الفصل السابع عشر

نشأة الشعر وتطوره

كنت في ليلة أقلب ديوان ابن الرومي وأدير عيني في صفحاته متأملا ورقها دون ما حوته من الشعر، ولم يكن مرادي أن أقرأ شيئًا بل أن أحول بين العين والمطالعة، وكانت الرغبة فيها شديدة لكن الأطباء يعظوننى ألا أجهد عيني بالقراءة على ضوء المصابيح. وما أدراك ما الأطباء؟! هم الذين يقول فيهم إديسون على ما أذكر: إن المغول والتتار كانت غاراتهم كثيرة قبل أن يعرفوهم، فلما ظهر الأطباء بينهم وكثروا — إلى حد — عندهم انقطعت الغارات!!

ولنرجع إلى صاحبنا ابن الرومي فنقول إني بينما كنت أجيل عيني في ديوانه غير معتمد شيئًا على التعيين استوقفني قوله من قصيدة يهجو بها البحتري، وكان معاصرًا له:

قبحًا لأشياء يأتي البحتري بها
من شعره الغث بعد الكد والتعب
كأنها حين يصغى السامعون لها
ممن يميز بين النبع والغرب
رقى العقارب أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب

ولا نعرف ما رقى العقارب ولكننا نعرف ما يعنى بهذر البناة على شعف الجدران، فهي ما ينشدونه ويرددونه في أثناء عملهم من الأغاني الساذجة. وقد ذكرت لما قرأت هذا، بالليلة يومًا وبالبيت موضوعًا له قيمته في نشأة الشعب.

فأما اليوم فكان في الأقصر منذ عامين وبضعة أسابيع وكنا — أنا والأستاذ الدكتور حسين بك هيكل — في معبد الملكة حتشبسوت فيما يسمى الآن «الدير البحري» وهو معبد منقوب في الجانب الشرقي من وادى الملوك وممتد شرقا إلى الصخور التي تفصل الوادي عن سهل طيبة. إلى هذا المعبد أقلتنا مركبة ذات عجلات عريضة هي شر ما يحمل إنسانًا فوق تلك الأرض الصخرية. وكان النهار قد انتصف فاتخذنا من الحجارة كراسي ومن صخرة ضخمة هناك مائدة تناولنا عليها طعامنا بين أعمدة البهو الأسفل عند مدخل المعبد وحولنا رسوم ونقوش محت الأيدي والأيام بعضها ولم يبق منها واضحًا سوى صف من الجنود يحملون عدا السلاح أغصانًا وألوية يقابلهم فريق من الرماة وإلى اليسار صور قصابين وكهنة يعدون الضحايا والقرابين، وفوق هؤلاء وأولئك زوارق تنحدر على النيل وفيها مسلات.

فلما أصبنا حظنا من الطعام رقدنا على الأرض وأسند كل منا رأسه إلى حجر سد مسد الوسادة. وإنا لكذلك وإذا صوت فضي النبرات يصافح آذاننا فراعتنا حلاوته وضاعف حسن وقعه ما يحيط بنا في هذا الوادي القفر من الأطلال وما تثيره في النفوس من الخوالج والذكريات. وسألنا الحارس فقال هؤلاء عمال يحفرون الأرض ويرفعون التراب عما يظنه مستأجرهم أثرًا أو قبرا، وعادتهم أن يغنوا وهم يعملون … فاعتدلنا حيث كنا وجعلنا بالنا إلى هذا الصوت وكان صاحبه كلما غنى شطرًا أجابه جمهور الفعلة ورددوا على أثره جملة لا تكاد تختلف يعيدونها ويرجعونها بعد كل وقفة منه. وكان الوزن ظاهرًا فيما يغنى الصبي وتعيد الجماعة، فحاولت أن أدون ما ورد سمعي من ناحيتهم ولكن بعد ما بيننا وبينهم حال دون الدقة في النقل وضبط في الرواية وعلى أن ما أثبته من ذلك قد ذهب لا أدرى أين؟

وهذا كل ما اهتديت إليه:

أنا أجول للزين سلامات
على حسب وداد جلبي
خبط الهوى على الباب
جلت الحبيب جاني
أتاريك يا باب كداب
تنهد من عالي

ولقد كنت أحب أن أورد للقارئ سطورًا أخرى من ذلك ليس أعون منها على تبيين ما أريد أن أقول، غير أنه يعزيني عن فقد ذلك أن القارئ لا يعيبه أن يجد بديلا يقوم مقام ما ضاع منه، وما عليه إلا أن يلاحظ النوتية وهم يعملون في زوارقهم أو سفنهم أو العمال وهم ينقلون الأحجار أو يحفرون أرضًا أو يجرون ثقلا أو نحو ذلك، فإنهم في أكثر الأحيان يغنون ويتسلون بمثل ما كان جماعة العمال في طيبة يغنون ويتسلون … وأكثر ما تجد ذلك في القرى النائية عن الحواضر وفى حيثما يحتاج العمل إلى أيد كثيرة تشتغل معًا وفى وقت واحد، غير أن هذه الأغاني ليس لها ضابط أو صورة نهائية. إذ هي لا تنفك تتغير ولا تثبت على صورة واحدة بل تنشأ وتتحول ويطرأ عليها جديد يوقع على أنغام قديمة أو تغنى مقاطيع منها قديمة على ألحان جديدة. وقد يثبت ما يردده المشتركون في الإنشاد ويتغير ما يغنيه الفرد، وفى وسمع المغنى الذي يكون كالزعيم للجماعة أن يبتكر ما يشاء ويرتجله وأن يستحدث في المأثور الذي يحفظه ويقدم ويؤخر فيه ويمضي في ذلك كله إلى غير غاية مستمدّا من ذاكرته أو من وحي الساعة أو من إلهام العاطفة التي تتملكه أو من هاتيك جميعًا. فليس أسهل من الارتجال في مثل هذا الموقف. والقارئ إذا تدبر عصور الشعر العربي خليق أن يتبين منها أن الارتجال يكثر في أولاها أي في العصور التي يكون الناس فيها متقاربين متشاكلين لا يتميز بعضهم عن بعض كثيرًا. والمرء إذا ألفى نفسه بين أترابه وأنداده اطمأن وأرسل نفسه على سجيتها لأنه في هذه الحالة يضمن المقدار الكافي من التعاطف إذ كان بين مماثلين له.

وهذه الأغاني التي نتكلم عنها كثيرة في المدن والقرى وإن كانت في القرى أكثر منها في المدن. ولكن ما أقل ما يستطيع المرء أن يدون شيئًا منها على أنه مثال لها وعنوان عليها! ذلك أنها كالتيار العام قطرة منه أو ملء ما شئت عمقًا واتساعا، ليس بالتيار! كذلك يكتب أحدنا مقطوعات يسمعها من هذه الأغانى القديمة المتجددة كموج البحر فإذا هو لم يفز بشىء لأنها لا تستقر على حال ولا تثبت كما أسلفنا على صورة.

ودع الحاضر وارجع إلى الماضى وصور لنفسك جماعة من الناس لا يزالون على الفطرة لم يأخذوا من المدنية بنصيب ولم تقسمهم الصفات الشخصية والملكات العقلية طوائف ولم يفرق بينهم اختلاف المراتب وتباين الأعمال وتعدد الآراء. وتلك مرتبة من الحياة لا تكون فيها أبواب التعبير الطبيعى موصدة ولا يجهل فيها المرء — أو لا يحس أنه يجهل — ما يجرى فى ذهن جاره أو رفيقه ولا يستحى أن يعرب عمّا يجول فى خاطره ويجيش به صدره مخافة ألاّ يفوز بالعطف والتقدير إذ كانت حدود الفرد هى حدود التقاليد المشتركة بين الجماعة كلها. فى هذه المرتبة من الحياة كيف تكون نشأة الشعر؟ يكون — كما هو ظاهر بالبداهة فيما نظن — عملا من أعمال الجماعة كلها وملكا لها لا لفرد، ويجيء تاليًا للرقص والغناء وتابعًا لهما ومتفرعًا عنهما وغير منفصل منهما … فإن شككت في أن الأمر لابد أن يكون كذلك فقل لى أيهما تظن كان أسبق في تاريخ الإنسان: الحركة أم اللغة؟

نحسب أن الجواب على هذا لا يمكن أن يتعدد! فإن الإنسان قد صدرت عنه الحركات قبل أن يعرف أن له لسانًا يمكن أن يكون أداة لنقل الإحساس أو الخاطر إلى زميله الإنسان … فالحركات البدنية أسبق من اللغة على التحقيق. ولكن هل الوزن كذلك؟ تقول نعم ولا تتردد لأن الوزن ليس شيئا سوى الانتظام في الحركات فهو أشد ارتباطًا وأسهل مسافة لحركات الجسم، وما زالت الإشارات والحركات من متممات التعبير اللفظى إلى الآن. واللغة ليست إلا أداة للتعبير تحل تدريجيّا محل ما كان قبلها هو الأداة لهذا التعبير، لأن العبارة عن العاطفة بالحركة الموزونة على تدفقها، أسهل — ومن أجل ذلك كانت أسبق — من العبارة بالألفاظ التى انتظمت بها الأصوات وتعينت واستقرت على معان صارت محدودة مألوفة.

ومتى انتظمت حركات المجتمعين واتزنت على مقتضى العاطفة المشتركة بينهم — لفرط تماثلهم — كان من المعقول بعد ذلك أن تخرج الألفاظ مستوية في ترتيبها على وزن هذه الحركات، وعلى ذلك يكون أول ما عرف الإنسان من الشعر هو عبارة عن لحن موزون يند عن أفواه المجتمعين إذ كان جاريًا على ما تتطلبه وتؤدى إليه الحركات التى يشتركرن فيها ويؤدونها معا على نسق واحد وعن عاطفة عامة شائعة بينهم على السواء، وليس من الضرورى ولا من المفروض أن يكون لهذا اللحن معنى معقولا لأن كونه معقولا أو غير معقول مرجعه إلى الفكر، ولكن العاطفة أسبق في تاريخ النشوء الإنساني من الفكر.

إذن كان الشعر لأول ما عرفه الإنسان ألفاظًا مجموعة تكرر، وأسماء تتخلل الألفاظ، وعبارات لها قيمتها الإيحائية عند الجماعة لا أكثر، على الأرجح، وصرخات تند بين ذلك، مصبوبًا كل هذا في قالب موزون على حركات الجماعة في حفلاتها المختلفة لمناسبة زواج أو وفاة أو غير ذلك … ومعقول أن تكون الإشارات أو التلحين أبرز من سواهما في هذا الطور الساذج.

ثم ماذا؟ ثم يا سيدى يجد عامل جديد يؤدى إلى التطور. كانت الجماعة متشاكلة الأفراد ولكن التميز يحدث، ويقوى الشعور بالذات شيئًا فشيئًا ويزداد الإحساس بالاستقلال ويبرز الفرد تدريجيّا ويأنس من نفسه مالا يأنس غيره من نفوسهم فلا يقنع بأن يبقى في حلقة الجماعة يردد ما يقولون وليس له من الشأن إلا مثل ما لكل منهم، ويندفع مجترئا على التقاليد — لأنه لا يسعه إلا هذا — ويعلو بصوته أصواتهم فيروعهم فتخفت أصواتهم قليلا ويمضون في حركاتهم ولكن عيونهم تتعلق به وآذانهم ترهف له فإذا به يستحدث مالا عهد لهم به ويدخل على ما كان قصاراهم أن يفعلوه، حوارًا مرتجلاً يقص به قصة ساذجة بطبيعة الحال. فيحسن وقع ذلك فى نفوسهم ويطيب لهم أن ينصتوا ولكن الطفرة محال كما يقولون فلا يصمتون كل الصمت بل يتعلقون بعبارة مما يسمعون منه فيرددونها وراءه كلما سكت.

وليست هذه بالخطوة القصيرة. فقد كانت الجماعة قبل ذلك هي المؤلفة للأنشودة — إذا جاز إطلاق هذا اللفظ على ما كانوا على الأرجح يتصاخبون به — وليس للفرد الأمثل ما لسواه من الفضل. ولكن الجماعة بعد الآن بدأت تقتصر على الرقص والإشارات وتجتزئ بسماع ما يصيبه فرد في آذانها وبترديد عبارة معينة لا تعدوها وصار عمل الفرد في ابتكار القصة أو الحوار أبرز وأظهر وهو يروى ويقول ما تحضره الظروف في ذهنه وتجريه في باله وعلى لسانه، وهى تكتفى مما كانت تقوم به بمشاركة هذا الفرد في حالته النفسية وبترديد ما يوكل إليها ترديده.

ئم تتوالى الخطوات متتابعة متلاحقة كالعلة تدور بصعوبة في مبدإ الأمر ثم تزداد إدارتها سهولة بعد ذلك. فيتضاءل عمل الجماعة من الاشتراك في التأليف إلى الاقتصار على الترديد إلى صيرورتها معينة بحركاتها للفرد على المحافظة على الوزن، ونمثل لذلك بفرق المغنين عندنا. تجتمع طائفة منهم هذا بعوده وذاك بقيثارته وذلك بقانونه أو مزماره وغير هؤلاء بحناجرهم! ثم يفتتحون العمل بتوقيع موسيقى لا يصحبه غناء ثم بموشح يوقعونه ويغنونه معًا حتى إذا انتهوا من ذلك شرع زعيمهم يغنى صوتًا ينفرد هو بأكثر مقطوعاته ويشترك معه الباقون في بعضها، وقد يغنى بعد ذلك موالا لا يشاركه فى غنائه أحد ولكن يظل ينقر له الموسيقى على وتر معين ليساعده على الاستمرار على تصور الصوت وعدم الخروج عنه. وليس هذا سوى مثل ضربناه تقريبًا للمسألة من الأفهام لا لنقيس هذا على ذاك.

وهكذا يختفى أثر الجماعة تبعًا للتطور ويظهر الفرد حتى إذا تألفت تأليفًا سياسيّا وانتقل بذلك مركز الثقل ظهر الشاعر الفنى المستقل عن الجمهور وصار أمر الشعر كله إلى الفرد وأصبح هذا الشعر ديوانًا تقيد فيه الأخبار وتسجل حوادث التاريخ وأعمال الأبطال فيتسع الأفق ويرحب المجال أمام الشاعر ويغشى غمار الحرب والسياسة بعد أن كان لا يلم قديمًا فى شعره بغير المرأة، ويركض فى حلبة الحوادث العامة التي تمس حياة القبيلة أو الأمة ولا يقتصر على ما له علاقة بالأسرة أو النفس. وهكذا …

والجماهير يبقى لها شعرها الخليق بمستواها. ولكنه لا يتقدم ولا يترقى. لأن مستوى الذكاء المتوسط يمنع شعر الجماهير أن يعلو ويسمو. وهذا هو حده. أما من يمتاز من الأفراد عن هذا المستوى ويرتفع عن طبقة الجماهير وحاجاتها وأذواقها فلا يبقى له محل إلا بين من يستطيعون أن يقدروا مزاياه التى انفرد بها وخلت به عن الجماهير. وإن أحدنا ليسمع الأنشودة في الأقصر ويسمع أخرى في القاهرة وثالثة في غير هاتين المدينتين فلا يملك إلا أن يحس كأن واضع هذه وتلك واحد إذ لا خلاف ولا فرق إلا فى النطق وإلا فيما تدعو إليه الأحوال المحلية التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تمنع التشابه بل التطابق فيما هو جوهري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤