية تُعنَى بنشر التعاليم المسيحية الأرثوذكسية، وظلت بيروت في طليعة الأبرشيات في هذا الحقل من العمل بهمة أيكونوموسها الخوري إلياس مجاعص ونشاط ابنها الغيور فضل الله أبي حلقة. وبدأت هذه الجمعية بجمع شبان الملة وأولادها في أيام الآحاد والأعياد لتتلو عليهم فصولًا من الكتاب المقدس وتآليف الآباء ومواعظ وخطبًا تتناسب مع ظروف ذلك العصر. وكانت توزع على الأولاد صور بعض القديسين تنشيطًا وترغيبًا، ثم دفعت عبده يني بابا دوبولوس إلى وضع كتاب في التعليم المسيحي يتفق وسن الأحداث في الأبرشية.

وفي مطلع السنة ١٨٩٩ أصدر أحد أعضاء هذه الجمعية فضل الله أبو حلقة مجلة المحبة مرة في كل أسبوع وجعلها دينية علمية أدبية إخبارية، وضمن عددها الأول نبذة تاريخية في انتشار الديانة المسيحية في بلاد اليابان منقولة عن لسان الياباني دانيال كونيسي، ومقالة تاريخية أخرى عن بيت لحم حيث ولد المسيح، وذلك بعبارات أنيقة رشيقة ترتاح لمطالعتها النفوس. ووعدت «المحبة» يوم صدورها أن تقترح على أرباب الأقلام موضوعًا تجول فيه أفكارهم وتعين لذلك جائزة لمن يحوز قصب السبق في هذا المضمار. وفي أوائل السنة ١٩٠٠ عيَّنت جائزةً قدرها عشر ليرات إفرنسية، وهو مبلغ كبير في ذلك العصر، لمن يقدم لها تقريرًا مسهبًا عن الكرسي الأنطاكي يشتمل على سلسلة البطاركة الأنطاكيين بوجه الإيجاز، وعلى أقسام الأبرشيات قديمًا وحديثًا وأسماء المدن والقرى والمزارع، وعدد سكانها الأرثوذكسيين وعدد الكنائس وأسمائها في كل مدينة وقرية، وعدد الكهنة وعدد الكنائس والمعلمين والمعلمات والتلاميذ وحاجة الملة في كل أبرشية وسبيل سدد الخلل فيها.

جمعية القديس بولس البيروتية

وفي صيف السنة ١٨٨١ اصطاف أحد الغيورين الأرثوذكسيين في قرية برمانا من قضاء المتن، ولدى سماعه القداس الإلهي في كنيستها لم يكد يفهم ما كان يتلوه كاهنها لقلة بضاعته وكبر شيخوخته. وبعد انتهاء القداس اجتمع هذا الغيور ببعض وجوه القرية وقال إنه لا يناسب أن يستمر كاهنكم في الخدمة لعجزه، ولا سيما والملة كثيرة العدد هنا. فأجابوه: يا ليت هذا الكاهن مختص بخدمة كنيستنا فقط، فإنه يخدم كنائس أخرى في القرى المجاورة لخلوها من الكهنة! فحثهم على انتخاب كاهن أو اثنين، ولدى عودته إلى بيروت جمع بعض الإخوة من ذوي الغيرة والمحبة وبيَّن لهم حالة الملة في لبنان، وأنه يجب النظر إليها بتأليف جمعية تُعنَى بقرى الأبرشية، فبدأ هؤلاء يواصلون الاجتماع ويقرءون الكتب ويقيمون الصلوات حتى السنة ١٨٨٣ عندما قابلوا غفرائيل متروبوليت الأبرشية وعرضوا عليه مشروعهم، فَسُرَّ الراعي الجليل وحضَّ على مواصلة الاجتماع والصلوات، وأطلق عليهم جمعية القديس بولس الرسول، ثم سنَّ لهم قانونًا وباركهم.

وفي أول أيار السنة ١٨٨٣ الْتَأمت جمعية القديس بولس جمعيةً قانونية برئاسة غفرائيل ونيابة الشمَّاس غريغوريوس حداد (المطران فالبطريرك)، وعضوية الخوري جراسيموس فواز رئيس دير القديس يوحنا دوما والخوري جرجس قطيط والخوري جرجس جنحو، والإخوة إبراهيم حايك وإبراهيم سعد وإلياس يوسف سعد وحنا ثابت وفرج الله رزق الله، وفضول صباغة وفضول العم ولطف الله الزهار ولطف الله منسي ومتري حايك ومتري سماط وجبران بشور وجرجس قرداحي ونقولا كفوري.

واتصل رئيس الجمعية بالمجمع الروسي المقدس فتبرَّع هذا المجمع بألف روبل وبكثير من الأيقونات والأواني الكنسية، وبذل أعضاء الجمعية من أموالهم الخاصة وجمعوا من غيرهم، وأخذوا يطوفون في جهات لبنان من قرية إلى قرية ومن مزرعة إلى مزرعة يساعدون الكنائس ويؤسسون المدارس، واندفعوا إلى خارج أبرشية بيروت ولبنان فعملوا في راشيا وكفر مشكي وظهر الأحمر وعكار وغيرها، وسعوا في نشر نفائس الكتب الدينية على نفقتهم فطبعوا البوق الإنجيلي والأورولوغيون الكبير والتعليم المسيحي، وما أشبه من الكتب الجليلة.

الغاية الجليلة في حمص

وهبَّ مثال الغيرة والتقوى الطيب الذكر أثناسيوس متروبوليت حمص وتوابعها لرعاية أبرشيته، فرأى كلمة الله حية فعالة أمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل، فتدرَّع بالأعمال الصالحة التي بها أكمل الإيمان، فأنشأ المدارس بالتعاون مع الجمعية الإمبراطورية الروسية، ووجد في خليل بيدس خير مدير لهذه المدارس ونظم الجمعيات واللجان للعمل. ففي السنة ١٨٩٦ ألَّف أثناسيوس جمعية الغاية الجليلة لنشر الفضيلة، فعينت هذه الجمعية مطالعة الكتب المقدسة وتفسيرها وتأسيس مكتبة وطنية عمومية يستفيد من مطالعتها سواد المِلَّة.

وانتظمت في السنة ١٨٩٨ جمعية بوق النجاح في نور العفاف والإصلاح، فجمعت كتيبة نشيطة من سيدات حمص وكرائمها، فكانت تلتئم كل أسبوع في يوم الأحد لتلاوة الأقوال الروحية والأناشيد الدينية، فيتذاكرن في كلمة الخلاص وينصرفن لتشجيع الأعمال اليدوية واقتلاع العادات الضارة لتخفيض نفقات ربات البيوت.

أخوية التقوى في إزمير

ولم تنحصر هذه النهضة المباركة في كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى وحدها، فخطر التبشير الغربي هدد أخواتها في أوروبة وآسية وإفريقية كما هددها في جميع أبرشياتها، وكان من نتائج هذا التهديد في إزمير أن انتظمت في السنة ١٨٩٣ لجنة روحية أعضاؤها من العامة وأكثرهم صناع وفعلة، واتخذت هذه اللجنة لنفسها الاسم أوسيبيا وجعلت غايتها إنهاض الحياة الروحية والبشارة بالإنجيل، وتزعَّم أعمالها كركور فافيادس، وتكاثر الأعضاء العاملون حتى أصبحوا في السنة ١٢٠٠ سبعمائة بينهم ثلاثون مبشرًا من العامة. وبارك متروبوليت إزمير هذا المشروع وأيَّده في ذلك بطريرك الإسكندرية وغيره من الرؤساء الروحيين اليونانيين في كل مكان.

شغور الكراسي (١٨٩٩–١٩٠٢)

وشغر كرسي اللاذقية مذ تسنم ملاتيوس الثاني عرش الرسولين، وحرد جرمانوس متروبوليت حلب وبنيامين متروبوليت ديار بكر منذ انتخاب البطريرك، وتُوفي متروبوليت أرضروم. وفي الرابع عشر من أيلول سنة ١٨٩٩ رقد بالرب جراسيموس متروبوليت سلفكياس (معلولا وبعلبك وزحلة). وفي السابع من كانون الثاني سنة ١٩٠١ فاضت نفس غفرائيل متروبوليت بيروت ولبنان. وفي الرابع من تشرين الأول من السنة نفسها انصرف نيقوديموس متروبوليت عكار إلى جوار ربه.

انتقاء المطارنة

وكان المجمع الأنطاكي المقدس قد اتخذ قرارًا في ربيع السنة ١٨٩٨ بوضع نظام على غرار نظام بطريركية القسطنطينية، وكانت الحكومة العثمانية قد أذنت له بذلك (١٤ آذار ١٨٩٨)، فألف لجنة برئاسة ملاتيوس اللاذقية وعضوية أثناسيوس حمص وغريغوريوس حماة وغريغوريوس طرابلس وجراسيموس سلفكياس، واشتراك بعض العلمانيين المتضلعين في نواميس الكنيسة ونظاماتها. وكانت هذه اللجنة قد أنجزت منذ صيف السنة ١٨٩٩ نظام انتخاب البطاركة والمطارنة ونظام تأليف المجمع الأنطاكي المقدس «الدائم» ووصلت إلى نظام المجلس الزمني.

وفي السنة ١٩٠١ دبَّج غطَّاس قندلفت أحد أعضاء هذه اللجنة المشتركين سلسلة مقالات في انتخاب الأساقفة وشرطونيتهم ونشرها تباعًا في مجلة «المنار» الأرثوذكسية في بيروت، فأعلن أن اللجنة المشار إليها أقرَّت موادًا ثلاثًا في الصفات اللازمة لمن ينتخب للأسقفية. ونشر نص هذه المواد فجاءت معرِبة عن سياسة البطريرك الجديد في انتقاء المطارنة ومجمعه المقدس.

وجاء في المادة الأولى أنه يجب على كل منتخب أن يكون عثمانيًّا عن أب وبلا لوم تجاه الدولة والملة، وأن يكون قد أحرز شهادة بحسن حاله من المحلات التي أقام فيها، وأن يكون قد أتمَّ الثلاثين من عمره، تام الأعضاء من الذوات المعروفين عند الكنيسة ملمًّا بلسان الأبرشية التي يعين لها. وجاء في المادة الثانية أن «رتبة الأسقفية تعطى لمن يثبت أنه تعلم العلوم الكنائسية الأرثوذكسية في المدارس الأرثوذكسية ونال شهادتها.» ونصت المادة الثالثة على كيفية الترشيح والانتخاب، فأشركت الأبرشية في «ترشيح ثلاثة من الذوات الذين أحرزوا الصفات المحررة في المواد السابقة.» وأوجَبت على البطريرك أن يبلغ المطارنة أسماء هؤلاء في ظرف أسبوع واحد، وأن يدعوهم إلى الانتخاب بعد أسبوعين.١٣
وأنهى غطاس قندلفت مقالاته سائلًا الله أن يأخذ بيد البطريرك والمطارنة ويمكنهم «سريعًا» من إقامة الرعاة اللازمين إلى الأبرشيات المترملة «جريًا على ما تفرضه القوانين الكنسية التي لا تسمح أن تلبث الأبرشيات مترملة مدة طويلة. وعملًا بما يقتضيه صالح الرعية وتعزيز شأن الأرثوذكسية دفعًا لمطامع من لا يرغبون في صالحها الحقيقي ويشمتون بضعفها وانحطاطها ويقفون لها بالمرصاد، ولا يهمهم نجاح كنيسة تاريخية قديمة مهمة في جسم الأرثوذكسية.»١٤
وعمل البطريرك بتوصيات المجمع وبمؤازرته، فسام أرسانيوس (حداد) شماس غفرائيل متروبوليت بيروت مطرانًا على اللاذقية في الثاني من كانون الثاني سنة ١٩٠٠. وفي الخامس والعشرين من آذار السنة نفسها سام سلفسترس (زرعوني) مطرانًا على ديار بكر، وكان سلفسترس قد لبس الأسكيم في دير البلمند، ثم التحق بملاتيوس في اللاذقية فغريغوريوس في طرابلس شماسًا إنجيليًّا، ثم رسم قَسًّا وأرسل إلى ترسيس لخدمة أبنائها فأقام فيها تسع سنوات.١٥ وفي أول كانون الثاني سنة ١٩٠٢ سام قسطنديوس (طرزي) مطرانًا على أرضروم، وكان قد لبس الأسكيم في دير مار تقلا معلولا سنة ١٨٥٩ ودرس اللاهوت وسائر العلوم الدينية في مدرسة الريزاريون في أثينا، وزار أوروبة وأميريكة وخدم في الكرسيين الأوروشليمي والإسكندري. وخص ملاتيوس الثاني حلب بعنايته فسام أبيفانيوس (السمرا) متروبوليتًا على حلب والإسكندرونة وتوابعها في الثاني من شباط سنة ١٩٠٢. ولِد في دمشق سنة ١٨٦٧ ودرس في المدرسة البطريركية في دمشق، ثم التحق بأثناسيوس متروبوليت حمص، فأخذ عنه التقوى والورع والعلم والموسيقى، فلبس الأسكيم سنة ١٨٨٤ ثم تبع معلمه إلى حمص ودخل في خدمة غريغوريوس متروبوليت طرابلس وتولى رئاسة دير البلمند ودير مار جرجس الحميرا. وتفوَّق في الوعظ والكتابة والترتيبات الكنائسية، ثم انتخب المجمع المقدس الأرشمندريت ألكسندروس (طحان) رئيس الأمطوش الأنطاكي في موسكو مطرانًا لأبرشية ترسيس، فسامه البطريرك في ٣٠ تشرين الثاني سنة ١٩٠٣. وكان ألكسندروس قد تميز بعلمه ففاز بالشهادة اللاهوتية الأولى من مدرسة خالكي وأجاد الموسيقى الكنسية واللغات العربية واليونانية والتركية والإفرنسية والروسية، وتحلى بالورع والتقوى فغبط الأرثوذكسيون إخوانهم في أبرشية ترسيس وتمنوا مثل حالهم الحسنة.١٦
«وحق للكرسي الأنطاكي أن ينتزع عنه أثواب الحداد ويبرز بملابس العيد ويقابل بأصوات الشكر آلاء العناية وانعطافها عليه، وبابتسامة البشر مستقبله الوضاح ونهضته الملية. وانقضى زمن الترمل والتراخي وجاء وقت الجد والعمل. مضى الخريف بيبسه وعريه وبدت طلائع ربيعه الجميل وأخذت أغصانه تكتسي بالأوراق، واكتحلت عين الناظر بمشهد جميل؛ إذ رأى الكراسي الفارغة تُملأ الواحد بعد الآخر برجال الهدى والفضل، وشعوبها المتفرقة تنضم تحت راية الجامعة والتعاضد وأطلالها الخالية تبدو بمظهر الشباب والعمران. ولا يسع الناظر إلى هذا كله أن يسكت عن إسداء الشكر لراعي الرعاة وأعضاء مجمعه المقدس الذين أبدوا من الاهتمام بانتخاب أساقفة للأبرشيات المترملة حقق بهم الظن أنهم الرعاة المختارون للسهر على الخراف وقيادتها إلى مراعي الخلاص.»١٧

أبرشية بيروت ولبنان (١٩٠١-١٩٠٢)

وشعر غفرائيل بانحراف في صحته في السادس والعشرين من تشرين الثاني سنة ١٩٠٠، ووافق ذلك يوم عيد مولد السلطان فخرج للكنيسة لإقامة الدعاء للسلطان، ثم عاد إلى القلاية فلبس أوسمته ونزل إلى دار الحكومة للقيام بواجب التهنئة باسم الروم، ورجع نحو الظهر ولزم الفراش متألمًا، وكانت نزلة صدرية تثاقلت مع مرور الأيام فمضى مستقبلًا وجه البقاء في السابع من كانون الثاني سنة ١٩٠١. فطيَّر منعاه إلى البطريرك وكان لا يزال في أنطاكية في جولته الرعائية وإلى المطارنة. فكتب البطريرك في العاشر من كانون الثاني معزيًا محرضًا كهنة الأبرشية على القيام بواجباتهم الروحية غير متقاعدين لتأييد الوفاق والمحبة راجيًا من أولاده الوجهاء أعضاء القوميسيون أن يواظبوا بلا فتور لرؤية مصالح الطائفة والنظر في الدعاوى. وفي الثالث عشر من الشهر نفسه حرر إلى الأحباء بالرب الأفندية يوسف سرسق وعموم أعضاء قوميسيون المطرانخانة في بيروت ذاكرًا مآثر غفرائيل، موافقًا على برقيتهم التي أعلموه بها عن اتفاقهم على تسمية الخوري اسبر الباشا وكيلًا روحيًّا ويوسف أفندي سرسق وكيلًا زمنيًّا.١٨
وكانت أبرشية بيروت ولبنان آنئذٍ أكبر أبرشيات كنيسة أنطاكية، فإحصاءات الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية لقبيل السنة ١٩٠٠ تجعل عدد «العائلات» الأرثوذكسية في كنيسة أنطاكية كما يلي:١٩
أنطاكية ودمشق ٢٩٠٠
صور وصيدا ١٨٠٠
سلفكياس (زحلة بعلبك) ٢٥٠٠
حمص ٢٥٠٠
حماة ٢٨٠٠
حلب ٨٠٠
ديار بكر ١٠٠٠
أرضروم ١٢٠٠
ترسيس وأدنة ٢٠٥٠
اللاذقية ٥٠٠٠
عكار ١٠٠٠٠
طرابلس ١٦٠٠٠
بيروت ولبنان ٢٠٠٠٠
وكان غفرائيل يلاقي من المتاعب والمشقات في سياسة أبرشيته هذه الواسعة الكبيرة ما ينوء بحمله كل رئيس، فإن دورته الرعائية في لبنان كانت تستغرق أكثر من نصف السنة، ومع ذلك لم يكن يستطيع النظر في كل الشئون التي تعرض عليه، ولا الاهتمام بكل ما تدعو إله الحاجة من الإصلاح والاعتناء بشئون الكهنة والكنائس. وكانت جمعية القديس بولس في بيروت قد لمست هذه المتاعب قبل وفاة غفرائيل ببضع سنوات، فبُحث أمر قسمة الأبرشية إلى أبرشيتين في إحدى جلساتها العمومية، وقام نجيب طراد فألقى خطابًا في هذا الموضوع على مسمع غفرائيل، فأبان حالة الطائفة في لبنان وما كانت عليه من الانحطاط، وأيد كلامه بالتقارير الوافية، وذكر المصاعب التي كان غفرائيل يلاقيها في إصلاح الخلل، وما كان يحول دونه من كِبر الأبرشية وتعدد حاجاتها وكثرة مطالبها، فلاقى رأيه استحسانًا واستصوابًا من جميع الحاضرين.٢٠
فلما انتقل غفرائيل إلى دار القرار تفاوض اللبنانيون في شأن فصلهم الروحي، فأقرَّ عليه رأيهم ورفعوا إلى البطريرك والمجمع المقدس العريضة التالية:
نحن أبناءكم الروحيين القاطنين في جبل لبنان نرفع إلى المجمع الأنطاكي المكاني المقدس بشخص قداستكم الوافر الشرف هذه العريضة البنوية التي نقدمها بمزيد الاحترام متضمنة طاعتنا وتمسكنا بالحقائق الأرثوذكسية المقدسة وعرضنا ما يأتي:

إن الفادي رسول الخلاص العظيم عندما أرسل تلاميذه الرسل بعد قيامته للكرازة في المسكونة كلها اقترعوا على أماكن رسالتهم كما يخبرنا بذلك سِفر أعمال الرسل، فوقعت سورية التي نحن جزء منها نصيبًا لسلفكم القديس بطرس الرسول، فأتى من أوروشليم مارًّا بالمدن حتى انتهى إلى بيروت فأقام القديس كوارتس أسقفًا عليها، ثم مضى إلى جبيل وأقام عليها أسقفًا؛ القديس يوحنا الملقب مرقس، ثم مضى إلى البترون فأقام القديس سيلا أسقفًا عليها. وهكذا تدرج إلى الكراسي الأخرى كما شرحت ذلك كتب آبائنا القديسين وعلمائنا الأعلام، ولا سيما سلفكم الطيب الذكر البطريرك مكاريوس الحلبي.

وعليه؛ فإن لبنان وطننا العزيز كان فيه أسقفيتان من وضع القديس بطرس، وعلى هذا التقسيم الرسولي ظلت الكنيسة تنمو متدرجة في صدر الديانة المسيحية. ثم لما هدى الله القديس قسطنطين المعظم ازداد عدد الكراسي ونما كثيرًا، فكان للبنان في أيام ازدهار الإيمان كراسي كثيرة زاهرة بالرؤساء الروحيين الأتقياء والشعب الوافر الطاعة والمستقيم الإيمان، لكن الله شاء بسماح إلهي أن تجرب كنيسته وصادمها بعض المحن فقلَّ عدد المسيحيين في لبنان كما قلَّ في سواه؛ ولذلك ضُمَّ إلى أبرشية بيروت.

والآن بنعمة الفادي ختن الكنيسة وعروسها الطاهر قد نَمَتْ أبناء البيعة المقدسة في ظلٍّ ظليل دولتنا الأبدية القرار بجبل لبنان نموًّا غزيرًا، وأصبحوا بحمده تعالى رعية متسعة نحو خمسين ألف، وهو عدد يربو على عدد أبرشيتين سوى أبرشية بيروت في عهد المثلث الرحمات المطران غفرائيل الطيب الذكر.

ولما كانت تقاليد الكنيسة تؤذِن للشعب العديد أن يتولى رعايته راعٍ خاص وكانت أبرشية لبنان مستقلة أصلًا عن بيروت؛ كان من المعدلة والرحمة أن تستجيبوا ملتمس أبنائكم الروحيين؛ أبناء البيعة الأرثوذكسية في لبنان، وتمنحوهم بنعمة الله الانفصال روحيًّا عن أبرشية بيروت؛ لأنه يتعذر على الراعي أن يطوف في كل الأبرشية إن كانت بيروت ولبنان أبرشية واحدة كما ثبته الواقع في حياة المثلثي الرحمات رعاتنا السالفين، حتى كان يمر بضع سنوات ولا تشاهد كنائسنا مطراننا الرسمي؛ وذلك لاتساع دائرة الأبرشية. فمن الواجب أن نطلب الانفصال ليتمكن راعي لبنان الخاص أن يتفقد قطيعه بأسره.

ولما كان رعاة لبنان الأولون لا ينقصون منزلة ورئاسة عن رعاة بيروت ولا عن سواها جئنا نلتمس من جنابكم الرسولي أن تقيموا لنا راعيًا من ذات درجة أحبار الأبرشيات الأخر، ونحن مستعدون للقيام بكل احتياجاته عن رضًا وطيبة نفس.

ونؤكد لغبطتكم وللسادة المطارنة الأجلَّاء أن انفصالنا لا نقصد به إلا الحصول على نجاح مستمر ونمو متواصل، وإننا كنا ولا نزال نحب إخواننا أبناء أبرشية بيروت حسبما أوصانا الرسول أننا نعرف أنفسنا أننا أولاد الله؛ لأننا نحب بعضنا بعضًا.

فنسترحم من سدَّتكم الرسولية باسم أبنائكم أرثوذكسي أبرشية لبنان أن يلتئم مجمعكم المكاني المقدس ويستدعي إليه كهنتنا ونواب شعبنا لعرض حقوقهم العادلة ليجري الفصل قانونيًّا ويقرر تحت رئاستكم استجابة ملتمسنا كنائسيًّا. وفي الختام نسأل العزة الإلهية دوام رئاستكم السعيدة أيها السيد الجزيل الطوبى.

فصل لبنان عن بيروت (١٩٠١)

وعرض ملاتيوس البطريرك هذه العريضة وغيرها على المجمع الأنطاكي المقدس وجرت المفاوضة بشأنها. وبعد المذاكرة قرر المجمع باتفاق الأصوات في جلسته المنعقدة يوم السبت في ٢٢ كانون الأول سنة ١٩٠١ إجابة سؤل اللبنانيين وفصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلًا روحيًّا مطرانية بيروت وجعلها أبرشية لوحدها منفصلة روحيًّا عن بيروت. وأصدر البطريرك المنشور الآتي إلى اللبنانيين:

نومرو ١٦٣٧

أيها الأبناء الأحباء بالرب قدس الكهنة الورعين والأفندية والمشايخ والاختيارية وعموم المسيحيين الأرثوذكسيين في أنحاء جبل لبنان المباركين، نعمة لكم ورحمة وسلام من لدن الله الآب أبينا والرب يسوع المسيح فادينا والروح القدس المعزي الصالح ينبوع كل تعزية وعطية صالحة.

وبعد؛ فإننا نهذبكم دومًا طالبين إليه تعالى من أجل حفظكم وصيانتكم ونجاحكم روحيًّا وزمنيًّا ونموكم في كل أعمال الصلاح لأجل اعتلاء شئونكم وزيادة معموريتكم وبنيانكم في الرب.

وبناء على المعروضات المتقدمة إلينا من لفيفكم قد افتكرنا مليًّا مع هيئة السينودوس المقدس المجتمع لدينا الآن، وفي الجلسة السينودسية المنعقدة اليوم قد تقرر فصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلًا روحيًّا لمطرانية بيروت، ولأجل هذه الغاية قد أنفذنا الآن من قِبلنا أخوينا السيدين كير أثناسيوس مطران حمص وما يليها وكير أرسانيوس مطران اللاذقية وما يليها الوقورين. وهما يذكران للفيفكم المحبوب كل ذلك شفاهًا أيضًا.

وبما أن العمل المشار إليه إنما هو لأجل ازدياد معمورية لبنان روحيًّا وهناء أحوال رعيته المحروسة وفلاحها في الرب، لا شكَّ أنكم تقبلونه بملء الارتياح والرضا والشكر لعنايتنا الرعائية واهتمامات سينودس كنيستنا الأنطاكية المقدسة، وتبادروا معًا طالبين إلى إلهنا الفادي الوحيد ختن كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة وراعي رعاتها الإلهي أن يلهمكم لتسمية ثلاث مرشحين لموقع الانتخاب من رجال إكليروس كرسينا البطريركي المقدس، المعروفين بالفضيلة والتقوى والآداب المسيحية وسعة المعارف الروحية والاطلاع؛ لتقدموهم إلينا بأقرب ما يمكن لأجل إجراء الانتخاب القانوني وتعيين من تختاره نعمة الروح الكلي قدسه مطرانًا لأبرشيته هذه المحروسة.

ونحن من الآن نبسط أكفَّ التوسلات الحية تعالى سبحانه أن يوفقكم إلى كل خير والصلاح ويصون حياتكم الثمينة، ويزيدكم نجاحًا وفلاحًا، وينميكم كبارًا وصغارًا بالعفاف وحسن العبادة وخوف الله، ويبارككم جميعًا بيمينه القدوسة وينقذكم من كل شر وضرر بشفاعة سيدتنا والدة الإله مريم البتول النقية وجميع القديسين.

نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم أيها الأحباء للدوام.

عن الشام في ٢٢ كانون الأول سنة ١٩٠١
الداعي لجميعكم بالرب
ملاتيوس
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

الترشيح والانتخاب

وعلى أثر ورود هذا المنشور البطريركي اجتمع اللبنانيون من كل القرى وأقاموا وكلاء عنهم لإجراء الترشيح القانوني. وبعد المذاكرة قرر هؤلاء باتفاق الأصوات رفع عريضة للبطريرك يفوضون بها غبطته والمجمع المقدس بانتخاب ذات يليق بالمنصب، فالتأم المجمع في ٣١ كانون الثاني سنة ١٩٠٢ وقرر باتفاق الأصوات انتخاب الأرشمندريت بولس أبي عضل مطرانًا للأبرشية الجديدة أبرشية جبيل والبترون وما يليهما. وفي الثالث من شباط سنة ١٩٠٢ تمت السيامة في الكاتدرائية المريمية في دمشق.

بولس متروبوليت جبيل والبترون (١٨٦٥–١٩٠٢)

وُلِد في دمشق في السنة ١٨٦٥ من أبوين أرثوذكسيين حبيب وأفذوكية فسمياه عزيزًا، ودخل المدرسة البطريركية فأخذ اليونانية والموسيقى الكنسية عن أثناسيوس متروبوليت حمص فيما بعد، ودرس العربية والرياضيات على ضاهر خير الله الشويري والتركية على جبران لويس، ومنحته المدرسة جائزة الامتياز في العلوم واللغات. وفي آب السنة ١٨٨١ أرسله أيروثيوس البطريرك إلى القسطنطينية ليتم دروسه فيها، فالتحق بمدرسة الفنار سنة واحدة ثم انتظم في سلك طلبة كلية خالكي اللاهوتية. وأقام في هذه الكلية سبع سنوات وأنهى دروسه في السنة ١٨٨٩ نائلًا شهادة الحذاقة في اللاهوت مجيدًا العربية واليونانية والتركية والإفرنسية، وسيم شماسًا إنجيليًّا في كنيسة خالكي وسمي بولس.

وعاد بولس إلى الوطن فانضم إلى معية البطريرك جراسيموس وأحيلت إليه رئاسة القلم، واستمر في المعية البطريركية في عهد اسبيريدون. وسنة ١٨٩٤ سامه هذا البطريرك قَسًّا وأرشمندريتًا، وتولَّى بولس بالإضافة إلى أعماله القلمية رئاسة المدرسة البطريركية في السنتين ١٨٩٤، ١٨٩٥. وانتظم في المحكمة الروحية البطريركية فسطر أحكامها ونفذ مطالبها، وفاز بثقة المطارنة أعضاء المجمع المقدس فأصبح كاتم أسرار هذا المجمع، وأخلص لملاتيوس القائمقام البطريركي فالبطريرك فأحبه وعطف عليه.

منشور بولس الرعائي (٣٠ آذار ١٩٠٢)

وأصدر بولس متروبوليت جبيل والبترون وتوابعهما منشورًا رعائيًّا في الثلاثين من آذار سنة ١٩٠٢ أعلن به انتخابه وسيامته، وحض المؤمنين على الورع والتقوى والطاعة للسلطات الزمنية والدعاء للسلطان، وهو من أفضل ما قرأنا لأي أسقف في أية لغة:

المجد لله دائمًا، بولس برحمة الله تعالى مطران جبيل والبترون وما يليهما: النعمة الإلهية والبركة السماوية فلتشملا نفوس وأجساد أبنائنا الروحيين المحبوبين بالرب الكهنة الورعين والمشايخ المحترمين والذوات المعتبرين، وأرباب الحرف والفلاحين الأكرمين وسائر المسيحيين الحسني العبادة الأرثوذكسيين القاطنين في أنحاء أبرشية جبيل والبترون وما يليهما المحفوظة من الله، ليبارك الرب الإله عليهم وعلى حريمهم وأولادهم وفي منازلهم وجميع أعمال أيديهم بأتم البركات السماوية، ويدفع عنهم شر كل محنة وبلية بشفاعات سيدتنا والدة الإله البتول النقية والرسل المشرفين الكلي مديحهم وسائر القديسين المختارين، آمين.

أما بعد؛ فإننا نعلم محبتكم أنه بعد انتقال المثلث الرحمات السيد غفرائيل مطران بيروت ولبنان إلى الأخدار السماوية وخلو الأبرشية من راعٍ قانوني لها، ينظر في شئونها ويدبر أمورها، رفع بنو الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة في جهات لبنان التابعة قبلًا لهذه الأبرشية عرائض عديدة إلى غبطة إمام أحبارنا كيريوس كيريوس ملاتيوس بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى وسائر المشرق الكلي الطوبى والفائق الاحترام، مسترحمين فيها أن يقرر مجمعيًّا إعادة مجد كنيسة الله فيما بينهم بجعلهم أبرشية مستقلة كما كان في سابق الزمان؛ وذلك لأسباب هامة سطروها في عرائضهم المذكورة، وبناء على ذلك عندما استدعى غبطته مصاف رؤساء كهنة الكرسي الأنطاكي الرسولي المقدس إلى دمشق مقره البطريركي. ففي الجلسة المجمعية التي انعقدت يوم السبت الواقع في ٢٢ كانون الأول سنة ١٩٠١ تحت رئاسته طرحت العرائض المذكورة لنظر المجمع المقدس، وبعد قراءتها والتمعن بما حوته من الأسباب الموجبة لتقديمها والمذاكرة فيها مليًّا أعطى القرار باتفاق الآراء: «بفصل الأنحاء اللبنانية التابعة قبلًا روحيًّا مطرانية بيروت وجعلها أبرشية لوحدها منفصلة روحيًّا عن بيروت.» كما قد أوضح غبطته ذلك في المنشور البطريركي الصادر في ٢٢ كانون الأول سنة ١٩٠١ تحت نمرو ١٦٣٧. وإنه بعد إجراء المعاملة القانونية لانتخاب رئيس لهذه الأبرشية عقد المجمع جلسة أخرى يوم الخميس الواقع في ٣١ كانون الثاني سنة ١٩٠٢ لإتمام الانتخاب، فغب إقامة الصلاة المفروضة واستدعاء نعمة الروح الكلي قدسه وإعطاء الأصوات القانونية وقع الانتخاب بالاتفاق على حقارتنا. ويوم الأحد الواقع في ٣ شباط سنة ١٩٠٢ احتفل غبطته والسادة المطارنة الأجلَّاء بخدمة القداس الإلهي وتمموا سيامتنا رئيس كهنة.

وتقلدنا والحالة هذه رعاية أبرشية جبيل والبترون وما يليهما المشتملة على ما كان تابعًا قبلًا لأبرشية بيروت ولبنان العامرة من المسيحيين الأرثوذكسيين القاطنين في أقضية الشوف والمتن وكسروان والبترون والكورة بصفة مطران عليها؛ لنقوم بإيفاء مقتضياتها الروحية وبمهام الخدم الكنائسية التي مآلها نجاح أبنائها الروحيين من كهنة وعلمانيين في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة لمجد اسمه القدوس وخلاص النفوس.

وبناء عليه رأينا من الواجب أن نوجه الآن خطابنا هذا نحو محبتكم إيضاحًا لكل ما ذُكر أعلاه، وبيانًا لما لنا وعلينا نحوكم من الحقوق والواجبات التي تتميمها يتكفَّل بالوصول إلى الغاية الحميدة التي لأجلها أسس رئيس إيماننا العظيم ربنا يسوع المسيح كنيسته المقدسة وأقام فيها الرعاة والمعلمين.

ونوضح بادئ ذي بدء لمحبتكم أننا إذ قد اتخذنا على عاتقنا حمل هذه الرئاسة الثقيل نصرف كل ما في وسعنا لإتمام واجباتها الشريفة نحوكم؛ أولًا: بالسهر على ثباتكم في الإيمان الأرثوذكسي بالإرشادات والتعاليم المبنية على «الكتب المقدسة القادرة أن تحكمكم للخلاص بالإيمان الذي هو في يسوع المسيح.» وثانيًا: بالاهتمام في تدبير شئونكم الروحية والنظر في مصالحكم بعين الحق والعدل واتخاذ كل الوسائط التي تئول إلى توطيد المحبة والألفة والسلام فيما بينكم وفيما بين جميع الناس؛ لتكونوا راتعين في بحبوحة السعادة وتتنعموا بثمارها اللذيذة، واتكالنا في ذلك كله على نعمة الرب القائل: «إن قوتي في الضعف تكمل»، القادر أن يصنع كل شيء بحيث يفوق جدًّا ما نسأله أو نتصوره على حسب القوة التي تعمل فينا، له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور، آمين.

أما واجباتكم أيها الأبناء الأعزاء فتقوم بالطاعة لكلام الله والانقياد لنصائحنا وإرشاداتنا الرعائية، «حتى إذا تمسكتم بصورة الكلام الصحيح الذي تسمعونه منا في الإيمان والمحبة التي في يسوع المسيح»، «وحفظتم الوديعة الصالحة بالروح القدس الحالِّ فيكم»؛ تستحقون السعادة الحقيقية التي عني بها السيد بقوله: «إنما الطوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها.» «فروِّضوا أنفسكم على التقوى؛ لأن التقوى تنفع في كل شيء ولها موعد الحياة الحاضرة والمستقبلة.» إذن الواجبات عليكم بصفة كونكم مسيحيين حقيقيين هي أن تتمموا فروض الإيمان القويم، أن تطالعوا الكتاب المقدس بالتمعن اللائق به، أن تسمعوا الصلوات في الكنائس بلا انقطاع بكل السكينة والاحترام، ولا سيما في أيام الآحاد والأعياد، أن تحافظوا على الصيامات الشريفة التي رتبها آباؤنا القديسون، أن تعملوا أعمالًا تليق بالتوبة، وتشتركوا بالأسرار الخلاصية الطاهرة بكل الوقار، وبالإجمال أن «تغنوا نفوسكم بكل عمل صالح» مستمرين على الإيمان متأسسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه وكرَّز به في كل الخليقة التي تحت السماء، و«غير ناسين فعل الإحسان والمؤاساة؛ لأنه بذبائح مثل هذه يرتضي الله.» والله قادر أن يزيدكم كل نعمة حتى تكون لكم كل كفاية كل حين وفي كل شيء فتزدادوا في كل عمل صالح.

وبنوع خاص نوصيكم أيها الكهنة الورعون: احترسوا لأنفسكم ولجماعة الرعية، كونوا قدوة لبنيكم الروحيين بالتعقل بالاحتشام بضيافة الغرباء بالحلم بالقناعة، مدبرين بيوتكم حسنًا مجتهدين بتربية أولادكم في الخضوع بكل وقار، اتعبوا في كرمة الرب، وإن عيِّرتم ليكن رجاؤكم وطيدًا بالله الحي الذي هو مخلص الناس أجمعين ولا سيما المؤمنين. كونوا مثالًا للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الإيمان في الطهارة. لاحظوا أنفسكم والتعليم واستمروا على ذلك فإنكم إذا فعلتم هذا تخلصون أنفسكم والذين يسمعونكم أيضًا. صلوا من أجل سلامة العالم ومن أجلنا ذاكرين اسمنا في خدمة القداس الإلهي وفي سائر الفروض الكنسية تبعًا للقوانين الشريفة.

أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره، لا تتطلبوا لمعانَ المعارف الباطلة الخارجي الذي للتظاهر، بل اسعوا لتغذية نفوس بنيكم بالحقائق الراهنة التي تبهج العقل بنورها الوضَّاح، وتنعش القلب بمعرفة الله المستخرجة من فحص نواميس مخلوقاته والتأمل بها؛ «لأن قدرة الله الأزلية وألوهته تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمبروءات»، و«احذروا أن يسلبكم أحد بالفلسفة والغرور الباطل حسب سنة الناس على مقتضى أركان العالم لا على مقتضى المسيح.» واذكروا ما قاله الحكيم ابن سيراخ: «إن كان لك بنون فأحسن تربيتهم، وإنه ولد واحد يتقي الرب خير من ألفٍ منافقين، والموت بلا ولد خير من الأولاد المنافقين.»

وأنتم أيها المعتنون بالكنائس والموكلون على المدارس والأوقاف، لا تنسوا «أن بيت الرب هو بيت صلاة»، وأن المدارس هي رياض النفوس، وأن الأوقاف مال دائم لثبات كليهما تخصصه تقوى المتقدمين لخير مستقبل المتأخرين، واذكروا دومًا أنكم إذ قد اؤتمنتم على ترتيبها وحسن إدارتها وجب عليكم أن تواظبوا على الاهتمام بتنظيم شئونها، والسعي وراء نجاحها لتسير في الطريق المؤدية إلى الغاية الشريفة التي وجدت لأجلها.

وبوجه الإجمال نقول لجميعكم إنكم بالمحافظة على كنوز تعاليم الإيمان الشريفة التي أخذتموها عن آبائكم وبفحصها بالتمعن ونشر حقائقها في الكنائس والمدارس والبيوت تضعون أساسًا أمينًا متينًا للنجاح الديني والأدبي، تبنون عليه أبنية الفضائل بحجارة كريمة مرصوصة بالتقوى والوداعة والصبر، فتسكنون فيها فَرِحين بالروح وتتمتعون بنعيمها شاكرين كنز الصالحات ورازق الخيرات. هذا فضلًا عن السعادة التي تحصلون عليها بصدق المعاملة والمسالمة مع الجميع بظل ظليل حامي المعارف وسابغ العوارف ولي عرش آل عثمان وفريده، عقد ملوك الزمان مولانا وولي نعمتنا بلا امتنان جلالة السلطان الغازي عبد الحميد خان.٢١

جراسيموس متروبوليت بيروت (١٩٠٢)

وانحلت الأزمة فكتب ملاتيوس إلى المجلس الملي في بيروت وعموم الأرثوذكسيين يستحثهم على إجراء ترشيح راعٍ لأبرشيتهم المترملة، فأوفدت الطائفة جماعة من أعيانها ليرفعوا إلى البطريرك خضوع الملة واحترامها، ويفوضوا لحكمته أمر انتخاب راعٍ يليق بالمنصب الجليل، وزودت الطائفة الوفد بعريضة مبنية على هذا القرار.

وذهب الوفد إلى مركز الكرسي الأنطاكي ومثلوا بحضرة البطريرك ورفعوا إليه عريضة الشعب البيروتي، فتلقاهم البطريرك بالحنان الأبوي والصدر الرحيب. ثم دعا المجمع الأنطاكي إلى جلسة انتخابية، فالتأم المجمع في الثامن والعشرين من آذار سنة ١٩٠٢ وانتخب بالإجماع الأرشمندريت جراسيموس مسرة رئيس الكنيسة السورية الأرثوذكسية في الإسكندرية أسقفًا وراعيًا لأبرشية بيروت المحروسة من الله، وفي مساء ذلك اليوم أبرق غبطته إلى سيادة المنتخب يعلن وقوع الانتخاب عليه ويأمره بسرعة الحضور.

وبزغت شمس التاسع والعشرين من آذار تحمل إلى بيروت البشرى بانحلال الأزمة وتحقيق الأمل، فصدرت مجلة المحبة لسان جمعية التعليم المسيحي الأرثوذكسية في بيروت في الثلاثين من الشهر نفسه تهنئ الملة والأبرشية بما قيض الله لها من زوال المحن بعد طول الصبر، فمنَّ عليها بالرجل الذي جعلته موضوع ثقتها، واعتبرته الشخص الوحيد الذي يستطيع أن ينهض بها إلى ذروة النجاح ويفتح لها أبواب التقدم والفلاح.

«وسيادته رجل عرَك الدهر وجرَّب الأيام وبلاها في حالتَي بؤسها ونعيمها، ودرس أخلاق الأمم وعرف أحوال الناس ووعى في صدره جميع ما يعوز من في مركزه من معارف النظر والاختبار، وهو أغنى من أن يحتاج إلى إفادة أو تنبيه وأدرى بما تطالبه به واجبات الأمانة والشرف والدين.»٢٢

وأبرق جراسيموس بالقبول والخضوع وقام من الإسكندرية إلى بيروت ومنها إلى دمشق محاطًا بوجوه الطائفة، ولدى وصولهم إلى دمشق استقبلهم في محطتها وفد بطريركي برئاسة الأرشمندريت أفرام الدبس المنتخب آنئذٍ لأبرشية عكار، وسار الوفدان إلى الدار البطريركية، فلثم جراسيموس يد البطريرك وصافح السادة المطارنة وأظهر خضوعه واستعداده لخدمة الكنيسة الأنطاكية المقدسة، فأجابه غريغوريوس متروبوليت طرابلس بخطبة بليغة أعرب فيها عن سرور المجمع المقدس بقدومه.

وفي يوم الخميس في السادس عشر من أيار سنة ١٩٠٢ احتفل البطريرك والمطارنة بسيامة جراسيموس مطرانًا على بيروت، فلفظ خطبة بليغة بعد تسلم عصا الرعاية استهلها بالاعتراف بفضل البطريرك عليه: «لقد لاق بك أيها السيد الجزيل الغبطة، لقد لاق بك أن تكون أنت القائم بهذا العمل الجليل المقدس، لقد لاق بك دون سواك، أن تكون أنت المتمم كما كنت أنت البادئ. لقد لاق بهذه اليمين المباركة أن ترتبني في مصاف الرؤساء في خدمة الكهنوت كما رتبتني من بادئ الأمر فيها وأدخلتني إليها، وليس الفخر لي بهذا كله، بل إنما الفخر والشرف لك أنت الأب والمربي والمعلم والمهذب والمؤسس والباني.»

ومن أفضل ما جاء في خطابه الكاتدرائي في بيروت أن أهم ما يطلب منه تربية رجال يخدمون الدين، وتربية رجال يخدمون الأدب، وأن هذا الأمر لا يتم إلا بالمدارس، «وإذا سمعتم مني كلمة المدارس فلا تظنوا أني أعني بها المدارس الابتدائية والعادية، بل أعني المدارس العالية المدارس التي تُرقي العقل بالعلوم العقلية وبالفنون الأصولية وتوجد في الملة حياة واستعدادًا لسد كل احتياج عند اللزوم، فالكاهن المتنور المستعد والمدرسة الطائفية المجهزة بكل لوازم العلوم هما العنصران اللذان يحفظان مركز الطائفة ويرقيانها إلى أوج النجاح، وعليه؛ فإني أرى أن المشروع في أعمالي وخدمتي يجب أن يبدأ من هذه النقطة.»٢٣
وتعددت الوفود المهنئة وتنوَّعت وكثرت الخطب وتفاوتت، وجاء الوفد الماروني فألقى نجيب حبيقة الشويري خطبة رائعة ضمنها دعوة إلى التضامن والاتحاد فقال: «وهذا العيد لم تنحصر بهجته في طائفتك المحبوبة، بل كان فيه حظ لسائر الطوائف ولا سيما طائفتنا التي يمتثل وفدها الآن بين يديك مولاي ليجدد لسيادتك ولأبرشيتك أخلص التهاني. فقد شاركنا إخواننا الأرثوذكس في حبك وإجلالك، مثلهم رأينا فيك حَبْرًا كريمًا كبيرًا. مثلهم علقنا عليك آمالًا خطيرة، فنحن أيها السيد النبيل في عصر نقول فيه ما قاله ملك الفرنسيس لحفيده الصاعد إلى عرش إسبانية «لم يعد بيننا جبال بيرينه.» نحن في عصر به غدت كل طائفة تنظر في أحبار سائر الطوائف آباء لها كما ترى في أبناء الطوائف إخوانها، نحن في عصر يدعونا إلى الاتحاد والإخاء في ظل الراية العثمانية الرفيعة، ونرى صالحنا وصلاحنا في الوفاق والوئام بين رؤسائنا كما بين أفرادنا.»٢٤

مجلس بيروت الملِّي (١٩٠٢)

وفي الثاني من حزيران السنة ١٩٠٢؛ أي بعد وصول جراسيموس إلى كرسيه بخمسة عشر يومًا، جرى انتخاب جديد لمجلس الملة، وقضى البند الثالث من قانون هذا المجلس المصدق من جانب البطريركية بأن ينظر في جميع مهام الطائفة واحتياجاتها الأدبية والمادية، ومراقبة أعمال الجمعيات وانتخاب وكلاء الكنائس وفحص حسابات الأوقاف والنظر في جميع المسائل التي تتحول إلى المطرانخانة من قبل الحكومة بما يتعلق بأمور الطائفة، مع تقرير كيفية توزيع البدلات العسكرية وضبط تحصيلها والمفاوضة والرأي في شأن الانتخابات العمومية كأعضاء المجالس والمحاكم وما أشبه. وبالجملة فإن خصائص هذا المجلس قضت بالبحث والنظر في كل ما يقع للطائفة من الأمور والمشاكل، والمحافظة على حقوقها ضمن دائرة الناموس الكنائسي والنظامات الشرعية، وكان يشترط في الأعضاء بموجب البند التاسع أن يكون سن كل منهم فوق الثلاثين، وأن يكون مقيمًا في بيروت ومن معتبري الطائفة، حائزًا على الحقوق المدنية ذا أهلية تامة ومتمتعًا بالثقة العامة ومعروفًا بالمبادئ الصحيحة، ونص هذا البند أيضًا على أن يكون المطران رئيس المجلس الدائم.

واجتمع من المنتخبين في دار المطرانخانة ١٠٥ ذات من الذوات وهم ثلاثة أرباع المدعوين فقرأ المطران أسماءهم. ولما كان عددهم كافيًا لإجراء الانتخاب على ما صرح به القانون طلب المطران أن يكتب كل منهم قائمة باثني عشر منتخبًا. ثم جُمعت هذه القوائم وتُليت علنًا فنال الأكثرية: بطرس داغر، جرجي بسترس، جرجي دباس، سليم شحادة، قسطنطين الخوري، لطف الله ملكي، نجيب سرسق، نجيب نعمة، طراد نخلة التويني، نصيف الريس، نقولا منسي ووديع فياض.

مجلس حمص الملي (١٩٠٢)

وانتهت المدة المعينة لمجلس حمص الملي وعاد أثناسيوس إليها بعد غياب طويل، «فوزعت رقاع الانتخاب وأعيدت ففضت في السابع عشر من حزيران»، فأصابت أكثرية الأصوات: سليمان الخوري، عيسى فركوح، أنطون طرابلسي، باسيل نصور، نقولا حموي، حبيب إسكندر، عبد المسيح زرق، الدكتور كامل لوقا، نصر الله عطا الله، أنطونيوس سركيس، نقولا عريضة ورزق الله رزق.٢٥

باسيليوس متروبوليت عكار (١٩٠٣)

هو أمين بن يوسف الدبس البيروتي، وُلد في ترسيس سنة ١٨٦٨ ونشأ فيها. وفي السنة ١٨٨١ توفيت أمه ثم أبوه في السنة ١٨٨٢، فانتقل أمين بإخوته الصغار إلى بيروت حيث ربِّيَ في حجر عمه جبران الدبس. وحاول أمين الانخراط في سلك الرهبنة فمانع ذووه، فظل في بيروت يتعاطى الأشغال ويتردد على غريغوريوس الذي أصبح فيما بعد مطرانًا على طرابلس. وسافر أمين إلى القطر المصري فأقام فيه ردحًا من الزمن ثم عاد إلى بيروت سنة ١٨٩٢ وكل قواه منصرفة إلى الزهد والحياة الرهبانية، وكان إخوته قد بلغوا رشدهم فتشدد عزمه وغادر بيروت قاصدًا غريغوريوس في طرابلس، فوجده منهمكًا بتهيئة مدرسة كفتين، فدخل أمين الدير في الثاني من آب سنة ١٨٩٣. وفي السنة ١٨٩٤ أدخله غريغوريوس بمعيته في طرابلس، وفي أول نيسان سنة ١٨٩٥ سامه راهبًا باسم أفرام ثم أنوغنوسطًا فشماسًا. وفي صيف السنة ١٨٩٧ انتدبه غريغوريوس وكيلًا لرئاسة دير سيدة ناطور. وفي السنة التالية سافر أفرام إلى دمشق وزار سيدة صيدنايا، فسامه أثناسيوس متروبوليت حمص قَسًّا وعيَّنه مرسلًا أنطاكيًّا في أميريكة الشمالية بناءً على طلب الأرشمندريت روفائيل هواويني. ووصل أفراد نيويورك في صيف السنة ١٨٩٨، ثم انتقل إلى كندا لخدمة الأرثوذكسيين السوريين المنتشرين فيها، فعمل بغيرة ونشاط وأسس في السنة ١٨٩٩ أول كنيسة أرثوذكسية في كندا في مدينة مونتريال، وعلِم تيخون مطران ألاسكا الروسي بجهود أفراد فَسُرَّ منها وأجاز له تعليق الصليب والحرج وقت الخدمة الإلهية.

وبقي أفرام في كندا مواظبًا على واجباته بكل صلاح ونشاط، مواصلًا الوعظ والإرشاد والاعتناء بشئون أبنائه الروحية حتى السادس والعشرين من كانون الثاني سنة ١٩٠٠؛ إذ اضطرته دواعٍ صحية إلى العودة إلى الوطن، فوصل بيروت في خريف هذه السنة ثم التحق بمعلمه غريغوريوس في طرابلس. وبعد وفاة نيقوذيموس متروبوليت عكار عينه البطريرك وكيلًا بطريركيًّا على عكار بطرس بركة مؤرخ في ٨ تشرين الأول سنة ١٩٠١، فقام بواجبات الوظيفة خير قيام. وفي السابع من نيسان سنة ١٩٠٢ رقَّاه البطريرك فجعله أرشمندريتًا، وبعد ذلك بخمسة عشر يومًا في الثاني والعشرين من نيسان انتخبه المجمع المقدس مطرانًا على أبرشية عكار. وقضتِ الظروف بتأخير سيامته بضعة أشهر حتى يوم الأحد الواقع في ٢ شباط سنة ١٩٠٣؛ إذ صدرت أوامر البطريرك بسيامته مطرانًا على عكار في مدينة حمص وعلى أيدي مطارنة حمص وحماة وطرابلس فدعي باسيليوس.

مجلس ملي في دمشق

وفي حزيران السنة ١٩٠٣ تألَّفت هيئة المجلس الملي في دمشق من: أسبر لقيس، إسكندر طرزي، بطرس قندلفت جبران، أسبر جبران شامية، جبران عبد النور، جبران لويس، جبران ملوك، سمعان لادقاني، ميخائيل صيدح ونولا شاغوري.

استفانوس متروبوليت حلب

وقضى أبيفانيوس متروبوليت حلب في شرخ الشباب غير متجاوز السادسة والثلاثين، وقد أدركته المَنِيَّة في دير صيدنايا في الثالث من آذار سنة ١٩٠٣ حيث أقام مُسْتَشْفِيًا من مرض ألمَّ به واضطره أن يجتنب كل عمل وحركة، فانتخب المجمع خلفًا له الأرشمندريت استفانوس، فسامه البطريرك ومطرانا حماة وأداسيس متروبوليتًا على حلب في السادس من آب سنة ١٩٠٣.٢٦
وهو خليل بن يوسف مقبعة الدمشقي. وُلِد في دمشق سنة ١٨٥٣ ونشأ وترعرع فيها، ثم دخل مدرستها البطريركية، وكان منذ حداثته زاهدًا راغبًا في الحياة الرهبانية فالتمس في السنة ١٨٨٥ من البطريرك جراسيموس السماح له بلبس الأسكيم، فأرسله إلى دير مارِ إلياس الشوير حيث قدم النذر واتشح بالأسكيم على يد رئيس هذا الدير الأرشمندريت أثناسيوس عطا الله فسمي استفانوس. ولما شرطن أثناسيوس مطرانًا على حمص في بيروت استدعى استفانوس ورسمه شماسًا إنجيليًّا في كنيسة بيروت الكاتدرائية وألحقه بمعيته، فأقام في حمص سنة ثم برحها إلى حماة لأسباب صحية. وفي السنة ١٨٩٤ انتقل إلى بيروت ليتولى نظارة مدرستها الإكليريكية ويدرس الموسيقى الكنسية، وبقي في معية مطران بيروت متفقدًا شئون الأبرشية الواسعة حتى تسنم عرش الرسولين ملاتيوس الثاني. فلما جال جولته الرعائية وتحقق ما تحلى به استفانوس من النشاط والغَيرة وحسن السيرة والسريرة عيَّنه رئيسًا قانونيًّا على دير البلمند في السابع من نيسان سنة ١٩٠١، فتسلم مهامه وأحسن إدارة الدير، وظل فيه حتى انتخابه لمطرانية حلب.٢٧

يواكيم الثالث البطريرك المسكوني

وتبوَّأ يواكيم الثالث السدة القسطنطينية في الرابع والعشرين من أيار سنة ١٩٠١، وكان من خيرة السادات الأعلام، وقد اشتهر فضله بين الأنام منذ أن رقي هذه السدة نفسها للمرة الأولى في السنة ١٨٧٨ خلفًا لسلفه السعيد الذكر يواكيم الثاني، فإنه أدار شئون الكنيسة العظمى آنئذٍ بحصافة عقل وحسن سياسة. ولما عاد المجمع القسطنطيني المقدس ودعاه للكرسي مرة ثانية وقع انتخابه موقعًا حسنًا في جميع الأوساط الرسمية والملية ووردت عليه رسائل التهاني بالألوف، وتوسم المؤمنون الأرثوذكسيون في جميع أقطار المسكونة في قداسته رجل المنصب الخطير وعلقوا على رئاسته خير الآمال.

يواكيم والكنيسة الأرثوذكسية الجامعة

وكان قداسته شديد الغَيرة على حسن العلاقة بين أعضاء الكنيسة الجامعة وعلى توثيق روابطها، فوجَّه في أوائل السنة ١٩٠٣ رسالة عمومية إلى رؤساء الكنائس الأرثوذكسية المستقلة تتضمن السؤال عن رأي كل منهم في المسائل التالية: (١) في الوسائل الآئلة إلى توثيق وحدة كنائس الله المقدسة الأرثوذكسية المستقلة، وتوسيع دائرة العلائق بينها. (٢) في علاقة الكنائس الأرثوذكسية مع فرعي الديانة المسيحية العظيمين اللاتين والبروتستانت، ولا سيما مع الكاثوليك القدماء والكنيسة الإنكليكانية، والكاثوليكيون القدماء جماعة من المؤمنين انفصلوا عن رومة سنة ١٨٧٠ لمناسبة القول بعصمة البابا، واجتهدوا في أن يكونوا على الحالة التي كانت فيها الكنيسة قبل انشقاقها إلى فرعين يوناني ولاتيني، واحترموا الكنيسة الأرثوذكسية. (٣) في التاريخين اليولياني والغريغورياني. وأجابت الكنائس الأرثوذكسية عن هذه الأسئلة الثلاثة ونشرت خلاصة أجوبتها جريدة الأليثيا الصادرة عن القسطنطينية، وإلى القارئ ملخص هذه الأجوبة:

توثيق عرى الاتحاد بين الكنائس الأرثوذكسية

وأيَّدت كنيسة أوروشليم توثيق العرى بين الكنائس الأرثوذكسية وأوجبت ما يلي: (١) الإخلاص في الأميال والأعمال لكي تحفظ وديعة الإيمان الشريفة المشتركة سالمة من كل شائبة. (٢) صيانة الإنجيل والكنائس من مفاسد المادة والسياسة. (٣) تغذية روح المحبة المتبادل والاحترام المتبادل واجتناب مداخلة الكنائس في أمور غيرها. (٤) الاشتراك الأخوي في الخدمة الشريفة وتبادل الأخبار المسرة والمكدرة وتعاضد الكل وتكاتفهم لسد كل احتياج روحي أو أدبي أو مادي. (٥) عقد مجمع سنوي مؤلَّف من وكلاء الكنائس المستقلة في مراكز هذه الكنائس بالتناوب للتداول وتبادل الرأي. (٦) السعي الحثيث لتربية نشء صالح يتولى خدمة كل كنيسة ورعايتها.

وجاء الرد الروسي يؤيد عقد المجامع السنوية الدوَّارة، ولكنه لم يرَ ذلك عمليًّا نظرًا لوقوع مراكز الكنائس في ممالك ودول متعددة مختلفة، أما ما يمكن تأييده بالفعل لتوثيق العرى فإنه: (١) تبادل الرسائل بصورة متواصلة. (٢) تبادل الأخبار المسرة والمكدرة. (٣) طلب النصح والإرشاد. (٤) وجوب التشاور في مسائل الإيمان والمبادئ الأساسية في النظم والقوانين. (٥) وجوب اعتبار الارتباط عربون الحقيقة والحياة الأبدية.

ولم يطرق الردان اليوناني والروماني هذا الموضوع. أما كنيسة الصرب فإنها ارتأت أن المحبة المتبادلة بين الكنائس الأرثوذكسية المستقلة يجب أن تظهر في تبادل الرسائل في كل ما يتعلق في الحياة الكنائسية، وقالت بوجوب اجتماع وكلاء جميع الكنائس الأرثوذكسية مدة بعد مدة، وأوجبت نقل المؤلفات القيمة التي تظهر بلغات سائر الكنائس للدفاع عن الإيمان المقدس، وجاء جواب كنيسة الجبل الأسود مماثلًا لجواب الكنيسة الروسية.

اتحاد الكنائس المسيحية

ورأت كنيسة أوروشليم أنه لا يجوز التفكير في التقرب من البروتستانت واللاتين ما دام هؤلاء يغرون البسطاء من الأرثوذكسيين لإبعادهم عن كنيستهم، وما دامت أعمال التبشير هذه تجعل تبادل الاحترام والمحبة من الأمور التي يتعذر منالها، وقالت كنيسة اليونان قول كنيسة أوروشليم، وأضافت أنه يجب الاقتصار على المحبة المخلصة نحو جميع الكنائس، وأن ما هو غير مستطاع عند الناس فإنه يصبح مستطاعًا في المستقبل بنعمة الله، وأكدت كنيسة روسية رغبتها في «اتحاد الكل»، ولكنها رأت هذا الاتحاد غير ممكن مع البروتستانت واللاتين؛ لأنهم يسعون لتقويض أركان الأرثوذكسية. أما كنيسة رومانية فإنها لم تسمح بحذف أو إلغاء شيء من العقيدة والتقاليد الأرثوذكسية، وأضافت أنه إذا رغب اللاتين والبروتستانت في الاتحاد فليس عليهم إلا أن يقبلوا التعاليم الأرثوذكسية كما هي، ولم تبدِ كنيسة الصرب رأيًا بهذا الشأن.

الكاثوليك القدماء

ولم ترَ جميع الكنائس الأرثوذكسية ما يمنع التقرب من الكاثوليك القدماء والتودد إليهم، وفرقت الكنيسة الروسية بين المتصدرين من هؤلاء في الأزمة الأولى وبين رجالهم المتأخرين، وأوجبت شرح التعاليم الأرثوذكسية وتأكيد الاعتقاد الثابت بأن الكنيسة الأرثوذكسية وحدها حفظت وديعة المسيح بدون فساد، ومن ثم فهي أيضًا الكنيسة المسكونية.

الإنكليكان

ورحبت كنيسة أوروشليم بالتفاهم والتعاون مع الإنكليكان، ولكنها أوجبت انتظام لجنة من كبار علماء اللاهوت الأرثوذكسيين تجتمع في القسطنطينية بقرب «الأول بين الكراسي الأرثوذكسية»، وتتذاكر فيما يجب تحديده ثم تعلن بواسطة البطريرك المسكوني ما يمكن أن يتخذ أساسًا للاتحاد المنشود. واشترطت كنيسة روسية قبل كل شيء وجوب إقصاء المبادئ الكلوينية ونشر الرغبة في الاتحاد في الأوساط الإنكليكانية نفسها.

مسألة تصحيح التاريخ

وهنا أشارت كنيسة الصرب إلى وقوع الخطأ الرياضي العالي في الحسابين الغريغورياني واليوناني، وأنه من المناسب تأليف لجنة من العلماء الأعلام لرفع هذه الخطأ وتقديم حساب جديد يكون أشد دقة من الحسابين. ورأت كنيسة رومانية أن تصحيح الحساب آنئذٍ يولد العثرات في سبيل المؤمنين. وأشارت كنيسة اليونان إلى هذه العثرات وارتأت حسابًا جديدًا أصح وأضبط من الحسابين المذكورين. أما كنيسة روسية فإنها أوجبت المحافظة على التاريخ اليولياني في الفصحيات وفي الأعياد الكنائسية، وأجازت استعمال الحساب الغريغوري في غير ذلك.

يواكيم وكنيسة أنطاكية

واستبشر الأنطاكيون خيرًا برجوع يواكيم إلى الكرسي المسكوني وعلقوا عليه الأمل في الاعتراف بملاتيوس الثاني البطريرك الأنطاكي لما عهدوه في قداسته من سعة الصدر وأصالة الرأي وفرط المحبة والغيرة على الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. ولكن البطريركية المسكونية أبت إلا أن تميل أذنها إلى ادعاء الأساقفة الأنطاكيين المنفصلين، فأوقفت الجواب عن رسالة الجلوس التي بعث بها ملاتيوس عند ارتقائه حسب التقاليد المألوفة، ولم تستطلع رأي الكنيسة الأنطاكية في المسائل التي بحثها مع رؤساء سائر الكنائس الأرثوذكسية المستقلة.٢٨

الدعاية لاتحاد الكنائس

وحمس العلامة نقولا إمبرازي الأستاذ في مدرسة فاكيون في أثينا فأصدر كتابًا يتضمن تواريخ الكنائس المسيحية، ودساتير إيمانها واعترافاتها الرسمية من يونانية ولاتينية ولوثيرية وكلوينية وإنكليكانية وأرمنية وقبطية وحبشية ويعقوبية ونسطورية، وأسباب انشقاق هذه الكنائس. ثم قابل بين عقائد هذه الكنائس في عدة مطالب مهمة كاعتبار قدر الكتاب المقدس وقيمة التقليد الشريف وتوحيد جوهر الله وتثليث أقانيمه وانبثاق الروح القدس وتكريم الأيقونات وأسرار الكنيسة السبعة المقدسة. وأورد ما قاله بعض كبار رجال اللاهوت في الكنيسة الأرثوذكسية كنيل الإنكليزي وستروس الألمان ودولنغر الشهير وهرقز أسقف الكاثوليك القدماء، وميشو أحد جهابذة هؤلاء ورأي يواكيم الثالث في اتحاد الكنائس. وأسرع الخوري يوحنا حزبون فنقل هذا المؤلف إلى العربية ونشره بين قرائها في النصف الأول من السنة ١٩٠٤ وأسماه «كنز النفائس».

وكان بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية قد نشطوا للعمل في سبيل التفاهم بين الكنائس فأسسوا في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر جمعية الكنائس الشرقية، ثم جمعية انتشار ضم الكنائس فجمعية انتشار وحدة الكنائس. ثم أصدر الأب أنكتابولس الأرثوذكسي في الآونة التي نحن في صددها مجلة اتحاد الكنائس باللغتين اليونانية والإنكليزية؛ وذلك لإظهار الشعائر المتبادلة بين الكنائس الرسولية الثلاث الأرثوذكسية والرومانية والإنكليكانية، وتوطيد دعائم الصداقة والتعارف بينها والتعرف على الفضائل الراسخة في وحدة الإيمان والرجاء والمحبة. ومما قاله هذا الكاهن في أعداد جريدته الأولى ما تعريبه:

يزعم البعض أن أسباب الخلاف الذي يفصل الكنائس ناتج عن اختلاف التعاليم والطقوس لا عن سوء تفاهم واستخفاف وأثرة لا تجوز إلا على الجاهل، فوجدت من الضروري أن نتقرب من بعضنا لمعرفة ما بين تعاليمنا من الاختلاف والاتفاق وإدراك كنه الحقائق المسلَّم بها، ضاربين صفحًا عن كل ما هو فاسد، ومتخذين المحبة التي أوصى بها الرسول أساسًا لأعمالنا وترسًا يقينا لصد هجمات الأعداء. وبمثل هذه الاستعدادات نوثق عرى الصداقة وندك أسس الموانع القائمة حتى نرى الغيرة تقودنا من غير انتباه إلى الانضمام والبحث في العوامل التي تئول إلى الاتحاد.

وبدون هذا النور الداخلي وتبادل الآراء للتعارف يستحيل إخماد نار الخصام والتعصب، ومن الواجب أن نبين للجمهور كل ما يحتمل الجدل والريب. ولهذه الغاية نناشد أئمة اللاهوت أن يمدونا بآرائهم في كل ما يمكن شرحه بحسب الأقوال الإنجيلية. وبعد تبيين كل ذلك يجب على أعضاء الكنائس أن يسعوا وراء هذه الغاية سعيًا فعليًّا. وهذا السعي لا يقتصر على الرؤساء، بل يشمل الجميع، فإذا كان الإكليروس لا يساعد والعوام لا يساعدون الإكليروس فتحبط كل المساعي وتسقط كل القوة، فالتكاتف بالأعمال أمر ضروري للكل.

أسقف على السوريين في أميريكة (١٩٠٤)

وكان البطريرك الأنطاكي أيروثيوس قد سام في السنة ١٨٧٤ روفائيل هواويني أناغنوسطًا في كنيسته الكاتدرائية، فعاد وسامه برضا والديه راسفورًا (راهبًا لابس جبة) في السنة ١٨٧٩. وكتب في ذلك الوقت خريستوفوروس جبارة عن القسطنطينية يقول: إن قداسة البطريرك المسكوني يواكيم الثالث أمره أن يحرر لغبطة البطريرك الأنطاكي لإرسال تلميذ أنطاكي إلى مدرسة خالكي؛ ليكون تحت عناية قداسته الخصوصية. فأوفد البطريرك أيروثيوس الراسفور روفائيل إلى القسطنطينية في أوائل تموز السنة ١٨٧٩، ودخل روفائيل مدرسة خالكي على حساب يواكيم الثالث. وعند نهاية السنة الأولى سُرَّ قداسته من نجاح روفائيل في اليونانية. وفي السنة السابعة لوجود هذا الطالب الأنطاكي في خالكي سامه متروبوليت سالونيك شماسًا إنجيليًّا. وفي السنة ١٨٨٦ اجتاز روفائيل الامتحانات النهائية وفاز بالديبلومة من الدرجة الأولى. وعاد روفائيل إلى دمشق والتحق بمعية البطريرك السعيد الذكر جراسيموس وجال معه جولة رعائية واسعة. وفي أثناء وجود البطريرك في بيروت طلب روفائيل أن يرسل إلى إحدى أكاديميات روسية اللاهوتية لمتابعة الدروس فيها، فكتب جراسيموس إلى المجمع الروسي المقدس فجاء الجواب في السنة ١٨٨٨ بالقبول، فقام روفائيل في أيلول هذه السنة إلى كِيف والتحق بمدرستها. ثم عزل البطريرك الأنطاكي خريستوفوروس جبارة من رئاسة الأمطوش الأنطاكي في موسكو واضطر أن يفوض روفائيل بإدارته، فسامه أفلاطون متروبوليت كِيف قَسًّا وتوجه إلى موسكو في صيف السنة ١٨٨٩.

ومما يجدر ذكره أن روفائيل سعى في أثناء إقامته في موسكو لاستقدام تلامذة أنطاكيين وأوروشليميين إلى مدارس روسية الروحية وإعدادهم لخدمة الكنيستين، فوافق المجمع الروسي وأَمَّ روسية ثمانية من دمشق، هم: إسكندر شامية ومتري حرستاني ونعمان صيفي وكامل أبو عضل وقسطنطين نجار وجرجي دير عطاني. وستة من حمص، وهم: أنطون بلان وليان الحلبي وعيسى عاقل وأسبر مبيض وشكر الله عطا الله وداود صباغ. وأربعة من بيروت، وهم: نخلة هواويني وإلياس قدسي وإلياس أبو الروس وحنا رزوق. واثنان من طرابلس، وهما: أنطون خشاب وعيسى زريق. وواحد من حاصبيا؛ نصيف أبو جعدة. وأربعة من أوروشليم؛ وهم: بندلي جوزي ويعقوب حنانيا وصالح سنونو وإسكندر حكيم. فأدخلهم روفائيل في مدارس موسكو وخاركوف وأوديسة وروستوف وكالومنا.

ثم كان ما كان من أمر البطريرك اسبيريدون الأنطاكي فأيَّد روفائيل موقف الوطنيين فعزله اسبيريدون من رئاسة أمطوش موسكو، فترك روفائيل موسكو وذهب إلى قازان للتدريس فيها والمطالعة والتصنيف (١٨٩٣)، فنشر كراريسه في تاريخ الكنيسة المسيحية وتاريخ الكنيسة الباباوية وتاريخ الأمطوش الأنطاكي في موسكو.

ولم تمضِ سنتان على إقامة الأرشمندريت روفائيل في قازان حتى ورد عليه في ربيع السنة ١٨٩٥ تحرير من «الجمعية الخيرية السورية الأرثوذكسية في نيويورك»، تطلبه فيه راعيًا في نيويورك وسائر أميريكة الشمالية، فاستشار مطران قازان، فأشار عليه أن يسافر إلى بطرسبرج ليستشير نقولاووس مطران ألاسكا وسائر أميريكة الشمالية، ففعل فحاز على القبول وعلى مساعدة مالية شهرية من المجمع الروسي المقدس علاوة عما عينته له الجمعية في نيويورك، ووصل إلى مدينة نيويورك في خريف السنة ١٨٩٥ واستأجر محلًّا مناسبًا لكنيسة في شارع واشنطون حيث السواد الأعظم من المهاجرين السوريين الأنطاكيين. ثم شرع في جمع المال لشراء قطعة من الأرض للدفن وقطعة ثانية لبناء كنيسة، وثابر في ذلك وضحَّى من ماله الخاص فجاءته المساعدة من السوريين في أميريكة ومن روسية ومن الطائفة في سورية ولبنان. واستلف شيئًا من المال فأنشأ المدفن. واشترى في السنة ١٩٠٢ كنيسة مبنية برسم البيع في شارع الباسيفيك في بروكلين نيويورك.

واستقدم الكهنة والشمامسة وبين هؤلاء أفرام الدبس، كما سبق وأشرنا، وأعد كتاب «التغذية الحقيقية في الصلوات الإلهية». وفي السنة ١٩٠٠ أطل عليه الخوري يوحنا مجاعص من الشوير لجمع الإحسان لمدرسته فساعده واستحصل له رخصة بذلك من المطران تيخون. وفي السنة ١٩٠١ جاءه الأرشمندريت ملاتيوس كروم فعينه راعيًا في كندا بدلًا من الأب أفرام الدبس.

ولمس المجمع الروسي المقدس نشاط روفائيل ونجاحه، وأخذ السادة الأعضاء بعين الاعتبار عدد السوريين المهاجرين الأرثوذكسيين ومكانتهم، فوافقوا على اقتراح تيخون مطران ألاسكا وانتخبوا روفائيل أسقفًا على السوريين الأرثوذكسيين في أميريكة في السنة ١٩٠٤، وطلبوا موافقة البطريرك الأنطاكي. فكانت سيامة روفائيل أول خطوة لتأسيس أبرشيات أنطاكية في الأميريكيتين.

جرمانوس متروبوليت سلفكياس (١٩٠٤)

وكانت أبرشية سلفكياس (معلولا وبعلبك وزحلة) لا تزال مترملة بعد وفاة عالم الكرسي الأنطاكي الطيب الذكر جراسيموس (يارد)، فسعى البطريرك والمطارنة لإيجاد خلف يقوم بأعباء الخدمة الروحية في بقاع العزيز، فوجدوا ضالتهم في أميريكة الجنوبية ما بين الأرجنتين والبرازيل في شخص الأب جرمانوس شحادة. وكان جرمانوس قد تحلَّى بالرصانة والتعقل والتواضع وحسن التبرير وشدة الغيرة على كنائس الأرجنتين والبرازيل والتفاني في سبيل أبنائها. وكان تقي النفس وديع القلب بعيدًا عن التعصب محبًّا للخير، فاستبشر الزحليون به وعلقوا على رئاسته خير الآمال. وفي الثاني عشر من أيلول سنة ١٩٠٤ احتفل البطريرك الأنطاكي لإقامة القداس في الكاتدرائية المريمية يعاونه مطارنة حماة وأداسيس وترسيس. وفي أثناء الخدمة جرت حفلة السيامة بوضع يد غبطته والسادة المطارنة حسب الترتيب المعروف، وبعد انتهائها وقف المطران الجديد وألقى خطبة شكر بها للبطريرك والمطارنة والشعب ثقتهم بشخصه، وطلب إليهم أن يشتركوا بالتوسل إلى الله تعالى من أجله ليعطيه الحكمة والفهم والمقدرة؛ لتكون خدمته لائقة لدى الله عز وجل ومفيدة للتبريك.

جولة رعائية بطريركية (١٩٠٥)

وبذل البطريرك طوقه في السنوات الخمس الأولى في تنظيم الكنيسة وحل مشاكلها، فركب فيها كل صعب وذلول. وفي مطلع السنة ١٩٠٥ وضح الطريق واستبان البطريرك ما ينبغي سلوكه، فاطمأنت نفسه وعول على إكمال جولته الرعائية التي كانت قد انقطعت بوفاة غفرائيل في مطلع السنة ١٩٠١.

وفي السابع عشر من أيار سنة ١٩٠٥ بارح الحبر الأنطاكي دمشق قاصدًا حمص، فأرسل الوالي إلى المقر البطريركي ياوره ويوزباشيًّا وعددًا من الفرسان، واستناب في الوداع نقولا أفندي العضامي ترجمان الولاية. وخرج أعضاء القوميسيون الزمني واللجان الخيرية وعدد كبير من وجهاء الطائفة وقنصل روسية في دمشق، فحيَّت غبطته في المحطة فرقة من الضابطة. ثم ركب البطريرك القطار يصحبه جرمانوس متروبوليت سلفكياس وكيله في البطريركية وحبيب كومين كاتم أسراره وحاشية إكليريكية. وخفَّ لاستقبال البطريرك حتى محطة القصير كل من أثناسيوس راعي أبرشية حمص وألكسندروس متروبوليت ترسيس ويوليوس بطرس مطران السريان، ووفد من وجهاء الطائفة في حمص ولدى وصوله إلى محطة حمص حيته كوكبة من الخيالة، فسار ووجهته كنيسة الأربعين والطريق على طوله مع النوافذ والسطوح ضائقة بالحمصيين على اختلاف الملل والنحل، واستقبله عند مداخل الكاتدرائية مصف الإكليروس بالحلل والصلبان والمباخر والشموع وقرع الأجراس، وكانت هذه حديثة العهد في حمص، فدخل الكنيسة وبارك وصلى، ثم دفع خطابًا ليد متروبوليت سلفكياس ليتلوه بالنيابة، فألقاه بصوته الجلي، وفيه الثناء على راعي الأبرشية والحض على الطاعة والإخلاص للدولة. ثم سار إلى دار المطرانية، فكان في طليعة المستقبلين أغابيوس معلوف متروبوليت بعلبك على الروم الكاثوليك، وجاء في التاسع عشر غريغوريوس متروبوليت حماة ووجهائها مرحبين داعين البطريرك لزيارتهم.

وفي السابع والعشرين من أيار قام البطريرك إلى حماة فخفَّتِ الطائفة بأسرها لاستقباله في محطة القطار، وأنفذ مُتصرِّف لواء حماة وفدًا لاستقبال البطريرك والترحيب به وكوكبة من الفرسان لتحيته ومواكبته إلى الكنيسة ومنها إلى محل إقامته في دار ميخائيل عبد الله. ووصل البطريرك إلى الكنيسة وصلى وبارك وشكر ودعا، ثم ألقى متروبوليت حماة خطابًا فرد متروبوليت ترسيس باسم البطريرك، وزار البطريرك المتصرف وقائد الجند فردَّا الزيارة حالًا، ثم تفقد المدارس فلمس تقدمها ونجاحها، وعاد إلى حمص.

اجتماع الإخوة جميعًا

وفي الثاني من حزيران خرج البطريرك من حمص إلى طرابلس فاستقبله في العبدة مطران طرابلس ومطران عكار، وقيصر نحاس ممثل متصرف طرابلس وجورج كاتسفليس قنصل روسية، ووفد من كهنة الموارنة وعدد كبير من أرباب المناصب ووجهاء القوم. وتابع السير إلى طرابلس تواكبه كوكبة من الفرسان، فدخل الكاتدرائية وصلى وبارك ودعا للسلطان، ثم قام منها إلى كنيسة الموارنة فاستقبله كهنة الموارنة بالتراتيل عند مدخل الكنيسة، فدخل وصلى وشكر وبارك، فخطب أحد الكهنة الموارنة شاكرًا لغبطته محبته الأبوية، فأجابه غريغوريوس متروبوليت طرابلس بخطاب ارتجالي افتتحه بقوله: «ما أحلى أن يجتمع الإخوة جميعًا!» ثم زار غبطته المتصرف وكيل قومندان الموقع، وفي اليوم التالي أطل وفد البطريرك الماروني ووجهاء زغرتا وأعيانها، فاستقبلهم البطريرك بكل احتفاء.

البطريرك في البلمند

وزار البطريرك ميناء طرابلس ثم تفقَّد شئون المدارس الروسية في طرابلس وقام إلى مدرسته الإكليريكية في البلمند. وجرت امتحانات الصف المنتهي في اللاهوت العقائدي والفلسفة والأدب المسيحي ومؤلفات الآباء، وتفسير الكتاب المقدس وقواعده والمدخل إليه والخطابة الكنائسية وتاريخ الكنيسة والنوموقانون، وأشرف البطريرك على معظم هذه الامتحانات، وكان أحيانًا يرافقه غريغوريوس طرابلس وباسيليوس عكار وألكسندروس ترسيس.

وجاء موعد منح الشهادات في يوم الأحد في العاشر من تموز، فأقام البطريرك قدَّاسًا حبريًّا شاركه فيه ألكسندروس متروبوليت ترسيس، وعند النهاية خرج البطريرك إلى الردهة البطريركية واصطف حوله الشمامسة المنتهون؛ ثيودوسيوس أبو رجيلي وإيصائيا عبود وفوطيوس صعب وفوطيوس خباز، وأغناطيوس خوري وباسيليوس شاهين ويوسف أبو طبر، والمبتدئان إسكندر يارد وجرجي دبو. فتقدمهم البطريرك في نشيد بعض الصلوات بصوته الرخيم، ثم أومأ إلى مدير المدرسة غطاس قندلفت فتلا تقريرًا عن سير المدرسة في السنة المنصرمة، ووجَّه النصائح للمنتهين وذكَّرهم بالمبادئ الشريفة وحضَّهم على الاستمساك بها بكل حرص وبثها في غيرهم بكل غَيرة. وعقبه الشماس فوطيوس صعب (بيروت) فلفظ خطابًا وداعيًا بالنيابة عن رفاقه، ثم قدمت الشهادات لغبطته فوزعها. وتكلم ألكسندروس متروبوليت ترسيس فأبان ما كان يخامر فؤاد البطريرك وفؤاده لمشاهدة الفعلة النشيطين الذين يخرجون للعمل في حقل الكنيسة وزودهم ببعض النصائح.

خطاب الدكتور حبيب مالك

ورفعت جولة البطريرك الرعائية صوت الإنجيل وألَّفتِ القلوب بالمحبة وأظهرت قدر الكنيسة واحترام السلطات الزمنية لها، وأحيت في قلوب المسيحيين العزة والغيرة. ولعل أفضل ما عبر عن شعور الأرثوذكسيين خطاب الدكتور حبيب مالك الذي فاه به في دير البلمند لمناسبة زيارة البطريرك:

وسلام يا دمشق الفيحاء، وعلى هوائك النقي وجوِّك الصافي ومائك الزلال ألوف من التحية والإكرام؛ لأنه قد خرج منك مدبِّر يرعى شعب إسرائيل. وكيف لا نفرح ونُسَرُّ ونحن نرى في افتقاد أبنائكم في أنحاء الكرسي أعظم موجب وأكبر داعٍ لذلك، وكيف لا نفرح ونحن نرى في شخصكم الطوباي حنوَّ الوالد وانعطاف الأخ ومؤانسة الشريك وهمَّة البطل وسير الحاكم المقدام؟ ولنا على هذا عدة أدلة أكتفي بواحد منها؛ هو تشييد مدرسة أساسها التهذيب وجدرانها العلم وسقفها الدين ومفاتيح أبوابها بيد رجل الفضل والفضيلة سيادة راعينا النبي (غريغوريوس) قمر كنيستنا. ولا بدَّ لي يا ذا الغبطة من التطفل مُذكِّرًا بتشييد مدرستين إحداهما في دير مار جرجس الحصن والثانية في دير مار إلياس الشوير وبذلك تحصل المساواة.

ولنا وطيد الأمل مما سمعناه ومما تحقق لدينا أن حالتنا في أيام غبطتكم ستكون أرقى من أمس إنْ دينيًّا وإنْ أدبيًّا، والأرض عطشانة والبزور حاضرة وأسباب الخصب متوفرة والأعين محدقة بنا من كل جانب وما علينا سوى الإرادة. وإني أقرأ على جبين غبطتكم آيات مؤداها:
مفتقدين أبناءكم لكي تُحيوا في قلوبهم بزور المحبة والألفة ولكي تروا فيهم أبناءً للنور فيمجدون الآب السماوي، ولكي تحيوا في قلوبهم حاسيات الشرف والشهامة والغيرة، ولكي تزيدوهم تمسكًا بالعرش العثماني.٢٩

دير مار جرجس الحميرا

وعاد البطريرك من دير البلمند إلى طرابلس فتل كلخ فدير مار جرجس الحميرا، فجرى له استقبال عظيم. وصباح الأربعاء الموافق لعيد الصليب أقام قداسًا حافلًا حضره الجم الغفير من جميع الجهات المجاورة، ثم نظر في شئون الدير فأنشأ سوقًا فيه شمل مائة وخمسين دكانًا فأنفق أكثر من ألفي ليرة عثمانية.

دير مار إلياس الشوير

وفي هذه السنة عينِها وافق البطريرك على مد طريق عربات تصل ديره في الشوير بالطريق العام. وكان رئيس هذا الدير الأرشمندريت جراسيموس الدمشقي قد بنى تسعة بيوت للشركاء في أبي ميزان، وحارة في القنابة وحارتين في راميا وحارة في الزغرين وحفر أربعة ينابيع في أبي ميزان والقنابة وغرس ١٢٠٠٠ نصبة توت وأنشأ مدرسة في الدير لتعليم أبناء الطائفة من القرى المجاورة.

عيد تحرير الكرسي الأنطاكي

وفي الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة ١٩٠٥ احتفل الأب أغناطيوس رئيس الأمطوش الأنطاكي في موسكو بقدَّاس لمناسبة مرور سبع سنوات على وصول ملاتيوس الثاني إلى الكرسي الأنطاكي، «ولذكرى تحرير هذا الكرسي وتعيين من هو جدير به من أبناء الوطن»، وخرج المؤمنون من الكنيسة لدار الأمطوش يقدمون التهاني لرئيسه، ونشرت الجرائد الروسية خبر العيد الأنطاكي مُشارِكة الأنطاكيين بسرورهم.٣٠
١  «المحبة»، ١٨٩٩، ص٧٣٧-٧٣٨.
٢  «المدرسة الإكليريكية البطريركية»، لغريغوريوس متروبوليت طرابلس.
٣  مجلة «المنار»، ١٨٩٩، ص١٦٤–١٦٨؛ و«المحبة»، ١٨٩٩، ص٧٦٥-٧٦٦.
٤  مجلة «المنار»، ١٨٩٩، ص٢٤١–٢٤٦.
٥  «المنار»، ١٩٠٠، ص٥٠٦.
٦  مجلة «المنار»: ١٣ تموز سنة ١٩٠٠، ص٦٨٥، اطلب أيضًا ص٦٦٩.
٧  «المنار»: ٧ أيلول سنة ١٩٠٠، ص٨١١-٨١٢.
٨  تشريف غبطة البطريرك الأنطاكي لجرجي حنا ديب، «المنار»، ١٩٠٠، ص٤٢–٤٤.
٩  إنجيل يوحنا ١: ١٨.
١٠  إنجيل يوحنا ١٥: ٢٦.
١١  رؤيا يوحنا ٢٢: ١٨.
١٢  الرسالة إلى أهل غلاطية ٤: ٦.
١٣  «انتخاب الأساقفة»، لغطاس قندلفت، مجلة «المنار»، ١٩٠١، ص٣٧٨.
١٤  المرجع نفسه، ص٣٧٨-٣٧٩.
١٥  مجلة «المنار»، ٣٠ آذار سنة ١٩٠٠، ص٤٤٥–٤٤٧.
١٦  مجلة «المحبة»، ٦ نيسان ١٩٠٢، ص٢٠٩، و«المحبة» أيضًا، ٢٧ أيلول ١٩٠٣، ص٤٩٥، وفيها وصف حفلة الوداع في موسكو. و«المحبة» كذلك، ٦ كانون الأول ١٩٠٣، ص٦٤٣–٦٥٣، وفيها وصف سيامته.
١٧  الانتخابات الأسقفية في الكرسي الأنطاكي لإدارة مجلة «المحبة»، ٩ شباط سنة ١٩٠٢، ص٧٥-٧٦.
١٨  «المحبة»، ٢٧ كانون الثاني سنة ١٩٠١، ص٣٣–٣٦.
١٩  Echos d’Orient, 1900, 146-147; Vailhé, S., Antioche, Dict. Theol. Cath., I, Col. 1415-1416.
٢٠  «بولس مطران جبيل والبترون»، لإدارة مجلة «المحبة»، ١٢ نيسان ١٩٠٣، ص١٨٢-١٨٣.
٢١  مجلة «المحبة»، ٦ نيسان سنة ١٩٠٢، ص٢٠٠–٢٠٣.
٢٢  مجلة «المحبة»، ٣٠ آذار سنة ١٩٠٢، ص١٨٩.
٢٣  مجلة «المحبة»، ٢٥ أيار سنة ١٩٠٢ العدد ١٦٨ بكامله.
٢٤  «المحبة»، ١ حزيران ١٩٠٢، ص٣١٥.
٢٥  مراسل «المحبة»، ٢٣ حزيران ١٩٠٢، ص٣٨٣-٣٨٤.
٢٦  مجلة «المحبة»، ١٦ آب ١٩٠٣، ص٤٢٩–٤٣٢.
٢٧  «المحبة» أيضًا ٢٣ آب ١٩٠٣، ص٤٤٤–٤٤٦.
٢٨  «الكنيسة الأرثوذكسية والاتحاد للإدارة»، «المحبة»، ٢٠ كانون الأول ١٩٠٣، ص٦٨٩. و«مذكرات الكنائس الأرثوذكسية» في مجلة «المنار»، ٣١ تموز ١٩٠٤، ص١٦١–١٦٥.
٢٩  «المحبة»، ٦ آب سنة ١٩٠٥، ص٤٩٠–٤٩٢.
٣٠  «الأمطوش الأنطاكي في موسكو»، لفوزي إبراهيم الخوري أحد طلبة كلية اللغات الشرقية بموسكو، «المحبة»، ١٧ كانون الأول ١٩٠٥، ص٨١٤-٨١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤